Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 15.و16. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

 مجلد 15.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 282 "
مثل ذلك الاجتباء ، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره ، وشريف منصبه ، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك . ويجتبيك : يختارك ربك للنبوة والملك . قال الحسن : للنبوة ، وقال مقاتل : للسجود لك ، وقال الزمخشري : لأمور عظام . ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه ، كأنه قال : وهو يعلمك . قال مجاهد والسدي : تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا . وقال الحسن : عواقب الأمور ، وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات ، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا ، وقال ابن زيد : العلم والحكمة .
وقال الزمخشري : الأحاديث الرؤى ، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة . ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها . وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال : قال الله : وقال الرسول : كذا وكذا . ألا ترى إلى قوله : ) فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( كتاباً وهي اسم جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة انتهى . وليس باسم جمع كما ذكر ، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس ، كما قالوا : أباطل وأباطيل ، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن . وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد ، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير ؟ .
ويتم نعمته عليك ، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكاً ، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة . وقال مقاتل : بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك ، وقال الحسن : هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوّة . وقيل : بأن يحوج إخوتك إليك ، فتقابل الذنب بالغفران ، والإساءة بالإحسان . وقيل : بإنجائك من كل مكروه ، . وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي : نجعل النبوة فيهم . وقال الزمخشري : هن نسلهم وغيرهم . وقيل أهل دينه وأتباعهم ، كما جاء في الحديث : من آلك ؟ فقال : ) كُلٌّ ( وقيل : امرأته وأولاده الأحد عشر . وقيل : المراد يعقوب نفسه خاصة . وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، وإهلاك عدوه نمروذ . وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . وسمي الجدو أبا الجد أبوين ، لأنهما في عمود النسب كما قال : ) إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ ( ولهذا يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب . إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها . وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله : وكذلك يجتبيك ربك قيل : وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو .
( لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( : آيات أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل عنهم وعرف قصتهم . وقيل : آيات على نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) للذين سألوه من اليهود عنها ، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ، ولا قراءة كتاب . والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه ، وصدق رؤياه ، وصحة تأويله ، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة ، وحدوث السرور بعد اليأس . وقيل : المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله : ) سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل . وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله : ) سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( أي والبرد . وقال ابن عطية : وقوله للسائلين ، يقتضي تحضيضاً للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس ، فوصفهم بالسؤال ، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ . وتقدم لنا ذكر أسماء أخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البياسني ، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة

" صفحة رقم 283 "
بالنقط ، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة ، وكان روبيل أكبرهم ، وهو ويهوذا ، وشمعون ، ولاوي ، وزبولون ، ويساخا ، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي : بنت خال يعقوب ، وذان ونفتالي ، وكاذوياشير ، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل ، فوهبتا هما ليعقوب ، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده . وأسماء السريتين فيما قيل : ليا ، وتلتا ، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وماتت من نفاسه .
وقرأ مجاهد ، وشبل وأهل مكة ، وابن كثير : آية على الإفراد . والجمهور آيات ، وفي مصحف أبي عُبرة للسائلين مكان آية . والضمير في قالوا عائد على أخوة يوسف وأخوه هو بنيامين ، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف . واللام في ليوسف لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي : كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه . وأحب أفعل تفضيل ، وهي مبني من المفعول شذوذاً ، ولذلك عدى بإلى ، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدى إليه بإلى ، وإذا كان مفعولاً عدى إليه بفي ، تقول : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى ، وعمرو هو المحب . وإذا قلت : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب . ومن خالد في المثال الأول محبوب ، وفي الثاني فاعل ، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن . وكان بنيامين أصغر من يوسف ، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما ، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر . وقيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب إليك ؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يدم ، والمريض حتى يفيق . وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً ، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن وصغيركم عبد العزيز فإنني
أطوي لفرقته جوي لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا
كفؤالكم في المنتمي والعنصر
إن البنات الخمس أكفاء معا
والحلى دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى بعد الشباب سما له
حب البنين ولا كحب الأصغر
ونحن عصبة جملة حالية أي : تفضلهما علينا في المحبة ، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة ، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما . وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ونحن عصبة . وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة ، فيكون الخبر محذوفاً وهو عامل في عصبة ، وانتصب عصبة على الحال ، وهذا كقول العرب : حكمك مسمطاً حذف الخبر . قال المبرد : قال الفرزدق :
يا لهذم حكمك مسمطا
أراد لك حكمك مسمطاً ، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا ، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك : الهلال والله أي : هذا الهلال ، والمسمط المرسل غير المردود . وقال ابن الأنباري : هذا كما تقول العرب : إنما العامري عمته ، أي يتعمم عمته انتهى . وليس مثله ، لأنّ عصبة ليس مصدراً ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطاً . وقدره بعضهم : حكمك ثبت مسمطاً .
وعن ابن عباس : العصبة ما زاد على العشرة ، وعنه : ما بين العشرة إلى

" صفحة رقم 284 "
الأربعين ، وعن قتادة : ما فوق العشرة إلى الأربعين ، وعن مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر ، وعن مقاتل : عشرة ، وعن ابن جبير : ستة أو سبعة ، وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى خمسة عشر ، وعن الفراء : عشرة فما زاد ، وعن ابن زيد ، والزجاج ، وابن قتيبة : العصبة ثلاثة نفر ، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة ، فإذا زادوا فهم عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة . والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس ، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد ، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل ، أو الغلط في أمر الدنيا . روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره ، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه ، والظاهر أنّ اقتلوا يوسف من جملة قولهم ، وقيل : هو من قول قوم استشارهم أخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك . والظاهر أن اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين ، ويجوز أن تكون أو للتنويع أي : قال بعض : اقتلوا يوسف ، وبعض اطرحوه ، وانتصب أرضاً على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية ، أي : في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها ، قريب من أرض يعقوب . وقيل : مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه ، كما تقول : أنزلت زيداً الدار . وقالت فرقة : ظرف ، واختاره الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء . قال الزمخشري : أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ، ولا يهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة . وقال ابن عطية : وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال : لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك ، فزال بذلك إبهامها . ومعلوم أنّ يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه انتهى . وهذا الردّ صحيح ، لو قلت : جلست داراً بعيدة ، أو قعدت مكاناً بعيد لم يصح إلا بوساطة في ، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر ، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية . والوجه هنا قيل : الذات ، أي يخل لكم أبوكم . وقيل : هو استعارة عن شغله بهم ، وصرف مودته إليهم ، لأنّ من أقبل عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل أخوته وكانت قبل لا تحبه . قال : الثكل أرامها أي : عطفها ، والضمير في بعده عائد على يوسف ، أو قتله ، أو طرحه . وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل ، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر ، وهو قول الجمهور منهم الكلبي . واحتمل تكونوا أن . يكون مجزوماً عطفاً على مجزوم ، أو منصوباً على إضمار أنْ . والقائل : لا تقتلوا يوسف ، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق ، أو شمعون قاله مجاهد ، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأياً وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض قال لهم : القتل عظيم ، قاله السدي ، أوذان : أربعة أقوال ، وهذا عطف منهم على أخيه . لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه ، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل . قال الهروي : الغيابة في الجب شبه لحف ، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون . وقال الكلبي : الغيابة كمون في قعر الجب ، لأن أسفله واسع ورأيه ضيق ، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه . وقال الزمخشري : غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى . منه قيل للقبر : غيابة ، قال المنحل السعدي :

" صفحة رقم 285 "
فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي
فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
. وقرأ الجمهور : غيابة على الإفراد ، ونافع : غيابات على الجمع ، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة . وقرأ ابن هرمز : غيابات بالتشديد والجمع ، والذي يظهر أنه سمى باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد . قال أبو الفتح : ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف . وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون على فعالات كحمامات ، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة ، وكل للمبالغة . وقرأ الحسن : في غيبة ، فاحتمل أن يكون في الأصل مصدراً كالغلبة ، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة . وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء ، وهي ظلمة الركية . وقال قتادة في جماعة : الجب بئر بيت المقدس ، وقال وهب : بأرض الأردن ، وقال مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب ، وقيل : بين مدين ومصر . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء : تلتقطه بتاء التأنيث ، أنث على المعنى كما قال : إذا بعض السنين تعرفتنا
كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
والسيارة جمع سيار ، وهو الكثير السير في الأرض . والظاهر أن الجب كان فيه ماء ، ولذلك قالوا : يلتقطه بعض السيارة . وقيل : كان فيه ماء كثير يغرق يوسف ، فنشرز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه . وقيل : لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده الناس . وروي : أنهم رموه بحبل في الجب ، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه ، حينئذ وهموا بعد برضحه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك . ومفعول فاعلين محذوف أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه .
( قَالُواْ يأَبَانَا أَبَا مَالِكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ ( : لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه ، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم ، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب ، إذ هو مما يشرح الصبيان ، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه . وفي قولهم : ما لك لا تأمنا ، دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أنْ يخرج معهم ، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي : لم لا تأمنا عليه وحالتنا هذا ؟ والنصح دليل على الأمانة ، ولهذا قرنا في قوله : ناصح أمين ، وكان قد أحسن منهم قبل ما أوجب أنْ لا يأمنهم عليه . ولا تأمنا جملة حالية ، وهذا الاستفهام صحبة التعجب .
وقرأ زيد بن علي ، وأبو جعفر ، والزهري ، وعمرو بن عبيد : بإدغام نون تأمن في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك ، والمعنى : يرشد إلى أنه نفي لا نهي ، وليس كقولهم : ما أحسننا في التعجب ، لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي . وقرأ الجمهور : بالإدغام والإشمام للضم ، وعنهم إخفاء الحركة ، فلا يكون إدغاماً محضاً . وقرأ ابن هرمز : بضم الميم ، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد

" صفحة رقم 286 "
سلب الميم حركتها ، وإدغام النون في النون . وقرأ أبي ، والحسن ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش : لا تأمننا بالإظهار ، وضم النون على الأصل ، وخط المصحف بنون واحدة . وقرأ ابن وثاب ، وأبو رزين : لا يتمنا على لغة تميم ، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب . وفي لفظه : أرسله ، دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائماً . وانتصب غداً على الظرف ، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك ، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك . وأصله : غدو ، فحذفت لامه وقد جاء تاماً . وقرأ الجمهور : يرتع ويلعب بالياء والجزم ، والإبنان وأبو عمر وبالنون والجزم وكسر العين الحرميان ، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها . وروي عن ابن كثي : ويلعب بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد . وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بالياء وكسر العين مجزوماً محذوف اللام ، ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي : وهو يلعب . وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن : بنون مضمومة من ارتعنا ونلعب بالنون ، وكذلك أبو رجاء ، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب ، والقراءتان على حذف المفعول أي : يرتع المواشي أو غيرها . وقرأ النخعي : نرتع بنون ، ويلعب بياء ، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه ، وجاء كذلك عن أبي إسحاق ، ويعقوب . ولك هذه القراآت الفعلان فيها مبنيان للفاعل . وقرأ زيد بن علي : يرتع ويلعب بضم الياءين مبنياً للمفعول ، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد ، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه ، ثم حذف واتسع ، فعدى الفعل للضمير ، فكان التقدير : يرتعه ويلعبه ، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوباً لكونه ناب عن الفاعل . واللعب هنا هو الاستباق والانتضال ، فيدربون بذلك لقتال العدو ، سموه لعباً لأنه بصورة اللعب ، ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم : إننا ذهبنا نستبق ، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب . ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل . قال مجاهد : هي من المراعاة أي : يراعي بعضنا بعضاً ويحرسه . وقال ابن زيد : من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي ، وحفظ المال ، أو من رعى النبات والكلأ ، أي : يرتفع على حذف مضاف أي : مواشينا . ومن أثبت الياء . فقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر : ألم يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبون بني زياد
انتهى . وقيل : تقدير حذف الحركة في الياء لغة ، فعلى هذا لا يكون ضرورة . ومن قرأ بسكون العين فالمعنى : نقم في خصب وسعة ، ويعنون من الأكل والشرب . وإنا له لحافظون جملة حالية ، والعامل فيه الأمر أو الجواب ، ولا يكون ذلك من باب الإعمال ، لأن الحال لا تضمر ، وبأنّ الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول ، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين : أحدهما : عاجل في الحال ، وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه . والثاني : خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم ، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد . وخص الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره ، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير ، وكان تنبيهاً على خوفه عليه ما هو أعظم افتراساً . ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله : والذئب أخشاه إن مررت به
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وكان يعقوب بقوله : وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس معهم يوسف ، فلقنوا ذلك

" صفحة رقم 287 "
وجعلوه عدة للجواب ، وتقدّم خلاف القراء في يحزن . وقرأ زيد بن علي ، وابن هرمز ، وابن محيصن : ليحزني بتشديد النون ، والجمهور بالفك . وليحزنني مضارع مستقبل لا حال ، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال ، لأنّ ذلك المتوقع مستقبل وهو المسبب لأثره ، فمحال أنْ يتقدم الأثر عليه ، فالذهاب لم يقع ، فالحزن لم يقع . كما قال : يهولك أن تموت وأنت ملغ
لما فيه النجاة من العذاب
وقرأ زيد بن علي : تذهبوا به من أذهب رباعياً ، ويخرج على زيادة الباء في به ، كما خرج بعضهم تنبت بالدهن . في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي : تنبت الدهن وتذهبوه . وقرأ الجمهور : والذئب بالهمز ، وهي لغة الحجز . وقرأ الكسائي ، وورش ، وحمزة : إذا وقف بغير همز . وقال نصر : سمعت أبا عمر ولا يهمز . وعدل إخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن ، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن قريب ، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به ، فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم ، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب . إنهم إذاً لقوم خاسرون أي : هالكون ضعفاء وجوراً وعجزاً ، أو مستحقون أن يهلكوا ، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم ، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار ، وأن يقال : خسرهم الله ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون . وقيل : إن لم نقدر على حفظه بعضنا فقد هلكت مواشينا ، إذاً وخسرنا . وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروة جبل ، وكان يوسف في بطن الوادي ، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله ، فدرأ عنه واحد ، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام .
( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ لاَ يَشْعُرُونَ وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( : حكي أنهم قالوا ليوسف : اطلب من أبيك أن يبعثك معنا ، فأقبل على يوسف فقال : أتحب ذلك ؟ قال : نعم . قال يعقوب : إذا كان غداً أذنت لك ، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته ، وخرج مع أخوته فشيعهم يعقوب وقال : يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي يوسف ، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال : استودعتك الله رب العالمين ، وانصرف . فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم ، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدا معهم إضراراً به . وذكر المسفرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر ، وهم لا يزدادون إلا قساوة . ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها ، فيوقف عليها في كتب التفسير . وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره : فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف ، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي : عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب ، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا ، يقال : أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه ، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء ، وبمعنى التصيير . واختلفوا في جواب لمّا أهو مثبت ؟ أو محذوف ؟ فمن قال : مثبت ، قال : هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي : لما كان كيت وكيت ، قالوا وهو تخريج حسن . وقيل : هو أوحينا ، والواو زائدة ، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما ، وحتى إذا . وعلى ذلك خرجوا قوله : فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي : ناديناه وقوله : حتى إذا جاؤوها وفتحت أي : فتحت . وقول امرىء القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

" صفحة رقم 288 "
أي : انتحى . ومن قال : هو محذوف ، وهو رأي البصريين ، فقدره الزمخشري : فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به ، وما حاوروه وحاورهم به . قدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أنْ يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم ، وقدّره بعضهم جعلوه فيها ، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله : وأجمعوا أن يجعلوه والظاهر أنّ الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف ، وهو وحي إلهام قاله مجاهد . وروي عن ابن عباس : أو منام . وقال الضحاك وقتادة : نزل عليه جبريل في البئر . وقال الحسن : أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيراً ، كما أوحى إلي يحيى وعيسى عليهما السلام ، وهو ظاهر أوحينا ، ويدل على أنّ الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون . وقيل : الضمير في إليه عائد على يعقوب ، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة ، وليبشر بما يؤول إليه أمره ، ومعناه : للتخلص مما أنت فيه ، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك . وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله : لتنبئنهم بهذا أي : غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج ، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك ، وبعد حالك عن أذهانهم ، ولطول العمر المبدل للهيئات والأشكال . وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواغ فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم : أكله الذئب . وبيع بثمن بخس ، ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالاً من قوله : وأوحينا أي : وهم لا يشعرون ، قاله قتادة . أي : بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك ، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك . وقرأ الجمهور لتنبئنهم بتاء الخطاب ، وابن عمر بياء الغيبة ، وكذا في بعض مصاحف البصرة . وقرأ سلام بالنون .
والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيراً ، فقيل : كان عمره إذ ذاك سبع سنين . وقيل : ست ، قاله الضحاك . وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة ، وثمان عشرة سنة ، وكلاهما عن الحسن ، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب . ويدل على أنه كان صغيراً بحيث لا يدفع نفسه قوله : وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له لحافظون ، وأخذ السيارة له ، وقول الوارد : هذا غلام ، وقول العزيز : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ، وما حكى من حملهم إياه واحداً بعد واحد ، ومن كلامه لأخيه يهوذا : ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني ، وارحم قلب أبيك يعقوب . ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة ، ولا يقال فيه : وإنا له لحافظون ، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه ، ولا يسمى غلاماً إلا بمجاز ، ولا يقال فيه : أو نتخذه ولداً . وعشاء نصب على الظرف ، أو من العشوة والعشوة : الظلام ، فجمع على فعال مثل راع ورعاء ، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا على وزن دجى ، جمع عاش ، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك ، وأصله مالكة . وعن الحسن عشياً على التصغير . قيل : وإنما جاؤوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة

" صفحة رقم 289 "
بالليل فإنّ الحياء في العينين ، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار . وفي الكلام حذف تقديره : وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون ، فقال : أين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا . وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما لكم ، أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا . قال : فأين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب ، فبكى ، وصاح ، وخر مغشياً عليه ، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ، ونادوه فلم يجب ، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال : ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا ، فلم يفق لا ببرد السحر . قال الأعمش : لا يصدق باك بعد أخوة يوسف . ونستبق . أي : نترامى بالسهام ، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدواً ، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب ، أو نتصيد . أربعة أقوال . عند متاعنا أي : عند ثيابنا ، وما تجردنا له حالة الاستباق ، وهذا أيضاً يدل على صغر يوسف ، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم ، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم ، وأخاف أن يأكله الذئب ، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه . وما أنت بمؤمن لنا أي : بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين . أو لست مصدقاً لنا على كل حال حتى في حالة الصدق ، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف ، وإنا نرتاد له الغوائل ، ونكيد له المكائد ، وأوهموا بقولهم : ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف ، فيكون صدقهم مقيداً بهذه النازلة . أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة ، لشدّة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيىء الظن بنا في هذه النازلة ، غير واثق بقولنا فيه ؟ .
روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ، ولطخوا قميص يوسف بدمه ، وقالوا : ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه ، ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب ، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات ، كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب ، وألقاه عل وجهه فارتد بصيراً ، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : على قميصه ما محله ؟ ( قلت ) : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال . ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة ؟ ( قلت ) : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى . ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق ، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا ، وليس الفوق ظرفاً لهم ، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم . وقال الحوفي : على متعلق بجاؤوا ، ولا يصح أيضاً . وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي ، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل ، ويكون بأحمال في موضع الحال أي : مصحوباً بأحمال . وقال أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم ، لأن التقدير : جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى . وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب ، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو ، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء .
وقرأ الجمهور : كذب وصف لدم على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف أي : ذي كذب ، لما كان دالاً على الكذب وصف به ، وإن كان الكذب صادراً من غيره . وقرأ زيد بن علي : كذباً بالنصب ، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال ، وأن يكون مفعولاً من أجله . وقرأت عائشة ، والحسن : كدب بالدال غير معجمة ، وفسر بالكدر ، وقيل : الطري ، وقيل : اليابس ، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب أي : أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها ، كالنقش ، ويسمى ذلك البياض الفوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره

" صفحة رقم 290 "
في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافير . قال : بل سولت هنا محذوف تقديره : لم يأكله الذئب ، بل سولت . قال ابن عباس : أمرتكم أمراً ، وقال قتادة : زينت ، وقيل : رضيت أمراً أي : صينعاً قبيحاً . وقيل : سهلت . فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل . وقرأ أبي ، والأشهب ، وعيسى بن عمر : فصبراً جميلاً بنصبهما ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ومصحف أنس بن مالك . وروي كذلك عن الكسائي . ونصبه على المصدر الخبري أي : فاصبر صبراً جميلاً . قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله : شكا إلي جملي طول السرى
صبراً جميلاً فكلانا مبتلي
ويروى صبر جميل في البيت . وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال : فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً . وفي الحديث : ( أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه ) أي : إلى الخلق . ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( وقيل : أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه ، وعبوس الجبين ، بل على ما كنت عليه معكم . وقال الثوري : من الصبر أنْ لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك . والله المستعان أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزية . وجاءت سيارة قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر ، وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام ، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته . وقيل : جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب . وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب . قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض ، وقيل : سيارة في الطريق أخطئه فنزلوا قريباً من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة ، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء . والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم . ليست إضافة إلى المفعول ، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم . والظاهر أن الوارد واحد . وقال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى . وحمل على معنى السيارة في قوله : فأرسلوا ، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها . فأدلى دلوه أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي . في الكلام حذف تقديره : فتعلق يوسف بحبل الدلو ، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي . وتلقه بالحبل يدل على صغره ، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً ، ولفظه غلام ترجح ذلك ، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف :
غلام إذا هز القناة سقاها

" صفحة رقم 291 "
وقوله : يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف ، هذ رأى أحسن ما خلق . وأبعد السدّي في زعمه أنّ بشرى اسم رجل ، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى : فهذا من آونتك . وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون ، وروى ورش عن نافع : يا بشراي : بسكون ياء الإضافة ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في ) وَمَحْيَاىَ ( وقرأ أبو الطفيل ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري : يا بشرى بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة لهذيل . ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة ، في ) فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( قيل : ذهب به الوارد ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك ، فبشرهم به وأسروه . الظاهر أنّ الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي : أخفوه من الرفقة ، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقال ابن عباس : الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده ، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه ، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة . وانتصب بضاعة على الحال أي : متجراً لهم ومكسباً . والله عليم بما يعملون أي : لم تخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضغوا ما ليس لهم ، أو والله عليم بعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع ، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف . قيل : أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله ، لحكمة أراد مضاءها ، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض ، وإحواج أخواته إليه ، ورفع أبويه على العرش ، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنوناً في القدر .
( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ ( : شرى بمعنى باع ، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري : وشريت برداً ليتني
من بعد برد كنت هامه
أي بعت برداً ، وبرد غلامه . وقال الآخر : ولو أن هذا الموت يقبل فدية
شريت أبا زيد بما ملكت يدي
أي اشتريت أبا زيد . والظاهر أن الضمير في وشروه عائد على السيارة ، أي : وباعوا يوسف . ومن قال : إن الضمير في وأسروه عائد على إخوة يوسف جعله عائداً عليهم أي : باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس . وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس . وقال مقاتل : زيف ناقص العيار . وقال عكرمة : والشعبي : قليل . وهو معنى

" صفحة رقم 292 "
الزمخشري : ناقص عن القيمة نقصاً ظاهراً . وقال ابن قتيبة : البخس الخسيس الذي بخس به البائع . وقال قتادة : بخس ظلم ، لأنهم ظلموه في بيعه . وقال ابن عباس وقتادة أيضاً في آخرين : بخس حرام . وقال ابن عطاء : إنما جعله بخساً لأنه عوض نفس شريفة لا تقابل بعوض وإن جل انتهى . وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم يعطوا به ثمناً ، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته ، فالمقصود خلو وجه أبيهم منه لا ثمنه . ودراهم بدل من ثمن ، فلم يبيعوه بدنانير . ومعدودة إشارة إلى القلة ، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهماً ، لأنّ الكثيرة يعسر فيها العد ، بخلاف القليلة . قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق : أربعون درهماً . وقيل : ثلاثون درهماً ، ونعلام وحلة . وقال السدي : كانت اثنين وعشرين درهماً ، كذا نقله الزمخشري عنه ، ونقله ابن عطية عن مجاهد : أخذها أخوته درهمين درهمين ، وصاحب التحرير عنه ، وعن ابن عباس . وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ، ووهب ، والشعبي ، وعطية ، والسدي ، ومقاتل في آخرين : عشرون درهماً . وعن ابن عباس أيضاً : عشرون ، وحلة ، ونعلان . وقيل : ثمانية عشر درهماً اشتروا بها أخفافاً ونعالاً . وقيل : عشرة دراهم ، والظاهر عود الضمير في فيه إلى يوسف أي : لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله : الضحاك ، وابن جريج . وقيل : يعود على الثمن ، وزهدهم فيه لرداءة الثمن ، أو لقصد إبعاد يوسف لا الثمن . وهذا إذا كان الضمير في وشروه وكانوا عائداً على أخوة يوسف ، فأما إذا كان عائداً على السيارة فزهدهم فيه لكونهم ارتابوا فيه ، أو لوصف أخوته بالخيانة والاباف ، أو لعلمهم أنه حر . وقال الزمخشري : من الزاهدين ، ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن ، لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن . ويجوز أن يكون معنى وشروه اشتروه ، يعني الرفقة من أخوته . وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق ، فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه . ويروى أنّ أخوته اتبعوهم يقولون : استوثقوا منه لا يابق انتهى . وفيه تقدم نظيره في ) إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمره ، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين . أي : وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين ، أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف . فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما .
وقال الذي اشتراه من مصر : ذكروا أقوالاً متعارضة فيمن اشتراه ، وفي الثمن الذي اشتراه به ، ولا يتوقف تفسير كتاب الله على تلك الأقوال المتعارضة . فقيل : اشتراه رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ، ومات في حياة يوسف . قيل : وهو إذ ذاك الملك بمصر ، واسمه الريان بن الوليد بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور في نسب الريان ، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى ، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة . وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة ، بدليل قوله : ) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ ( وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، وقيل : عرض في السوق وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمناً عظيماً . فقيل : وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير ، فاشتراه العزيز وهو كان صاحب الملك وخازنه ، واسم الملك الريان بن الوليد . وقيل : مصعب بن الريان ، وهو أحد الفراعنة ، واسم العزيز قطفير ، قاله ابن عباس ، وقيل : اطفير ، وقيل : قنطور ، واسم امرأته راعيل ، وقيل : زليخا .

" صفحة رقم 293 "
قال ابن عطية : وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً ، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته حسبما يذكر . وقال مجاهد : كان مسلماً ، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل . وقال السدي : العزيز هو الملك ، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا ، ومثواه مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس . ولام لامرأته تتعلق بقال فهي للتبليغ ، نحو قلت لك : لا باشتراه عسى أن ينفعنا ، لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده ، فينفعنا بكفايته ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيماً لا يولد له ، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك . وكذلك أي : مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه ، وأمر امرأته بإكرام مثواه . مكنا ليوسف في الأرض أي : أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه ، أي : حكمناه فيها . ولام ولنعلمه متعلقة بمحذوف ، إما قبله لتملكه ولنعلمه ، وإما بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين ، أو الواو مقحمة أي : مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه وكل مقول . والأحاديث : الرّؤيا ، قاله مجاهد . وقيل : أحاديث الأنبياء والأمم . والضمير في على أمره الظاهر عوده على الله قاله ابن جبير ، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، ويقضي . أو على يوسف قاله الطبري ، أي : يديره ولا يكله إلى غيره . قد أراد أخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره ، وأكثر الناس المنفى عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : لا يعملون أن الأمر بيد الله ، وقيل : المراد بالأكثر الجميع أي : لا يطلعون على غيبه . وقيل : المراد بأكثر الناس أهل مصر ، وقيل : أهل مكة . والأشد عند سيبويه جمع واحد شدة ، وأشد كنعمة وأنعم . وقال الكسائي : شد وأشد نحو صك وأصك ، وقال الشاعر : عهدي به شد النهار كأنما
خضب البنان ورأسه بالعظلم
وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله : الشعبي ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، أو سبعة عشر عاماً إلى نحو الأربعين قاله الزجاج ، أو ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو عشرون قاله الضحاك ، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد وقتادة . ورواه ابن جبير عن ابن عباس ، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة ، أو أربعون قاله الحسن . وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الخيمي عن الأشد فقال : هو خمس وثلاثون ، وتمامه أربعون . وقيل : أقصاه اثنان وستون . والحلم الحكم ، والعلم النبوّة . وقيل : الحكم بين الناس ، والعلم : الفقه في الدين . وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة بعد هذه القصة ، وكذلك أي : مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين . وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسناً في عنفوان شبابه فآتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه . وعن الحسن : من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله . وقال ابن عباس : المحسنين المهتدين ، وقال الضحاك : الصابرين على النوائب .
( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ ( : المراودة : المطالبة برفق ، من راد يرود إذا ذهب وجاء ، وهي مفاعلة من واحد نحو : داويت المريض ، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله . كان المعنى

" صفحة رقم 294 "
وخادعته عن نفسه ، ولذلك عداه بعن . وقال التي هو في بيتها ، ولم يصرح باسمها ، ولا بامرأة العزيز ، ستراً على الحرم . والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول : ربة البيت ، وصاحبة البيت قال الشاعر :
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب . قيل : وكانت سبعة أبواب هيت اسم فعل بمعنى أسرع . ولك للتبيين أي : لك أقول ، أمرته بأن يسرع إليها . وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها : تعال ، وقاله عكرمة . وقال أبو زيد : هي عبرانية . هيتلخ أي تعاله فأعربه القرآن ، وقال ابن عباس والحسن : بالسريانية ، وقال السدي : بالقبطية هلمّ لك ، وقال مجاهد وغيره : عربية تدعوه بها إلى نفسها ، وهي كلمة حث وإقبال انتهى . ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم . وقال الجوهري : هوت وهيت به صاح به فدعاه ، ولا يبعد أن يكون مشتقاً من اسم الفعل ، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك . ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير ، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو : هيت لك ، وهيت لك ، وهيت لكما ، وهيت لكم ، وهيت لكن . وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر : هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء ، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز وعلى ، وأبو وائل ، وأبو رجاء ، ويحيى ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وطلحة ، والمقري ، وابن عباس ، وأبو عامر في رواية عنهما ، وأبو عمرو في رواية وهشام في رواية كذلك ، إلا أنهم ضموا التاء . وزيد بن عليّ وابن أبي إسحاق كذلك ، إلا أنهما سهلا الهمزة . وذكر النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة ، وكسر التاء . وقرأ ابن كثير وأهل مكة : بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء ، وباقي السبعة أبو عمرو ، والكوفيون ، وابن مسعود ، والحسن ، والبصريون ، كذلك ، إلا أنهم فتحوا التاء . وابن عباس وأبو الأسود ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى البصرة كذلك . وعن ابن عباس : هييت مثل حييت ، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل ، إلا قراءة ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء ، وإلا من ضم التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز ، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء أو كسرها ، ويحتمل أن يكون فعلاً واقعاً ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيىء إذا أحسن هيئته على مثال : جاء يجيء ، أو بمعنى تهيأت . يقال : هيت وتهيأت بمعنى واحد . فإذا كان فعلاً تعلقت اللام به ، وفي هذه الكلمة لغات أخر . وانتصب معاد الله على المصدر أي : عياذاً بالله من فعل السوء ، والضمير في أنه الأصح أنه يعود على الله تعالى أي : إن الله ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب ، وأقامني في أحسن مقام . وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه ، وقد أكرم مثواي وائتمني قاله : مجاهد ، والسدي ، وابن إسحاق . ويبعد جداً ، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ، ولا بمعنى السيد ، لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكاً له . إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء . وقيل : الزناة ، وقيل : الخائنون . وقرأ أبو الطفيل والجحدري مثويّ ، كما قرأ يا بشرى ، وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء . استعاذ أولاً بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء ، ثم نبه على أنّ إحسان الله أو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى بالإساءة ، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالماً أضع الشيء غير موضعه ، وأتعدى ما حده الله تعالى لي .
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه طول المفسرون في تفسير هذين الهمين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق .

" صفحة رقم 295 "
والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله ، ولا تقول : إنّ جواب لولا متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري ، وأبو العباس المبرد . بل نقول : إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله : أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل . وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فكان موجداً لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي الهم . ولا التفات إلى قول الزجاج . ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيداً فكيف مع سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله : وهمّ بها هو جواب لولا ، ونحن لم نقل بذلك ، وإنما هو دليل الجواب . وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام ، وبغير لام تقول : لولا زيد لأكرمتك ، ولولا زيد أكرمتك . فمن ذهب إلى أن قوله : وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد همت به ، وإن جواب لولا في قوله وهم بها ، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى . أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى : ) إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( فقوله : إنْ كادت لتبدي به ، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به . وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ، فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة . والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً ، ولا يدل عليه دليل ، لأنهم لم يقدروا لهم بها . ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه ، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه . وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة ، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين . ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري ، وابن عطية ، وغيرهما .
والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله ، والله لا يمكن الهم به فضلاً عن الوقوع فيه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء . قال الزمخشري : الكاف منصوب المحل أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي : الأمر مثل ذلك . وقال ابن عطية : والكاف من قوله : كذلك ، متعلة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف . ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته ، كذلك لنصرف . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : همت به وهم بها كذلك ، ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، لنصرف عنه ما هم به انتهى . وقال الحوفي : كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : أريناه البراهين كذلك . وقيل : في موضع رفع أي : أمر البراهين كذلك ، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها . وقال أبو البقاء : كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك . وقيل : في موضع نصب أي : نراعيه كذلك ، انتهى . وأقول : إن التقدير مثل تلك الرؤية ، أو مثل ذلك الرأي ، نرى براهيننا لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية ، والناصب للكاف ما دل عليه قوله : لولا أن رأى برهان ربه . ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف . ومصدر رأى رؤية ورأي قال :

" صفحة رقم 296 "
ورأى عيني الفتى أباكا
يعطي الجزيل فعليك ذاكا
وقرأ الأعمش : ليصرف ، بياء الغيبة عائداً على ربه . وقرأ العربيان ، وابن كثير : المخلصين إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام ، وباقي السبعة بفتحها . وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته .
( وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( : أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها ، وهذه لمنعه ومراودته . وأصل استبق أن يتعدى بإلى ، فحذف اتساعاً . وتقدم أنّ الأبواب سبعة ، فكان تنفتح له الأبواب باباً باباً من غير مفتاح ، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط ، حتى خرج من الأبواب . ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب باباً فباباً ، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه ، فاستبقا إلى باب يخرج منه . ولا يكون السابع على الترتيب ، بل أحدها . وقدت يحتمل أن يكون معطوفاً على واستبقا ، ويحتمل أن يكون حالاً أي : وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه ، فانخرق إلى أسفله . والقدّ : القطع والشق ، وأكثر استعماله فيما كان طولاً قال : تقدّ السلوقي المضاعف نسجه
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط : يستعمل فيما كان عرضاً ، وقال المفضل بن حرب : رأيت في مصحف قط من دبر أي شق . قال يعقوب : الشق في الجلد في الصحيح ، والثوب الصحيح . وقال ابن عطية : وقرأت فرقة قط . وألفيا سيدها أي : وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير . والمرأة تقول لبعلها : سيدي ، ولم يضف إليهما ، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة . ويقال : ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه ، كله بمعنى واحد . قيل : ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل ،

" صفحة رقم 297 "
وقيل : مع ابن عم المرأة . وفي الكلام حذف تقديره : فرابه أمرهما وقال : ما لكما ؟ فلما سأل وقد خافت لومه ، أو سبق يوسف بالقول ، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة ، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعاً في مواقعتها خيفة من مكرها ، كرهاً لما آيست أن يواقعها طوعاً ألا ترى إلى قولها : ولئن لم يفعل ما آمره ليسجن ؟ ولم تصرح باسم يوسف ، بل أتت بلفظ عام وهو قولها : ما جزاء من أراد ، وهو أبلغ في التخويف . وما الظاهر أنها نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية أي : أيّ شيء جزاؤه إلا السجن ؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها ، ثم ترقت إلى العذاب الأليم ، قيل : وهو الضرب بالسوط . وقولها : ما جزاء أي : إن الذنب ثابت متقرر في حقه ، وأتت بلفظ بسوء أي : بما يسوء ، وليس نصاً في معصية كبرى ، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها ، أو ضربه إياها . وقوله : إلا أن يسجن أو عذاب ، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم .
وقرأ زيد بن علي : أو عذاباً أليماً ، وقدره الكسائي أو يعذب عذاباً أليماً . ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال : هي راودتني عن نفسي ، ولم يسبق إلى القول أولاً ستراً عليها ، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال : هي ، وأتى بضمير الغيبة ، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول : هذه راودتني ، أو تلك راودتني ، لأكن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة . ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلاً فيه إناءة ونصفة ، طلب الشاهد من كل منهما ، فشهد شاهد من أهلها . فقال أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وهلال بن يساف ، والضحاك : كان ابن خالتها طفلاً في المهد أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة . وروي في الحديث : ) إِنَّهُ مِنَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ ( وأسنده الطبري . وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى بن مريم ، وصاحب جريج ، وابن السوداء ) وقيل : كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب ، ولا ينافي هذا قول قتادة ، كان رجلاً حليماً من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره . وقيل : كان حكماً حكمه زوجها فحكم بينهما ، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة . ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به ، فبصر بما جرى بينهما ، فأغضبه الله ليوسف ، وشهد بالحق . ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أنّ الشاهد هو القميص المقدود لقوله : شاهد من أهلها ، ولا يوصف القميص بكونه شاهداً من أهل المرأة . وسمى الرجل شاهداً من حيث دل على الشاهد ، وهو تخريق القميص . وقال الزمخشري : سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها ، وإن كان قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين ، وإما بشهد ، لأنّ الشهادة قول من الأقوال على مذهب الكوفيين . وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط ، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها ، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط ؟ أو المعنى : أن يتبين كونه . فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر . وجواب الشرط فصدقت وفكذبت ، وهو على إضمار قد أي : فقد صدقت ، وفقد كذبت . ولو كان فعلاً جامداً أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد .
وقرأ الجمهور : من قبل ، ومن دبر ، بضم الباء فيهما والتنوين . وقرأ الحسن وأبو عمر ، وفي رواية : بتسكينها وبالتنوين ، وهي لغة الحجاز وأسد . وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والعطاردي ، وأبو الزناد ، ونوح القارىء ، والجار ودبن أبي سبرة بخلاف عنه : من قبل ، ومن دبر ، بثلاث سمات . وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجارود أيضاً في رواية عنهم : بإسكان الباء مع بنائهما على الضم ، جعلوها غاية نحو : من قبل . ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته ، والأصل إعرابهما لأنهما اسمان

" صفحة رقم 298 "
متمكنان ، وليسا بظرفين . وقال أبو حاتم : وهذا رديء في العربية ، وإنما يقع هذا البناء في الظروف . وقال الزمخشري : والمعنى من قبل القميص ومن دبره ، وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها : قبل ، ومن جهة يقال لها : دبر . وعن ابن أبي إسحاق : أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح ، كان جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث . وقال أيضاً : ( فإن قلت ) : إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدّته ، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة ، وأنه كان تابعها ؟ ( قلت ) : من وجهين : أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع . والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها ، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى . وقوله : وهو من الكاذبين ، وهو من الصادقين ، جملتان مؤكدتان لأنّ من قوله : فصدقت ، يعلم كذبه . ومن قوله : فكذبت ، يعلم صدقه . وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده ، ولما كان الشاهد من أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل ، ولما كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز إسم كان بلفظ المظهر ، ولم يضمر ليدل على الاستقلال ، ولكون التصريح به أوضح . وهو نظير قوله : ) مَّنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( فلما رأى العزيز ، وقيل : الشاهد قميصه قد من دبر قال : إنه أي إن قولك : ما جزاء إلى آخره قاله الزجاج ، أو أن هذا الأمر وهو طمعها في يوسف ذكره الماوردي والزمخشري ، أو إلى تمزيق القميص قاله : مقاتل والخطاب في من كيدكن لها ولجواريها ، أولها وللنساء . ووصف كيد النساء بالعظم ، وإن كان قد يوجد في الرجال ، لأنهن ألطف كيداً بما جبلن عليه وبما تفرغن له ، واكتسب بعضهن من بعض ، وهن أنفذ حيلة . وقال تعالى : ) وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ ( وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن ، لكونهن أكثر تفرغاً من غيرهن ، وأكثر تأنساً بأمثالهن .
يوسف أعرض عن هذا أي : عن هذا الأمر واكتمه ، ولا تتحدث به . وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف ، ثم أقبل عليها وقال : واستغفري لذنبك ، والظاهر أنّ المتكلم بهذا هو العزيز . وقال ابن عباس : ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وقال : استغفري لذنبك ، أي لزوجك وسيدك انتهى . ثم ذكر سبب الاستغفار وهو قوله : لذنبك ، ثم أكد ذلك بقوله : إنك كنت من الخاطئين ، ولم يقل من الخاطئات ، لأن الخاطئين أعم ، لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب . يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً . قال الزمخشري : وما كان العزيز إلا حليماً ، روي أنه كان قليل الغيرة انتهى . وتربة إقليم قطفير اقتضت هذا ، وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنه وجارية تغنيهم من وراء ستر ، فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما ، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعاً في طست وقال له الملك : استعد البيتين من هذا الرأس ، فسقط في يد ذلك المستعيد ، ومرض مدة حياة ذلك الملك .
2 ( ) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىإِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّه

" صفحة رقم 299 "
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّىأَرَانِىأَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّىأَرَانِىأَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىإِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاٌّ خَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاٌّ مْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّىأَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاٌّ حْلَامِ بِعَالِمِينَ } )
يوسف : ( 30 ) وقال نسوة في . . . . .
النسوة بكسر النون فعلة ، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه . وزعم ابن السراج أنه اسم جمع . وقال الزمخشري : النسوة اسم مفرد لجمع المرأة ، وتأنيثه غير حقيقي ، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث انتهى . وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء لأنه يجوز : قامت الهنود ، وقام الهنود . وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع ، وتكسيره للكثرة على نسوان ، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضاً ، ولا واحد له من لفظه .
شغف : خرق الشغاف ، وهو حجاب القلب . وقيل : سويداؤه ، وقيل : داء يصل إلى القلب فينفذ إلى القلب . وكسر الغين لغة تميم . وقيل : الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب ، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه . ومنه قول الأعشى : يعصي الوشاة وكان الحب آونة
مما يزين للمشفوف ما صنعا

" صفحة رقم 300 "
وقد تكسر غينه . المتكأ : الوسادة ، والنمرقة . المتك : الأترج ، والواحد متكة قال الشاعر :
فاهدت متكة لهي أبيها
وقيل : اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه . قال : يشرب الإثم بالصواع جهارا
ونرى المتك بيننا مستعارا
وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه . وقال صاحب اللوامح : المتك بالضم عند الخليل ، العسل ، وعند الأصمعي الأترج . وقال أبو عمر : والشراب الخالص . وقال أبو عمر : وفيه ثلاث لغات ، المتك بالحركات الثلاث ، وقيل : بالكسر الخلال ، وقيل : بل المسك . وقال الكسائي أيضاً : فيه اللغات الثلاث ، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة . وقال أيضاً : قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد . وقال الفضل : في اللغات الثلاث هو المبزماورد ، وكل ملفوف بلحم ورقاق . وقال أيضاً : المتك بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كندة . السكين : تذكر وتؤنث ، قاله الفراء والكسائي . ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير . حاش : قال الفراء من السرب من يتمها ، وفي لغة الحجاز : حاش لك ، وبعض العرب : حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد ، وهي في أهل الحجاز انتهى . وقال الزمخشري : حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء ، تقول : أساء القوم حاشى زيد . قال : حاشى أبي ثوبان أن لنا
ضنا عن الملحاة والشتم
وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاش الله : براءة الله ، وتنزيه الله انتهى . وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرق بين قولك : قام القوم إلا زيداً ، وقام القوم حاشى زيد . ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة ، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع . وأما ما أنشده من قوله : حاشى أبي ثوبان ، فكذا ينشده ابن عطية ، وأكثر النحاة . وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر ، وهما من بيتين وهما :
حاشى أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببُكْمَة فدْمِ عمرو بن عبد الله إن به
ضنًّا عن الملحاة والشتَم
عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة . الخبر : معروف ، وجمعه اخباز ، ومعانيه خباز . البضع : ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة . وقال مجاهد : من الثلاثة إلى السبعة ، وقال أبو عبيدة : البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما هو من الواحد إلى العشرة . وقال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، ولا يذكر مع مائة ولا

" صفحة رقم 301 "
ألف . السمن : معروف وهو مصدر سمن يسمن ، واسم الفاعل سمين ، والمصدر واسم الفاعل على غير قياس . العجفاء : المهذولة جداً قال :
ورجال مكة مستنون عجاف
الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو ، من أخلاط النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله : ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ ( إنه أخذ عثكالاً من النخل . وروي أنّ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل . وقال ابن مقبل : خود كأن راشها وضعت به
أضغاث ريحان غداة شمال
ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها : ضغث على إمالة .
( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( : لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث ، ويجوز فيه الوجهان . ونسوة كما ذكرنا جمع قلة . وكن على ما نقل خمساً : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ، وامرأة سجانة ، وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر . ومعنى في المدينة : أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف ، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع ، لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم . وعبرت بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها ، تخادعه دائماً عن نفسه كما تقول : زيد يعطي ويمنع . ولم يقلن : راودت فتاها ، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه قد شغفها حباً أي : بلغ حبه شغاف قلبها . وانتصب حباً على التمييز المنقول من الفاعل كقوله : ملأت الإناء ماء ، أصله ملأ الماء الإناء . وأصل هذا شغفها حبه ، والفتى الغلام وعرفه في المملوك . وفي الحديث : ( لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ) ، وقد قيل في غير المملوك . وأصل الفتى في اللغة الشاب ، ولكنه لما كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى . وقرأ ثابت البناتي : شغفها بكسر الغين المعجمة ، والجمهور بالفتح . وقرأ علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، وابنه محمد بن علي ، وابنه جعفر بن محمد ، والشعبي ، وعوف الأعرابي : بفتح العين المهملة ، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم ، وروي عن ثابت البناني وابن رجاء كسر العين المهملة . قال ابن زيد : الشغف ف يالحب ، والشغف في البغض . وقال الشعبي : الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب ، والشغف الجنون ، والمشعوف المجنون . وأدغم النحويان ، وحمزة ، وهشام ، وابن محيصن دال قد في شين شغفها . ثم نقمن عليها ذلك فقلن : إنا لنراها في ضلال مبين أي : في تحير واضح للناس .
( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ( : روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها ، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها ، وسوّء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف . وسمي الاغتياب مكراً ، لأنه في خفية وحال غيبة ، كما يخفي الماكر مكره . وقيل : كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها ، أرسلت إليهن ليحضرن . قيل : دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات . والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها .
وأعتدت لهن متكئاً أي : يسرت

" صفحة رقم 302 "
وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد ، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة . ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب ، وهنا محذوف تقديره : فجئن واتكأن . ومتكئاً إما أن يراد به الجنس ، وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً ، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً . قال ابن عباس متكئاً مجلساً ، ذكره الزهراوي ، ويكون متكئاً ظرف مكان أي : مكاناً يتكئن فيه . وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها . وقال مجاهد : المتكأ الطعام يحز حزاً . قال القتبي : يقال اتكأ عند فلان أي أكلنا ، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين ، ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) أَمَّا أَنَاْ فَلا أَكَلَ مُتَّكَئًا ( أو كما قال : وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل ، فمعلوم أنّ مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب ، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين . فقيل : كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم ، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين . وقيل : كان أترجاً ، وقيل : كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد . وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط ، ومضمونه : أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين ، وعادة من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه ، فيكون متكئاً عليه . قيل : وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين : أحدهما : دهشن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن ، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن ، ويكون ذلك مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن ، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن . والثاني : التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر ، توهمه أنهن يثبن عليه ، فيكون يحذر مكرها دائماً . ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك ، ويوسف قد عصمه الله من كل ما تريده به من السوء .
وقرأ الزهري ، وأبو جعفر ، وشيبة : متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي ، فاحتمل ذلك وجهين : أحدهما : أن يكون من الاتكاء ، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة . والثاني : يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي : ما يشتددن عليه ، إما بالاتكاء ، وإما بالقطع بالسكين . وقرأ الأعرج : متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ إذا اتكأ . وقرأ الحسن : وابن هرمز : متكأ بالمد والهمز ، وهو مفتعل من الاتكاء ، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا : ومن ذم الرجال بمنتزاح . وقالوا : أعوذ بالله من العقراب
الشائلات عقد الاذناب
وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والجحدري ، والكلبي ، وإبان بن تغلب : متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وجاء كذلك عن ابن هرمز . وقرأ عبد الله ومعاذ ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم ، وتقدم تفسير متك ، ومتك في المفردات . وقالت : اخرج عليهن ، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام . وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه ، وفي الكلام حذف تقديره : فخرج عليهن . ومعنى أكبرنه : أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع . قيل : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء . وفي حديث الإسراء أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما أخبر بلقيا يوسف قيل : يا رسول الله كيف رأيته ؟ قال : ( كالقمر ليلة البدر ) وقيل : كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس . وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه . وقيل : ورث الجمال عن جدته سارة . وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده : معناه حضن ، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل :

" صفحة رقم 303 "
تأتي النساء على أطهارهن ولا
تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ، والبيت مصنوع مختلق ، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة الله . وقال الزمخشري : وقيل أكبرن بمعنى حضن ، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر ، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله : خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
فإن لحت حاضت في الخدور العواتق انتهى . وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت ، إذ لو كانت هاء السكت ، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف ، لم يضم الهاء . والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض ، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي : أكبرن الإكبار . وقطعن أيديهن أي جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي . والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات ، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن . فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهبت بما راعها من جمال يوسف ، فكأنها غابت عن حسها . والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم .
وقال عكرمة : الأيدي هنا الأكمام ، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن ، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن : حاش لله . قرأ الجمهور : حاش لله بغير ألف بعد الشين ، ولله بلام الجر . وقرأ أبو عمرو : حاشا لله بغير ألف ، ولام الجر . وقرأت فرقة منهم الأعمش : حشى على وزن رمى لله بلام الجر . وقرأ الحسن : حاش بسكون الشين وصلاً ، ووقفاً بلام الجر . وقرأ أبيّ وعبد الله : حاشى الله بالإضافة ، وعنهما كقراءة أبي عمرو ، قاله صاحب اللوامح . وقرأ الحسن : حاش الإله . قال ابن عطية : محذوفاً من حاشى . وقال صاحب اللوامح : بحذف الألف ، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده . فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام ، وهو مصدر أقيم مقام المفعول ، ومعناه المألوه بمعنى المعبود . قال : وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى . وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح : من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين ، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين ، إذ الأصل حاشى الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها ، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في يخشى الإله . ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف . وقرأ أبو السمأل : حاشا لله بالتنوين كرعياً لله ، فأما القرءات لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمأل فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى ، أو حاش ، أو حشى ، أو حاش حرف جر ، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر ، ولأنه تصرف فيهما بالحذف ، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف . وزعم المبرد وغيره كابن عطية : أنه يتعين فعليتها ، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي : حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به . ومعنى لله : لطاعة الله ، أو لمكانة من الله ، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به ، أو يذعن إلى مثله ، لأنّ ذلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم ، إنما هو ملك . وعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي : جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله ، أو لما ذهب قبل . وذهب غير المبرد إلى أنها اسم ، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال : تنزيهاً لله . ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا

" صفحة رقم 304 "
منوناً ، وعلى هذا القول يتعلق لله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا ، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف . ألا تراهم قالوا : من عن يمينه ، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا : من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر ، بل أبقوا عن على بنائه ، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها ، وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا : سبحان الله ، وهذا اختيار الزمخشري . وقال ابن عطية : وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي : إن حاشى حرف استثناء ، كما قال الشاعر :
حاشى أبي ثوبان
وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين ، وقد ضعفوا ذلك . قال الزمخشري : والمعنى تنزيه الله من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله . وأما قوله : حاشى لله ، ما علمنا عليه من سوء ، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله . ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان ، نفين عنه البشرية ، وأثبتن له الملكية ، لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك ، وإن كان لا يرى . وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب : فلست لأنسى ولكن لملاك
تنزل من جو السماء يصوب
وقال بعض المحدثين : قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة
حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وانتصاب بشراً على لغة الحجاز ، ولذا جاء ) مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ ( وما منكم من أحد عنه حاجزين ، ولغة تميم الرفع . قال ابن عطية : ولم يقرأ به . وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعود انتهى . وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي : ما هذا بشرى ، قال صاحب اللوامح : فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي : ليس هذا مما يشترى ويباع . ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال : هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء ، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به . وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك ، وزاد عليهما : إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك ، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك ، والله أعلم انتهى . ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال : لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبداً بشرى ، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً . وقال الزمخشري : وقرىء ما هذا بشرى أي : بعبد مملوك لئيم ، إنْ هذا إلا ملك كريم . تقول : هذا بشرى أي حاصل بشرى ، بمعنى هذا مشتري . وتقول : هذا لك بشرى ، أي بكراً . وقال : وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ، وبها ورد القرآن انتهى . وإنما قال القدمي ، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء ، فتقول : ما زيد بقائم ، وعليه أكثر ما جاء في القرآن . وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة ، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر :

" صفحة رقم 305 "
وأنا النذير بحرة مسودة
تصل الجيوش إليكم أقوادها
أبناؤها متكنفون أباهم
حنقو الصدور وما هم أولادها
وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة : لا يكاد أهل الحجاز ، ينطقون إلا بالباء ، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري : اللغة القدمى الحجازية ، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها .
( قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ ( : ذا اسم الإشارة ، واللام لبعد المشار ، وكن خطاب لتلك النسوة . واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن : ما هذا بشراً ، بعد عنهن إبقاء عليهن في أنْ لا تزداد فتنتهن ، وفي أنْ يرجعن إلى حسنهن ، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد ، ويحتمل أن تكون أشارت إليه وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعاً لمنزلته في الحسن ، واستبعاد المحله فيه ، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه . واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل : الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له ، هو الذي لمتنني فيه أي : في محبته وشغفي به ، قال الزمخشري : ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن : عشقت عبدها الكنعاني تقول : هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ، يعني : إنكن لو تصورنه بحق صورته ، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى . والضمير في فيه عائد على يوسف . وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف ، والضمير عائد على الحب ، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى . ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة ، واستنامت إليهن في ذلك ، إذ علمت أنهن قد عذرنها .
فاستعصم قال ابن عطية : معناه طلب العصمة ، وتمسك بها وعصاني . وقال الزمخشري : والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، ونحو : استمسك ، واستوسع ، ، واستجمع الرأي ، واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان انتهى . والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم ، فاستفعل فيه موافق لافتعل ، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب ، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه ، وطلب العصمة لا يدل على حصولها . وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل . وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل ، والمعنى : امتسك واتسع واجتمع الرأي ، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي : تفحل الخطب نحو : استكبر وتكبر . ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها : ولئن لم يفعل ما آمره . والضمير في آمره عائد على الموصول أي : ما آمر به ، فحذف الجار ، كما حذف في أمرتك الخير . ومفعول آمر الأول محذوف ، وكان التقدير ما آمره به . وإن جعلت ما مصدرية جاز ، فيعود الضمير على يوسف أي : أمري إياه ، ومعناه : موجب أمري . وقرأت فرقة : وليكونن بالنون المشددة ، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة ، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى :
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

" صفحة رقم 306 "
ومن الصاغرين : من الأذلاء ، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته ، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة . وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وأقامت عذرها عند النسوة ، فرقت عليه ، فتوعدته بالسجن . وقال له النسوة : أطع وافعل ما أمرتك به ، فقال : رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه . فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها ، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار ، فالتجأ إلى الله تعالى . والتقدير : دخول السجن . وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي : حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل ، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط ، وإنما هذان شران ، فآثر أحد الشرّين على الآخر ، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة ، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة ، ولم يخطر له ببال . ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله ، والصبر على النوائب ، وانتظار الفرج ، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعياً له في تخليصه . آثره ثم ناط العصمة بالله ، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين ، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو ، فقال : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي : أمل إلى ما يدعونني إليه . وجعل جواب الشرط قوله : أصب ، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط ، لا بمباشرة المعصية . وقرىء أصب إليهن من صببت صباة فأنا صب ، والصبابة إفراط الشوق ، كأنه ينصب فيما يهوي . وقراءة الجمهور : أصب من صبا إلى اللهو يصبو صباً وصبوا ، ويقال : صبا يصبا صباً ، والصبا بالكسر اللهو واللعب . وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون ، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة . قال الشاعر : إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها
إلا السفاه وإلا ذكرة حلما وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله : وإلا تصرف عني ، فيه معنى طلب الصرف والدعاء ، وكأنه قال : رب اصرف عني كيدهن ، فصرف عنه كيدهن أي : حال بينه وبين المعصية . إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه ، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم . ثم بدا لهم أي : ظهر لهم ، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي : بدا لهم هو أي رأى أو بدا . كما قال :
بدا لك من تلك القلوص بداء
هكذا قاله النحاة والمفسرون ، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة ، فإنه زعم أن قوله : ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي : سجنه حتى حين ، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو . والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله : ليسجنن ، أو من قوله : السجن على قراءة الجمهور ، أو

" صفحة رقم 307 "
على السجن على قراءة من فتح السين . والضمير في لهم للعزيز وأهله ، والآيات هي : الشواهد الدالة على براءة يوسف . قال مجاهد وغيره : قد القميص ، فإن كان الشاهد طفلاً فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة . والذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي ، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته ، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن ، بل رأوا قول الشاهد . وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره . وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها ، والسدي من حز أيديهن ، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين . وقرأ الحسن : لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه ، أو العزيز وحده على وجه التعظيم . وقرأ ابن مسعود : عتى بإبدال حاء حتى عيتا ، وهي لغة هذيل . وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرىء بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل ، والمعنى : إلى زمان . والحبن يدل على مطلق الوقت ، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف ، لا أنه موضوع في اللغة كذلك ، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه . وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء ، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها ، وعشقه لها ، وجعله زمام أمره بيدها ، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف . روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس ، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا محبوسة محجوبة ، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإلا حبسته كما أنا محبوسة ، فحينئذ بدا لهم سجنه ، قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب بالطبل ، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته ، فهذا جزاؤه أن يسجن . قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي .
( وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ( : في الكلام حذف تقديره : فسجنوه ، فدخل معه السجن غلامان . وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان ، أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه . وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما قاله : السدي . ومع تدل على الصحبة واستحداثها ، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة . ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسال لفقيرهم ، ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزمان ، وأحبه صاحب السجن والقيم عيه وقال له : كن في أي البيوت شيئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت على المحبة مضرات ، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى . وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد . وروي أن الفيتين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك فقال : أنشدكما الله أنْ لا تحباني ، وذكر ما تقدم . وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا أن لهذا لأجراً فقالوا : بارك الله عليك ، ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك .
وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد : رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله . وقال ابن مسعود والشعبي : استعملاها ليجرباه . والذي رأى عصر لخمر اسمه بنو قال : رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك . والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال : كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها

" صفحة رقم 308 "
خبز ، والطير تأكل من أعلاه ، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن ، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل ، وكلاهما لمدلول واحد . ولا يجوز أن يقول : اضربني ولا أكرمني . وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه . وقيل : الخمر بلغة غسان اسم العنب . وقيل : في لغة ازدعمان . وقال المعتمر : لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب . وقرأ أبي وعبد الله : أعصر عنباً ، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف ، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها . وفي مصحف عبد الله : فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه ، وهو أيضاً تفسير لا قراءة . والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه ، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : بتأويل ذلك . وقال الجمهور : من المحسنين أي في العلم ، لأنهما رأيا سنة ما علما به أنه عالم . وقال الضحاك وقتادة : من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم . وقال ابن إسحاق : أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً ، إذا تأول لهما ما رأياه .
( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ ( : قال الزمخشري : لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك ، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ، ويصفه لهما ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، ويجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح لهما الشرك بالله ، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ، ثم يفتيه بعد ذلك . وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه ، وينتفع به في الدين ، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته ، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة ، وهو قول ابن جريج قال : أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم ، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما ، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا ، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن . وقال السدي وابن إسحاق ، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله ، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام ، وطماعية في أيمانهما ، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان ، وتسلم له آخرته فقال لهما معلناً بعظيم علمه للتعبير : إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي : بما يؤول إليه أمره في اليقظة ، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به . فروى أنهما قالا له : ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم ؟ فقال لهما : ذلك مما علمني ربي . والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره ، أنه في اليقظة ، وأن قوله : مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبياً يوحى إليه . والظاهر أن قوله : إني تركت ، استئناف إخبار بما هو عليه ، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه ، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه . وفي الحديث : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط ، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة ، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها . ويجوز أن يكون إني تركت تعليلاً لما قبله أي : علمني ذلك ، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك ، واتبعت ملة الأنبياء ، وهي الملة الحنيفية . وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر ، ومن كان الفتيان على دينهم . ونبه على أصلين عظيمين وهما : الإيمان بالله ، والإيمان بدار الجزاء ، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل . وقال الزمخشري : وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة ، وأن

" صفحة رقم 309 "
غيرهم مؤمنون بها . ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى . وليست عندنا هم تدل على الخصوص ، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة . ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة ، بعد أن عرفهما أنه نبي ، بما ذكر من أخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله . وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون : آبائي بإسكان الياء ، وهي مروية عن أبي عمرو . ما كان لنا ما صح ولا استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء عموم في الملك والجني والإنسيّ ، فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر ؟ فشيء يراد به المشرك . ويجوز أن يراد به المصدر أي : من شيء من الإشراك ، فيعم الإشراك ، ويلزم عموم متعلقاته . ومن زائدة لأنها في حيز النفي ، إذ المعنى : ما نشرك بالله شيئاً ، والإشارة بذلك إلى شركهم وملتهم أي : ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك بالله ، ومن فضل الله علينا أي : على الرسل ، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين الله وعباده . وعلى الناس أي : على المرسل إليهم ، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه . وقوله : لا يشكرون أي : لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا ينتبهون . وقيل : ذلك من فضل الله علينا ، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها ، وقد نصب مثل ذلك لسائر الناس من غير تفاوت ، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعاً لأهوائهم ، فيبقون كافرين غير شاكرين .
( يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَىِ السّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( : لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام ، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة . واحتمل قوله : يا صاحبي السجن ، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف ، والمعنى : يا صاحبيّ في السجن ، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل : يا ساكني السجن ، كقوله ) أَصْحَابِ النَّارِ ( ) وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ( ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله : أأرباب ، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام . وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها ، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق . وقابل تفرق أربابهم بالواحد ، وجاء بصفة القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة ، وإعلاماً بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به ، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد . والمعنى : أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله ؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته ، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون . والخطاب بقوله : ما تعبدون ، لهما ولقومهما من أهل . ومعنى إلا أسماء : أي ألفاظاً أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها ، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف . إنْ الحكم إلا لله أي : ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه . ومعنى القيم : الثابت الذي دلت عليه البراهين . لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم .
( يَعْلَمُونَ ياصَاحِبَىِ السّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ( : لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما ، ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب ، فروي أنه قال : لبنوّ : أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك ، وما رأيت من الكرامة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه . وقال لملحب : أما أنت فما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب ، فروي أنهما قالا : ما رأينا شيئاً ، وإنما تحالمنا لنجرّبك . وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب . وروي أنهما رأيا ثم أنكرا . وقرأ الجمهور : فيسقي ربه من سقى ، وفرقة : فيسقي من أسقى ، وهما

" صفحة رقم 310 "
لغتان بمعنى واحد . وقرىء في السبعة : نسقيكم ونسقيكم . وقال صاحب اللوامح : سقى وأسقى بمعنى واحد في اللغة ، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب ، وأسقاه جعل له سقياً . ونسب ضم الفاء لعكرمة والجحدري ، ومعنى ربه . سيده . وقال ابن عطية : وقرأ عكرمة والجحدري : فيسقي ربه خمراً بضم الياء وفتح القاف ، أي ما يرويه . وقال الزمخشري : وقرأ عكرمة فيسقى ربه ، فيسقى ما يروى به على البناء للمفعول ، ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله أنّ الأمر قد قضى ووافق القدر ، وسواء كان ذلك منكما حلم ، أو تحالم . وأفرد الأمر وإن كان أمر هذا ، لأنّ المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن ، هو اتهام الملك إياهما بسمه ، فرأيا ما رأيا ، أو تحالما بذلك ، فقضيت وأمضيت تلك العاقبة من نجاة أحدهما ، وهلاك الآخر . وقال أي : يوسف للذي ظن : أي أيقن هو أي يوسف : إنه ناج وهو الساقي . ويحتمل أن يكون ظن على بابه ، والضمير عائد على الذي وهو الساقي أي : لما أخبره يوسف بما أخبره ، ترجح عنده أنه ينجو ، ويبعد أن يكون الظن على بابه ، ويكون مسنداً إلى يوسف على ما ذهب إليه قتادة والزمخشري . قال قتادة : الظن هنا على بابه ، لأن عبارة الرؤيا ظن . وقال الزمخشري : الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد فيبعد ، لأنه قوله : قضي الأمر ، فيه تحتم ما جرى به القدر وإمضاؤه ، فيظهر أن ذلك بطريق الوحي ، إلا أن حمل قضي الأمر على قضى كلامي ، وقلت ما عندي ، فيجوز أن يعود على يوسف . فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : اذكرني عند الملك أي : بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني الله ، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق . وهذا من يوسف على سبيل الاستعانة والتعاون في تفريج كربه ، وجعله بإذن الله وتقديره سبباً للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( وكما كان الرسول يطلب من يحرسه . والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله ، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه . والضمير في فأنساه عائد على الساقي ، ومعنى ذكر ربه : ذكر يوسف لربه ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة . وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف ، لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن . ويضع سنين مجمل ، فقيل : سبع ، وقيل : اثنا عشر . والظاهر أن قوله : فلبث في السجن ، إخبار عن مدّة مقامه في السجن ، منذ سجن إلى أن أخرج . وقيل : هذا اللبث هو ما بعد خروج الفتيين وذلك سبع . وقيل : سنتان . وقيل : الضمير في أنساه عائد على يوسف . ورتبوا على ذلك أخباراً لا تليق نسبتها إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّى أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاْحْلَامِ بِعَالِمِينَ ( : لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته ، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ، وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان . ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها . أرى : يعني في منامه ، ودل على ذلك : أفتوني في رؤياي . وأرى حكاية حال ، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت . وسمان صفة لقوله : بقرات ، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن . ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع ، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به ، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به ، لأنه يصير المعنى سبعاً من البقرات سماناً . وفرق بين قولك : عندي ثلاث رجال كرام ، وثلاث رجال كرام ، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام ، فيلزم كرم الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام . والمعنى في الثاني : ثلاثة من الرجال كرام ، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم . ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا

" صفحة رقم 311 "
يضاف إلى الصفة إلا في الشعر ، إنما تتبعه الصفة . وثلاثة فرسان ، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء . ودل قوله : سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات ، كأنه قيل : سبع بقرات عجاف ، أو بقرات سبع عجاف . وجاء جمع عجفاء على عجاف ، وقياسه عجف كخضراء أو خضر ، حملاً على سمان لأنه نقيضه . وقد يحمل النقيض على النقيض ، كما يحمل النظر على النظير . والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات ، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله : وأخر يابسات ، لدلالة قسمية وما قبله عليه ، فيكون التقدير : وسبعاً أخر يابسات . ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً على سنبلات خضر ، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع ، ومن جهة كونه أخر كان مبايناً لسبع ، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات ، فإنه كان يصح العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات . والملأ : أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك . وقرأ أبو جعفر : بالإدغام في الرؤيا ، وبابه بعد قلب الهمزة واواً ، ثم قلبها ياء ، لاجتماع الواو والياء ، وقد سبقت إحداهما بالسكون . ونصوا على شذوذه ، لأن الواو هي بدل غير لازم ، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه ، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول : زيد ضارب لعمر وفصيحاً . والظاهر أن خبر كنتم هو قوله : تعبرون . وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة أحدها : أن تكون الرؤيا للبيان قال : كقوله : وكانوا فيه من الزاهدين ، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه ، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون ، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها . والثاني : أن تكون الرؤيا خبر كان قال : كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه ، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً . والثالث : أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام ، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرّؤيا ، وعبارة الرّؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط ، فكان عابر الرّؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها . وعبر الرّؤيا بتخفيف الباء ثلاثياً وهو المشهور ، وأنكر بعضهم التشديد ، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر : رأيت رؤياً ثم عبرتها
وكنت للأحلام عباراً
وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام ، وهي ما يكون من حديث النفس ، أو وسوسة الشيطان ، أو مزاج الإنسان . وأصله أخلاط النبات ، استعير للأحلام ، وجمعوا الأحلام . وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء ، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول : فلان يركب الخيل وإن مل يركب إلا فرساً واحداً ، تعليقاً بالجنس . وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرّؤيا غيرها . والأحلام جمع حلم ، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي : هي أضغاث أحلام . والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي : لسنا من أهل تعبيير الرؤيا . ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل أي : وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي : لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك ، لأنه تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح ، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح ، ولا تصور علمهم . والباء في بتأويل متعلقة بقوله بعالمين .
2 ( ) وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيق

" صفحة رقم 312 "
ُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّىأَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ اأنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِىإِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الاٌّ رْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاٌّ رْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّىأُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ } )
يوسف : ( 45 ) وقال الذي نجا . . . . .
أمة يأمه أمها وأمها نسي . يغاث : يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج ، يقال : أغاثهم الله فرج عنهم ، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول : غيثت البلاد إذا أمطرت ، ومنه قول الأعرابية : غثنا ما شئنا . الخطب : الشان والأمر الذي فيه خطر ، ويجمع على خطوب قال : وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

" صفحة رقم 313 "
حصحص تبين بعد الخفاء ، قاله الخليل . وقيل : مأخود من الحصة حصحص الحق بانت حصته من حصة الباطل . وقيل : ثبت واستقر ، ويكون متعدياً من حصحص البعير ألقى ثفناته للإناخة قال : حصحص في صم الصفا ثفناته . الجهاز : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، وكل ما يحمل ، وجهاز العروس ما يكون معها من الأثاث والشورة ، وجهاز الميت ما يحتاج إليه في دفنه . الرحل : ما على ظهر المركوب من متاع الراكب أو غيره ، وجمعه رحال في الكثرة ، وأرحل في القلة . مار يمير ، وأمار يمير ، إذا جلب الخير وهي الميرة قال : بعثتك مائراً فمكثت حولا
متى يأتي غياثك من تغيث
البعير في الأشهر الجمل مقابل الناقة ، وقد يطلق على الناقة ، كما يطلق على الجمل فيقول : على هذا نعم البعير ، الجمل لعمومه ، ويمتنع على الأشهر لترادفه . وفي لغة تكسر باؤه ، ويجمع في القلة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران .
( وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى ( : لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها ، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف ، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه ليذكره عند الملك . وادكر أي تذكر ما سبق له مع يوسف بعد أمة أي : مدة طويلة . والجملة من قوله وادكر حاليه ، وأصله : واذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال فيها فصار ادّكر ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ الحسن : واذكر بإبدال التاء ذالاً ، وإدغام الذال فيها . وقرأ الأشهب العقيلي : بعد إمّة بكسر الهمزة أي : بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل . وقال ابن عطية : بعد نعمة نعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه ، والأمة النعمة قال : ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به
فتتركه الأيام وهي كما هيا
قال الأعلم : الأمة النعمة ، والحال الحسنة . وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وشبيل بن عزرة الضبعي ، وربيعة بن عمرو : بعد أمه بفتح الهمزة ، والميم مخففة ، وهاء ، وكذلك قرأ ابن عمر ، ومجاهد ، وعكرمة ، واختلف عنهم . وقرأ عكرمة وأيضاً مجاهد ، وشبيل بن عزرة : بعد أمه بسكون الميم ، مصدر أمه على غير قياس ، وقال

" صفحة رقم 314 "
الزمخشري : ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى . وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى الفراء . أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي . وقرأ الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان ، وكذا في الإمام . وفي مصحف أبي : فأرسلون ، أي ابعثوني إليه لأسأله ، ومروني باستعباره ، استأذن في المضي إلى يوسف . فقال ابن عباس : كان في السجن في غير مدينة الملك ، وقيل : كان فيها ، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال . وفي الكلام حذف التقدير : فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال : والصديق بناء مبالغة كالشريب والكبر ، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وقوله : لعلي أرجع إلى الناس أي : بتفسير هذه الرؤيا . واحترز بلفظة لعلي ، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم ، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم . وقوله : لعلهم يعلمون ، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا . وقيل : لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك ، فتكون لعل كالتعليل لقوله : أفتنا . قال : تزرعون إلى آخره ، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول : أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ . والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : فذروه في سنبله . والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة . قال ابن عطية : ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً ، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع ، ومعلوم أنه الأخصب انتهى . والظاهر أن قوله : تزرعون سبع سنين دأباً خبراً ، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد . وقال الزمخشري : تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله : ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ ( وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به ، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه . والدليل على كونه في معنى الأمن قوله : فذروه في سنبله انتهى . ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا ، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين . وأما قوله : فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه . ومعنى دأباً : ملازمة ، كعادتكم في المزارعة . وقرأ حفص : دأباً بفتح الهمزة ، والجمهور بإسكانها ، وهما مصدران لدأب ، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي : تدابون داباً ، فهو منصوب على المصدر . وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون ، وهي عنده مثل قعد القرفصاء . وقيل : مصدر في موضع الحال أي : دائبين ، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون . وما في قوله : فما حصدتم شرطية أو موصولة ، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل ، فإذا بقيت فيها انحفظت ، والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم ، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر . وقرأ السلمي : مما يأكلون بالياء على الغيبة أي : يأكل الناس ، وحذف المميز في قوله : سبع شداد أي : سبع سنين شداد ، لدلالة قوله : سبع سنين عليه . وأسند الأكل الذي في قوله : أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال : ) وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ). ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون ، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ . وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور : يغاث من الغيث ، وقيل : من الغوث ، وهو الفرج . ففي الأول بني من ثلاثي ، وفي الثاني من رباعي ، تقول : غاثنا الله من الغيث ، وأغاثنا من الغوث . وقرأ الأخوان : تعصرون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالياء على الغيبة ، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه ، لأنه عصر للضروع . وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب . وقال أبو عبيدة وغيره : مأخوذ من العصرة ، والعصر وهو المنجي ، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : صادياً يستغيث غير مغاث
ولقد كان عصرة المنجود

" صفحة رقم 315 "
فالمعنى : ينجون بالعصرة . وقرأ جعفر بن محمد ، والأعرج ، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول ، وعن عيسى أيضاً : تعصرون بالتاء على الخطاب مبنياً للمفعول ، ومعناه : ينجون من عصره إذا أنجاه ، وهو مناسب لقوله : يغاث الناس . وقال ابن المستنير : معناه يمطرون ، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم ، وهو للماء الذي يمطرون به . وقرى زيد ابن علي : وفيه تعصرون ، بكسر التاء والعين والصاد وشدها ، وأصله تعتصرون ، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين ، واتبع حركة التاء لحركة العين . واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه . ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر : لو بغير الماء حلقي شرق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
أي نجاتي . تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي . وعن قتادة : زاده الله علم سنة ، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس ، وفيه يعصرون ، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب .
( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ ( : في الكلام حذف تقديره : فحفظ الرسول ما أول به يوسف الرؤيا ، وجاء إلى الملك ومن أرسله وأخبرهم بذلك ، وقال الملك : وقال ابن عطية : في تضاعيف هذه الآيات محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدلّ عليها ، والمعنى : فرجع الرسول إلى الملك ومن مع الملك فنص عليهم مقالة يوسف ، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير ، وحسن الرأي ، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنام المتقدم ، فعظم يوسف في نفس الملك وقال : ائتوني به ، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه وقال : إنّ الملك قد أمر بأن تخرج إليه ، قال له : ارجع إلى ربك أي : إلى الملك وقل له : ما بال النسوة ؟ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان وقل له يستقصي عن ذنبي ، وينظر في أمري ، هل صجنت بحق أو بظلم ؟ وكان هذا الفعل من يوسف إناءة وصبراً وطلباً لبراءة الساحة ، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن أمر دينه صفحاً ، فيراه الناس بتلك العين أبداً ويقولون : هذا الذي راود امرأة مولاه ، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويتحقق منزلته من العفة والخير ، وحينئذ يخرج للأحظاء والمنزلة .
وقال الزمخشري : إنما تأتي وتثبت في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة لتظهر براءة ساحته عما فرق به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن سبع سنين إلا أمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ، ويكشف سره ، وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجبة وجوب ابقاء الوقوف في مواقفها . قال عليه السلام : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ) انتهى ولأجل هذا كان الزمخشري ، وكان مقطوع الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في خيانة ولا فساد ، وكان يظهر ذلك المكتوب في كل بلد دخله خوفاً من تهمة السوء . وإنما قال : سل الملك عن شأن النسوة ، ولم يقل سله أن يفتش عنهن ، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبعث عنما سئل عنه ، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجري التفتيش عن حقيقة

" صفحة رقم 316 "
القصة ، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل . ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي . وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون ، وقرأت فرقة اللاي بالياء ، وكلاهما جمع التي . إن ربي أي : إن الله بكيدهنّ عليم . أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد عوده ، واستشهد بعلم الله على أنهن كدنه ، وأنه بريء مما قذف به . أو أراد الوعيد لهن ، أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه ، ففي ذلك استشهاد به وتقريع . وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ ، والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس ، لأنها حالة توقيف على ذنب . قال : ما خطبكن في الكلام حذف تقديره : فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف ، فجمع الملك النسوة وامرأة اعزيز وقال لهن : ما خطبكن ؟ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة ، ونزه جانب يوسف بقوله : إذ راودتن يوسف عن نفسه ، ومراودتهن له قولهن ليوسف : أطع مولاتك . وقال الزمخشري : هل وجدتن منه ميلاً لكن قلن : حاش لله تعجباً من عفته ، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ، ومن نزاهته عنها . وقال ابن عطية : أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة ، وأعطين يوسف بعض براءة ، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جواباً عن ذلك : حاش لله . ويحتمل أن يكون قولهن : حاش لله ، في جهة يوسف عليه السلام . وقولهن ما علمنا عليه من سوء ليس بإبراء تام ، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن ، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت : الآن حصحص الحق . وقرىء حصحص على البناء للمفعول ، أقرت على نفسها بالمراودة ، والتزمت الذنب ، وأبرأت يوسف البراءة التامة .
( ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( : الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله : قالت . والمعنى : ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه ، وأرميه بذنب هو منه بريء . ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها : وما أبرىء نفسي ، والنفوس مائلة إلى الشهوات إمارة بالسوء . وقال الزمخشري : وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن ، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعمصة إن ربي غفور رحيم ، استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . ومن ذهب إلى أن قوله : ذلك ليعلم إلى آخره ، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله ، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف . فقال ابن جريج : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا الكلام متصل بقول يوسف : إن ربي بكيدهن عليم ، وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي : هذا العلم سيدي أني لم أخنه . وقال بعضهم : إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها إلى قولها : وإنه لمن الصادقين ، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع الله فيه ، وهذا يضعف ، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك . فكيف يقول الملك بعد ذلك : ائتوني به ؟ وفسر الزمخشري الآية أولاً على أنها من كلام يوسف فقال : أي ذلك التنبت والتشمر لظهور البراءة ، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده ، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها في أمانة زوجها ، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه . ويجوز أن يكون توكيداً لأمانته ، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ، ولا سدّده ، ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً ، ولحالها في الأمانة معجباً كما قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته . فقال : وما أبرىء نفسي من الزلل ، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ، ولا أزكيها ، إن النفس لأمارة بالسوء . أراد

" صفحة رقم 317 "
الجنس أي : هذا الجنس يأمر بالسوء ، ويحمل على ما فه من الشهوات انتهى . وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه ، ويزيد على عادته في خطابته . ولما أحسّ الزمخشري بأشكال قول من قال : إنه من كلام يوسف قال : ( فإن قلت ) : كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك ؟ ( قلت ) : كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه ، ونحوه قوله : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى . وهذا ليس كما ذكر ، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون ، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة ، فقالوا ذلك بعض لبعض ، فيكون في قول فرعون : يريد أن يخرجكم خطاباً للملأ من فرعون ، ويكون في هذا التركيب خطاباً من بعضهم لبعض ، ولا يتنافى اجتماع المقالتين . وبالغيب يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي : غائباً عنه ، أو من المفعول أي : غائباً عني ، أو ظرفاً أي بمكان الغيب . والظاهر أنّ إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله : لأمارة بالسوء ، لأنه أراد الجنس بقوله : إن النفس ، فكأنه قال : إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء ، فكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة . ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير : لأمارة بالسوء صاحبها ، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء . وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء ، وما ظرفية إذ التقدير : لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي . وجوزوا أن يكون استثناء منقطعاً ، وما مصدرية . وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة .
( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَجْرُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( : روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك يخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ فقال : لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن ، وما كان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك . وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا ، فلذلك قال : ائتوني به فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده ، فطلبه ثانياً ومقصوده : استخلاصه لنفسه . ومعنى أستخلصه : أجعله خالصاً لنفسي وحاصاً بي ، وسمى الله فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير ، ولهذا كتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً ، لأن ذلك حكم . والجواب مسلم وتسلموا . وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما

" صفحة رقم 318 "
تقلب . وفي الكلام حذف التقدير : فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به ، فأراد رؤيته وقال : ائتنوني به ، فلما كلمه . والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي : فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته . ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي : فلما كلم يوسف الملك ، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر ، والمرء مخبوء تحت لسانه ، قال : إنك اليوم لدينا مكين أي : ذو مكانة ومنزلة ، أمين مؤتمن على كل شيء . وقيل : أمين آمين ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ، وبالأمن يحط من إكرام يوسف . ولما وصفه الملك بالتمكن عنده ، والأمانة ، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال : اجعلني على خزائن الأرض أي : ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه ، عليم بوجوه التصرف . وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه ، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ، ولا خلل معهما لقائل . وقيل : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن . وقيل : حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني الجوع . وهذا التخصيص لا وجه له ، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره ، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها . وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل ، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع ، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك . فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام ، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه ، فللمتولي أن يستظهر به . وقيل : كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع . وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح ، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع ، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا . وكذلك أي : مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر ، يتبوأ منها حيث يشاء أي : يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد ، فاستولى على جميعها ، ودخلت تحت سلطانه . روي أن الملك توجه بتاجه ، وختمه بخاتمه ، ورداه بسيفه ، ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت ، فجلس على السرير ، ودانت له الملوك ، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد ، فزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت ؟ فوجدها عذراء ، لأنّ العزيز كان لا يطأ ، فولدت له ولدين : افراثيم ، ومنشا . وأقام العدل بمصر ، وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم ، ثم استرقهم جميعاً فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني ، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم . وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس ، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر ، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا ، واحتبس بنيامين . وقرأ الحسن وابن كثير : بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع : حيث نشاء بالنون ، والجمهور بالياء . والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف ، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله ، إذ هو نبيه ورسوله . وإما أن يكون الضمير عائداً على الله أي : حيث يشاء الله ، فيكون التفاتاً . نصيب برحمتنا أي : بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما ، ولا نضيع في الدنيا أجر من أسن . ثم ذكر أن أجر الآخرة خير ، لأنه الدائم الذي لا يفنى . وقال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية . وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان ، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا .
( وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُم

" صفحة رقم 319 "
ْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُراوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام . وقيل : من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها ، فتوصلوا إلى يوسف للميرة ، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ، ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك ، ولأنّ همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمل ويتفطن . وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم ، وأمر بإنزالهم . ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا له ، وإنكارهم إياه كان . قال الزمخشري : لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ، ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشريّاً بدراهم معدودة ، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم . ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف . وقيل : رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فما خطر لهم أنه هو . وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج .
ولما جهزهم بجهازهم ، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه . وفي الكلام حذف تقديره : وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم . روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم ، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه : أظنكم جواسيس ، فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا : نحن أبناء رجل صديق ، وكنا اثنى عشر ، ذهب منا واحد في البرية ، وبقي أصغرنا عند أبينا ، وجئنا نحن للميرة ، وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيراً . فقال لهم يوسف : ولم تخلف أحدكم ؟ قالوا : المحبة أبينا فيه قال : فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم ، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ؟ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب هذه في المعنى ، وفي آخره قال : فمن يشهد لكم ؟ إنكم لستم بعيون ، وإن الذي تقولون حق . قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو حمل سالة من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يوسف ، فخلفوه عنده ، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم . وقيل : لم يرتهن أحداً ، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم . قيل : كان يوسف ملثماً أبداً ستراً لجماله ، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق الحديث أو كذبه ، فسئلوا عن أخبارهم ، فكلما صدقوا قال لهم : صدقتم ، فلما قالوا : وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال : كذبتم ، ثم تغير لهم وقال : أراكم جواسيس ، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم . وقرىء : بجهازهم بكسر الجيم ، وتنكر أخ ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم ، ولا أنه يدري من هو . ألا ترى فرقاً بين مررت بغلامك ، ومررت بغلام لك ؟ إنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام ، وفي التنكير أنت جال به . فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب ، والتنكير لا عهد فيه البتة . وجائز أن نخبر عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول : قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة ، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله : ألا ترون إني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي المضيفين ؟ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ، ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل . واحتمل قوله : ولا تقربون ، أن يكون نهياً ، وأن يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي . وحذفت النون وهو مرفوع ، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي ، فيكون مجزوماً والمعنى : أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة . وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي ، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه ، لكن الله تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته : ولتتفسر الرؤيا الأولى قالوا : سنراود عنه أباه أي :

" صفحة رقم 320 "
سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك ، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلو ذلك لا محالة ، لا نفرط فيه ولا نتوانى . وقرأ الأخوان وحفص : لفتيانه ، وباقي السبعة لفتيته ، فالكثرة على مراعاة المأمورين ، والقلة على مراعاة المتأوّلين . فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي : يعرفون حق ردها ، وحق التكرم بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وفرغوا ظروفهم . ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل ، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف . قيل : وكانت بضاعتهم النعال والأدم . وقيل : يرجعون متعد ، فالمعنى لعلهم يردون البضاعة . وقيل : تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به . وقيل : علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة ، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها . وقيل : جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة . قال ابن عطية : ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجباً عليه ، هذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة .
( فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ ( : أي : رجعوا من مصر ممتارين ، بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم ، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم . وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر ، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس ، وقولهم : منع منا الكيل ، إشارة إلى قول يوسف : فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي . ويكون منع يراد به في المستأنف ، وإلا فقد كيل لهم . وجاؤوا أباهم بالميرة ، لكنْ لما أنذروا بمنع الكيل قالوا : منع . وقيل : أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة ، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة ، ولقولهم : فأرسل معنا أخانا نكتل ، ويقويه قراءة يكتل بالياء أي : يكتل أخونا ، فإنما منع كيل بعيره لغيبته ، أو يكن سببلاً للاكتيال . فإن امتناعه في المستقبل تشبيه ، وهي قراءة الأخوين . وقرأ باقي السبعة بالنون أي : نرفع المانع من الكيل ، أو نكتل من الطعام ما نحتاج إليه ، وضمنوا له حفظه وحياطته . قال : هل آمنكم ، هذا توقيف وتقرير . وتألم من فراقه بنيامين ، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة . وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف . قلتم فيه : وإنا له لحافظون ، كما قلتم في هذا ، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك ، لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف ، واستسلم لله وقال : فالله خير حفظاً ، وقرأ الأخوان وحفص : حافظاً اسم فاعل ، وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز ، والمنسوب له الخير هو حفظ الله ، والحافظ الذي من جهة الله . وأجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً ، وليس بجيد ، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال . وقرأ الأعمش : خير حافظ على الإضافة ، فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ . وقرأ أبو هريرة : خير الحافظين ، كذا نقل الزمخشري . وقال ابن عطية : وقرأ ابن مسعود ، فالله خير حافظاً وهو خير الحافظين . وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيراً لقوله : فالله خير حافظاً ، لا أنها قرآن . وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن الله هو ذو الرحمة الواسعة ، فأرجو منه حفظه ، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه .
2 ( ) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا

" صفحة رقم 321 "
رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَقَالَ يابَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( )
) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بِغَيْرِ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ).
قرأ علقمة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، ردت بكسر الراء ، نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة ، وهي لغة لبني ضبة ، كما نقلت العرب في قيل وبيع . وحكى قطرب : النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو : ضرب زيد ، سموا المشدود المربوط بجملته متاعاً ، فلذلك حسن الفتح فيه وما نبغي ، ما فيه استفهامية أي : أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا قاله قتادة . وكانوا قالوا لأبيهم : قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته . وقال الزجاج : يحتمل أن تكون ما نافية أي : ما بقي لنا ما نطلب . ويحتمل أيضاً أن تكون نافية من البغي أي : ما افترينا فكذبنا على هذا الملك ، ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة ، وهذا معنى قول الزمخشري ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة . وقيل : معناه ما نريد منك بضاعة أخرى . وقرأ عبد الله وأبو حيوة : ما تبغي بالتاء على خطاب يعقوب ، وروتها عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : ونميز بضم النون ، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم : ما نبغي ، والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير : فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك ، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه . وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب ، جاز أن يكون ونمير معطوفاً على ما نبغي أي : لا نبغي فيما نقول ، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت . وجاز أن يكون كلاماً مبتدأ ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله ، ونزداد باستصحاب أخينا . وسق بعير على أوساق بعيرنا ، لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة ، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه . والظاهر أنّ البعير هو من الإبل . وقال مجاهد : كيل حمار ، قال : وبعض العرب تقول للحمار : بعير ، وهذا شاذ . والظاهر أنّ قوله : ذلك كيل يسير ، من كلامهم لا من كلام يعقوب ، والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى كيل بعير أي : يسير ، بمعنى قليل ، يحببنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه ، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه . وقيل : يسير عليه أن يعطيه . وقال الحسن : وقد كان يوسف عليه السلام وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن . قال الزمخشري : أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني : ما يكال لهم ، فازدادوا إليه ما يكال لأخيه . ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي : حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد ، كقوله : ذلك ليعلم انتهى . ويعني أن ظاهر الكلام أنه من كلامهم ، وهو من كلام يعقوب ، كما أن قوله : ذلك ليعلم ، ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز ، وهو من كلام يوسف . وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله ، وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل . ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه ، وألحوا عليه في ذلك ، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله ، إذ به تؤكد العهود وتشدد

" صفحة رقم 322 "
ولتأتني به جواب للحلف ، لأن معنى حتى تؤتون موثقاً : حتى تحلفوا لي لتأتنني به . وقوله : إلا أن يحاط بكم ، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة ، والمعنى : نعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص . وقال مجاهد : إلا أن تهلكوا . وعنه أيضاً : إلا أن تطيقوا ذلك . وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله : لتأتنني ، وإن كان مثبتاً معنى النفي ، لأن المعنى : لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم . ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم : أنشدك الله إلا فعلت أي : ما أنشدك إلا الفعل . ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً ، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً ، فيكون التقدير : لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي : محاطاً بكم ، لأنهم نصوا على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالاً . فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ، ويكون التقدير : لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي : إلا وقت إحاطة بكم . قلت : منع ذلك ابن الأنباري فقال : ما معناه : يجوز خروجنا صياح الديك أي : وقت صياح الديك ، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك . وإن كانت أنْ وما مصدريتين ، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه . وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً ، كما يقع صريح المصدر ، فأجاز في قول تأبط شراً : وقالوا لها لا تنكحيه فإنه
لأول فصل أن يلاقي مجمعا
وقول أبي ذؤيب الهذلي : وتالله ما أن شهلة أم واحد
بأوجد مني أن يهان صغيرها
أنْ يكون أنْ تلاقي تقديره : وقت لقائه الجمع ، وأن يكون أنْ يهان تقديره : وقت إهانة صغيرها . فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات ، ولا يقدر فيه معنى النفي . وفي الكلام حذف تقديره : فأجابوه إلى ما طلبه ، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب : الله على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع .
ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين ، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله : ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، والعين ، حق . وفي الحديث : ( إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة ) وخطب الزمخشري فقال : لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود ، وأن يشار إليهم بالأصابع ، ويقال : هؤلاء أضياف الملك انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان ، وما أحقهم بالإكرام ، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه . فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور ، ويصيبهم ما يسوءهم ، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين معمورين بين الناس انتهى . ويظهر أنّ خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أنّ محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف ، ولم يكن فيهم

" صفحة رقم 323 "
في الكرة الأولى ، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف . وقيل : نهاهم خشية أن يستراب بهم لقول يوسف : أنتم جواسيس . وقيل : طمع فافتراقهم أن يتسمعوا خبر يوسف ، ثم نفى عن نفسه أنْ يغني عنهم شيئاً يعني : بوصاته ، إنْ الحكم إلا لله أي : هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد ، فعليه وحده توكلت . ومن حيث أمرهم أبوهم أي : من أبواب متفرقة . روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا . وفي كتاب أبي منصور المهراني : أنه خاطبة بكتاب قرىء على يوسف فبكى . وجواب لما قوله : ما كان يغني عنهم من الله من شيء ، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ، ظرف زمان بمعنى حين ، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية . لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو ، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو ، فدل ذلك على أنّ لما حرف يترتب جوابه على ما بعده . وقال ابن عطية : ويجوز أنْ يكون جواب لما محذوفاً مقدراً ، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني . ومعنى الجملة : لم يكن في دخولهم متفرقين دفع قدر الله الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله ، وتزايد مصيبته على أبيهم ، بل كان إرباً ليعقوب قضاه وتطييباً لنفسه . وقيل : معنى ما كان يغني عنهم من الله من شيء ، ما يرد عنهم قدراً لأنه لو قضى أنْ يصيبهم عين لإصابتهم متفرقين أو مجتمعين ، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة ، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن يصادف وصيته القدر في سلامتهم . وإنه لذو علم يعني لقوله : إن الحكم إلا لله ، وما بعده وعلمه بأنّ القدر لا يدفعه الحذر . وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السلام . وقال قتادة : لعامل بما علمناه . وقال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالماً ، ولفظة ذو وعلم لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه . وقرأ الأعمش : مما علمناه .
2 ( ) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَىإِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّىأَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا

" صفحة رقم 324 "
تَصِفُونَ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الاٌّ رْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِىأَبِىأَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِىأَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يابَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } )
يوسف : ( 69 ) ولما دخلوا على . . . . .
العير الإبل التي عليها الأحمال ، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء . وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير ، كأنها جمع عير . وأصلها فعل كسقف ، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد ، والعير مؤنث . وقالوا في الجمع : غيرات ، فشذوا في جمعه بالألف والتاء ، وفي فتح يائه وقال الشاعر : غشيت ديار الحي بالبكرات
فعارمة فبرقة العيرات
قال الأعلم : هنا مواضع الأعيار ، وهي الحمير . الصواع الصاع ، وفيه لغات تأتي في القرآن ، ويؤنث ويذكر . الوعاء : الظرف الذي يحفظ فيه الشيء ، وتضم واوه ، ويجوز أن تبدل واوه همزة . فتىء من أخوات كان الناقصة قال أوس بن حجر : فما فتئت حي كان غبارها
سرادق بوم ذي رياح يرفع
وقال أيضاً : فما فتئت خيل تثوب وتدعي
ويلحق منها لاحق وتقطع
ويقال فيها : فتأ على وزن ضرب ، وأفتأ على وزن أكرم . وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وأطفأ ، فتكون تامة . ورددنا عليه ذلك في شرح التسهيل ، وبينا أن ذلك تصحيف منه . صحف الثاء بثلاث ، بالتاء بثنتين من فوق ، وشرحها بسكن وأطفأ . الحرض : المشفي على الهلاك يقال : حرض فهو حرض بكسر الراء ، حرضاً بفتحها وهو

" صفحة رقم 325 "
المصدر ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع . وأحرضه المرض فهو محرض قال : أرى المرء كالأزواد يصبح محرضا
كأحراض بكر في الديار مريض
وقال الآخر : إني امرؤ لج بي حب فأحرضني
حتى بليت وحتى شفني السقم وقال : رجل حرض بضمتين كجنب وشلل .
( وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الاْرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( : روى أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال : أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم ، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه . فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً ، فأجلسه معه على مائدته ، وجعل يؤاكلهم وقال : أنتم عشرة ، فلينزل كل اثنين منكم بيتاً ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح ، وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك ، فقال له : أتحب أنْ أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له : أنا أخوك يوسف فلا تبتئس ، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى ، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ، ولا تعلمهم بما أعلمتك . وعن ابن عباس : تعرف إليه أنه أخوه ، وهو الظاهر . وهو قول ابن إسحاق وغيره ، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه ، وقال له : لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم . قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله : بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى . ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا ، لأمكن على بعده ، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف . وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً ، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله : وقال لفتيانه ، وقد حال بينهما قصص . واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم ، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديماً من الأذى ، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف . وقال وهب : إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب ، ولم يكشف إليه الأمر ، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته .
والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف ، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه لم يباشر ذلك بنفسه ، بل جعل غيره من فتيانه ، أو غيرهم أن يجعلها . وتقدم قول وهب : إنه لم يكشف له أنه أخوه ، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة . وروي أنه قال ليوسف : أنا لا أفارقك قال : قد علمت اغتمام والدي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل . قال ؛ لا أبالي ، فافعل ما بدا لك . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ، ثم أنادي

" صفحة رقم 326 "
عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم ، قال : فافعل . وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري : وجعل السقاية في رحل أخيه ، أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أذن . وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله : في رحل أخيه ، فاحتمل أن تكون الواود زائدة على مذهب الكوفيين ، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط ، ثم إن حافظها فقدها ، فنادى برأيه على ما ظهر له ، ورجحه الطبري . وتفتيش الأوعية يرد هذا القول ، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف . وقال السدي : كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين ، وما تقدم يدل على أنه كان يعلم منه .
وقال الجمهور : وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد : السقاية إناء يشرب به الملك ، وبه كان يكال الطعام للناس . وقيل : كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به ، وقيل : كانت الدواب تسقي بها ويكال بها . وقال ابن جبير : الصواع هو مثل المكوك الفارسي ، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه ، وكان إلى الطول ماهر . قال : وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب في الجاهلية . وقال ابن جبير أيضاً : الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه . كانت تشرب به الأعاجم . والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب ، أو نحاس ، أو مسك ، أو كانت مرصع بالجواهر أقوال أولها للجمهور ، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء .
ثم أذن مؤذن أي : نادى مناد ، أذن : أعلم . وآذن أكثر الإعلام ، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه . وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين ، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك . وقيل : قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا ، وأذن مؤذن . والظاهر وقول الجمهور : إن العير رالإبل . وقال مجاهد : كانت دوابهم حميراً ، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله : يا خيل الله اركبي ، ولذلك جاء الخطاب : إنكم لسارقون ، فروعي المحذوف ، ولم يراع العير كما روعي في اركبي . وفي قوله : والعير التي أقبلنا فيها . ويجوز أن تطلق العير على القافلة ، أو الرفقة ، فلا يكون من مجاز الحذف : والذي يظهر أن هذا التحيل ، ورمى أبرياء السرقة ، وإدخال الهم على يعقوب ، بوحي من الله . لما علم تعالى في ذلك من الصلاح ، ولما أراد من محنتهم بذلك . ويقويه قوله : كذلك كدنا ليوسف . وقيل : لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا ، ونسبة السرقة إليهم جميعاً : وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول : بنو فلان فتلوا فلاناً ، والقاتل واحد منهم . قالوا : أي أخوة يوسف ، وأقبلوا جملة حالية أي : وقد أقبلوا عليهم ، أي : على طالبي السقاية ، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع . كأنه جعل مؤذنين ينادون ، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا : ماذا تفقدون ؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم ، ولم يلوذوا بالإنكار من أول ، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام . واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون ، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما ، وتفقدون صلة لذا ، والعائذ محذوف أي : تفقدونه . وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو : أحمدته إذا أصبته محموداً . وضعف هذه القراءة أبو حاتم ، وجهها ما ذكرناه .
وصواع الملك هو المكيال ، وهو السقاية سماه أولاً بإحدى جهتيه ، وآخراً بالثانية . وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد ، بعدها واو مفتوحة ، بعدها ألف ، بعدها عين مهملة . وقرأ أبو حيوة ، والحسن ، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك ، إلا أنه كسر الصاد . وقرأ أبو هريرة ، ومجاهد : صاع بغير واو على وزن فعل ، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة . وقرأ أبو رجاء : صوع على وزن قوس . وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان : صوع بضم الصاد ، وكلها لغات في الصاع . وقرأ الحسن ، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح : صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب . وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو . وقرأ زيد بن علي : صوغ مصدر صاغ ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك . ولمن جاء به أي : ولمن دل على

" صفحة رقم 327 "
سارقه وفضحه ، وهذا جعل وأنابه زعيم من كلام المؤذن . وأنا بحملالبعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به ، وأراد به وسق بعير من طعام جعلاً لمن حصله . قالوا : تالله أقسموا بالتاء من حروف القسم ، لأنها تكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر . وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن ، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح ، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس ، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم ، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد ، ثم استأنفوا الأخبار عن نفي صفة السرقة عنهم ، وأن ذلك لم يوجد منهم قط . ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم ، فيكون معطوفاً على قوله : لقد علمتم . قال ابن عطية : والتاء في تالله بدل من واو ، كما أبدلت في تراث ، وفي التوراة ، والتخمة ، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول : تالرحمن ، ولا تالرحيم انتهى . أما قوله : والتاء في تالله بدل من واو ، فهو قول أكثر النحويين . وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو ، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو . وأما قوله : وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل . ووراه من ورى الزند . ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة ، وذلك مذكور في النحو . وأما قوله : ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب ، وعلى الرحمن ، وعلى حياتك ، قالوا : ترب الكعبة ، وتالرحمن ، وتحياتك . والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع ، والضمير في جزاؤه عائد على السارق . فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم : وما كنا سارقين له ؟ قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : فما جزاؤه الضمير للصواع أي : فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى . وقوله : هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله : قالوا جزاؤه من وجد في رحله ، إذ التقدير إذ ذاك قال : جزاء الصاع ، أي : سرقته من وجد الصاع في رحله . وقولهم : جزاؤه من وجد في رحله ، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به ، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته ، فكأنهم يقولون : لا يمكن أن نسرق ، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا . وكان في دين يعقوب استعباد السارق . قال الزمخشري : سنة ، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم ، ولذلك أجابوا على شريعتهم ، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوه : أحدها : أن يكون جزاؤه مبتدأ ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ، فهو جزاؤه جواب الشرط ، أو خبر ما الموصولة ، والجملة من قوله : من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول ، والضمير في قالوا : جزاؤه للسارق قاله ابن عطية : وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط . الثاني : أنّ المعنى قالوا : جزاء سرقته ، ويكون جزاؤه مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر . والأصل جزاؤه من وجد في رحله ، فهو هو . فموضع الجزاؤ موضع هو ، كما تقول لصاحبك : من أخو زيد ؟ فتقول : أخوه من يقعد إلى جنبه ، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من ، والثاني إلى الأخ . ثم تقول : فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري . ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو : زيد قام زيد . وينزه القرآن عنه . قال سيبويه : لو قلت كان زيد منطلقاً زيد ، لم يكن ضد الكلام ، وكان ههنا ضعيفاً ، ولم يكن كقولك : ما زيد منطلقاً هو ، لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمر . الثالث : أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي لنسؤل عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول : من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم ، ثم تقول : ) وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ( قاله الزمخشري . وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله : المسؤول عنه جزائه ، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة ، إذ قد علم من قوله : فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته ، فأي فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي . الرابع : أن يكون جزاؤه مبتدأ أي : جزاء سرقة الصاع ، والخبر من وجد في رحله أي : أخذ من وجد في رحله . وقولهم :

" صفحة رقم 328 "
فهو جزاؤه ، تقرير لحكم أي : فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤوه ، أو فهو حقه ، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري ، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال : ويصح أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من ، ويكون قوله : فهو جزاؤه ، زيادة بيان وتأكيد . ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد بقوله : فهو جزاؤه . وهذا القول هذا الذي قبله ، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بد من تقديره ، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله جزائه أخذ من وجد في رحله ، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب . وهذا الوجه هو أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف . كذلك أي : مثل الجزاء ، وهو الاسترقاق . نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة ) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ( قيل : قال لهم : من وكل بهم لا بد من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة ، وتمكين الحيلة ، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه ، فقال : ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا : والله ما تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ، فاستخرجوه منه .
وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو ، وجاء كذلك عن نافع . وقرأ ابن جبير : من إعاء بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا : إشاح وإسادة في وشاح ووسادة ، وذلك مطرد في لغة هذيل ، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة ، وأنث في قوله ثم استخرجها على معنى السقاية ، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث . وقال أبو عبيد : يؤنث الصواع من حيث سمى سقاية ، ويذكر من حيث هو صاع ، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث الصواع . وقيل : الضمير في قوله : ثم استخرجها عائد على السرقة ، كذلك أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني : علمناه إياه ، وأوحينا به إليه . وقال الضحاك ، والسدي : كدنا صنعنا . قال ابن عطية : وأضاف الله تعالى الكيد إلى ضميره ، لما أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد . وفسر ابن عباس في دين الملك بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى . وقال الزمخشري : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد ، إلا أن يشاء الله ، إلا بمشيئته وإذنه . وقال ابن عطية : والاستثناء حكاية حال التقدير : إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى . والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي : لكن بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك ، وهو دين آل يعقوب : أنّ الاسترقاق جزاء السارق .
وقرأ الكوفيون ، وابن محيصن : نرفع بنون درجات منوناً من نشاء بالنون ، وباقي السبعة كذلك ، إلا أنهم أضافوا درجات . وقرأ يعقوب بالياء في يرفع ، ويشاء أي : يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته . وقرأ عيسى البصرة : نرفع بالنون درجات منوناً من يشاء بالياء . قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة ، وإن لم يمكن إنكارها . وقال ابن عطية : وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك نشاء . وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب : بالياء أي : الله تعالى انتهى . ومعناه في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه . وعليم صفة مبالغة . وقوله : ذي علم أي : عالم . فالمعنى أن فوقه أرفع منه درجة في علمه ، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس . وعن أن العليم هو الله عز وجل . قيل : روى عنه أنه حدث بحديث عجيب ، فتعجب منه رجل ممن حضر فقال : الحمد لله ، وفوق كل ذي علم عليم ، فقال له ابن عباس : بئس ما قلت ، إنما العليم الله ، وهو فوق كل ذي علم . وقرأ عبد الله : وفوق كل ذي عالم ، فخرجت على زيادة ذي ، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل ، أو على أن التقدير :

" صفحة رقم 329 "
وفوق كل ذي شخص عالم .
روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا : يا بنيامين ابن راحيل قبحك الله ، ولدت أمك أخوين لصين ، كيف سرقت هذه السقاية ؟ فرفع يديه إلى السماء وقال : والله ما فعلت ، فقالوا : فمن وضعها في رحلك ؟ قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم . وقال الزمخشري ما معناه : رموا بالسرقة تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف . وإن كنتم كاذبين ، فرض لانتفاء براءتهم ، وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه ، لأنهم قالوا : ) وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ ( والكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله : وخذ بيدك ضغثاً فيتخلص من جلدها ولا يحنث . وقول إبراهيم عليه السلام : هي أختي لتسلم من يد الكافر . وعلم الله في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة ، فجعلهاسلماً وذريعة إليها ، فكانت حسننة جميلة انتهى . وقولهم : إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، لا يدل على الجزم بأنه سرق ، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي : إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله ، فقد سرق أخ له من قبل . والتعليق على الشرط على أنّ السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها ، كأنهم قالوا : إنْ كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق ، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين ، ولذلك قالوا : إن ابنك سرق . وقيل : حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف قد كان سرق ، فعلى هذا القول يكون قولهم أنحاء على يوسف وبنيامين . وقيل : التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم ، وتختص بالشقيقين . وتنكير أخ في قوله : فقد سرق أخ له من قبل ، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له : لأنه كان شقيقه . والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب ، وأراد يعقوب أخذه ، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق ، وكانت متوارثة عندهم ، فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت : فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف ، فاسترقته حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت ، فصار عند أبيه . وقال قتادة وابن جبير : أمرت أمه أن يسرق صنماً . وفي كتاب الزجاج : من ذهب لأبيها فسرقه وكسره ، وكان ذلك منها تغييراً للمنكر . وقال ابن إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاماً ، فأخذ يوسف عرقاً فنحاه . وقيل : كان في البيت غاق أو دجاجة ، فأعطاها السائل . وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي ، وابن أبي شريح عن الكسائي ، والوليد بن حسان عن يعقوب وغيرهم : فقد سرق بالتشديد مبنياً للفعول بمعنى نسب إلى السرقة ، بمعنى جعل سارقاً ولم يكن كذلك حقيقة . والضمير في قوله : فأسرها يفسره سياق لاكلام أي : الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر . وقيل : أسر المجازاة ، وقيل : الحجة . وقال الزمخشري : اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً ، وإنما أنث لأن قوله : أنتم شر مكاناً جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله . وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : فأسره بضمير تذكير . قال الزمخشري : يريد القول أو الكلام انتهى .

" صفحة رقم 330 "
والظاهر من قوله : أنتم شر مكاناً ، خطابهم بهذا القول في الوجه ، فكأنه أسر كراهية مقالتهم ، ثم وبخهم بقوله : أنتم شر مكاناً ، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم ، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام . وقال قوم : لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة ، إنما قاله في نفسه ، وهو تفسير قوله : الذي أسر في نفسه ، وهو قول الزمخشري المتقدم . ومعنى شر مكاناً أي منزلة في السرق ، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم . ومعنى أعلم بما تصفون يعني : هو أعلم بما تصفون منكم ، لأنه عالم بحقائق الأمور ، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه . وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ، فأمر يوسف ابناً له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك ، فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك .
( قَالُواْ يأَبَانَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ ( : استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق . ومعنى كبيراً في السن ، أو القدر . وكانوا قد أعلموا يوسف بأنه كان له ابن قد هلك ، وهذا شقيقه يستأنس به ، وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير ، أو موته على ما سبق . ومعنى مكانه أي : بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : يحتمل قولهم أن يكون مجازاً ، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقة ، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، وعلى هذا يتجه قول يوسف : معاذ الله لأنه تعود من غير جائز . ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة ، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الجمالة ، أي : خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك . ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر . وقوله : من المحسنين ، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم ، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا ، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ الله تقدم الكلام فيه في قوله : معاذ الله إنه ربي ، والمعنى : وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده . فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة ، أو مصالح جمة علمها في ذلك . فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . وأن نأخذ تقديره : من أن نأخذ ، وإذا جواب وجزاء أي : إن أخذنا بدله ظلمنا . وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم : إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله .
( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ ( : استفعل هنا بمعنى المجرد ، يئس واستيأس بمعنى واحد نحو : سخر واستسخر ، وعجب واستعجب . وزعم الزمخشري أن زيادة السين والتاء في المبالغة قال : نحو ما مر في استعصم انتهى . وقرأ ابن كثير : استيأسوا استفعلوا ، من أيس مقلوباً من يئس ، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . ومعنى خلصوا نجياً : انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضاً . والنجي فعيل بمعنى مفاعل ، كالخليط والعشير . ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل : النجوى بمعنى التناجي ، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحداً كان أو جماعة ، مؤنثاً أو مذكراً ، فهو كعدل ، ويجمع على أنجية قال لبيد :

" صفحة رقم 331 "
وشهدت أنجية الأفاقة عاليا
كعبي وأرداف الملوك شهود
وقال آخر :
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
ويقول قوم : نجى وهم نجوى تنزيلاً للمصدر منزلة الأوصاف . ويجوز أن يكون هم نجى من باب هم صديق ، لأنه بزنة المصادر محصواً للتناجي ، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه ، فاحتاجوا إلى التشاور . وكبيرهم أي : رأياً وتدبيراً وعلماً ، وهو شمعون قاله : مجاهد . أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله : قتادة . وقيل : في العقل والرأي ، وهو يهوذا . ذكرهم الميثاق في قول يعقوب : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ، وما زائدة أي : ومن قبل هذا فرطتم في يوسف . ومن قبل متعلق بفرطتم ، وقد جوزوا في إعرابه وجوهاً : أحدها : أن تكون ما مصدرية أي : ومن قبل تفريطكم . قال الزمخشري : على أن محل المصدر الرفع على الابتداء ، وخبره الظرف ، وهو ومن قبل ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف . وقال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون قوله : من قبل ، متعلقاً بما فرطتم ، وإنما تكون على هذا مصدرية ، التقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر . وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل انتهى . وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو : إن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء ، ومن قبل في موضع الخبر ، وذهلاً عن قاعدة عربية ، وحق لهما أن يذهلا وهو أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا ثببتت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرت أو لم تجر ، تقول : يوم السبت مبارك والسفر بعده ، ولا يجوز والسفر بعد وعمر وزيد خلفه . ولا يقال : عمر وزيد خلف . وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ ، ومن قبل خبر ، وهو مبني ، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية . ولهذا ذهب أبو علي إلى أنّ المصدر مرفوع بالابتداء ، وفي يوسف هو الخبر أي : كائن أو مستقر في يوسف . والظاهر أنّ في يوسف معمول لقوله : فرطتم ، لا أنه في موضع خبر . وأجاز الزمخشري وابن عطية : أن تكون ما مصدرية ، والمصدر المسبوك في موضع نصب ، والتقدير : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً من قبل وتفريطكم في يوسف . وقدره الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ، لأكن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد ، وبين المعطوف ، فصار نظير : ضربت زيداً وبسيف عمراً . وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر . وأما تقدير الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز . وأجاز أيضاً أن تكون موصولة بمعنى الذي . قال الزمخشري : ومحله الرفع أو النصب على الوجهين انتهى . يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر ، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز . ويعني بالنصب أن يكون عطفاً على المصدر . المنسبك من قوله : إن أباكم قد أخذ ، وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو ، وبين المعطوف . وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة ، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر ، ومنه برح الخفاء أي ظهر . وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها ، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق ، فانتصب الأرض على أنه مفعول به . ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها ، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر ، لأنه لا يصل إلا بحرف في . لو قلت : زيد الأرض لم يجز ، وعني بالأرض

" صفحة رقم 332 "
أرض مصر التي فيها الواقعة ، ثم غيا ذلك بغايتين : إحداهما : خاصة وهي قوله : حتى يأذن لي أبي ، يعني في الانصراف إليه . والثانية : عامة وهي قوله : أو يحكم الله لي ، لأنّ إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر ، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضاً لحكم الله تعالى ، ورجوعاً لي من له الحكم حقيقة ، ومقصوده التضييق على نفسه ، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره . وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت ، وخلاص أخيه ، أو انتصافه من أخذ أخيه . وقال أبو صالح : أو يحكم الله لي بالسيف ، أو غير ذلك . والظاهر أن ويحكم معطوف على يأذن . وجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن بعد أو في جواب النفي ، وهو : فلن أبرح الأرض أي : إلا أن يحكم الله لي ، كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي ، أي : إلا أن تقضيني ، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان .
روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال : يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم ، ذهبتم فنقصت مشمعون حيث ارتهن ، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل . والظاهر أنّ الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم . وقيل : من قول يوسف لهم . وقرأ الجمهور : سرق ثلاثياً مبنياً للفاعل ، إخباراً بظاهر الحال . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنياً للمفعول ، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة . ويكون معنى : وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق . وما كنا للغيب أي : للأمر الخفي حافظين ، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر ؟ وقرأ الضحاك : سارق اسم فاعل ، وعلى قراءة سرق وسارق اختلف التأويل في قوله : إلا بما علمنا . قال الزمخشري : بما علمنا من سرقته ، وتيقناً لأنّ الصواع أخرج من وعائه ، ولا شيء أبين من هذا . وقال ابن عطية : أي ، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى ، والعلم في الغيب إلى الله تعالى ليس ذلك في حفظنا ، هذا قول ابن إسحاق : وقال ابن زيد : أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك ، إلا بما علمنا من ذلك ، وما كنا للغيب حافظين أنّ السرقة تخرج من رحل أحدنا ، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة ، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا . ويحتمل قوله : وما كنا للغيب حافظين أي : حين واثقناك ، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه ، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه . وقال الزمخشري : وما كنا للغيب حافظين ، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق ، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف . ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم : للغيب ، لليل والغيب الليل بلغة حمير ، وكأنهم قالوا : وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله ، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو ، أو التدليس عليه . وفي الكلام حذف تقديره : رجعوا إلى أبيهم وأخبر بالقصة . وقول من قال : ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله : ابن عباس أي : أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة . والعير كانوا قوماً من كنعان من جران يعقوب . وقيل : من أهل صنعاء . فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل : وسل أهل القرية وأهل العير ، إلا أن أريد بالعير القافلة ، فلا إضمار في قوله والعير . وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا ، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون . وقالت فرقة : بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة ، ومن حيث هو نبي ، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة ، وحذف المضاف هو قول الجمهور . قال ابن عطية : وهذا مجاز . وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال : هذا من الحذف وليس من المجاز قال : وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال : وحذف المضاف هو عين المجاز ، وعظمة هذا مذهب سيبويه وغيره . وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى . وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي ، وفي مختصر أنه إن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسماً من الآخر . وبل للإضراب ، فيقتضي كلاماً محذوفاً قبلها حتى يصح الإضراب فيها وتقديره : ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم ، بل سولت . قال ابن عطية : والظاهر أنّ قوله بل سولت لكم أنفسكم أمراً ، إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف

" صفحة رقم 333 "
قبل ، فاتفق أنّ صدق ظنه هناك ، ولم يتحقق هنا . وقال الزمخشري : بل سولت لكم أنفسكم أمراً أردتموه ، وإلا فما أدري ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم . وتقدم شرح سولت ، وإعراب فصبر جميل . ثم ترجى أن الله يجمعهم عليه وهم : يوسف ، وبنيامين ، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه . وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف ، فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله في كل حال . ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه ، ووصفه الله بهاتين الصفتين لأئق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه ، وتسليم لحكمة الله فيما جرى عليه .
( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( : وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به ، وأنه ساء ظنه بهم ، ولم يصدق قولهم ، وجعل يتفجع ويتأسف . قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع . ألا ترى إلى قول يعقوب : يا أسفي ، ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى : هذا زمانك فاحضر . والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفاً ، كما قالوا : في يا غلامي يا غلاماً . وقيل : هو على الندبة ، وحذف الهاء التي للسكت . قال الزمخشري : والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير مستعمل فيملح ويبدع ، ونحوه : اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ، وهم ينهون عنه وينأون عنه يحسبون أنهم يحسنون صنعاً من سبأ بنبأ انتهى . ويسمى هذا تجنيس التصريف ، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف . وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين ، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يوسف ، فتأسف عليه وحده ، ولم يتأسف عليهما ، لأنه هو الذي لا يعلم أحيّ هو أم ميت ؟ بخلاف أخوته . ولأنه كان أصل الرزايا عنده ، إذ ترتبت عليه ، وكان أحب أولاده إليه ، وكان دائماً يذكره ولا ينساه . وابيضاض عينيه من توالي العبرة ، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر . والظاهر أنه كان عمي لقوله : فارتد بصيراً . وقال : ) وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( فقابل البصير بالأعمى . وقيل : كان يدرك ادراكاً ضعيفاً ، وعلل الابيضاض بالحزن ، وإنما هو من البكاء المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن . وقرأ ابن عباس ومجاهد : من الحزن بفتح الحاء والزاي ، وقتادة : بضمها ، والجمهور : بضم الحاء وإسكان الزاي . والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي : شديد الكظم كما قال : ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ( ولم يشك يعقوب إلى أحد ، وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، فكان يكظمه أي : يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر . وإما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، وهو لا ينقاس ، وقاله قوم كما قال في يونس : ) إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ). قال ابن عطية : وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم حزنه في صدره . وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود . وروي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى

" صفحة رقم 334 "
لقائه ثمانين عاماً ، وأنّ وجده عليه وجد سبعين ثكلى ، وأجره أجر مائة شهيد . وقال الزمخشري : فهو كظيم ، فهو مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم انتهى . وقد ذكرنا أنّ فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس ، وجواب القسم تفتؤ حذفت منه ، لا لأنّ حذفها جائز ، والمعنى : لا تزال . وقال مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين ، والحرض الذي قدرنا موته . قال مجاهد : ما دون الموت . وقال قتادة : البالي الهرم ، وقال نحوه : الضحاك والحسن . وقال ابن إسحاق : الفاسد الذي لا عقل له . وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي : لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك ، أو إلى أنْ تهلك فقال هو : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله أي : لا أشكو إلى أحد منكم ، ولا غيركم . وقال أبو عبيدة وغيره : البث أشدّ الحزن ، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله ، فيبثه أي ينشره . وقرأ الحسن وعيسى : وحزني بفتحتين . وقرأ قتادة : بضمتين . وأعلم من الله ما لا تعلمون أي : أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة ، أو إلى ما وقع في نفسه منن قول ملك مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت . وقيل : رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، هو حي فاطلبه . اذهبوا : أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها ، وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء ، والطلب بالحواس ، ويستعمل في الخير والشر . وقرىء : بالجيم ، كالذي في الحجرات : ) وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( والمعنى : فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه ، وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال : فلن أبرح الأرض ، إنما أقام مختاراً . وقرأ الجمهور : تيأسوا ، وفرقة : تأيسوا . وقرأ الأعرج : تئسوا بكسر التاء . وروح الله رحمته ، وفرجه ، وتنفيسه . وقرأ عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة : من روح الله بضم الراء . قال ابن عطية : وكان معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإنّ من بقي روحه يرجى . ومن هذا قول الشاعر :
وفي غير من قدورات الأرض فاطمع
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : وكل ذي غيبة يؤوب
وغائب الموت لا يؤوب
وقال الزمخشري : من روح الله بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى . وقرأ أبيّ من رحمة الله من صفات الكافر ، إذ فيه التكذيب بالربوبية ، أو الجهل بصفات الله .
2 ( ) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا

" صفحة رقم 335 "
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُواْ أَءِنَّكَ لاّنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّىأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّىإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىمِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَىإِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىإِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنُيَا وَالاٌّ خِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( )
يوسف : ( 88 ) فلما دخلوا عليه . . . . .
المزجاة : المدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً من أزجيته إذا دفعته وطردته ، والريح تزجي السحاب . وقال حاتم الطائي : لبيك على ملحان ضيف مدفع
وأرملة تزجي مع الليل أرملا
الإيثار : لفظ يعم جميع التفضل وأنواع العطايا . التثريب : التأنيب والعتب ، وعبر بعضهم عنه بالتعبير . ومنه ) إِذَا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ . يَثْرِبَ ( أي لا يعبر . وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غائشة الكرش ، ومعناه : إزالة الثرب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال ، فضرب مثلاً للتقريع الذي يمزق الأعراض ، ويذهب بهاء الوجه . الفند : الفساد ، قال : ألا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفندوفندت الرجل أفسدت رأيه ورددته قال :
يا عاذليّ دعا لومي وتفيدي فليس ما قلت من أمر بمردود
وأفند الدهر فلاناً أفسده . قال ابن مقبل :

" صفحة رقم 336 "
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه
إذا كلف الإفناد بالناس أفندا القديم : الذي مرت عليه إعصار ، وهو أمر نسبي . البدو البادية وهي خلاف الحاضرة .
( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ( : في الكلام حذف تقديره : فذهبوا من الشام إلى مصر ودخلوها ، فلما دخلوا عليه ، والضمير في عليه عائد على يوسف ، وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسس نبأ يوسف وأخيه . والضر : الهزال من الشدة والجوع ، والبضاعة كانت زيوفاً قاله ابن عباس . وقال الحسن : قليلة . وقال ابن جبير : ناقصة . وقيل : كانت عروضاً . قيل : كانت ضوفاً وسمناً . وقيل : صنوبراً وحبة الخضراء وهي الفستق قاله : أبو صالح ، وزيد بن أسلم ، وقيل : سويق المقل والأقط ، وقيل : قديد وحش . وقيل : حبالاً وإعدالاً وهقتاباً ، ثم التمسوا منه إيفاء الكيل . وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه . وتصدق علينا أي : بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة ، أو زدنا على حقنا ، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة . قيل : لأن الصدقات محرمة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقيل : كانت تحل لغير نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع وتصدق علينا ، أراد أنها كانت حلالاً لهم . وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا أن يتصدق عليهم ، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه . وقوله إنّ الله يجزي المتصدقين شاهد ، لذلك لذكر الله وجزائه انتهى . وقيل : كانت الصدقة محرمة ، ولكن قالوها تجوز استعطافاً منهم له في المبايعة كما تقول لمن ساومته في سلعة : هبني من ثمنها كذا ، فلم يقصد أن يهبك ، وإنما حسنت معه الأفعال حتى يرجع منك إلى سومك . وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم : وتصدق علينا أمر أخيهم بنيامين أي : أوف لنا الكيل في المبايعة ، وتصدق علينا برد أخينا على أبيه . وقال النقاش في قوله : إن الله يجزي المتصدقين ، هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب ، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم . ولو قالوا : إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة كذبوا ، فقالوا له لفظاً يوهم أنهم أرادوه ، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل . وروي أنهم لما قالوا له : مسناً وأهلنا الضر واستعطفوه ، رق لهم ورحمهم . قال ابن إسحاق : وارفض دمعه باكياً ، فشرع في كشف أمره إليهم . فيروي أنه حسر قناعة وقال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي : من التفريق بينهما في الصغر ، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف ؟ وكانوا يذلونه ويشتمونه . قال ابن عطية : ونسبهم إما إلى جهل المعصية ، وإما إلى جهل السيآت وقلة الحنكة . وقال الزمخشري : أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً ، فكلمهم مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال : هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ؟ لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجر التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين ، وإيثاراً لحق الله على حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور ، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها ، ولله حصى عقولهم ما أرزنها وأرجحها انتهى وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ، ولكنهم لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم ، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين . وفي التحرير ما لخص منه وهو أن قول الجمهور : هل علمتم استفهام معناه التقريع

" صفحة رقم 337 "
والتوبيخ ، ومراده تعظيم الواقعة أي : ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف . كما يقال : هل تدري من عصيت ؟ وقيل : هل بمعنى قد ، لأنهم كانوا عالمين ، وفعلتم بيوسف إفراده من أبيهم ، وقولهم : بأن الذئب أكله ، وإلقاؤه في الجب وبيعه بثمن بخس إن كانوا هم الذين باعوه ، وقولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، والذي فعلوا بأخيه أذاهم له وجفاؤهم له ، واتهامه بسرقة الصاع ، وتصريحهم بأنه سرق ، ولم يذكر لهم ما إذ واجه أباهم تعظيماً لقدره وتفخيماً لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه . قال ابن عباس ، والحسن : جاهلون صبيان . وقال مقاتل : مذنبون . وقيل : جاهلون بما يجب من بر الأب ، وصلة الرحم ، وترك الهوى . وقيل : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف . وقيل : جاهلون بالفكر في العاقبة ، وعدم النظر إلى المصلحة . وقال المفسرون : وغرض يوسف توبيخ أخوته وتأنيبهم على ما فعلوا في حق أبيهم وفي حق أخويهم ، قال : والصحيح أنه قال ذلك تأنيساً لقلوبهم ، وبسط عذر كأنه قال : إنما أقدمكم على ذلك الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور ، وكأنه لقنهم الحجة كقوله : ) مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( وما حكاه ابن الهيصم في قصة من أنه صلبهم ، والثعلبي في حكايته أنه غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا ، فرق لهم وقال : هل علمتم الآية : لا يصح البتة ، وكان يوسف من أرق خلق الله وأشفقهم على الأجانب ، فكيف مع إخوته ولما اعترفوا بالخطأ قال : لا تثريب عليكم الآية .
( قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ ( : لما خاطبهم بقوله : هل علمتم ؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ، ولا تتبع أحوالهم ، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال : إنه كان يكلمهم من وراء حجاب ، فرفعه ووضع التاج وتبسم ، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة ، فتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار . وقيل : استفهام تقرير ، لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف عرفوه ؟ ( قلت ) : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف مسلم من نسل إبراهيم عليه السلام ، لا عن بعض أعزاء مصر . وقرأ الجمهور : أئنك على الاستفهام ، والخلاف في تحقيق الهمزتين ، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التلين ، أو التحقيق مذكور في القراءات السبع . وقرأ قتادة ، وابن محيصن ، وابن كثير : إنك بغير همزة استفهام ، والظاهر أنها مرادة . ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر ، فإن قدر أنّ بعضاً استفهم وبعضاً أخبر ، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم : أمكن ، وهو مع ذلك بعيد . وقرأ أبي : أئنك أو أنت يوسف . وخرجه ابن جني على حذف خبر إن وقدره : أئنك لأنت يوسف ، أو أنت يوسف . وقدره الزمخشري : أئنك يوسف ، أو أنت يوسف ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال : وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاتسثبات انتهى . وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا : أو أنت يوسف ؟ وفي قراءة الجمهور : أئنك لأنت ، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت ، وهو فصل : وخبر إنّ يوسف كما تقول : إنْ كان زيد لهو الفاضل . ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ ، ويوسف خبره ، والجملة في موضع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت توكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما . ولما استفهموه أجابهم فقال : أنا يوسف كاشفاً لهم أمره ، وزادهم في الجواب قوله : وهذا أخي ، لأنه سبق قوله : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ؟ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه ، وإن كان معلوماً عندهم وتوطئه لما ذكر بعد من هو بالتقوى والصبر ، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة ولا الصبر .

" صفحة رقم 338 "
وقال مجاهد : من يتقي في تركه المعصية ويصبر في السجن . وقال النخعي : من يتقي الزنا ويصبر على العزوبة . وقيل : ومن يتق الله ويصبر على المصائب . وقال الزمخشري : من يتق ، من يخف الله . وعقابه ويصبر عن المعاصي ، وعلى الطاعات . وقيل : من يتقي معاصي الله ، ويصبر على أذى الناس ، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف ونوازله .
وقرأ قنبل : من يتقي ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة ، وهذه الياء إشباع . وقيل : جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول : لم يرمي زيد ، وقد حكوا ذلك لغة . وقيل : هو مرفوع ، ومن موصول بمعنى الذي ، وعطف عليه مجزوم وهو : ويصبر ، وذلك على التوهم . كأنه توهم أن من شرطية ، ويتقي مجزوم . وقيل : ويصبر مرفوع عطفاً على مرفوع ، وسكنت الراء لا للجزم ، بل لتوالي الحركات ، وإن كان ذلك من كلمتين ، كما سكنت في يأمركم ، ويشعركم ، وبعولتهن ، أو مسكناً للوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوماً على لغة ، وإن كانت قليلة ، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال : وهذا مما لا يحمل عليه ، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام ، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة .
والمحسنين : عام يندرج فيه من تقدم ، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل : لا يضيع أجرهم . وآثرك : فضلك بالملك ، أو بالصبر ، والعلم قالهما ابن عباس ، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي ، أو بحسن الخلق والخلق ، والعلم ، والحلم ، والإحسان ، والملك ، والسلطان ، وبصبرك على أذاناً قاله : صاحب الغنيان . أو بالتقوى ، والصبر وسيرة المحسنين قاله : الزمخشري ، وهو مناسب لقوله : ) إِنَّهُ مَن يَتَّقِ ( الآية وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه ، واعتراف بما صدر منهم في حقه . وخاطئين : من خطىء إذا تعمد . وأما أخطأ فقد الصواب ولم يوفق له . ولا تثريب : لا لوم ولا عقوبة . وتثريب اسم لا ، وعليكم الخبر ، واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي : لا تثريب مستقر عليكم اليوم . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق اليوم ؟ ( قلت ) : بالتثريب ، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار ، أو بيغفر . والمعنى : لا أثربكم اليوم ، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام . ثم ابتدأ فقال : يغفر الله لكم ، قد عالهم بمغفرة ما فرط منهم . يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعاً ، ومنه قول المشمت : يهديكم الله ويصلح بالكم . أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران ، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى . أما قوله : إن اليوم يتعلق بالتثريب ، فهذا لا يجوز ، لأنّ التثريب مصدر ، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله : عليكم . إما أن يكون خبراً ، أو صفة لتثريب ، ولا يجوز الفصل بينهما ، لأنّ معمول المصدر من تمامه . وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب لم يجز بناؤه ، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف ، وهو الذي يسمى المطول ، ويسمى الممطول ، فكان يكون معرباً منوناً . وأما تقديره الثاني فتقدير حسن ، ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء . وابتدأوا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء ، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري . وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فمقبول ، وقد وقف بعض القراء على عليكم ، وابتدأ اليوم يغفر الله لكم . قال ابن عطية : والوقف على اليوم أرجح في المعنى ، لأنّ الآخر فيه حكم على مغفرة الله اللهم ، إلا أن يكون ذلك بوحي . وأما قوله : فبشارة إلى آخره ، فعلى طريقة المعتزلة ، فإنّ الغفران لا يكون إلا لمن تاب . قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة ، . وأجاز الحوفي أن يكون عليكم في موضع الضفة لتثريب ، ويكون الخبر اليوم ، وهو وجه حسن . وقيل : عليكم بيان كذلك في قولهم : سقياً لك ، فيتعلق بمحذوف . ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بتثريب ، لأنه كان يعرب ، فيكون منوناً لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف . ولو قيل : إن الخبر محذوف ، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب ،

" صفحة رقم 339 "
وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره : لا تثريب عليكم اليوم ، كما قدروا في ) لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( أي : يعصم اليوم ، لكان وجهاً قوياً ، لأنّ خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ، ولم يلفظ به بنو تميم . ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران ، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء ، فهو يرجو منه قبول دعائه لعم بالمغفرة .
والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي : مصحوبين أو ملتبسين به . وقيل : للتعدية أي : اذهبوا قميصي ، أي احملوا قميصي . قيل : هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه ، وكان من الجنة ، أمره جبريل عليه السلام أنْ يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي . وقيل : كان لابراهيم كساه الله إياه من الجنة حين خرج من النار ، ثم لإسحاق ، ثم ليعقوب ، ثم ليوسف . وقيل : هو القميص الذي قدّ من دبر ، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة . والظهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد ، قال ذلك : ابن عطية . وهكذا تتبين الغرابة في أنْوجد يعقوب ريحه من بعد ، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد . وقوله : فألقوه على وجه أبيّ يأت بصيراً ، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن ، إما بإعلامهم ، وإما بوحي . وقوله : يأت بصيراً ، يظهر أنه بوحي . وأهلوه الذين أمر بأن يؤتي بهم سبعون ، أو ثمانون ، أو ثلاثة وتسعون ، أو ستة وتسعون ، أقوال أولها للكلبي وثالثها المسروق . وفي واحد من هذا العدد حلواً بمصر ونمواً حتى خرج من ذريتهم مع موسى عليه السلام ستمائة ألف . ومعنى : يأت ، يأتيني ، وانتصب بصيراً على الحال .
( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ ( : فصل من البلد يفصل فضولاً انفصل منه وجاوز حيطانه ، وهو لازم . وفصل الشيء فصلاً فرق ، وهو متعد . ومعنى فصلت العير : انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب ، وكان قريباً من بيت المقدس . وقيل : بالجزيرة ، وبيت المقدس هو الصحيح ، لأنّ آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن . وقرأ ابن عباس : ولما انفصل العير ، قال ابن عباس : وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام ، هاجت ريح فحملت عرفه . وقال الحسن وابن جريج : من ثمانين فرسخاً ، وكان مدة فراقه منه سبعاً وسبعين سنة . وعن الحسن أيضاً : وجده من مسيرة ثلاثين يوماً ، وعنه : مسيرة عشر ليال . وعن أبي أيوب المهروي : أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك . وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا ، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص . ومعنى لأجد : لأشم فهو وجود حاسة الشم . وقال الشاعر : وإني لأستشفي بكل غمامة
يهب بها من نحو أرضك ريح
ومعنى تفندون قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : تسفهون . وعن ابن عباس أيضاً : تجهلون ، وعنه أيضاً : تضعفون . وقال عطاء وابن جبير : تكذبون . وقال الحسن : تهرمون . وقال ابن زيد ، والضحاك ومجاهد أيضاً : تقولون ذهب عقلك وخرفت . وقال أبو عمرو : تقبحون . وقال الكسائي : تعجزون . وقال أبو عبيدة : تضللون . وقيل : تخطئون . وهذه كلها متقاربة في المعنى ، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله ، أو لهوى غالب عليه ، أو لكذبه ، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه . وقال منذر بن سعيد البلوطي : يقال شيج مفند أي : قد فسر

" صفحة رقم 340 "
رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة ، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد . وقال معناه الزمخشري قال : التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكارالعقل ، من هرم يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فنفند في كبرها ، ولولا هنا حرف امتناع لوجود ، وجوابها محذوف . قال الزمخشري : المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى . وقد يقال : تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت ، لأن وجداني ريحه دال على حياته . والمخاطب بقوله : تفندون ، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون ، إذ كان أولاده جماعة . وقيل : المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته . والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرّشاد ، قال ابن عباس : المعنى إنك لفي خطئك ، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين ، ولذلك يقال له : ذو الحزنين . وقال مقاتل : الشقاء والعناء . وقال ابن جبير : الجنون ، ويعني والله أعلم غلبة المحبة . وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي : ذهب فيه . وقيل : الحب ، ويطلق الضلال على المحبة . وقال ابن عطية : ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به ، وقد تأوله بعض الناس على ذلك ، ولهذا قال قتادة : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الزمخشري : لفي ذهابك عن الصواب قدماً في إفراط محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجاءك لقاءه ، وكان عندهم أنه قد مات . روي عن ابن عباس أنّ البشير كان يهوذا ، لأنه كان جاء بقميص الدم . وقال أبو الفضل الجوهري : قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة ، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه ، وقال هذا المعنى : السدي . وأن تطرد زيادتها بعد لما ، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير ، وهو الظاهر ، هو لقوله : فألقوه . وقيل : يعود على يعقوب ، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً يعتقد فيه البركة مسح به وجهه . وقيل : عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه . وقيل : عبر بالكل عن البعض . وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان ، والصحيح أنها ليست من أخواتها ، فانتصب بصيراً على الحال والمعني : أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر . ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن ، لأنّ فعيلاً من صيغ المبالغة ، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى . وليس كذلك لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة ، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى . وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء ، فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً ، لأنّ فعيلاً بمعنى ليس للمبالغة نحو : أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع . وروي أن يعقوب سأل البشيركيف يوسف ؟ قال : ملك مصر . قال : ما أصنع بالملك ؟ قال : على أي دين تركته ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة . وقال الحسن : لم يجد البشير عند يعقوب شيئاً ببيته به وقال : ما خبرنا شيئاً منذ سبع ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت . وقال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، والقوة بعد الضعف ، والشباب بعد الهرم ، والسرور بعد الكرب . والظاهر أن قوله : إني أعلم ، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . فقيل : ما لا تعلمون من حياة يوسف ، وأن الله يجمع بيننا وبينه . وقيل : من صحة رؤيا يوسف عليه السلام ، وقيل : من بلوى الأنبياء بالحزن ، ونزول الفرج ، وقيل : من أخبار ملك الموت إياي ، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه . وقال ابن عطية : ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا ، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط . وقال الزمخشري : ألم أقل لكم يعني قوله : إني لأجد ريح يوسف ، أو قوله : ولا تيأسوا من روح الله . وقوله إني أعلم ، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى . وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه . ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف ، وقررهم على قوله : ألم أقل لكم طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم ، واعترفوا بالخطأ السابق منهم ، وسوف أستغفر لكم : عدة لهم بالاستغفار بسوف ، وهي أبلغ في التنفيس من السين . فعن ابن

" صفحة رقم 341 "
مسعود : أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر . وعن ابن عباس : إلى ليلة الجمعة ، وعنه : إلى سحرها . قال السدي ، ومقاتل ، والزجاج : أخر لإجابة الدعاء ، لا ضنة عليهم بالاستغفار . وقالت فرقة : سوف إلى قيام الليل . وقال ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض ، فإن الدعاء فيها يستجاب . وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف ، فإن عفا عنهم استغفر لهم . وقيل : أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها . وقيل : أراد الدوام على الاستغفار لهم . ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله : إنه هو الغفور الرحيم .
( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ ( : في الكلام حذف تقديره : فرحل يعقوب بأهله أجمعين ، وساروا حتى تلقوا يوسف . قيل : وجهز يوسف إلى أبيه جهازاً ، ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف قيل : والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذ ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر ؟ فقال : لا ، هذا ولدك . فلما لقيه يعقوب عليه السلام قال : السلام عليك يا مذهب الأحزان . وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك . آوي إليه أبويه أي : ضمهما إليه وعانقهما ، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل . فقال الحسن وابن إسحاق : كانت أمه بالحياة . وقيل : كانت ماتت من نفاس بنيامين ، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله : ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( حكي هذا عن الحسن وابن إسحاق أيضاً . وقيل : أبوه وخالته ، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل ، والخالة أم . روي عن ابن عباس ، وكانت ربت يوسف ، والرابة تدعى أمّاً . وقال بعضهم : أبوه وجدته أم أمه ، حكاه الزهراوي . وفي مصحف عبد الله آوى إليه أبويه وإخوته وظاهر قوله : ادخلوا مصر ، إنه أمر بإنشاء دخول مصر . قال السدي : قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم انتهى . فيبقى قوله : فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب له مضرب ، أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه . وقيل : دخلوا عليه في مصر . ومعنى ادخلوا مصر أي : تمكنوا منها واستقروا فيها . والظاهر تعلق الدخول على مشيئة الله لما أمرهم بالمدخول ، علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة الله ، وما لا يشاء لا يكون . قال الزمخشري : التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ، إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال . ومن بدع التفاسير أن قوله : إن شاء الله من باب التقديم والتأخير ، وأن موضعه بعد قوله : سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب انتهى . وهذا البدع من التفسير مروي عن ابن جريج ، وهو في غاية البعد ، بل في غاية الامتناع .
والعرش سرير الملك . ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره ، واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير . ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله : ادخلوا مصر ، فكان يكون في

" صفحة رقم 342 "
قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل ، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر ، ورفع أبويه . وخروا له ، والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته . وقيل : الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته ، ولم يدخل في الضمير أبواه ، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيماً لهما . وظاهر قوله : وخروا له سجداً أنه السجود المعهود ، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله : ) إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ( الآية وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة ، وتقبيل اليد ، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير . وقال قتادة : كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة . وقيل : هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط . وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض . ولفظة وخروا تأبى هذين التفسرين . قال الحسن : الضمير في له عائد على الله أي : خروا الله سجداً شكراً على ما أوزعهم من هذه النعمة ، وقد تأول قوله : رأيتهم لي ساجدين ، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين . وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون : كان السجود تحية لا عبادة . وقال أبو عبد الله الداراني : لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف ، ويبعد من عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده ، والشيخوخة ، والعلم ، والدين ، وكمال النبوة . وقيل : الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله تعالى ، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول : صليت للكعبة ، وصليت إلى الكعبة ، وقال حسان : ما كنت أعرف أن الدهر منصرف
عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكموأعرف الناس بالأشياء والسنن
وقيل : السجود هنا التواضع ، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله : ) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ( أي لم يمروا عليها . وقال ثابت : هذا تأويل رؤياي من قبل أي : سجودكم هذا تأويل ، أي : عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين : ومن قبل متعلق برؤياي ، والمحذوف في من قبل تقديره : من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي . ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه ، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس . ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا وعن ابن عباس : أنه لما رأى سجود أبويه وأخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه . وقال ليعقوب : هذا تأويل رؤياي من قبل ، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم الله عليه فقال : قد جعلها ربي حقاً أي : صادقة ، رأيت ما يقع في في المنام يقظة ، لا باطل فيها ولا لغو . وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض . قيل : ثمانون سنة ، وقيل : ثمانية عشر عاماً . وقيل : غير ذلك من رتب العدد . وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال : ) وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( وقد يتعدى بالباء قال تعالى : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر : أسيء بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً

" صفحة رقم 343 "
عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسياً لما جرى منهم إذ قال : ) لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ( وتنبيهاً على طهارة نفسه ، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة . وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء بكم من البدو من البادية . وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين ، كان رب إبل وغنم وبادية . وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع . قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإنّ الله لم يبعث نبياً من أهل البادية . وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله : وأنت التي جببت شعباً إلى بدا
إليّ وأوطاني بلاد سواهما
وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بداً القوم بدوا ، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غوراً . إذ أتوا الغور . والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ، وعن ابن عباس . وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وأخوته ، وزوال حزن أبيه . ففي الحديث : ) مَّن يُرَدُّ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا ( من بعد أن نزغ أي أفسد ، وتقدم الكلام على نزع ، وأسند النزع إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال : ) هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ( وذكر هذا القدر من أمر أخوته ، لأنّ النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً . إن ربي لطيف ، أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور ، رفيق . ومن في قوله من الملك ، وفي من تأويل للتبعيض ، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ، ولا علمه إلا بعض التأويل . ويبعد قول من جعل من زائدة ، أو جعلها البيان الجنس ، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر . وقيل : ملك نفسه من إنفاذ شهوته . وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ، ونيل الأماني من الملك . وقرأ عبد الله ، وعمرو بن ذر : آتيتن ، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما ، مع كونهما ثابتتين خطاً . وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة : قرأ رب آتيتني بغير قد ، وانتصب فاطر على الصفة ، أو على النداء . وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين ، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي . وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى الموت . وقال ابن عباس : لم يتمن الموت حي غير يوسف ، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت ، وإنما عدد نعمه عليه ، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي : توفني إذا حان أجلي على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين . وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت ، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء ، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب . وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام ، وله من الولد : افراثيم ، ومنشا ، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام . قال الذهبي : وولد لافراثيم نون ، ولنون يوشع ، وهو فتى موسى عليه السلام . وولد لمنشأ موسى ، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام . ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر ، وكان ابن عباس ينكر ذلك . وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران ، وتوارثت الفراعنة ملك مصر ، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام .
2 ( ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَآ

" صفحة رقم 344 "
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِىأَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىإِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( )
) ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( قال ابن الأنباري : سألت قريش واليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً وافياً ، وأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم ، فخالفوا تأميله ، فعزاه الله تعالى بقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات . وقيل : في المنافقين ، وقيل : التوبة ، وقيل : في النصارى . وقال ابن عباس : في تلبية المشركين . وقيل : في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فجمعوا بين الإيمان والشرك . والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته . وما كنت لديهم أي : عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ، ولا حين ألقوه فيه ، ولا حين التقطته السيارة ، ولا حين بيع . وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف ، ويتشاورون فيما يفعلون به . أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم ، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري ، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي ، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج ، وتقدم نظير ذلك في آل عمران ، وفي هود . وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه ، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه ، ولم يكن من علم قومه ، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه ، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ ). فقوله : وما كنت ، هنا تهكم بهم ، لأنه قد علم كل أحد أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما كان معهم . وأجمعوا أمرهم أي : عزموا على إلقاء يوسف في الجب ، وهم يمكرون جملة حالية . والمكر : أن يدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس ، الظاهر العموم لقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . وعن ابن عباس : أنهم أهل مكة . ولو حرصت : ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر . وجواب لو محذوف أي : ولو حرصت لم يؤمنوا ، إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه . والضمير في عليه عائد على دين الله أي : ما تبتغي عليه أجراً على دين الله ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على التبليغ ، وقيل : على الأنباء بمعنى القول . وفيه توبيخ للكفرة ، وإقامة الحجة عليهم . أو وما تسألهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطي جملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من الله للعالمين عامة ، وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ا وقرأ بشر بن عبيد : وما نسألهم بالنون . ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإيمان ولا تؤثر فيهم ، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين . قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى . وهذا شيء يروي عن يونس ، وهو قول مرجوح في النحو . والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي ، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات . وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير هم ولا ألف ولا تشديد ، وجاء كذلك عن ابن محيصن ، فهي لغة انتهى . من آية علامة على توحيد الله وصفاته ، وصدق ما جيء به عنه . وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد : والأرض بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبر . ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات . وقرأ السدي : والأرض بالنصب ، وهو من باب الاشتغال أي : ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها ، وما أودع فيها من الدلالات .

" صفحة رقم 345 "
والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض ، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض ، يعود الضمير على آية أي : يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات ، ومع ذلك لا يعتبرون . وقرأ عبد الله : والأرض برفع الضاد ، ومكان يمرون يمشون ، والمراد : ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر . وهم مشركون جملة حالية أي : إيمانهم ملتبس بالشرك . وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب ، أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح . وقال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت ، وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام . وقال ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بحلقه . وقيل : هم أهل مكة قالوا : لله ربنا لا شريك له ، والملائكة بناته ، فأشركوا ولم يوحدوا . وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة أيضاً ذلك في تلبيتهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وفي الحديث كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك بقول له : ( قط قط ) أي قف هنا ولا تزد إلا شريك هولك وقيل : هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة . وقال عطاء : هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء . وقيل : هم المنافقون ، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر . وقيل : على بعض اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى عبدوا الكواكب . وقيل : قريش لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا : إنا مؤمنون ، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه . وقيل : جميع الخلق مؤمنهم بالرسول وكافرهم ، فالكفار تقدم شركهم ، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي ، وأقربهم إلى الكفر المشبهة . ولذلك قال ابن عباس : آمنوا محملاً ، وكفروا مفصلاً . وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق ، وثالثها من يقول : نفعني فلان وضرّني فلان .
أفأمنوا : استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد ، غاشية نقمة تغشاهم أي ، تغظيهم كقوله : ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ( وقال الضحاك : يعني الصواعق والقوارع انتهى . وإتيان الغاشية يعني في الدنيا ، وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة ، بغتة أي : فجأة في الزمان من حيث لا يتوقع ، وهم لا يشعرون تأكيد لقوله بغتة . قال الكرماني : لا يشعرون بإتيانها أي : وهم غيره مستعدين لها . قال ابن عباس : تأخذهم الصيحة على أسواقهم ومواضعهم . وقرأ أبو حفص ، وبشر بن عبيد : أو يأتيهم الساعة .
( قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ( : لما تقدم من قول يوسف عليه السلام : ) تَوَفَّنِى مُسْلِمًا ( وكان قوله تعالى : ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( دالاً على أنه حارص على إيمانهم ، مجتهد في ذلك ، داع إليه ، مثابر عليه . وذكر ) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( أشار إلى فيهم من

" صفحة رقم 346 "
ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان ، وتوحيد الله . فقال : قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها ، ثم فسر تلك السبيل فقال : أدعو إلى الله يعني : لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم ، إنما دعاني إلى الله وحده . قال ابن عباس : سبيلي أي دعوتي . وقال عكرمة : صلاتي ، وقال ابن زيد : سنتي ، وقال مقاتل والجمهور : ديني .
وقرأ عبد الله : قل هذا سبيلي على التذكير . والسبيل يذكر ويؤنث ، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره : أدعو الناس . والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو ، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو ، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى : أدعو أنا إليها من اتبعني . ويجوز أن يكون على بصيرة خبراً مقدماً ، وإنا مبتدأ ، ومن معطوف عليه . ويجوز أن يكون على بصيرة حالاً من ضمير ادعو ، فيتعلق بمحذوف ، ويكون أنا فاعلاً بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف ، ومن اتبعني معطوف على أنا . وأجاز أبو البقاء أن يكون : ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي : داع إلى الله على بصيرة . ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله : ) قَدْ جَاءتْكُم بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( وسبحان الله داخل تحت قوله قل : أي قل ، وتبرئة الله من الشركاء أي : براءة الله من أن يكون له شريك . ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله ، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء ، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك ، وأنه ليس ممن أشرك . وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم ، ولا في وقت من الأوقات . إلا رجالاً حصر في الرسل دعاة إلى الله ، فلا يكون ملكاً . وهذا رد على من قال : ) لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً ( وكذلك ، قال : ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( وقال ابن عباس : يعني رجالاً لا نساء ، فالرسول لا يكون امرأة ، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف ؟ والنبي أعم من الرسول ، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل ، قال الشاعر في سجاح المتنبئة : أمست نبيتنا أنثى نطيف بها
ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم
على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت
أصداؤه ماء مزن أينما كانا
وقرأ أبو عبد الرحمن ، وطلحة ، وحفص : نوحي بالنون وكسر الحاء ، موافقاً لقوله : وما أرسلنا . وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول . والقرى المدن . قال ابن زيد : أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية ، فإنهم قليل نبلهم ، ولم ينشىء الله قط منهم رسولاً . وقال الحسن : لم يبعث الله رسولاً من أهل البادية ، ولا من النساء ، ولا من الجن . والتبدي مكروه إلا في الفتن ، ففي الحديث : ( من بدا جفا ) ثم استفهم استفهام توبخ وتفريع . والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر ، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي : هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة ، ويرون مصارع الأمم المكذبة ، فيعتبرون بذلك ؟ ولدار الآخرة خير ، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها ، واتقاء المهلكات ، ففي هذه الإضافة تخريجان : أحدهما : أنها من إضافة الموصوف إلى صفته ، وأصله : ولدار الآخرة . والثاني : أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه ، وأصله : ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة . والأول : تخريج كوفي ، والثاني : تخريج بصرى .
وقرأ الجمهور : أفلا يعقلون بالياء رعياً لقوله : أفلم يسيروا . وقرأ الحسن ، وعلقمة ، والأعرج ، وعاصم ، وابن عامر ، ونافع : بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيراً لهم مما وقع فيه أولئك ، فيصيبهم ما أصابهم . قال الكرماني : أفلا يعقلون أنها خير . فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى .

" صفحة رقم 347 "
والاستيئاس من النصر ، أو من إيمان قومهم قولان . وحتى غاية لما قبلها ، وليس في اللفظ ما يكون له غاية ، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر . وقال ابن عطية : ويتضمن قوله : أفلم يسيروا إلى ما قبلهم ، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، فصاروا في حيزة من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله : حتى إذا استيأس الرسل انتهى . ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له ، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله : أفلم يسيروا الآية . وقال أبو الفرج بن الجوزي : المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يدعوا قومهم فكذبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل . وقال القرطبي في تفسيره : المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل . وقرأ أبي ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطلحة ، والأعمش ، والكوفيون : كذبوا بتخفيف الذال ، وباقي السبعة ، والحسن وقتادة ، ومحمد بن كعب ، وأبو رجاء ، وابن مليكة ، والأعرج ، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها . وهما مبنيان للمفعول ، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل ، والمعنى : إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون . قال ابن عطية : ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال : والضمير للرسل ، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي : لما طالت المواعيد حسبت الرسل أنّ المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم . وعلى قراءة التخفيف ، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله : كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولأنّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم ، وفي أنهم . وفي قد كذبوا عائد على الرسل ، والمعنى : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم ، إذ لم يؤمنوا به . ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسلم إليهم أي : وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوّة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب . وهذا مشهور قول ابن عباس ، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد . ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل ، لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله . وقال الزمخشري في هذه القراءة : حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي : كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله : رجاء صادق ورجاء كاذب . والمعنى : أنّ مدة التكذيب والعداوة من الكفار ، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط ، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى . فجعل الضمائر كلها للرسل ، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله : قد كذبوا ، إما أنفسهم ، وإما رجاؤهم . وفي قوله : إخراج الظن عن معنى الترجيح ، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم ، حتى يجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحدة . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير : أن الضمير في وظنوا ، وفي قد كذبوا ، عائد على الرسل والمعنى : كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا : والرسل بشر ، فضعفوا وساء ظنهم . وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل ، وأعظموا أنْ يوصف الرسل بهذا .
قال الزمخشري : إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية . وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح انتهى . وآخره مذهب الاعتزال . فقال أبو علي : إن ذهب ذاهب إلى أنّ المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه ، فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالحي عباد الله قال : وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ، لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدل لكلماته . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : قد كذبوا بتخفيف

" صفحة رقم 348 "
الذال مبنياً للفاعل أي : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله من العذاب والظن على بابه . وجواب إذ جاءهم نصرنا ، والظاهر أن الضمير في جاءهم عائد على الرسل . وقيل : عائد عليهم وعلى من آمن بهم . وقرأ عاصم ، وابن عامر : فنجى بنون واحدة وشدّ الجيم وفتح الياء مبنياً للمفعول . وقرأ مجاهد ، والحسن ، والجحدري ، وطلحة بن هرمز كذلك ، إلا أنهم سكنوا الياء ، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم ، وهذا ليس بشيء ، لأنه لا تدغم النون في الجيم . وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء ، كقراءة من قرأ ) مَا تُطْعِمُونَ ( بسكون الياء . ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع ، وقرأهما في المشهور ، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجي . وقرأت فرقة : كذلك إلا أنهم فتحوا الياء . قال ابن عطية : رواها هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلط من هبيرة انتهى . وليست غلطاً ، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء ، كقراءة من قرأ : ) الاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ ( بنصب يغفر بإضمار أنْ بعد الفاء . ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة ، أو غير جازمة . وقرأ نصر بن عاصم ، والحسن ، وأبو حيوة ، وابن السميقع ، ومجاهد ، وعيسى ، وابن محيصن : فنجى ، جعلوه فعلاً ماضياً مخفف الجيم . وقال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلاً ماضياً على معنى فنجى النصر . وذكر الداني أنّ المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة . وفي التحبير أنّ الحسن قرأ فنجى بنونين ، الثانية مفتوحة ، والجيم مشددة ، والياء ساكنة . وقرأ أبو حيوة : من يشاء بالياء أي : فنجى من يشاء الله نجاته . ومن يشا هم المؤمنون لقوله : ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ، والبأس هنا الهلاك . وقرأ الحسن : بأسه بضمير الغائب أي : بأس الله . وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يَفْتَرِى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( : الضمير في قصصهم عائد على الرسل ، أو على يوسف وأبويه وأخوته ، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال .
الأول : اختاره الزمخشري قال : وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى . ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة . والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي ، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمر وجمع قصة . واختار ابن عطية الثالث ، بل لم يذكره غيره . والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم . وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وأخوته ، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب ، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن ، وتملكه مصر بعد استعباده ، واجتماعه مع والديه وأخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة . والإخبار بهذا القصص إخباراً عن الغيب ، والإعلام بالله تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر . وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر ، ومن له لب وأجاد النظر ، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان ، علم أنه أمر من الله تعالى ، ومن عنده تعالى . والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي : ما كان القصص حديثاً مختلفاً ، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا خالط العلماء ، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت . وقيل : يعود على القرآن أي : ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه السلام وغيره حديثاً يختلق ، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية ، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وأخوته إن

" صفحة رقم 349 "
كان الضمير عائداً على قصص يوسف ، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن . وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح ، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية : تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي : ولكن هو تصديق ، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي : ولكن تصديق أي : كان هو ، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه . وينشد قول ذي الرمة : وما كان مالي من تراب ورثته
ولا دية كانت ولا كسب ماثم ولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السوارق خضرم بالرفع في عطاء ونصبه أي : ولكن هو عطاء الله ، أو ولكن كان عطاء الله . ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص :
وإني بحمد الله لا مال مسلمأخذت ولا معطي اليمين محالف ولكن عطاء الله من مال فاجرقصى المحل معور للمقارف وهدى أي سبب هداية في الدنيا ، ورحمة أي : سبب لحصول الرحمة في الآخرة . وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى : ) هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( وتقدم أول الورة قوله تعالى : ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا ( وقوله تعالى : ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( وفي آخرها : ما كان حديثاً يفتري إلى آخره ، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن ، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 350 "
( سورة الرعد )
ثلاث وأربعون آية مكية ومدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِىأُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الاٌّ مْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاٌّ رْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِى الاٌّ رْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاٍّ كُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاٌّ غْلَالُ فِىأَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاأُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاٌّ رْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِه

" صفحة رقم 351 "
وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاٌّ رْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( )
الرعد : ( 1 ) المر تلك آيات . . . . .
العمد : اسم جمع ، ومن أطلق عليه جمعاً فلكونه يفهم منه ما يفهم من الجمع ، وهي الأساطين . قال الشاعر : وجيش الجن إني قد أذنت لهم
يبغون تدمر بالصفاح والعمد
والمفرد عماد وعمد ، كإهاب وأهب . وقيل : عمود وعمد كأديم وأدم ، وقضيم وقضم . والعماد والعمود ما يعمد به يقال : عمدت الحائط أعمده عمداً إذا أدعمته ، فاعتمد الحائط على العماد أي : امتسك بها . ويقال : فلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يخزيهم . ويجمع عماد على عمد بضمتين كشهاب وشهب ، وعمود على عمد أيضاً كرسول ورسل ، وزبور وزبر هذا في الكثرة ، ويجمعان في القلة على أعمدة .
الصنو : الفرع يجمعه ، وآخر أصل واحد ، وأصله المثل ومنه قيل : للعم صنو ، وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان ، ويضمها في لغة تميم وقيس ، كذئب وذؤبان . ويقال : صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير ، لأنه ليس من أبنيته .
الجديد ضد الخلق والبالي ، ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله ، وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه كما قطع من النسج .
المثلة : العقوبة ، ويجمع بالألف والتاء كسموة وسماوات . ولغة الحجاز مثلة بفتح الميم وسكون الثاء ، ولغة تميم بضم الميم وسكون الثاء ، وسميت العقوبة بذلك لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة كقوله تعالى : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( أو لأنها من المثال بمعنى القصاص . يقال : أمثلت الرجل من صاحبه ، وأقصصته ، أو لأنها لعظم نكالها يضرب بها المثل .
السارب اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء . قال الشاعر :

" صفحة رقم 352 "
إني سربت وكنت غير سروب
وتقرب الأحلام غير قريب
وقال الآخر : وكل أناس قاربوا قيد فحلهم
ونحن حللنا قيده فهو سارب
أي فهو منصرف كيف شاء ، لا يدفع عن جهة ، يفتخر بعزة قومه . المحال : القوة والإهلاك قال الأعشى : فرع نبع يهش في غصن المج
د غزير الندى شديد المحال
وقال عبد المطلب : لا يغلبن صليبهم
ومحالهم أبداً محالك
ويقال : محل الرجل بالرجل مكر به وأخذه بسعاية شديدة ، والمماحلة المكايدة والمماكرة ومنه : تمحل لكذا أي : تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه . وقال أبو زيد : المحال النقمة ، وقال ابن عرفة : المحال الجادل ما حل عن أمره أي جادل . وقال القتبي : أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة ، جعل ميمه كميم مكان وأصله من الكون ، ثم يقال : تمكنت . وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال : ولو كان مفعلاً لظهر من الواو مثل مرود ومحول ومحور ، وإنما هو مثال كمهاد ومراس .
الكف : عضو معروف ، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك ، وفي الكثرة كفوف كصكوك ، وأصله مصدر كف .
ظل الشيء ما يظهر من خياله في النور ، وبمثله في الضوء .
الزبد : قال أبو الحجاج الأعلم هو ما يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أموالجه . وقال ابن عطية : هو ما يحمله السيل من غثاء ونحوه ، وما يرمي به على ضفتيه من الحباب الملتبك . وقال ابن عيسى : الزبد وضر الغليان وخبثه . قال الشاعر : فما الفرات إذا هب الرياح له
ترمي غواريه العبرين بالزبد الجفاء : اسم لما يجفاه السيل أي يرمي ، يقال : جفأت القدر بزبدها ، وجف السيل بزبده ، وأجفأ وأجفل . وقال ابن الأنباري : جفاء أي متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته ، وجفأت الرجل صرعته . ويقال : جف الوادي إذا نشف .
( المر تِلْكَ ايَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ الاْمْرَ يُفَصّلُ

" صفحة رقم 353 "
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ ( سقط : بلقاء ربكم توقنون ) ( : هذه السورة مكية في قول : الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جبير . وعن عطاء إلا قوله : ) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ( وعن غيره إلا قوله : ) هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ( إلى قوله : ) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ ( ومدنية في قوله : الكلبي ، ومقاتل ، وابن عباس ، وقتادة ، واستثنيا آيتين قالا : نزلتا بمكة وهما ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله : ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله : ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية حكاه المهدوي . وقيل : السورة مدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب .
قال الزمخشري : تلك إشارة إلى آيات السورة ، والمراد بالكتاب السورة أي : تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها . وقال ابن عطية : من قال حروف أوائل السور مثال الحروف المعجم قال : الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم ، ويصح على هذا أنْ يكون الكتاب يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل . والمر على هذا ابتداء ، وتلك ابتداء ثان ، وآيات خبر الثاني ، والجملة خبر الأول انتهى . ويكون الرابط اسم الإشارة وهو تلك . وقيل : الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليه بقوله : تلك من أنباء الغيب ، والذي قال : ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل ، هو قريب من قول مجاهد وقتادة ، والإشارة بتلك إلى جميع كتب الله تعالى المنزلة . ويكون المعنى : تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك . والظاهر أن قوله : والذي مبتدأ ، والحق خبره ، ومن ربك متعلق بانزل . وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر ، والحق مبتدأ محذوف ، أو هو خبر بعد خبر ، أو كلاهما خبر واحد انتهى . وهو إعراب متكلف . وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات ، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض . وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي : هو الحق ، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول : جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً . ومن ذلك قول الشاعر : إلى الملك القرم وابن الهام
وليث الكتيبة في المزدحم
وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني : إذا جعلت والذي معطوفاً على آيات .
وأكثر الناس قيل : كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى . وقيل : المراد به اليهود والنصارى ، والأولى أنه عام . ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس ، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع . والجلالة مبتدأ ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى : ) وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ ( ويجوز أن يكون صفة . وقوله : يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر ، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري . وقرأ الجمهور : عمد بفتحتين . وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب : بضمتين ، وبغير عمد في موضع الحال أي : خالية عن عمد . والضمير في ترونها عائد على السموات أي : تشاهدون السموات خالية عن عمد . واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً ، واحتمل أن يكون جملة حالية أي : رفعها مرئية لكم بغير عمد . وهي حال مقدرة ، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين . وقيل : ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي : بغير عمد مرئية ، فترونها صفة للعمد . ويدل على كنه صفة لعمد قراءة أبي : ترونه ، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد ، إذ هو اسم جمع . قال أي ابن عطية : اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى . وهو وهم ، وصوابه : بضم الحرفين ، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع .

" صفحة رقم 354 "
هذا التحريج يحتمل وجهين : أحدهما أنها لها عمد ، ولا ترى تلك العمد ، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة . وقال ابن عباس : وما يدريك أنها بعمد لا ترى ؟ وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض ، والسماء عليه كالقبة . والوجه الثاني : أن يكون نفي العمد ، والمقصود نفي الرؤية عن العمد ، فلا عمد ولا رؤية أي : لا عمد لها فترى . والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة ، ولو كان لها عمد لاحتاجت تلك العمد إلى عمد ، ويتسلسل الأمر ، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( ونحو هذا من الآيات . وقال أبو عبد الله الرازي : العماد ما يعتمد عليه ، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى ، فعمدها قدرة الله تعالى ، فلها عماد في الحقيقة . إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي ، وأنتم لا ترون ذلك التدبير ، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك انتهى . وعن ابن عباس : ليست من دونها دعامة تدعمها ، ولا فوقها علاقة تمسكها . وأبعد من ذهب إلى أنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي : رها وانظروا هل لها من عمد ؟ وتقدم تفسير ) ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( قال ابن عطية : ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب ، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات . وفي الصحيح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض ) انتهى . وسخر الشمس والقمر أي : ذللهما لما يريد منهما . وقيل : لمنافع العباد . وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة ، وكل مضافة في التقدير ، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي : كليهما يجري إلى أجل مسمى . وقال ابن عطية : والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب ، ولذلك قال : كل يجري لأجل مسمى ، أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر ، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى . وشرح كل بقوله أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى ، وتحريره أن يقول على زعمه : إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي ، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى . وقال ابن عباس : منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لا تتعداها ، قدر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء . وقيل : الأجل المسمى هو يوم القيامة ، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى : ) إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ ( وقال : وجمع الشمس والقمر ، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه ، وعبر بالتدبير تقريباً للإفهام ، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر ، والأمر أمر ملكوته وربوبيته ، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك . وقال مجاهد : يدبر الأمر يقضيه وحده ، ويفصل الآيات يجعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها من بعض . والآيات هنا دلائله وعلاماته في سمواته على وحدانيته ، أو آيات الكتب المنزلة ، أو آيات القرآن أقوال .
وقرأ النخعي ، وأبو رزين ، وابان بن ثعلب ، عن قتادة : تدبر الأمر نفصل بالنون فيهما ، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما ، وافق في نفصل بالنون الخفاف ، وعبد الواحد عن أبي عمرو ، وهبيرة عن حفص . وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط . وقال المهدوي : لم يختلف في يدبر ، أو ليس كما قال ؟ إذ قد تقدمت قراءة ابان . ونقل الداني عن الحسن : والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين الجملتين استفهام إخبار عن الله تعالى . وقيل : يدبر حال من الضمير في وسخر ، ونفصل حال من الضمير في يدبر ، والخطاب في لعلكم للكفرة ، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه .
( وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ ( : لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية . ومد الأرض : بسطها طولاً وعرضاً ليمكن التصرف فيها ، والاستقرار عليها . قيل : مدها ودحاها من مكة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا . وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها : اذهبي

" صفحة رقم 355 "
كذا وكذا . قال ابن عطية : وقوله مد الأرض ، يقتضي أنها بسيطة لا كرة ، وهذا هو ظاهر الشريعة . قال أبو عبد الله الداراني : ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة ، ولا ينافي ذلك قوله : مد الأرض ، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم . والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح ، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى . ألا ترى أنه قال : ) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا . وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع ، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس ، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع . فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين ، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه ، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص ، وتقدير مقدر ، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى . ملخصاً . وقال أبو بكر الأصم : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه ، فالمعنى : جعل الأرض حجماً يسيراً لا يقع البصر على منتهاه ، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى . وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم ، لأن المنتفع به من الأرض المعمور ، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير . فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً ، فتحصل في قوله : مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة ، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه . والرواسي الثوابت ، ومنه قول الشاعر : به خالدات ما يرمن وهامد
وأشعت أرسته الوليدة بالقهر
والمعنى : جبالاً رواسي ، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث ، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث . وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، وصارت الصفة تعني عن الموصوف ، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل . وقيل : رواسي جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، وهو وصف الجبل . كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها ، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم . قيل : من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع ، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قاد قاهر متعالى عن مشابهة الممكنات ، ومن جهة تولد الأنهار منها . وقيل : وذلك لأنّ الجبل جسم صلب ، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتب هناك ، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة ، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية . وكقوله : ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( ) وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً ( فقال المفسرون : الأنهار المياه الجارية في الأرض . وقال الكرماني : مسيل الماء ، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة . والظاهر أنّ قوله : من كل الثمرات متعلق بجعل . ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات ، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين ، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك ، ثم تكثرت وتنوعت . وقيل : أراد بالزوجين الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة . وقال ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية . وقال الكرماني : الزوج واحد ، والزوج اثنان ، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية ، فيكون أربعاً . وخص اثنين بالذكر ، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل ، إذ لا

" صفحة رقم 356 "
نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى . ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء . وقال أبو عبد الله الرازي : لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط . فلو قال : خلق زوجين ، لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد . فالشجر والزرع كبني آدم ، حصل منهم كثرة ، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء . والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض ، وشق أعلاها وأسفلها ، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، ومن الأسفل العروق الغائصة ، وطبيعة تلك الجنة واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد . ثم يخرج من الأعلى على ما يذهب صعداً في الهواء ، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم . ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشباً ، وبعضها لوزاً ، وبعضها ثمراً ، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى . وفيه تلخيص . وقيل : تم الكلام عند قوله : ومن كل الثمرات ، فيكون معطوفاً على ما قبله من عطف المفردات ، ويتعلق بقوله : وجعل فيها رواسي . فالمعنى : أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين ، وقيل : الزوجان الشمس والقمر ، وقيل : الليل والنهار ، يغشى الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف . وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر .
( وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ( : قطع جمع قطعة وهي الجزء . ومتجاورات متلاصقة متداينة ، قريب بعضها من بعض . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك : أرض طيبة وأرض سبخة ، نبتت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت . وقال ابن قتيبة وقتادة : يعني القرى المتجاورة . وقيل : متجاورة في المكان ، مختلفة في الصفة ، صلبة إلى رخوة . وسحراً إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة ، وصالحة للزرع لا للشجر ، وعكسها مع انتظام جميعها في الأرضية . وقيل : في الكلام حذف معطوف أي : وغير متجاورات . والمتجاورات المدن وما كان عامراً ، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر . قال ابن عطية : والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة ، ونوع واحد . وموضع العبرة في هذا أبين ، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين سئل عن هذه الآية فقال : ( الدقل ، والقارس ، والحلو ، والحامض ) وقال ابن عطية : وقيد منها في هذه المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب . وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات بالنصب على جعل . وقرأ الجمهور : وجنات بالرفع ، وقرأ الحسن : بالنصب ، بإضمار فعل . وقيل : عطفاً على رواسي . وقال الزمخشري : بالعطف على زوجين اثنين ، أو بالجر على كل الثمرات انتهى . والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج ، والفصل بينهما بجمل كثيرة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع . وقال ابن عطية : عطفاً على أعناب ، وليست عبارة محررة أيضاً ، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله : صنوان . وقرأ باقي السباعة : بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال : وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع ، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب ، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر : كأن عيني في غربي مقبلة
من النواضح تسقي جنة سحقا

" صفحة رقم 357 "
أي نخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل . ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات . وقرأ الجمهور : صنوان بكسر الصاد فيهما ، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي : بضمها ، والحسن وقتادة بفتحها ، وبالفتح هو اسم للجمع ، كالسعدان . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وزيد بن علي : يسقى بالياء ، أي : يسقى ما ذكر . وباقي السبعة بالتاء ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة . أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم ، ولقوله : ونفضل بالنون . وحمزة والكسائي بالياء ، وابن محيصن بالياء في تسقي ، وفي نفضل . وقرأ يحيى بن يعمر ، وأبو حيوة ، والحلبي عن عبد الوارث : ويفضل بالياء ، وفتح الضاد بعضها بالرفع . قال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أول من نقط المصاحف . وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها . والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض ، وبفتحها المصدر . والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله : صنوان ، صفة لقوله : ونخيل . ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفاً لجميع ما تقدم أي : أشكال ، وغيره إشكال . قيل : ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ، ولا يوجد لهما ثالث ونص على العنوان لأنها بمثال التجاور في القطع ، فظهر فيها عرابة اختلاف الأكل . ومعنى بماء واحد : ماء مطر ، أو ماء بحر ، أو ماء نهر ، أو ماء عين ، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض . وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره ، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات . ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال ، والألوان ، والروائح ، والمنافع ، وما يجري مرجى ذلك ؟ قيل : نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته ، وأنه المدبر للأشياء كلها ، وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم ، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل ، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ، ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد ، والشجر جنس واحد . وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه ، لا يشبه المخلوقات . قال الراجز : والأرض فيها عبرة للمعتبر
تخبر عن صنع مليك مقتدر
تسقى بماء واحد أشجارها
وبقعة واحدة قرارها
والشمس والهواء ليس يختلف
وأكلها مختلف لا يأتلف
لو أن ذا من عمل الطبائع
أو أنه صنعة غير صانع
لم يختلف وكان شيئاً واحدا
هل يشبه الأولاد إلا الوالدا
الشمس والهواء يا معاند
والماء والتراب شيء واحد
فما الذي أوجب ذا التفاضلا
إلا حكيم لم يرده باطلا
. وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها ، فصارت قطعاً متجاورات ، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً وكذلك الناس خلقوا من آدم . فنزلت عليهم من السماء مذكرة ، قربت قلوب وخشعت قلوب ، وقست قلوب ولهت قلوب . وقال الحسن : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان . قال تعالى : ) وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ( ، وهو شبيه بكلام الصوفية . إن في ذلك قال ابن عباس : في اختلاف الألوان والروائح والطعوم ، لآيات : لحججاً ودلالات لقوم يعقلون : يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر . ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع ، والجنات وسقيها وتفضيلها ، جاء ختمها بقوله : لقوم يعقلون ، بخلاف الآية التي قبلها ، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى

" صفحة رقم 358 "
تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون .
( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ( : ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه ، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته ، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل . وإن تعجب قال ابن عباس : وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين ، فهذا أعجب . وقيل : وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد ، فهذا أعجب . قال الزمخشري : وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ، ولم يعي بخلقهن ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى . وليس مدلول اللفظ ما ذكر ، لأنه جعل متعلق عجبه ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو قولهم في إنكار البعث ، فاتحذ الجزاء والشرط ، إذ صار التقدير : وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث ، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب ، فليكن من قولهم : أئذا كنا الآية . وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه : هو إنكار البعث ، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء . ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإعادة ، كما قال تعالى : ) وَهُوَ الَّذِى اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( وهو أهون عليه أي : هين عليه .
وقال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ، أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً . ويحتمل اللفظ منزعاً آخر : إن كنت تريد عجباً فهلم ، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى . واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً ، هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات . وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً ، والثاني خبراً ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع . وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت ، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ : ) إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ ( وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً ، والثاني استفهاماً ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نوناً كالكسائي . وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب ، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه . وقولهم : فعجب ، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره والله أعلم : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب . وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ، وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك . كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك ؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه ، لمسوغ الابتداء أيضاً ، وهو كونه عاملاً فيما بعده . وقال أبو البقاء : وقيل عجب بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى . وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ، فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلاً كذبح ، وفعلاً كقبض ، وفعلة كغرفة ، هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه . وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول . وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل ، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به . وقال الزمخشري : أئذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى . هذا إعراب متكلف ، وعدول

" صفحة رقم 359 "
عن الظاهر . وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر . أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء . ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم . والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، كما قال : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل . وقيل : يحتمل أن يكون مجازاً أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى : ) إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً ( وكما قال الشاعر :
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر . ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر ، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب ، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا : ) فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ( وقالوا : ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ).
قال ابن عباس : السيئة العذاب ، والحسنة العافية . وقال قتادة : بالشر قبل الخير . وقيل : بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، وهذه الأقوال متقاربة . وقد خلت من قبلهم المثلات أي : يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة ، وهذا يدل على سخف عقولهم ، هذ يستعجلون بالعذاب . والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزؤون . قال ابن عباس : المثلات العقوبات المستأصلات ، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما . وقال السدي : النقمات . وقال قتادة : وقائع الله الفاضحة ، كمسخ القردة والخنازير . وقال مجاهد : الأمثال المضروبة . وقرأ الجمهور : بفتح الميم ، وضم التاء ، ومجاهد والأعمش بفتحهما . وقرأ عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو بكر : بضمهما ، وابن وثاب : بضم الميم وسكون الثاء ، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء . ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران ، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى : أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم . باكتساب الذنوب أي : ظالمين أنفسهم . قال ابن عباس : ليس في القرآن آية أرجى من هذه . وقال الطبري : ليغفر لهم في الآخرة . وقال القاسم بن يحيى وقوم : ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف . وقيل : ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر . وقيل : ليغفر لهم بسترة وإمهاله ، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية . قال ابن عطية : والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا ، وإمهاله للكفرة . ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة ، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى : ) وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ ( ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار . ثم قال : ويستعجلونك ، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم ، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى . ولشديد العقاب : تخويف وارتقاب بعد ترجية . وقال سعيد بن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ، ولولا عقابه لا تكل كل أحد ) وفي حديث آخر : ( إن

" صفحة رقم 360 "
العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله عز وجل ) .
( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ ( : عن ابن عباس : لما نزلت وضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يده على صدره فقال : ( أنا منذر ) وأومأ بيده إلى منكب عليّ وقال : ( أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدى من بعدي ) ، وقال القشيري : نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليّ بن أبي طالب ، والذين كفروا مشركو العرب ، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار ، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر ، وانقياد الشجر ، وانقلاب العصا سيفاً ، ونبع الماء من بين الأصابع ، وأمثال هذه . فاقترحوا عناداً آيات كالمذكورة في سبحان ، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع ، والرقي في السماء ، والملك ، والكنز ، فقال تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة ، وناصح كغيرك من الرسل ، ليس لك الإتيان بما اقترحوا . إذ قد أتى بآيات عدد الحصا ، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى ، لا تفاوت فيها . فالاقتراح إنما هو عناد ، ولم يجر الله العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها .
وهاد : يحتمل أن يكون قد عطف على منذر ، وفصل بينهما بقوله لكل قوم ، وبه قال : عكرمة ، وأبو الضحى . فإن أخذت : ولكل قوم هاد ، على العموم فمعناه : وداع إلى الهدى ، كما قال : ) بعثت إلى الأسود والأحمر ( فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم مخصوص أي : ولكل قوم قائلين هاد . وقيل : ولكل أمة سلفت هاد أي : نبي يدعوهم ، والقصد : فليس أمرك ببدع ولا منكر ، وبه قال : مجاهد ، وابن زيد ، والزجاج قال : نبي يدعوهم بما يعطي من الآيات ، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات . وتبعهم الزمخشري . فقال : هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأشياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة . وقالت فرقة : الهادي في هذه الآية هو الله تعالى ، روي أن ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وهاد : على هذا مخترع للإرشاد . قال ابن عطية : وألفاظ تتعلق بهذا المعنى ، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع . وقال الزمخشري : في هذا القول وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر ، لا أنْ تثبت الإيمان بالإلجاء ، والذي يثبته بالإلجاء هو الله تعالى انتهى . ودلّ كلامه على الاعتزال . وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد ، وابن زيد ما نصه : ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته ، أن أعطاء كل منذر آيات أمر مدبر بالعلم النافذ ، مقدر بالحكمة الربانية . ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً أو مصلحة لأجابهم إليه . وقال الزمخشري أيضاً في معنى أن الهادي هو الله تعالى أي : بالإلجاء على زعمه ما نصه : وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على أنّ من هذه القدرة قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره انتهى . وقالت فرقة : الهادي علي بن أبي طالب ، وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدر هذه الآية ، فإنما جعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) علي بن أبي طالب مثالاً من علماء الأمّة وهداتها إلى الدين ، فكأنه قال : أنت يا علي هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ثم كذلك علماء كل عصر ، فيكون المعنى على هذا : إنما أنت يا محمد منذر ، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير . وقال أبو العالية : الهادي العل . وقال علي بن عيسى : ولكل قوم سبقهم إلى الهدى إلى نبي أولئك القوم . وقيل : هود قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير : ) وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِراطِ الْحَمِيدِ ( وقال في الشر : ) فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ( قاله أبو صالح . ووقف ابن كثير على هاد وواق حيث واقعا ، وعلى وال هنا وباق في النخل بإثبات الياء ، وباقي السبعة بحذفها . وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد : الوقف على ميع الباب لابن كثير بالياء ، وهذا لا يعرفه المكيون . وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب ، بين أن يقف بالياء ، وبين أن يقف بحذفها . والباب هو كل منقوص منون غير منصرف .

" صفحة رقم 361 "
) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) آية وكم آية نزلت ، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر ، وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ، فلا يقترحون غيرها ، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى . وقيل : مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاط علمه ، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ . وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة . قال ابن عطية : قص في هذا المثل المنبه عل قدرة الله القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان . وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة . والله يعلم : كلام مستأنف مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي : هو الله تعالى ، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال : يعلم . ويعلم هنا متعدية إلى واحد ، لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق بالمفردات . وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ، ويكون تغيض متعدياً . وأن تكون مصدرية ، فيكون تغيض وتزداد لا زمان . وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب . وأن تكون استفهاماً مبتدأ ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه ، والجملة في موضع المفعول . وتحمل هنا من حمل البطن ، لا من الحمل على الظهر . وفي مصحف أبي : ما تحمل كل أنثى ، وما تضع وتحمل على التفسير ، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف .
قال ابن عباس : تغيض تنقص من الخلقة ، وتزداد تتم . وقال مجاهد : غيض الرحم أن ينهرق دماً على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام ابن عباس . وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع . وقال قتادة : الغيض السقط ، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر . وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة . وعن الضحاك أيضاً : الغيض النقص من تسعة أشهر ، والزيادة إلى سنتين . وقيل : من عدد الأولاد ، فقد تحمل واحداً ، وقد تحمل أكثر . وقال الجمهور : غيض الرحم الدم على الحمل . قال الزمخشري : إن كانت ما موصولة فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقية . ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه ، وما تزداد أي تأخذه زائداً تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه : ) وَازْدَادُواْ تِسْعًا ( ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد . وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاماً ومخدجاً ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند

" صفحة رقم 362 "
الشافعي ، وإلى خمس عند مالك . وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدم فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر . وعنه : الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ولد التمام انتهى . وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقاً . وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر به الشيء . والظاهر عموم قوله : وكل شيء عنده بمقدار ، أي : بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه . وقال ابن عباس : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي : بقدر الطاعة والمعصية . وقال الضحاك : من الغيض والازدياد . وقال قتادة : من الرزق والأجل . وقيل : صحة الجنين ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله . والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ، لأنه لا دليل عليه .
والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات . وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية . ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم . وقيل : الغائب المعدوم ، والشاهد الموجود . وقيل : الغائب ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر للحس . وقرأ زيد بن علي : عالم الغيب بالنصب ، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها . وأثبت ابن كثير وأبو عمر وفي رواية : ياء المتعال وقفاً ووصلاً ، وهو الكثير في لسان العرب ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، لأنها كذلك رسمت في الخط . واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي ، وأجاز غيره حذفها مطلقاً . ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين ، وإن تعاقب التنوين ، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب . ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : سواء منكم الآية . والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله . وسواء تقدم الكلام فيه ، وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثني في أشهر اللغات . وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواآن . وقيل : هو على حذف أي : سواء منكم سرّ من أسرّ القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر ، والمعطوف عليه مبتدأ . ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله : منكم ، ومن المعطوف الخبر . وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر . وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح .
وقال ابن عباس : مستخف مستتر وسارب ظاهر . وقال مجاهد : مستخف بالمعاصي . وتفسير الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر . وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل ، واقتران السارب بالنهار . وتقابل الوصفان في قوله : ومن هو مستخف ، إذ قابل من أسر القول . وفي قوله : سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به . والمعنى والله أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك . وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من ، لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : من أسرّ القول ومن جهر به ، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون . ويجوز أن يكون : وسارب ، معطوفاً على من ، لا على مستخف ، فيصح التقسيم . كأنه قيل : سواء شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار . ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف . وأريد

" صفحة رقم 363 "
بمن اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ من في إفراد هو . والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى نصرفه في الناس . قال ابن عطية : فهذا قسم واحد ، جعل الله نهار راحته . والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ، سواء في اطلاع الله تعالى على الكل . ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من ، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر . وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف . فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءة بالنهار انتهى . وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي . وقال :
وكم لظلام الليل عندي من يد
والظاهر عود الضمير في له على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ، ومن جهر ، ومن استخفى ، ومن سرب : معقبات . وقال ابن عباس : هو عائد على من قوله : ومن هو مستخف ، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية .
قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال : والآية على هذا في الرؤساء الكافرين . واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة . وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر الله انتهى . وحذف لا ، لا في الجواب قسم بعيد . قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من الله على ظنه وزعمه . وقيل : الضمير في له عائد على الله تعالى أي : لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً . وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو قول مجاهد والنخعي . وقيل : الضمير في له عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد جرى ذكره في قوله : ) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( والمعنى : أنّ الله تعالى جعل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) حفظة من متمردي الجن والإنس . قال أبو زيد : الآية في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) نزلت في حفظ الله له من أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق . والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر . ويقول : لما تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستوفي علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضاً أن لذلك المذكور معقبات : جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه . وقال الزمخشري : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله : ) وَجَاء الْمُعَذّرُونَ ( يعني المعتذرون . ويجوز معقبات بكسر العين ، ولم يقرأ به انتهى . وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من كلمة ولا من كلمتين . وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما . وأما تشبيهه بقوله : وجاء

" صفحة رقم 364 "
المعذرون ، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون ، وقد تقدم في براءة توجيهه ، وأنه لا يتعين ذلك فيه . وأما قوله : ويجوز معقبات بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف . وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ، والمعقبات جمع معقبة . وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة . وقيل : جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري . وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر ، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله : ابن عطية . وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله : جمع معقب ، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار . وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجالات من حيث المعنى ، لا من حيث صناعة النحويين ، فبين أنّ معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع ، وأن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال . وقرأ عبيد بن زياد على المنبر له المعاقب ، وهي قراءة أبي وإبراهيم . وقال الزمخشري : وقرىء له معاقيب . قال أبو الفتح : هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف ، كمطعم ومطاعم ، ومقدم ومقاديم ، وكان معقباً جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في ممعاقبة . وقال الزمخشري : جمع معقب أو معقبة ، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير . وقرىء له معتقبات من اعتقب . وقرأ أبي من بين يديه ، ورقيب من خلفه . وقرأ ابن عباس : ورقباء من خلفه ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه ، ورقيب من بين يديه . وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير ، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . والظاهر أن قوله تعالى : من أمر الله متعلق بقوله : يحفظونه . قيل : مِن للسبب كقولك : كسرته من عرى ، ويكون معناها ومعنى الباء سواء ، كأنه قيل : يحفظونه بأمر الله وبإذنه ، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك . قال ابن جريج : يحفظون عليه عمله ، فحذف المضاف . وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . وقراءة علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد : يحفظونه بأمر الله ، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل . قال الزمخشري : يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي : من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه . وقال ابن عطية ، وقتادة : معنى من أمر الله ، بأمر الله أي : يحفظونه بما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل انتهى . وليس بتحكم وورود من للسبب ثابت من لسان العرب . وقيل : يحفظونه من بأس الله ونقمته كقولك : حرست زيداً من الأسد ، ومعنى ذلك : إذا أذن الله لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى : ) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ( يصير معنى الكلام إلى التضمين أي : يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته . ومن جعل المعقبات الحرس ، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه : في زعمه وتوهمه من هلاك الله ، ويدعون قضاءه في ظنه ، وذلك لجهالته بالله تعالى ، أو يكون ذلك على معنى التهلك به ، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف ، وفي الحقيقة هو منتصف ، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به : لا يحفظونه ، فحذف لا . وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه ، وهي في موضع نصب . وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، وابن جريج ، فيكون من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر الله تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه . والثانية : يحفظونه أي :

" صفحة رقم 365 "
حافظات له . والثالثة : كونها من أمر الله ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : يحفظونه ، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . والثانية : قوله : من أمر الله أي : كائنة من أمر الله . غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة ، في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها . وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالاً عن المنجمين وأصحاب الطلمسات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره . ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم خيراً وشراً ، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية . فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لو بال المعصية . والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي . قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول ، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ( الآية . وسؤالهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة ) فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ، وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب ، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا في أمثله الشريعة . فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير . وثم أيضاً مصائب يزيد الله بها أجر المصاب ، فتلك ليست تغييراً انتهى . وفي الحديث : ( إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ) وقيل : هذا يرجع إلى قوله : ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ( فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي ، إلا إن علم الله تعالى أنّ فيهم ، أو في عقبهم من يؤمن ، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال . وما موصولة صلتها بقوم ، وكذا ما بأنفسهم . وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها : إلا بسياق الكلام ، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى ، والتقدير : لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته . والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب ، وغير ذلك من البلاء . ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله : سوء ، وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئاً منها فلا مرد له ، فذكر السواء مبالغة في التخويف . وقال السدي : من وال من ملجأ . وقال الزمخشري : ممن يلي أمرهم ، ويدفع عنهم . وقيل : من ناصر يمنع من عذابه .
( هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ( : لما خوف تعالى العباد بقوله : ) وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ( أتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة الله تعالى ، وحكمته تشبه النعم من وجه ، والنقم من وجه . وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة . قال ابن عباس والحسن : خوفاً من الصواعق ، وطمعاً في الغيث . وقال قتادة : خوفاً للمسافرين من أذى المطر ، وطمعاً للمقيم في نفعه . وقريب منه ما ذكره الزجاج وهو : خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر له ، وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به ، وذكر الماوردي : خوفاً من العقاب ، وطمعاً في الثواب . وعن ابن عباس وغيره : أنه كنى بالبرق عن الماء ، لما كان المطر يقاربه غالباً وذلك من باب إطلاق الشيء مجازاً على ما يقاربه غالباً . قال الحوفي : خوفاً وطمعاً مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب ، وجوزه الزمخشري أي : خائفين وطامعين ، قال : ومعنى الخوف والطمع ، أن وقوع الصواعق يخوف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث . قال أبو الطيب

" صفحة رقم 366 "
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
. وقيل : يخاف البرذ المطر من له منه ضرر كالمسافر ، ومن في جرينته التمر والزبيب ، ومن له بيت يكف ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر انتهى . وقوله الأول في تفسير الخوف والطمع ، هو قول ابن عباس والحسن الذي تقدم ، وقوله : كأهل مصر ، ليس كما ذكر ، بل ينتفعون بالمطر في كثير من أوقات نمو الزرع ، وأنه به ينمو ويجود ، بل تمر على الزرع أوقات يتضرر وينقص نموه بامتناع المطر . وأجاز الزمخشري أن يكونا منصوبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع ، أو على ذا خوف وطمع . وقال أبو البقاء : خوفاً وطمعاً مفعول من أجله . وقال الزمخشري : لا يصح أن يكون مفعولاً لهما ، لأنهما ليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي : إرادة خوف وطمع ، أو على معنى إخافة وإطماعاً انتهى . وإنما لم يكونا على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن الإرادة فعل الله ، والخوف والطمع فعل للمخاطبين ، فلم يتحد الفاعل في الفعل في المصدر . وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعاً عليه ، بل من النحويين من لا يشترط ذلك ، وهو مذهب ابن خروف . والسحاب اسم جنس يذكر ويؤنث ، ويفرد ويجمع ، قال : ( والنخل باسقات ) ولذلك جمع في قوله : الثقال ، ويعني بالماء ، وهو جمع ثقيلة . قال مجاهد وقتادة : معناه تحمل الماء ، والعرب تصفها بذلك . قال قيس بن أخطم : فما روضة من رياض القطا
كأن المصابيح جودانها
بأحسن منها ولا مزنة
ولوح يكشف أوجانها
والدلوج المثقلة ، والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد . فإن كان يصح منه التسبيح فهو إسناد حقيقي ، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي . وتنكيره في قوله : ) فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ( ينفي أن يكون علماً لملك . وقال ابن الأنباري : الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل : قد غمني كلامك . وقال الزمخشري : ويسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له ، أي : يضجون بسبحان الله والحمد لله . وفي الحديث : ( سبحان من يسبح الرعد بحمده ) وعن علي : ( سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك ) ومن بدع المتصوفة : الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم انتهى . وقال ابن عطية : وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب ، روى ذلك عن ابن عباس . وهذا عندي لا يصح لأنّ هذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة . وقال أبو عبد الله الرازي : إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية ، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ، وكذا القول في الرياح ، وفي سائر الآثار العلوية . وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فكيف بالعاقل الإنكار ؟ انتهى . وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة ، وذلك لا يكون أبداً ، وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة ، فلم يجمعوا على أنّ اسم لملك . وعلى تقدير أن يكون اسماً لملك ، لا يلزم أن يكون ذلك الملك يدبر لا للسحاب ولا غيره ، إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) المشهود له بالعصمة ، لا من الفلاسفة الضلال . والظاهر عود الضمير في قوله : من خيفته ، على الله تعالى كما عاد في قوله : بحمده . ومعنى خيفته : من هيبته وإجلاله .

" صفحة رقم 367 "
وقيل : يعود على الرعد . والملائكة أعوانه جعل الله له ذلك فهم خائفون خاضعون طائعون له . والرعد وإن كان مندرجاً تحت لفظ الملائكة ، فهو تعميم بعد تخصيص انتهى . وهو قول ضعيف . ومن مفعول فيصيب ، وهو من باب الإعمال ، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيب يطلبه ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء ، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني . ومفعول يشاء محذوف تقديره : من يشاء إصابته . وفي الخبر أنّ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال : أخبرني عن إله محمد ؟ أمن لؤلؤ هو أم من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه . وقال مجاهد : ناظر يهودي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه ، فنزلت الآية فيه . وقال ابن جريج : سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل ، وذكر قصتهما المشهورة ، مضمونها أن عامراً توعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا لم يجبه إلى ما طلب ، وأنه وأربداً ما الفتك به ، فعصمه الله تعالى ، وأصاب عامراً بغدّة فمات غريباً ، وأريد بصاعقة فقتلته ، ولأخيه لبيد فيه عدة مرات . منها قوله : أخشى على أربد الحتوف ولا
أرهب نوء السماك والأسد
فجعني البريق والصواعق بالفا
رس يوم الكريهة النجد
وهذه الضلالات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة ، والتصرف التام في العالم العلوي والسفلي ، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه ، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية ، والضمير في وهم يجادلون ، عائد على الكفار المكذبين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، المنكرين الآيات ، يجادلون في قدرة الله على البعث وإعادة الخلق بقولهم : ) مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ( وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد . ونسبة التوالد إليه بقولهم : الملائكة بنات الله تعالى والمعنى : أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف ، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى ، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء . وقيل : وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي . وكذلك الجبار ، ولا ربد . وهو شديد المحال ، جملة حالية من الجلالة . وقرأ الجمهور : المحال بكسر الميم . فعن ابن عباس : المحال العداوة ، وعنه الحقد . وعن عليّ : الأخذ ، وعن مجاهد : القوة . وعن قطرب : الغضب . وعن الحسن : الهلاك بالمحل ، وهو القحط . وقرأ الضحاك والأعرج : المحال بفتح الميم . فعن ابن عباس : الحول . وعن عبيدة : الحيلة . يقال : المحال والمحالة وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب ، ويكون مثلاً في القوة والقدرة ، كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحدّ ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره . ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر ، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر وقوامسه . والضمير في له عائد على الله تعالى ، ودعوة الحق قال ابن عباس : دعوة الحق لا إله إلا الله ، وما كان من الشريعة في معناها . وقال علي بن أبي طالب ، دعوة الحق التوحيد . وقال الحسن : إن الله هو الحق ، فدعاؤه دعوة الحق . وقيل : دعوة الحق دعاؤه عند الخوف ، فإنه لا يدعي فيه إلا هو ، كما قال : ) ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ( قال الماوردي : وهو أشبه بسياق الآية . وقيل : دعوة الطلب الحق أي : مرجو

" صفحة رقم 368 "
الإجابة ، ودعاء غير الله لا يجاب ، وقال الزمخشري : فيه وجهان . أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قوله : ( كلمة الحق ) للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل ، والمعنى : أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة له ، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه . والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب . وعن الحسن رحمه الله : الحق هو الله تعالى ، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى . وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر ، لأنّ مآله إلى تقدير : لله دعوة لله ، كما تقول : لزيد دعوة زيد ، وهذا التركيب لا يصح . والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله : ولدار الآخرة على أحد الوجهين ، والتقدير : لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة ، والمعنى : أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق . ولما ذكر تعالى جدال الكفار في الله تعالى ، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه ، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي : من يدعو له فدعوته هي الحق ، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها ، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء . فقال : ) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ ). قال الزمخشري : والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه ، يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه . وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم . وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً ، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى . فالضمير في يدعون عائد على الكفار ، والعائد على الذين محذوف أي : يدعونهم . ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون ، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر . وقيل : الذين أي : الكفار الذين يدعون ، ومفعول يدعون محذوف أي : يدعون الأصنام . والعائد على الذين الواو في يدعون ، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف ، وعلى القول الأول على الذين . قال ابن عباس : كالناظر إلى خياله في الماء يريد تناوله ، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه . وقال الضحاك : كمن بسط يديه إلى الماء ليص إليه بلا اغتراف . وقال أبو عبيدة : أي كالقابض على الماء ليس على شيء ، قال : والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء ، وأنشد سيبويه : فأصبحت فيما كان بيني وبينها
من الود مثل القابض الماء في اليد
وقال آخر : وإني وإياكم وشوقاً إليكم
كقابض ماء لم تسعه أنامله
. وقيل : شبه الكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء ، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته ، فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء ، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه ، كذلك ما يدعو الكفار من الأوثان جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم انتهى .

" صفحة رقم 369 "
والكاف في موضع نصب أي : مثل استجابة ، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط ، وهي إضافة المصدر إلى المفعول . وفاعل المصدر محذوف تقديره : كإجابة الماء من يبسط كفيه إليه ، فلما حذف أظهر في قوله : إلى الماء ، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير إليه ، فكان يكون التركيب كفيه إليه . هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا التشبيه ، وتبعه أبو البقاء . وقال ابن عطية : ومعنى الكلام الذي يدعونهم الكفار إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون ، ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط كفيه إلى الماء ويشير إليه بالإقبال ، فهو لا يبلغ فمه أبداً ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع انتهى . وفاعل ليبلغ ضمير الماء ، وليبلغ متعلق بباسط ، وما هو أي : وما الماء يبالغه ، أي : يبالغ الفم . ويجوز أن يكون هو ضمير الفم ، والهاء في ببالغه للماء أي : وما الفم ببالغ الماء ، لأنّ كلاًّ منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالة . وقرىء : كباسط كفيه بتنوين باسط . وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي : في حيرة ، أو في اضمحلال ، لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد ، فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون . قال تعالى : ) أَيْنَمَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( قالوا ضلوا . قال الزمخشري : إلا في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم . وقال ابن عباس : أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاؤهم .
( وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ ( : إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد ، فمن عمومها ينقاد كلهم إلى ما أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا ، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال ، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة : وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع ، فيكون عاماً مخصوصاً إذ يخرج منه من لا يسجد ، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين ، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام كما قاله قتادة : فيسجد كرهاً وإما نفاقاً ، أو يكون الكره أول حاله ، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد . وقيل : طوعاً لا يثقل عليه السجود ، وكرهاً يثقل عليه ، لأنّ إلزام التكاليف مشقة . وقيل : من طالت مدة إسلامه ، فألف السجود . وكرهاً من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن الأنباري . وقيل : هو عام على تقدير كون السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة ، وذلك بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر ، ومدلولة أثراً . أو يكون معناه : يجب أن يسجد له كل من في السموات والأرض ، فعبر عن الوجوب بالوقوع . والذي يظهر أنّ مساق هذه الآية إنما هو أنّ العالم كله مقهور لله تعالى ، خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته ، لا يكون منه إلا ما قدر تعالى . فالذين تعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر ، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود . والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد ، إذ هي من العالم . فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ( وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف ، وأضعف منه قول ابن الأنباري : إنه تعالى جعل للظلال عقولاً تسجد بها وتخشع بها ، كما جعل للجبال أفهاماً حتى خاطبت وخوطبت ، لأنّ الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة ، وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به ، وإنما معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى . وقال الفراء : الظل مصدر يعني في الأصل ، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم ، وطوله بسبب انحطاط الشمس ، وقصره بسبب ارتفاعها ، فهو منقاد لله تعالى في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب . وخص هذان الوقتان بالذكر لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما ، وتقدم شرح الغدوّ والآصال في آخر الأعراف . روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد لله حينئذ .
وقرأ أبو مجلز :

" صفحة رقم 370 "
والإيصال . قال ابن جني : هو مصدر أصل أي : دخل في الأصيل كما تقول : أصبح أي دخل في الاصباح . ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد ، كان جوابه من السائل . فكان السبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب منهم ، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعت المبادرة إليه ، كما قال تعالى : ) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ ( ويبعد ما قال مكي من أنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل ، لأنه قال تعالى : ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( فإذا كانوا مقرين بأنّ منشىء السموات والأرض ومخترعها هو الله ، فكيف يقال : بأنهم جهلوا الجواب فطلبوه من السائل ؟ وقال الزمخشري : قل الله حكاية لاعتراقهم تأكيد له عليهم ، لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا : الله ، كقوله ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ اللَّهِ ( وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك ؟ فإذا قال : هذا قولي ، قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريراً عليه واستئنافاً منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القولكيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقيناً أي : إن كفوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرونن أن ينكروه . وقال الكرماني : قل يا محمد للكفار من رب السموات والأرض ؟ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون الله ، فإذا قالوها قل : الله ، أي هو كما قلتم . وقيل : فإن جابوك وإلا قل : الله ، إذ لا جواب غير هذا انتهى . وهو تلخيص القولين اللذين قالهما الزمخشري . وقال البغوي : روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت ، فأمره الله فقال : قل الله انتهى . واستفهم بقوله : قل أفاتخذتم ؟ على سبيل التوبيخ والإنكار ، أي : بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السموات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وإقراركم سبباً للإشراك ، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لا نفسها نفعاً ولا ضراً ، ومن بهذه المثابة فكيف يملك لهم نفعاً أو ضراً ؟ ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن ، ثم حالة الكفر والإيمان ، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام للذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله : قل هل يستوي الأعمى والبصير ؟ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو : الظلمات ، وبالمؤمن وهو النور . وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة .
وقرأ الأخوان وأبو بكر : أم هل يستوي بالياء ، والجمهور بالتاء ، أم في قوله : أم ، هل منقطعة تتقدر ببل ؟ والهمزة على المختار ، والتقدير : بل أهل تستوي ؟ وهل وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر :
أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم
وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأنّ تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله : ) أَم مَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ ( ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة ، لأن أم تتضمنها ، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة لذلك . وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها :

" صفحة رقم 371 "
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
إثر الأحبة يوم البين مشكوم
ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم ، وتنبيهاً على توبيخهم في جعل شركاء لله ، وتعجيباً منهم ، وإنكاراً عليهم . وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم ، لأنه معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون الله أولياء ، وجعلوهم شركاء لا تقدر على خلق ذرة ، ولا إيجاد شيء البتة ، والمعنى : أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئاً حت يستحقوا العبادة ، وجعلهم شركاء لله أي : جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله ، فتشابه ذلك عليهم ، فيعبدونهم . ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة ؟ ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ( ثم أمره تعالى فقال : قل الله خالق كل شيء أي : موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرها ، وهم أيضاً مقرون بذلك ، ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( واحتمل أن يكون قوله : وهو الواحد القهار ، داخلاً تحت الأمر بقل ، فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو الواحد المفرد بالألوهية ، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره . واحتمل أن يكون استئناف إخبار فيه يقال بهذين الوصفين : الوحدانية ، والقهر . فهو تعالى لا يغالب ، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل .
( أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ ( : قال الزمخشري : هذا مثل ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، مثلاً لهما . فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه ، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه ، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . وقال ابن عطية : صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به انتهى . وقيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن ، والقلوب ، والحق ، والباطل . فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب ، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب ، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها ، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه ، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه ، ومنها دون ذلك بطبقة ، ومنها دونه بطبقات . والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله ، ودفعهم إياه بالباطل . والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى . وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثلما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) وقال ابن عطية : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى أنزل من السماء ماء ، يريد به الشرع

" صفحة رقم 372 "
والدين ، فسالت أودية يريد القلوب ، أي : أخذ النبيل بحظه ، والبليد بحظه ، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق ، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب . وإن صح هذا القول عن ابن عباس ، فإنما قصد أن قوله تعالى : ) كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ( ، معناه : الحق الذي يتقرر في القلوب ، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى . والماء المطر . ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة ، فتسيل بعض الأودية دون بعض . ومعنى بقدرها أي : على قدر صغرها وكبرها ، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم . ألا ترى إلى قوله : وأما ما ينفع الناس ، فالمطر مثل للحق ، فهو نافع خال من الضرر .
وقرأ الجمهور : بقدرها بفتح الدال . وقرأ الأشهب العقيلي ، وزيد بن علي ، وأبو عمرو في رواية : بسكونها . وقال الحوفي : بقدرها متعلق بسالت . وقال أبو البقاء : بقدرها صلة لا ودية ، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل ، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة ، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة ، كما كان لو صرح به نكرة ، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شراً له أي : كان الكذب شراً له ، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت . واحتمل بمعنى حمل ، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر . ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السبيل ، ومنه الربوة . ومما توقدون عليه أي : ومن الأشياء الت توقدون عليها وهي الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص ، والقصدير ، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وابن محيصن ، ومجاهد ، وطلحة ، ويحيى ، وأهل الكوفة : يوقدون بالياء على الغيبة ، أي يوقد الناس . وقرأ باقي السبعة والحسن ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة : بالتاء على الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار . قال أبو علي ، والحوفي : متعلق بتقدون . وقال أبو علي : قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله : ) فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ( فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه ، وليس في النار ، لكن يصيبه لهبها . وقال مكي وغيره : في النار متعلق بمحذوف تقديره : كائناً ، أو ثابتاً . ومنعوا تعليقه بقوله : توقدون ، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى . ولو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، لجاز أن يكون متعلقاً بتوقدون ، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله : يطير بجناحيه ، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه . وقال الحوفي : هو مصدر في موضع الحال أي : مبتغين حلية ، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدونعليه . والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة ، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني ، والمساحي ، وآلات الحرب ، وقطاعات الأشجار ، والسكك ، وغير ذلك . وزبد مرفوع بالابتداء ، وخبره في قوله : ومما توقدون . ومِن الظاهر أنها للتبعيض ، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن . وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغاية أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار ، والحق والباطل على حذف مضاف أي : مثل الحق والباطل . شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها ، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار ، ولا بقاء له ولا قيمة . وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد ، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : زبداً رابياً ، وفي قوله : زبد مثله ، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر ، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخراً

" صفحة رقم 373 "
كقوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله : ) فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ ( ) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ ( وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر . وانتصب جفاء على الحال أي : مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له . والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن ، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن ، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية ، فهما واحد باعتبار القدر المشترك . وقرأ رؤبة : جفالاً باللام بدل الهمزة من قولهم : جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته . وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفار بمعنى : أنه كان أعرابياً جافياً . وعن أبي حاتم أيضاً : لا تعتبر قراءة الإعراب في القرآن . وأما ما ينفع الناس أي : من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي : مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل . يضرب الله الأمثال ، والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب ، وأهل الباطل من العقاب ، فقال : للذين استجابوا لربهم الحسنى ، أي : الذين دعاهم الله على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى ، وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله ، ودخول الجنة في الآخرة . فالحسنى مبتدأ ، وخبره في قوله : للذين . والذين لم يستجيبوا مبتدأ ، خبره ما بعده . وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام ، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي : لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم . ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال ، ويبتدئون للذين . وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي السني مبتدأ ، وللذين خبره ، وفسر ابن عطية وفهم السلف . قال ابن عباس : جزاء الحسنى وهي لا إله إلا الله . وقال مجاهد : الحياة الحسنى ما في الطيبة . وقيل : الجنة لأنها في نهاية الحسنى . وقيل : المكافأة أضعافاً . وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال : للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي : هما مثلاً الفريقين . والحسنى صفة لمصدر استجابوا أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقولهم : لو أن لهم كلام مبتدأ ، ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى . والتفسير الأول أولى ، لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ، ذكر ما للمستجيبين من الثواب . ولأنّ تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقاً ، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى ، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً . ولأنه على قوله يكون قوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ، كلاماً مفلتاً مما قبله ، أو كالمفلت ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين . لو أن لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت ، وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم . وأيضاً فقد جاء هذا التركيب ، وتقدم تفسير مثل قوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ، وسوء الحساب قال ابن عباس : أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم . وقال النخعي : وشهدو وفرقران يحاسب على ذنوبه كلها ، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء . وقال أبو الجوزاء : المناقشة . وقيل : للتوبيخ عند الحساب والتقريع ، وتقدم تفسير مثل ) وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ).
( ) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء

" صفحة رقم 374 "
َ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاٌّ رْضِ أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىإِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأابٍ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِىأُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِىأَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّى لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاٌّ رْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاٌّ مْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْأسِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاٌّ رْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاٌّ حْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاأُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِأايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ

" صفحة رقم 375 "
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاٌّ رْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( )
الرعد : ( 19 ) أفمن يعلم أنما . . . . .
القارعة : الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي : تضربه بشدة ، كالقتل ، والأسر ، والنهب ، وكشف الحريم . وقال الشاعر : فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
أي ضربنا بقوة . وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم . المحو الإزالة محوت الخط أذهبت أثره ومحا المطر رسم الدار أذهبه وأزاله ويقال في مضارعه يمحو ويمحي لأن عينه حرف حلق والإثبات ضد المحو .
( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( : قال ابن عباس : نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل . وقيل : في عمر بن الخطاب وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل . قرأ زيد بن علي : أو من بالواو بدل الفاء ، إنما أنزل مبنياً للفاعل . ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر ، وذكر ما للمؤمن من الثواب ، وما للكافرين من العقاب ، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي : ليسا مشتبهين ، لأنّ العالم بالشيء بصير به ، والجاهل به كالأعمى ، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم . والهمزة للاستفهام المراد به : إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب ، كبعد ما بين الزبد والماء ، والخبث والإبريز . ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة ، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول . والفاء للعطف ، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير : فأمن يعلم ، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل ، كما قدره الزمخشري في قوله : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( وقوله : ) أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ( وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أو لو ، أو صفة له ، وصفة لمن من قوله : أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض ، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله : ) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ( ثم قال : ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ( والظاهر عموم العهد . وقيل : هو خاص ، فقال السدي : ما عهد إليهم في القرآن . وقال قتادة : في الأول ، وهو قوله : ) أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( وقال القفال : ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات . وقيل :

" صفحة رقم 376 "
في الكتب المتقدمة والقرآن . وقيل : المأخوذ على ألسنة الرسل . وقيل : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي : بما عهد الله . والظاهر أن قوله : ولا ينقضون الميثاق ، جملة توكيد به لقوله : يوفون بعهد الله ، لأن العهد هو الميثاق ، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه . وقال الزمخشري : وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . ولا ينقضون الميثاق ، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى ، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى . فأضاف العهد إلى المفعول ، وغاير بين الجملتين بكونن الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى . إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين الله وبين العباد . وقال ابن عطية : بعهد الله اسم الجنس أي : بجميع عهود الله ، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده . ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض ، وتجنب جميع المعاصي . وقوله : ولا ينقضون الميثاق . أي : إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه . قال قتادة : وتقدم وعيد الله إلى عبادة في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى .
وقال ابن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه ، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر ، ومرور الناس عليه ، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه ، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال ، ولم ير من أخرجه ، وهتف به هاتف : كيف رأيت ثمرة التوكل ؟ قال ابن العربي : هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام ، فاقتدوا به . وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه ، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال . وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا : إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار . ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل .
وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن : المراد به صلة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالإيمان به ، وقال نحوه ابن جبير . وقال قتادة : الرحم . وقيل : صلة الإيمان بالعمل . وقيل : صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، ومراعاة حق الجيران ، والرفقاء ، والأصحاب ، والخدم . وقيل : نصرة المؤمنين . وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به ، والأول محذوف تقديره : ما أمرهم الله به . وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي : بوصله . ويخشون ربهم أي : وعيده كله . ويخافون سوء الحساب أي : استقصاء فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا . وقيل : يخشون ربهم يعظمونه . وقيل : في قطع الرحم . وقيل : في جميع المعاصي . وقيل : فيما أمرهم بوصله . وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ، وميثاق التكليف . وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي ، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله : الذين يوفون ، والذين يصلون ، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط ، فكذلك فيما أشبهه ، ولذلك قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي ، وأن يراد به الاستقبال . فمن المراد به المضي في الصلاة ) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( ومن المراد به الاستقبال ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ). ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع ، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً ، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين ، وما عطف عليهما ، لأنّ حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي ، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم . وانتصب ابتغاء قيل : على أنه مصدر في موضع الحال ، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي : إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً ، لا لرجاء أن يقال : ما أصبره ، ولا مخافة أن يعاب بالجزع ، أو تشمت به الأعداء ، كما قال :

" صفحة رقم 377 "
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
ولأنّ الجزع لا طائل تحته ، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع . والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي : الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، كما تقول : خرج زيد لوجه كذا . ونبه على هاتين الخصلتين : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ هما عمود الدين ، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات ، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال . ونبه على حالتي الإنفاق ، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض ، لأنّ الإظهار فيها أفضل . وقال الزمخشري : مما رزقناهم من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ، ولا يسند إلى الله انتهى . وهذا على طريق المعتزلة .
وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة . قال ابن عباس : صبروا على أمر الله . وقال أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم . وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب . وقال ابن زيد : صبروا على الطاعة وعن المعصية ، ويدرؤون يدفعون . قال ابن زيد : الشر بالخير . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفاً كقوله : ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وقال القتبي : إذا سفه عليهم حلموا ، وقال ابن جبير : يدفعون المنكر بالمعروف . وقال ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب ، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه . وقيل : يدفعون بلا إله إلا الله شركهم . وقيل : بالسلام غوائل الناس . وقيل : من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن . وقيل : بالصالح من العمل السيىء ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاً قال : أوصني يا رسول الله فقال : ) إِذَا عَمِلَتْ سَيّئَةٌ فَاعْمَلْ إِلَى ( السر بالسرّ والعلانية بالعلانية . وقيل العذاب : بالصدقة . وقيل : إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا . وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز . وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر : يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحساناً وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال :
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم . وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار ، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات . وعقبي الدار : عاقبة الدنيا ، وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها . وجنات عدن بدل من عقبى الدار ، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف . وقرأ الجمهور : جنات ، والنخعي : جنة بالإفراد . وروي عن ابن كثير ، وأبي عمرو : يدخلونها مبنياً للمفعول . وقرأ ابن أبي عبلة : ومن صلح بضم اللام ، والجمهور بفتحها ، وهو أفصح . وقرأ عيسى الثقفي : وذريتهم بالتوحيد ، والجمهور بالجمع . وقرأ ابن يعمر : فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل ، كما قال الراجز :
نعم الساعون في اليوم الشطر

" صفحة رقم 378 "
وقرأ ابن وثاب : فنعم بفتح النون وسكون العين ، وتخفيف فعل لغة تميميمة ، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين ، وهي أكثر استعمالاً . قال مجاهد وغيره : ومن صلح أي عمل صالحاً وآمن انتهى . وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع ، إنما تنفع الأعمال الصالحة . وقيل : يحتمل قوله : ومن صلح أي : لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه . قال ابن عباس : هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة . والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول . وقيل : يجوز أن يكون مفعولاً معه أي : يدخلونها مع من صلح . ويشتمل قوله : من آبائهم ، أبوي كل واحد والده ووالدته ، وغلب الذكور على الإناث ، فكأنه قيل : ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم . والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي : بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم . قال أبو بكر الورّاق : هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة ، من عملها دخلها من أي باب شاء . قال الأصم : نحو هذا قال : من كل باب باب الصلاة ، وباب الزكاة ، وباب الصبر . ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر : أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ، ومنهم كروبيون ، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص ، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة ، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر ، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى . وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب ، ولا جاءت به الأنبياء ، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون . قال ابن عطية : وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى .
وارتفع سلام على الابتداء ، وعليكم الخبر ، والجملة محكية بقول محذوف أي : يقولون سلام عليكم . والظاهر أن قوله تعالى : سلام عليكم تحية الملائكة لهم ، ويكون قوله تعالى : بما صبرتم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق ، أو تكون الباء بمعنى بدل أي : بدل صبركم أي : بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ، هذه الملاذ والنعم . وقيل : سلام جمع سلامة أي : إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا . وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق بسلام أي : يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم ، والدار : تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة . وقالت فرقة : المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم . قال ابن عطية : وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو : أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : ( هذا مكان مقعدك ، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك ) انتهى . ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة ، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر ، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد ، ولا بغير ذلك .
( فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ( : قال مقاتل نزلت : والذين ينقضون في أهل الكتاب . وقال ابن عباس : نزلت الله يبسط في مشركي مكة ، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية . وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة ، وإكرام الملائكة لهم بالسلام ، وذلك غاية

" صفحة رقم 379 "
القرب والتأنيس . وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله . وسوء الدار أي : الدار السوء وهي النار ، وسوء عاقبة الدار ، وتكون دار الدنيا . ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق . قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره ، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه . ويقدر مقابل يبسط ، وهو التضييق من قوله : ) وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( وعليه يحمل ) فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ( وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر : ) لَئِنْ قُدِرَ اللَّهُ عَلَىَّ ( أي لئن ضيق . وقيل : يقدر يعطي بقدر الكفاية . وقرأ زيد بن علي : ويقدر بضم الدال ، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون ، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم ، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به ، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي . ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات . والذين ينقضون أي : يفسدون في الأرض ، وفرحوا بالحياة الدنيا . وفي الكلام تقديم وتأخير . ومتاع : معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى . كما قال الشاعر : تمتع يا مشعث إن شيئا
سبقت به الممات هو المتاع
وقال آخر : أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
وقال آخر : تمتع من الدنيا فإنك فان
من النشوات والنسأ الحسان
قال الزمخشري : خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً ، يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى . وهذا مني قول الحسن : أعلم الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك . وقال ابن عباس : زاد كزاد الرعي . وقال مجاهد : قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال .
( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( : نزلت : ويقول الذين كفروا ، في مشركي مكة ، طلبوا مثل آيات الأنبياء . والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه ، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفاً . وقولهم : سير علينا الأخشبين ، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن ، وأحي لنا مضينا وأسلافنا ، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها ، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم ، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء .
وقال الزممشري : ( فإن قلت ) : كيف يطابق قولهم : لولا أنزل عليه آية من ربه ، قل إن الله يضل من يشاء ؟ ( قلت ) : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء ، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية ، ويهدي

" صفحة رقم 380 "
إليه من كان على خلاف صفتكم . وقال أبو علي الجبائي : يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره ، ويهدي إليه من أناب أي : إلى جنته من أناب أي : من تاب . والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب ، لا عن الدين بالكفر ، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى . وهي على طريقة الاعتزال .
والضمير في إليه عائد على القرآن ، أو على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي : إلى دينه وشرعه . وأناب أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في توبة الخير . والذين آمنوا : بدل من أناب . واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته . وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته ، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلق الشبه . أو تطمئن بالقرآن ، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه . ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيباً في الإيمان ، والمعنى : أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة ، بل ربما كفر بعدها ، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم . وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين ، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي : قلوب الذين ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده .
وطوبى : فعل من الطيب ، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر ، واختلفوا في مدلولها : فقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى ، وصيفة صوفى . وفعلى ليست من ألفاظ الجموع ، فلعله يعني بها اسم جمع . وقال الجمهور : هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى ، واختلف القائلون بهذا في معناها . فقال الضحاك : المعنى غبطة لهم . وعنه أيضاً : أصبت خيراً . وقال عكرمة : نعمى لهم . وقال ابن عباس : فرح وقرة عين . وقال قتادة : حسنى لهم . وقال النخعي : خير لهم ، وعنه أيضاً كرامة لهم . وعن سميط بن عجلان : دوام الخير . وهذه أقوال متقاربة ، والمعنى العيش الطيب لهم . وعن ابن عباس ، وابن جبير : طوبى اسم للجنة بالحبشية . وقيل : بلغة الهند . وقال أبو هريرة ، وابن عباس أيضاً ، ومعتب بن سمي ، وعبيد بن عمير ، ووهب بن منبه : هي شجرة في الجنة . وروي مرفوعاً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال . وقد سأله أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة فاكهة ؟ قال : ( نعم فيها شجرة تدعى طوبى ) وذكر الحديث . قال القرطبي : الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة ، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي ، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي . وطوبى : مبتدأ ، وخبره لهم . فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء ، وإن كانت نكرة فمسوع الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك ، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء ، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال : ابن مالك . ويرده أنه قرىء : وحسن مآب بالنصب ، قرأه كذلك عيسى الثقفي ، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى ، وأنها في موضع نصب ، وحسن مآب معطوف عليها . قال ثعلب : وطوبى على هذا مصدر كما قالوا : سقيا . وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال : بتقدير يا طوبى لهم ، ويا حسن مآب . فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة ، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال : يا أسفي على الفوت والندبة انتهى . ويعني بقوله : معطوف على المنادى المضاف ، أنّ طوبى مضاف للضمير ، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله : يا بؤس للجهل ضراراً الأقوام ، وقول الآخر : يا بؤس للحرب التي ، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل : يا طوباهم وحسن مآب أي : ما أطيبهم وأحسن مآبهم ، كما تقول : يا طيبها ليلة أي : ما أطيبها ليلة . وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء ، لتسلم الياء من القلب ، وإن كان

" صفحة رقم 381 "
وزنها فعلي ، كما كسروا في بيض لتسلم الياء ، وإن كان وزنها فعلاً كحمر . وقال الزمخشري : أصبت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله : وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها ، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك . وقرىء : وحسن مآب بفتح النون ، ورفع مآب . فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء ، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدباً .
( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبّى لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( : قال قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل : لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة ، فنزلت . وقيل : سمع أبو جهل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : يا رحمن ، فقال : إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت . ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري ، وعن ابن عباس : لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن فنزلت . قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني : أرسلناك آرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى . ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك ، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك . وقال الحسن : كإرسالنا الرسل أرسلناك ، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل . وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله : ) قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك . وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة ، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي ، لا بالآيات المقترحة ، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى . وقال الحوفي : الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : كفعلنا الهداية والإضلال ، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء . وقال أبو البقاء : كذلك التقدير الأمر كذلك . قد خلت من قبلها أمم أي : تقدمتها أمم كثيرة ، والمعنى : أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك . ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن ، ولتتلو أي : لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك . وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهم يكفرون أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي : أرسلناك في أمة رحمة لها معنى وهم ، يكفرون بي أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة . والظاهر أنّ الضمير في قوله : وهم ، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى ، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر ، والمعنى : أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر ، فهدى الله بك من أراد هدايته . وقيل : يعود على الذين قالوا : ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( وقيل : يعود على أمة وعلى أمم ، والمعنى : الإخبار بأنّ الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل ، وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به . قل : هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء ، عليه توكلت في نصرتي عليكم ، وجميع أموري ، وإليه مرجعي ، فيثبتني على مجاهدتكم .
( وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ ( : قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إن الكفار قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضاً قطعاً غراساً ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا ، وفلاناً وفلاناً ، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله . ولما ذكر تعالى علة إرساله ، وهي تلاوة ما أوحاه إليه ، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها ، أو تقطع به

" صفحة رقم 382 "
الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً ، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويف . كما قال : ) لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ ( الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه ، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى : ) وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ( ) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( وقال الشاعر : وجدك لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا
وقيل : تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى : ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ( قال الزجاج . وقال الفراء : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن . ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض ، وعلى قول الفراء : يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا ، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً ، وإنما هو دليل على الجواب . وقيل : معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً . ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله : بل لله الأمر جميعاً أي : الإيمان والكفر ، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما . وأما على تقدير لكان هذا القرآن ، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر : لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف ، ثم قال : بل لله الأمر جميعاً أي : الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء . وقال الزمخشري : بل لله الأمر جميعاً على معنيين : أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها ، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة . والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء . لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار ، ويعضده قوله تعالى : أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله ، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميع انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . واليأس القنوط في الشيء ، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم ، كأنه قيل : ألم يعلم الذين آمنوا . قال القاسم بن معن هي : لغة هوازن ، وقال ابن الكلبي : هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي : أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني
ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم
وقال رباح بن عدي : ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وقال آخر : قثشي ش حتى اذا يئس الرماة وارسلوا
غضفا دواجن قافلا أعصامها
إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا . وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم ، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول : يئست بمعنى علمت انتهى . وقد حفظ ذلك غيره ، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم

" صفحة رقم 383 "
نقل أنها لغة هوزان ، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ . وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ، لأنّ اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك . وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو : القنوط من الشيء ، وتأولوا ذلك . فقال الكسائي : المعنى أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين لله ورسوله ؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون ، فقال الذين آمنوا من إيمانهم . وقال الفراء : وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاً فقال : أفلم ييأسوا ؟ علمنا بقول آبائهم ، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام : يئست منك أن لا تفلح كأنه قال : علمته علماً قال : فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع ، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل . وقال أبو العباس : أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة ؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون : أن لو يشاء الله متعلقاً بآمنوا أي : أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة . وقال ابن عطية : ةّويحتمل أن يكونن اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : ولو أن قرآناً الآية على التأويل في المحذوف المقدر . قال في هذه : أفلم ييأس المؤمنون انتهى . وهذا قول الفراء الذي ذكرناه ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً انتهى . وهذا قول أبي العباس ، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه ، وهو أن الكلام تام عند قوله : أفلم ييأس الذين آمنوا ، إذ هو تقرير أي : قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين . وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي : وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعاً ، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر : أما والله أن لو كنت حرا
وما بالحر أنت ولا القمين
وقول الآخر : فاقسم أن لو التقينا وأنتم
لكان لنا يوم من الشر مظلم
وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم ، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها ، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي : أنه لو يشاء الله . وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين ، وقال غيره ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة ، والجحدري ، وعلي بن الحسين ، وابنه زيد ، وأبو زيد المزني ، وعلي بن نديمة ، وعبد الله بن يزيد : أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته . وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم ، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب . وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله : أفلم ييأس ، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري ، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة ، وهذا كقراءة : ) فَتَبَيَّنُواْ ( و ) فتثبتوا ( وكلتاهما في السبعة . وأما قول من قال : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس ، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد . وقال الزمخشري : وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام ، وكان

" صفحة رقم 384 "
متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية انتهى . وقال الفراء : لا يتلى إلا كما أنزل : أفلم ييأس انتهى .
والكفار عام في جميع الكفار ، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله : الحسن ، وابن السائب ، أو هو ظاهر اللفظ . وقال ابن عطية : كفار قريش ، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وغزواته . وقال مقاتل والزمخشري : كفار مكة . قال الزمخشري : تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها ، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم ، أو القيامة انتهى . وقال الحسن : حال الكفرة هكذا هو أبداً ، ووعد الله قيام الساعة . والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن . وقالت فرقة : التاء للخطاب ، والضمير للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية ، وعزاه الطبري إلى : ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقاله عكرمة . ويكون وعد الله فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك ، وقاله ابن عباس ومجاهد . وقرأ مجاهد ، وابن جبير : أو يحل بالياء على الغيبة ، واحتمل أن يكون عائداً على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء ، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة ، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي : ويحل الرسول قريباً . وقرأ أيضاً من ديارهم على الجمع . وقال ابن عباس : القارعة العذاب من السماء . وقال عكرمة : السرايا والطلائع . وفي قوله : ولقد استهزىء الآية ، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل ، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي : يمهلون ثم يؤخذون . وتنبيه على أنّ حال من استهزأ بك ، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم . وفي قوله : فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل ، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الكفار .
( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاْرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ( : من موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره : كمن ييئس ، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، كما حذف من قوله : ) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( تقديره : كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة . ودل عليه قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء ، كما دل على القاسي ) فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ( ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف ، وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى : ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ( ) أَفَمَن يَعْلَمُ ( ثم قال : ) كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ). والظاهر أنّ قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء ، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم ، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية . نعى عليهم هذا الفعل القبيح ، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها . ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر ، وما يترتب على الكسب في الجزاء ، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي : وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ، وجعلوا له شركاء ، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى . وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله : وجعلوا لله أي : وجعلوا له ، وفيه حذف الخبر عن المقابل ، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلاً . وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال : الشديد صاحب العقد ، الواو في قوله تعالى : وجعلوا واو الحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود ، والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديراً لألوهيته وتصريحاً بها ، كما تقول : معطي الناس ومغنيهم موجود ، ويحرم مثلي انتهى . وقال

" صفحة رقم 385 "
ابن عطية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع ؟ هذا تأويل . ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله : وجعلوا لله شركاء ، كأنّ المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك ، هل ينتقم ويعاقب أم لا ؟ وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله : أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم ، حكاه القرطبي عن الضحاك . والخبر أيضاً محذوف تقديره : كغيره من المخلوقين . وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن قوله : وجعلوا معطوفاً على استهزىء ، أي : استهزؤوا وجعلوا ، ثم أمره تعالى أن يقول لهم : سمرهم أي : اذكروهم بأسمائهم ، والمعنى : أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى ، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصاً يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر . وقريب من هذا قول من قال في قوله : قل سموهم ، إنما يقال ذلك في الشيء السمتحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أنْ لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال له : سمه إن شئت أي : هو أخس من أن يذكر ويسمى . ولكن إن شئت أن تضع له اسماً فافعل ، فكأنه قال : سموهم بالآلهة على جهة التهديد . والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها . وقيل : سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة . وقيل : طالبوهم بالحجة على أنها آلهة . وقيل : صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية ؟ وقال الزمخشري : جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ، وبينوهم بأسمائهم . وقيل : هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر : سم الخمر بعد هذا . وأم في قوله : أم تنبؤونه منقطعة ، وهو استفهام توبيخ . قال الزمخشري : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم على أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : ) قُلْ كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( انتهى . فجعل الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائداً على الله . والعائد على بما محذوف أي : بما لا يعلمه الله . وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائد على ما ، وقررنا ذلك هناك ، وهو يتقرر هنا أيضاً . أي : أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة . وذكر نفي العلم في الأرض ، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام ، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه ، فانتفاؤه في السموات أحرى . وقرأ الحسن : تنبؤونه من أنبأ . وقيل : المراد تقدرون أنْ تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه ، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة ، لأنهم ادَّعوا أنَّ لله شريكاً في الأرض لا في غيرها . والظاهر في أم في قوله : أم ، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير ن يكون لذلك حقيقة أي : أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها ، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله : ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا ( وقال مجاهد : أم بظاهر من القول . وقال قتادة : بباطل من القول ، لا باطن له في الحقيقة . ومنه قول الشاعر : أعيرتنا ألبانها ولحومها
وذلك عار يابن ريطة ظاهر
أي باطل . وقيل : أم متصلة ، والتقدير : أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله : ) ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ ( ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه : بل زين للذين كفروا مكرهم . وقال الواحدي : لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال : دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به ، لأنه زيّن لهم مكرهم . وقرأ مجاهد : بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب . والجمهور : زين على النباء للمفعول مكرهم بالرفع أي : كيدهم للإسلام بشركهم ، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع . وقرأ الكوفيون :

" صفحة رقم 386 "
وصدّوا هنا ، وفي غافر بضم الصاد مبنياً للمفعول ، فالفعل متعد . وقرأ باقي السبعة : بفتحها ، فاحتمل التعدّي واللزوم أي : صدوا أنفسهم أو غيرهم . وقرأ ابن وثاب : وصدوا بكسر الصاد ، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء . وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر وصدوا بالكسر لغة ، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل ، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى . وقرأ ابن أبي إسحاق : وصد بالتنوين عطفاً على مكرهم . قال الزمخشري : ومن يضلل الله ، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي ، فما له من هاد فما له من واحد يقدر على هدايته انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم ، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار . وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس ، لأنه إحراق بالنار دائماً ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( ومن واق : من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم ، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال :
) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( : مثل الجنة أي : صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه ، والخبر محذوف أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة ، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل . تقول : مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى : ) وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( أي الصفة العليا ، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال : إنما معناه التنبيه . وقال الفراء : أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار ، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى . ولا يمكن حذف أنَّها ، وإنما فسر المعنى ولم يذكر الإعراب . وتأول قوم على القرآن مثل مقحم ، وأنّ التقدير : الجنة التي وعد المتقون تجري ، وإقحام الأسماء لا يجوز . وحكوا عن الفراء أنّ العرب تقحم كثيراً المثل والمثل ، وخرج على ذلك : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ( أي : كهو شيء . فقال غيرهما : الخبر تجري ، كما تقول : صفة زيد اسمر ، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً عن الصفة ، وإنما يتأول تجري على إسقاط أنْ ورفع الفعل ، والتقدير : أنْ تجري خبر ثان الأنهار . وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد انتهى . وقال أبو علي : لا يصح ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشبه ، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث ، والجنة جنة فلا تكون المماثلة . وقرأ علي وابن مسعود : مثال الجنة على الجمع أي : صفاتها . وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنة جمع ، ومعناه : صفات الجنة . وذلك لأنها صفات مختلفة ، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال . والأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه : أنه لا ينقطع أبداً ، كما قال تعالى : ) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( وقال إبراهيم التيمي : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع . وظلها أي : دائم البقاء والراحة ، لا تنسخه شمس ، ولا يميل لبرد كما في الدنيا . أي : تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا أي : اجتنبوا الشرك .
( وَالَّذِينَ اتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا ( : نزلت في مؤمني أهل الكتابين ، ذكره الماوردي ، واختاره الزمخشري فقال : من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون من نجران ، وثمانية من اليمنن ، وإثنان وثلاثون من الحبشة . ومن الأحزاب يعني : ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالعداوة نحو : كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما ، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ، ونعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مما حرفوه وبدلوه انتهى . وعن ابن عباس ، وابن زيد : في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ،

" صفحة رقم 387 "
وعن قتادة في أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مدحهم الله تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين . وعن مجاهد ، والحسن ، وقتادة : أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن ، إذ فيه تصديق كتبهم ، وثناء على أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام . وضعف هذا القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم ، فلا يعتد بفرحهم . وأيضاً فإنّ اليهود والنصارى ينكرون بعضه ، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب . والأحزاب قال مجاهد : هم اليهود ، والنصارى ، والمجوس . وقالت فرقة : هم أحزاب الجاهلية من العرب . وقال مقاتل : الأحزاب بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وآل أبي طلحة . ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك ، أمر بجواب المنكرين ، فقيل له : قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده ، وأنتم تدعون وجوب العبادة ونفي الشريك إليه ، أدعوا إلى شرعه ودينه ، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة . وقرأ أبو جليد عن نافع : ولا أشرك بالرفع على القطع أي : وأنا لا أشرك به . وجوز أن يكون حالاً أي : أنْ أعبد الله غير مشرك به . وكذلك أي : مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك ، لأن قوله : والذين آتيناهم الكتاب ، يتضمن إنزاله الكتاب ، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب ، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه : ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ ( وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم . وقال ابن عطية : وقوله وكذلك المعنى : كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكماً عربياً انتهى . وانتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه ، والضمير عائد على القرآن ، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني . ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها . ولئن اتبعت : الخطاب لغير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم . وقال الزمخشري : هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه . أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من شدة الشكيمة بمكان .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلّ ( : قال الكلبي : عيرت اليهود الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا : ما ترى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء ، فنزلت هذه الآية . قيل : وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ ، فرد الله تعالى عليهم بأنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية ، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ، ولا يأتون بما يقترح عليهم . ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد أي : يفرض عليهم ما يريده تعالى . وقوله : لكل أجل كتاب ، لفظ عام في الأشياء التي لها آجال ، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته ، وذلك الأجل مكتوب محصور . وقال الضحاك والفراء : المعنى لكل كتاب أجل ، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه ، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها ، لا أجل لها . والظاهر أنّ المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام ، والإثبات عبارة عن دوامها وتقريرها وبقائها أي : يمحو ما يشاء محوه ، ويثبت ما يشاء إثباته . وقيل : هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، ونسب هذا إلى : عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، والضحاك ، وابن جريج ، وكعب الأحبار ، والكلبي . وروي عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل في دعائهم ما معناه : أنْ يتأول على أن المعنى : إنْ كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة . ومعلوم أنّ الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لا يتغير شيء منها . وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال ، فإنه لا محو فيها . وقال الحسن وفرقة : هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر .

" صفحة رقم 388 "
وقيل : في ليلة نصف شعبان آجال الموتى ، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات . وقال قيس بن عباد : في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاء ويثبت . وقال ابن عباس : والضحاك : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ، ويثبت غيره . وقيل : يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم . وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي ، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها . وقال الزمخشري : يمحو الله ما يشاء ، ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت به له ما يرى المصلحة في اتباعه ، أو يتركه غير منسوخ ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى . وهو وقول : قتادة ، وابن جبير ، وابن زيد قالوا : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وقال مجاهد : يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة . وقال الكلبي : يمحو من الرزق ويزيد فيه . وقال ابن جبير أيضاً : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفر . وقال عكرمة : يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل الذنوب حسنات . قال تعالى : ) إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( وقيل : ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى . وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء أجله ، ويثبت من يأتي أجله . وقال السدي : يمحو الله يعني القمر ، ويثبت يعني الشمس بيانه ) فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ( الآية .
وقال ابن عباس : إنّ لله لوحاً محفوظاً وذكر وصفه في كتاب التحبير ، ثم قال : لله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة ، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء . وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه ، بيانه قوله تعالى : ) اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الآية . وقال علي بن أبي طالب : يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله : ) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ ( ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى : ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ ( فيمحو قرناً ويثبت قرناً . وقال ابن عباس : يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل ، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه . وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة . وفي الحديث عن أبي الدرداء : ( أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ) وقال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة ، فيحتمل التبديل وإحاطته الخلق بجميع علم الله تعالى ، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل انتهى . وقيل : غير ذلك مما يطول نقله . وقد استدلت الرافضة بقوله : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، على أنّ البدء جائز على الله تعالى ، وهو أنْ يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده ، وهذا باطل لأنّ علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة ، فليست نصاً فيما ادعوه ، ولو كانت نصاً وجب تأويله .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : ويثبت مخففاً من أثبت ، وباقي السبعة مثقلاً من ثبت . وأما قوله ( أم الكتاب ) فقال ابن عباس أم الكتاب الذكره وقال ايضا وهو كعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون . وقالت فرقة : الحلال والحرام ، وهو قول الحسن . وقال الزمخشري : أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه انتهى . وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب ، أمّا كقولهم : أم الرأس للدماغ ، وأم القرى مكة . وقال ابن عطية : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى ، أو تثبت . وقال نحوه قتادة : إنّ جواب الشرط الأول محذوف ، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد . وقال الزمخشري : وإما نرينك ، وكيفما دات الرحال أريناك مصارعهم ، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، أو نتوفينك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم انتهى . وقال الحوفي

" صفحة رقم 389 "
وغيره : فإنما عليك البلاغ جواب الشرط ، والذي تقدم شرطان ، لأنّ المعطوف على الشرط شرط . فأما كونه جواباً للشرط الأول فليس بظاهر ، لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ . وأما كونه جواباً للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك ، لأنه يصير التقدير : إنّ ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه السلام ، لأنّ التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو : أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه . وذلك أن يكون التقدير والله أعلم وأنّ ما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ، ودليل على صدقك ، إذا أخبرت بما يحل بهم . ولم يعين زمان حلوله بهم ، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك ، واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي : أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب ، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم ، فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم . إذ ذاك راجع إليّ ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك ، وكفرهم بما جئت به .
( أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وَيَقُولُ ( : الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا ، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ ، نبهوا على أنْ ينظروا بعض الأرض من أطرافها . ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله : ) فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ ( والأرض أرض الكفار المذكورين ، ويعني بنقصها من أطرافها للمسلمين : من جوانبها . كان المسلمون يغزون من حوالى أرض الكفار مما يلي المدينة ، ويغلبون على جوانب أرض مكة ، والأطراف : الجوانب . وقيل : الطرف من كل شيء خياره ، ومنه قول علي بن أبي طالب : العلوم أودية ، في أي واد أخذت منها خسرت ، فخذوا من كل شيء طرفاً يعني : خياراً قاله ابن عطية ، والذي يظهر أن معنى طرفاً جانباً وبعضاً ، كأنه أشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركاً في أطراف من العلوم ، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها ، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم واحد .
وقال ابن عباس والضحاك : نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك ، فتنقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم . وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة . وقيل : الأرض اسم جنس ، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وعنهما أيضاً : الانتقاص هو بموت البشر ، وهلاك الثمرات ، ونقص البركة . وعن ابن عباس أيضاً : موت أشرافها وكبرائها ، وذهاب الصلحاء والأخيار ، فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف . وقال ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم . وعن عطاء بنن أبي رباح : ذهاب فقهائها وخيار أهلها . وعن مجاهد : موت الفقهاء والعلماء . وقال عكرمة والشعبي : هو نقص الأنفس . وقيل : هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش ، وهلاك أرضهم بعدهم . والمناسب من هذه الأقوال هو الأول . ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال : نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم ، فينقص دار الحرب ، ويزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات الغلبة والنصرة . ونحوه : ) أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ ( والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ، ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره ، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر . ويتجه قول من قال : النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراباً بعد عماره ، وموتاً بعد حياة ، ذلا بعد عز ،

" صفحة رقم 390 "
ونقصاً بعد كمال ، وهذه تغييرات مدركة بالحس . فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين .
وقرأ الضحاك : ننقصها مثقلاً ، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب . قال لبيد :
طلب المعقب حقه المظلوم
والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس . وقيل : تتعقب أحكامه أي : ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا ، والجملة من قوله : لا معقب لحكمه في موضع الحال أي : نافذ حكمه ، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة . ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش ، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل ، مكر بابراهيم نمروذ ، وبموسى فرعون ، وبعيسى اليهود ، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله تعالى . ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم ، سماها مكراً إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله : ) اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( ثم فسر قوله فللَّه المكر ، بقوله : يعلم ما تكسب كل نفس ، والمعنى : يجازي كل نفس بما كسبت . ثم هدد الكافر بقوله : وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه ، فحينئذ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة .
وقرأ جناح بن حبيش : وسيعلم الكافر مبنياً للمعفول من أعلم أي : وسيخبر . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : الكافر على الإفراد والمراد به الجنس ، وباقي السبعة الكفار جمع تكسير ، وابن مسعود : الكافرون جمع سلامة وأبي الذين كفروا ، وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون . وقال ابن عباس : يريد بالكافر أبا جهل . وينبغي أن يحمل تفسيره عطاء على التمثيل ، لأنّ الإخبار بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار ، ولما قال الكفار : لست مرسلاً أي : إنما أنت مدع ما ليس لك ، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة الله تعالى بينهم ، إذ قد أظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ، ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب . والكتاب هنا القرآن ، والمعنى : إنّ من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك . وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والذي عنده علم الكتاب : من أسلم من علمائهم ، لأنهم يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم . قال قتادة ، كعبد الله بن سلام ، وتميم الداري ، وسلمان الفارسي . وقال مجاهد : يريد عبد الله بن سلام خاصة . وهذان القولان لا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية ، والجمهور على أنها مكية . وقال محمد بن الحنفية ، والباقر : هو علي بن أبي طالب . وقيل : جبريل ، والكتاب اللوح المحفوظ . وقيل : هو الله تعالى قاله : الحسن ، وابن

" صفحة رقم 391 "
جبير والزجاج ، وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله ، والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة ، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم . قال ابن عطية : ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ، وذلك لا يجوز ، وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى . وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف ، لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما ، وذو وذوات الطائيتين . وقوله : وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه ، بل له شرط وهو أن تختلف مدلولاتها . ويعني ابن عطية : لا تقول مررت بزيد . والعالم فتعطف ، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة ، وكذلك الله علم . ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفاً على الله قدر قوله : بالذي يستحق العبادة ، حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض ، لا من عطف الصفة على الاسم . ومن في قراءة الجمهور في موضع خفض عطفاً على لفظ الله ، أو في موضع رفع عطفاً على موضع الله ، إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر محذوف تقديره : أعدل وأمضى قولاً ونحو هذا مما يدل عليه لفظة شهيداً ، ويراد بذلك الله تعالى . وقرىء : وبمن بدخول الباء على من عطفاً على بالله . وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بن أبي إسحاق ، ومجاهد ، والحكم ، والأعمش : ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر ، وجر ما بعده به ، وارتفاع علم بالابتداء ، والجار والمجرو في موضع الجر . وقرأ علي أيضاً وابن السميقع ، والحسن بخلاف عنه . ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب ، بجعل علم فعلاً مبنياً للمفعول ، والكتاب رفع به . وقرىء ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشدداً مبنياً للمفعول ، والضمير في عنده في هذه القراآت الثلاث عائد على الله تعالى . وقال الزمخشري في القراءة التي وقع فيها عنده صلة برتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً ، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل على الفعل كقولك : مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم ، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين ، إما في الأصل ، وإما في الناسخ ، أو تقدمهما أداة نفي ، أو استفهام ، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو الأجود ، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ ، والظرف أو الجار والمجرور في مضوع رفع خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر ، وهذا مبني على اسم الفاعل . فكما جاز ذلك في اسم الفاعل ، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر ، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور . وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو : مررت برجل حسن وجهه ، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم ، وهكذا تلقفنا هذه المسألة عن الشيوخ . وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله في الظاهر ، وليس كذلك . وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبراً في صلة من . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون خبراً يعني عنده ، والمبتدأ علم الكتاب انتهى . ومن قرأ : ومن عنده ، على أنه حرف جر فالكتاب في قراءته هو القرآن ، والمعنى : أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب ، أو علم الكتاب على القراءتين ، أي : علمت معانيه وكونه أعظم المعجزات الباقي على مر الأعصار ، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه على كونه معجزاً ، وتوفيقه لإدراك ذلك .

" صفحة رقم 392 "
( سورة إبراهيم )
2 ( ) الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَىإِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِىأَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىأَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ) ) 2
) الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( : هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور ، وعن ابن عباس وقتادة ، هي مكية إلا من قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ( إلى قوله ) إِلَى النَّارِ ( وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جداً ، لأنه ذكر فيها : ) وَلَوْ أَنَّ قَرْناً ( ثم ) وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا ( ثم ) وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( فناسب هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك . وأيضاً فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( وقيل له : ) قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل : أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال ، إلى النور وهو الهدى .
وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، وكتاب الخبر ، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الر ، وفي موضع نصب على تقدير : الزم أو اقرأ الر . وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين ، وكتاب مبتدأ . وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي : كتاب أي : عظيم أنزلناه إليك . وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب ، وأنزلناه جملة في موضع الصفة . وفي قوله : أنزلناه . وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك ، وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام ، تنويه عظيم وتشريف له ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى ، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام ، إذ هو الداعي والمنذر ، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى . والناس عام ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم ، والظلمات والنور مستعاران للكفر والإيمان . ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله : لتخرج قال : بإذن ربهم ، أي : ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم ، إذ هم عبيده ، فناسب ذكر الرب هنا تنبيهاً على منة المالك ، وكونه ناظراً في حال عبيدة ، وبإذن ظاهره التعلق بقوله : لتخرج . وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضع الحال قال : أي مأذوناً لك . وقال الزمخشري : بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .

" صفحة رقم 393 "
والظاهر أن قوله : إن صراط ، بدل من قوله إلى النور ، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل ، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج . وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور ، فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وقرىء : ليخرج مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها ، والناس رفع به . ولما كان قوله : إلى النور ، فيه إبهام مّا أوضحه بقوله : إلى صراط . ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه . والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب ، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور ، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر . وتقدمت صفة العزيز ، لتقدم ما دل عليها ، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها . وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل : مبتدأ محذوف أي : هو الله . وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله ، وتفلته على التقدير الأول . وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع : الله بالجر على البدل في قول ابن عطية ، والحوفي ، وأبي البقاء . وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال : لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة ، كما غلب النجم على الثريا انتهى . وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير : أن يكون أصله الإله ، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة ، والتزم فيه النقل والحذف ، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء ، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان : أحدهما : أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان : أحدهما : إعرابه نعتاً مقدماً ، والثاني : أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً . والوجه الثاني : أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى . فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين ، ويعرب لفظ الله موصوفاً متأخراً . ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة ، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفاً قول الشاعر : والمؤمنم العائذات الطير يمسحها
ركبان مكة بين الغيل والسعد
فلو جاء على الكثير لكان التركيب : والمؤمن الطير العائذات ، وارتفع ويل على الابتداء ، وللكافرين خبره . لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها ، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل . ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف ، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر . ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة . قال : فإن قلت : ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل ؟ قلت : لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه ، ويقولوزن يا ويلاه كقوله : ) دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( انتهى . وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد ، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعاً بهم في الدنيا ، أو واقعاً بهم في الآخرة . والاستحباب الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر . ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب ، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى . وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد ، وأن يكون معطوفاً على الذم ، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون صفة للكافرين . ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، وهو لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله : من عذاب شديد ،

" صفحة رقم 394 "
سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل ، أم متعلقاً بفعل محذوف أي : يضجون ويولولون من عذاب شديد . ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدار لزيد الحسنة القرشي ، فهذا التركيب لا يجوز ، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار ، والتركيب الفصيح أن تقول : الدار الحسنة لزيد القرشي ، أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقرأ الحسن : ويصدون مضارع أصد ، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدوداً . وتقدم الكلام عل قوله تعالى : ) وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( في آل عمران ، وعلى وصف الضلال بالبعد قوله عز وجل :
) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( سبب نزولها أنّ قريشاً قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي ؟ فنزلت . وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه ، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . والظاهر أن قوله : وما أرسلنا من رسول ، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام . فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم ، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه ، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفاً على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها ، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها . وقيل : في الكلام حذف تقديره : وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه ، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك ، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم ، ومعنى بلسان قومه : بلغة قومه .
وقرأ أبو السمال ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران الجوني : بلسن بإسكان السين ، قالوا : هو كالريش والرياش . وقال صاحب اللوامح : واللسن خاص باللغة ، واللسان قد يقع على العضو ، وعلى الكلام . وقال ابن عطية مثل ذلك قال : اللسان في هذه الآية يراد به اللغة ، ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن . وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدري : لسن بضم اللام والسين ، وهو جمع لسان كعماد وعمد . وقرىء أيضاً بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل ، والضمير في قومه عائد على رسول أي : قوم ذلك الرسول . وقال الضحاك : والضمير في قومه عائد على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : والكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أداها كل نبي بلغة قومه . قال الزمخشري : وليس بصحيح ، لأنّ قوله : ليبين لهم ، ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدي إلى أنّ الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد انتهى . وقال الكلبي : جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية ، وأمره تعالى أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم . وأورد الزمخشري هنا سؤالاً وابن عطية أخرهما في كتابيهما ، ويقول : قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن بهم القدرة على المعارضة وإقرارهم بالعجز ، كما قامت بإذعان السحرة لموسى ، والأطباء لعيسى عليهما السلام . وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيين لهم ، ثم ذكر أنه تعالى يضل من يشاء إضلاله ، ويهدي من يشاء هدايته ، فليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين ، ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الواضع الأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته . وقال الزمخشري : والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف ، وبالهداية التوفيق واللطف ، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان ، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته ، الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى . وهو على طريقة

" صفحة رقم 395 "
الاعتزال والجمهور على تفسير قوله : بآياتنا ، إنها تسع الآيات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام . وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة ، والتقدير : كما أرسلناك يا محمد بالقرآن بلسان عربي وهو آياتنا ، كذلك أرسلنا موسى بالتوارة بلسان قومه ، وأن أخرج يحتمل أن أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية ، ويضعف زعم من زعم أنها زائدة . وفي قوله : قومك خصوص لرسالته إلى قومه ، بخلاف لتخرج الناس ، والظاهر أنّ قومه هم بنو إسرائيل . وقيل : القبط . فإن كانوا القبط فالظلمات هنا الكفر ، والنور الإيمان ، وإن كانوا بني إسرائيل وقلنا : إنهم كلهم كانوا مؤمنين ، فالظلمات ذل العبودية ، والنور العزة بالدين وظهور أمر الله . وإن كانوا أشياعاً متفرقين في الدين ، قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وقوم على غير شيء ، فالظلمات الكفر والنور الإيمان . قيل : وكان موسى مبعوثاً إلى القبط وبني إسرائيل . وقيل : إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله ، وأن لا يشرك به ، والإيمان بموسى ، وأنه نبي من عند الله ، وإلى بني إسرائيل بالتكليف وبفروع شريعته إذ كانوا مؤمنين . ويحتمل وذكرهم أن يكون أمراً مستأنفاً ، وأن يكون معطوفاً على أن أخرج ، فيكون في خبر وان . وأيام الله قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : نعم الله عليهم ، ورواه أبي مرفوعاً . ومنه قول الشاعر : وأيام لنا غرّ طوال
عصينا الملك فيها إن ندينا
وعن ابن عباس أيضاً ، ومقاتل ، وابن زيد : وقائعه ونقماته في الأمم الماضية ، ويقال : فلان عالم بأيام العرب أي وقائعها وحروبها وملاحمها : كيوم ذي قار ، ويوم الجار ، ويوم فضة وغيرها . وروي نحوه عن مالك قال : بلاؤه . وقال الشاعر :
وأيامنا مشهورة في عدوناا
أي وقائعنا . وعن ابن عباس أيضاً : نعماؤه وبلاؤه ، واختاره الطبري ، فنعماؤه : بتظليله عليهم الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وفلق البحر . وبلاؤه : باستعباد رعون لهم ، وتذبيح أبنائهم ، وإهلاك القرون قبلهم . وفي حديث أبيّ في قصة موسى والخضر عليهما السلام بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله ، وأيام الله بلاؤه ونعماؤه ، واختار الطبري هذا القول الآخر . ولفظة الأيام تعم المعنيين ، لأنّ التذكير يقع بالوجهين جميعاً . وفي هذه اللفظة تعظيم الكوائن المذكر بها . وغبر عنها بالظرف الذي وقعت فيه . وكثيراً ما يقع الإسناد إلى الظرف ، وفي الحقيقة الإسناد لغيرها كقوله : بل مكر الليل والنهار ، ومن ذلك قولهم : يوم عبوس ، ويوم عصيب ، ويوم بسام . والحقيقة وصف ما وقع فيه من شدّة أو سرور . والإشارة بقوله : إن يف ذلك ، إلى التذكير بأيام الله . وصبار ، شكور ، صفتا مبالغة ، وهما مشعرتان بأنّ أيام الله المراد بهما بلاؤه ونعماؤه أي : صبار على بلائه ، شكور لنعمائه . فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو بما أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر إذا أصابه بلاء ، من والشكر إذا أصابته نعماء ، وخص الصبار والشكر لأنهما هما اللذان ينتفعان بالتذكير والتنبيه ويتعظان به . وقيل : أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، لأنّ الصبر والشكر من سجايا أهل الإيمان .

" صفحة رقم 396 "
) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُون ( سقط : نساءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم ، وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم وإن كفرتم إن عذابي لشديد ، وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن معكم جميعا فإن الله غني حميد ) َ ( : لما تقدم أمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله ، ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون ، وفي ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقات الله . وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله : ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء ( وتفسير هذه الآية ، إلا أنَّ هنا : ويذبحون بالواو ، وفي البقرة بغير واو ، وفي الأعراف ) يَقْتُلُونَ ( فحيث لم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيراً لقوله : يسومونكم . وحيث أتى بها دلّ على المغايرة . وأنّ سوم سوء العذاب كان بالتذبيح وبغيره ، وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح ، ولغيره من أنواع القتل . وقرأ ابن محيصن : ويذبحون مضارع ذبح ثلاثياً ، وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلا أنه حذف الواو . وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف : ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ ( واحتمل إذ أن يكون منصوباً ب ( ذكروا ) ، وأن يكون معطوفاً على إذ أنجاكم ، لأنّ هذا الإعلام بالمزيد على الشكر من نعمه تعالى . والظاهر أنّ متعلق الشكر هو الإنهام أي : لئن شكرتم إنعامي ، وقاله الحسن والربيع . قال الحسن : لأزيدنكم من طاعتي . وقال الربيع : لأزيدنكم من فضلي . وقال ابن عباس : أي لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب . وكأنه راعى ظاهر المقابلة في قوله : ولئن كفرتم إن عذابي لشديد . وظاهر الكفر المراد به الشرك ، فلذلك فسر الشكر بالتوحيد والطاعة وغيره . قال : ولئن كفرتم ، أي نعمتي فلم تشكروها ، رتب العذاب الشديد على كفران نعمة الله تعالى ، ولم يبين محل الزيادة ، فاحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما ، وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى . وإذ ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال : لأزيدنكم ، فنسب الزيادة إليه وقال : إنّ عذابي لشديد ، ولم يأت التركيب لأعذبنكم ، وخرج في لأزيدنكم بالمفعول ، وهنا لم يذكر ، وإن كان المعنى عليه أي : إنّ عذابي لكم لشديد . وقرأ عبد الله : وإذ قال ربكم ، كأنه فسر قوله : تأذن ، لأنه بمعنى أذن أي : أعلم ، وأعلم يكون بالقول . ثم نبه موسى عليه السلام قومه على أنّ الباري تعالى ، وإن أوعد بالعذاب الشديد على الكفر ، فهو غير مفتقر إلى شكركم ، لأنه تعالى هو الغني عن شكركم ، الحميد المستوجب الحمد على ما أسبغ من نعمه ، وإن لم يحمده الحامدون ، فثمرة شكركم إنما هي عائدة إليكم . وأنتم خطاب لقومه وقال : ومن في الأرض يعني : الناس كلهم ، لأنّ من كان في العالم العلوي وهم الملائكة لا يدخلون في من في الأرض ، وجواب إنْ تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير : فإنما ضرر كفركم لاحق بكم ، والله تعالى متصف بالغني المطلق . والحمد سواء . كفروا أم شكروا ، وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم ، وتعظيم لله تعالى ، وكذلك في ذكر هاتين الصفتين .
( ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ ( سقط : فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ، قالت رسلهم أفي الله شك ) ( :

" صفحة رقم 397 "
( فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه . وقيل : ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة ، وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه ، وتقدم في الأعراف وهود ، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ . والظاهر أنّ والذين في موضع خفض عطفاً على ما قبله ، إما على الذين ، وإما على قوم نوح وعاد وثمود . قال الزمخشري : والجملة من قوله : لا يعلمهم إلا الله ، اعتراض والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى . وليست جملة اعتراض ، لأنّ جملة الاعتراض تكون بين جزءين ، يطلب أحدهما الآخر . وقال أبو البقاء : تكون هذه الجملة حالاً من الضمير في من بعدهم ، فإن عنى من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة ، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب ، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن . وقال أبو البقاء : أيضاً ويجوز أن يكون مستأنفاً ، وكذلك جاءتهم . وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء : أن يكون والذين مبتدأ ، وخبره لا يعلمهم إلا الله . وقال الزمخشري : والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضاً انتهى . وليست باعتراض ، لأنها لم تقع بين جزءين : أحدهما يطلب الآخر . والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلكم ، والجملة تفسيرية للنبأ . والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح ، وأنّ الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم الرسل . وقال ابن مسعود ، وابن زيد أي : جعلوا ، أي : أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل . وقال ابن زيد : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . والعض بسبب مشهور من البشر . وقال الشاعر : قد أفنى أنامله أزمة
وأضحى يعض على الوظيفا
وقال آخر : لو أن سلمى أبصرت تخددي
ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوّدي
عضت من الوجد بأطرا اليد
وقال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم . وقال أبو صالح : لما قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أنا رسول الله إليكم ، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أنْ اسكت تكذيباً له ، ورداً لقوله ، واستبشاعاً لما جاء به . وقيل : ردّوا أيديهم في أفواههم ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه . وقيل : أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : إنا كفرنا بما أرسلتم به أي : هذا جواب لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق . وقيل : الضميران عائدان على الرسل قاله : مقاتل ، قال : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم . وقال الحسن وغيره : جعلوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل ردًّا لقولهم ، وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم ، فعلى هذا الضمير في أيديهم عائد على الرسل . وقيل : المراد بالأيدي هنا النعم ، جمع يد المراد بها النعمة أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم ، وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في

" صفحة رقم 398 "
أفواههم ، ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل . وقيل : الضمير في أفواههم على هذا القول عائد على الكفار ، وفي بمعنى الباء أي : بأفواههم ، والمعنى : كذبوهم بأفواههم . وفي بمعنى الباء يقال : جلست في البيت ، وبالبيت . وقال الفراء : قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباء فتقول : أدخلك الله الجنة ، وفي الجنة . وأنشد : وارغب فيها من لقيط ورهطه
ولكني عن شنبس لست أرغب
يريد : أرغب بها . وقال أبو عبيدة : هذا ضرب مثل أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا . والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك : رد يده في فيه ، وقاله الأخفش أيضاً . وقال القتبي : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به انتهى . ومن سمع حجة على من لم يسمع هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا ذلك عن العرب ، فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل ، كان الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده فيه . وقد رد الطبري قول أبي عبيدة وقال : إنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، ولا يرد ما قاله الطبري ، لأنه يريد أبو عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات ، وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل . قال ابن عطية : ويحتمل أن يتجوز في لفظة الأيدي أي : أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوا بأفواههم من التكذيب ، فكان المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي : في أقوالهم ، وغبر عن جميع المدافعة بالأيدي ، إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى . بادروا أولاً إلى الكفر وهو التكذيب المحض ، ثم أخبروا بأنهم في شك وهو التردد ، كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد ، أو هما قولان من طائفتين : طائفة بادرت بالتكذيب والكفر ، وطائفة شكت ، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر . وقرأ طلحة : مما تدعونا بإدغام نون الرفع في الضمير ، كما تدغم في نون الوقاية في مثل : أتحاجوني والمعنى : مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله . ومريب صفة توكيدية ، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ ، لأنّ الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه . وقدر مضاف فقيل : أفي إلاهية الله . وقيل : أفي وحدانيته ، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أنْ لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشىء العالم وموجده ، فقال : فاطر السموات والأرض . وفاطر صفة لله ، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ ، فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة ، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد . وقرأ زيد بن علي : فاطر نصباً على المدح ، ولما ذكر أنه موجد العالم ، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال : يدعوكم ليغفر لكم أي : يدعوكم إلى الإيمان كما قال : إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة ، نحو : دعوته لينصرني . وقال الشاعر : دعوت لما نابني مسورا
فلبى فلبى يدي مسور

" صفحة رقم 399 "
ومن ذنوبكم ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي : ليغفر لكم ذنوبكم . وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب ، ولا إذا جرت المعرفة ، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم . وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أنّ الإسلام يجب ما قبله ، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتاً عنه ، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم ، لا بغفران ما يستأنف . وقال الزمخشري ما معناه : إنّ الاستقراء في الكافرين أنْ يأتي من ذنوبكم ، وفي المؤمنين ذنوبكم ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولأن لا يسوي بين الفريقين انتهى . ويقال : ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك ، إذ الكافر إذا آمن ، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخليت فيه مغفرة بعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب . وقال أبو عبد الله الرازي : أما قول صاحب الكساف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر ، فهو من باب الطامات ، لأنّ هذا التبعيض إنْ حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإنْ لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً . وقال : إلى أجل مسمى ، إلى وقت قد بيناه ، أو بينا مقداره إنْ آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى . وهذا بناء على القول بالأجلين ، وهو مذهب المعتزلة . وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله : ) وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ( وقيل هنا : ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت فلا يعاجلكم بالعذاب ، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوة دوننا ؟ قال الزمخشري : ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى . وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم . وقال ابن عطية : في قولهم استبعاد بعثة البشر . وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة ، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس . فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز أي : بعثتكم محال ، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي : إنكم لا تفعلون ذلك أبداً ، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة انتهى . والذي يظهر أنّ طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح ، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر ، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال . ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا : تريدون أنْ تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي : ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعاً ، وننترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا . وقرأ طلحة : أن تصدونا بتشديد النون ، جعل إن هي المخففة من الثقيلة ، وقدر فصلاً بينها وبين الفعل ، وكان الأصل أنه تصدوننا ، فأدغم نون الرفع في الضمير ، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع ، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها ، كما ألغاها من قرأ ) لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( برفع يتم حملاً على ما المصدرية أختها .
2 ( ) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ

" صفحة رقم 400 "
أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاٌّ رْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( )
) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا ( :
إبراهيم : ( 11 ) قالت لهم رسلهم . . . . .
سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها ، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها . فلم يكونوا مثلهم ، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعاً منهم ، ونسبة ذلك إلى الله . ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم ، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده . والمعنى : يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته . ومعنى بإذن الله : بتسويغه وإرادته ، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها ، ولا هي في استطاعتنا ، ولذلك كان التركيب : وما كان لنا ، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة . فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أنْ لا نتوكل على الله وقد هدانا ، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين . والأمر الأول وهو قوله : فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل ، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكلهم . ولنصبرن جواب قسم ، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى . وما مصدرية ، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي . والضمير محذوف أي : ما آذيتموناه وكان أصله به ، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمي قولان ؟ وقرأ الحسن : بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل ، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم ، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا : ليكونن أحد هذين . وتقدير أو هنا بمعنى حتى ، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في ما بعدها ، لأنه لا يصح تركيب حتى ، ولا تركيب إلا أن مع قوله : لتعودن بخلاف لألزمنك ، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة . أو يكون خطاباً للرسل ومن آمنوا بهم . وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم ، فيصح إبقاء لتعودن على المفهوم منها أولاً إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم ، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط . أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم ، وكونهم إغفالاً عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل .
وقرأ أبو حيوة : ليهلكن الظالمين وليسكننكم ، بياء الغيبة اعتباراً بقوله : فأوحى إليهم ربهم ، إذ لفظه لفظ الغائب . وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفاً لهم بالخطاب ، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله : فأوحى إليهم ربهم . ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم ، أقسم تعالى على إهلاكهم . وأي إخراج أعظم من الإهلاك ، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً ، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل . قال ابن عطية : وخص الظالمين من الذين كفروا ، إذ جائز أنْ يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس ، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم . وقال غيره : أراد بالظالمين المشركين ، قال تعالى : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله

" صفحة رقم 401 "
تعالى : ) وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ). ومقام يحتمل المصدر والمكان . فقال الفراء : مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي : قيامي عليه بالحفظ لأعماله ، ومراقبتي إياه لقوله : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ). وقال الزجاج : مكان وقوفه بين يدي للحساب ، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى : ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( وعلى إقحام المقام أي لمن خافني . والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء : أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله : ) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ( ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة ، أي : استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم . واستنصار الرسل في القرآن كثير كقول نوح : ) فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِى ( وقول لوط : ) رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ ( وقول شعيب : ) رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( وقول موسى : ) رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ ( الآية . وقول ابن زيد : الضمير عائد على الكفار أي : واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش : ) عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( وقول أبي جهل : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة . وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح : ) فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( وقوم شعيب : ) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً ( وعاد : ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( وبعض قريش : ) فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ). وقيل : الضمير عائد على الفريقين : الأنبياء ، ومكذبيهم ، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل . ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن : واستفتحوا بكسر التاء ، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم : ليهلكن ، وقال لهم : استفتحوا أي : اطلبوا النصر وسلوه من ربكم . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا ، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيّب رجاء كل جبار عنيد ، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار . واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى . وخاب معطوف على محذوف تقديره : فنصروا وظفروا . وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل ، وتقدم شرح جبار . والعنيد : المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائداً على الكفار ، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا . ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي : من بعده . وقال الشاعر : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مهرب
وقال أبو عبيدة أيضاً ، وقطرب ، والطبري ، وجماعة : ومن ورائه أي ومن أمامه ، وهو معنى قول الزمخشري : من بين يديه . وأنشد : عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراء فرج قريب

" صفحة رقم 402 "
وهذا وصف حاله في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها ، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف . وقال الشاعر : أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
وقوم تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر : أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصا نحني عليها الأصابع
ووراء من الأضداد قاله : أبو عبيدة والأزهري . وقيل : ليس من الأضداد . وقال ثعلب : اسم لما توارى عنك ، سواء كان أمامك أم خلفك . وقيل : بمعنى من خلفه أي : في طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي : سوف يأتيك . ويسقى معطوف على محذوف تقديره : يلقى فيها ويسقى ، أو معطوف على العامل في من ورائه ، وهو واقع موقع الصفة . وارتفاع جهنم على الفاعلية ، والظاهر إرادة حقيقة الماء . وصديد قال ابن عطية : هو نعت لماء ، كما تقول : هذا خاتم حديد وليس بماء ، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء . وقيل : هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول : مررت برجل أسد التقدير : مثل صديد . فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة ، وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه بالصديد . وقال الزمخشري : صديد عطف بيان لماء قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاماً ، ثم بينه بقوله : صديد انتهى . والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات ، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي ، فأعرب ) زَيْتُونَةٍ ( عطف بيان ) لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ( فعلى رأي لبصريين لا يجوز أن يكون قوله : صديد ، عطف بيان . وقال الحوفي : صديد نعت لماء . وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : هو ما يسيل من أجساد أهل النار . وقال محمد بن كعب والربيع : هو غسالة أهل النار في النار . وقيل : هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني . وقيل : صديد بمعنى مصدود عنه أي : لكراهته يصد عنه ، فيكون مأخوذاً عنه من الصد . وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله : ) وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ( قال : ( يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه ، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره ) يتجرعه يتكلف جرعه . ولا يكاد يسيغه أي : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة . والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه ، وإذا انتفت انتفت الإساغة ، فيكون كقوله : ) لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟ والحديث : ( جاءنا ثم يشربه ) فإن صح الحديث كان المعنى : ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه ، كما جاء ) فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح . وتجرع تفعل ، ويحتمل هنا وجوهاً أن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك : علمته فتعلم . وأنْ يكون للتكلف نحو : تحلم ، وأن يكون لمواصلة

" صفحة رقم 403 "
العمل في مهلة نحو : تفهم أي يأخذه شيئاً فشيئاً . وأن يكون موافقاً للمجرد أي : تجرعه كما تقول : عدا الشيء وتعدّاه . ويتجرعه صفة لما قبله ، أو حال من ضمي ويسقى ، أو استئناف . ويأتيه الموت أي : أسبابه . والظاهر أنّ قوله : من كل مكان معناه من الجهات الست ، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام . وقال إبراهيم التيمي : من كل مكان من جسده ، حتى من أطراف شعره . وقيل : حتى من إبهام رجليه ، والظاهر أنّ هذا في الآخرة . وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا ، سماها موتاً وهذا بعيد ، لأنّ سياق الكلام بدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم . وقوله : وما هو بميت لتطاول شدائد الموت ، وامتداد سكراته . ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم . وقال الزمخشري : ومن ورائه ومن بين يديه عذاب غليظ أي : في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى . وقيل : الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار .
2 ( ) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الاٌّ مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ تُؤْتِىأُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاٌّ رْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ) ) 2
إبراهيم : ( 18 ) مثل الذين كفروا . . . . .
الرماد معروف ، وقال ابن عيسى : هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ، ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة ، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا : أرمداء ، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون . الجزع : عدم احتمال

" صفحة رقم 404 "
الشدة ، وهو نقيض الصبر . قال الشاعر : جزعت ولم أجزع من البين مجزعا
وعذبت قلباً بالكواعب مولعا
المصرخ : المغيث . قال الشاعر : فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
وليس لكم عني غناء ولا نصر
والصارخ المستغيث ، صرخ يصرخ صرخاً وصراخاً وصرخة . قال سلامة بن جندل : كنا إذا ما أتانا صارخ فزع
كان الصراخ له قرع الظنابيب
واصطرخ بمعى صرخ ، وتصرخ تكلف الصراخ ، واستصرخ استغاث فقال : استصرخني فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ ويوصف به المغيث والمستغيث من الأضداد . الفرع الغصن من الشجرة . ويطلق على ما يولد من الشيء ، والفرع الشعر يقال : رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره . وقال الشاعر : وهو امرؤ القيس بن حجر :
وفرع يغشى المتن أسواد فاحم
اجتث الشيء اقتلعه ، وجث الشيء قلعه ، والجثة شخص الإنسان قاعداً وقائماً . وقال لقيط الأياري :
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم
فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا
البوار : الهلاك . قال الشاعر :
فلم أر مثلهم أبطال حرب
غداة الحرب إذ خيف البوار
) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْء ذالِكَ ( : ارتفاع مثل على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه . فيما على عليكم ، أو يقص . والمثل

" صفحة رقم 405 "
مستعار للصفة التي فيها غرابة ، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل : كيف مثلهم ؟ فقيل : أعمالهم كرماد ، كما تقول : صفة زيد عرضه مصون ، وماله مبذول . وقال ابن عطية : ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل ، وأنّ المعنى : الذين كفروا أعمالهم كرماد . وقال الحوفي : مثل رفع بالابتداء ، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال . كما قال الشاعر : ما للجمال مشيها وئيدا
أجند لا يحملن أم حديدا
وكرماد الخبر . وقال الزمخشري : أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل الذين كفروا على تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد الخبر . وقال ابن عطية : وقيل هو ابتداء ، وأعمالهم ابتداء ثان ، وكرماد خبر للثاني ، والجملة خبر الأول . وهذا عندي أرجح الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقت الحاجة ، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر ، ولا يجتمع منه شيء انتهى . وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي ، وهو لا يجوز ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل ، وليست نفس المبتدأ في المعنى ، فلا تحتاج إلى رابط . وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام ، وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجارة ، وغير ذلك . شبهها في حبوطها وذهابها هباءاً منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف . وقرأ نافع ، وأبو جعفر : الرياح على الجمع ، والجمهور على الأفراد . ووصف اليوم بقوم عاصف ، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز ، كما قالوا : يوم ما حل وكيل نائم . وقال الهروي : التقدير في يوم عاصف الريح ، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر :
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف
يريد كاسف الشمس . وقيل : عاصف من صفة الريح ، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل : جحر ضب خرب ، يعني : إنه خفض على الجوار . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن : في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف ، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، تقديره : في يوم ريح عاصف . وتقدم تفسير العصوف في يونس في قوله : ) جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ( وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكون القراءة منه : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء ، أي : لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء . وقيل : لا يقدرون من ثواب ما كسبوا ، هو على حذف مضاف . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعه ؟ قال : ( لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) وفي الصحيح أيضاً : ( إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها ) ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال . وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه صاحبه ، وأبعد عن طريق النجاة ، والبعيد عن الحق ، أو الثواب . وفي البقرة : ) لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ ( على شيء من التفنن في الفصاحة ، والمغايرة في التقديم والتأخير ، والمعنى واحد .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ

" صفحة رقم 406 "
أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْء قَالُواْ ( سقط : لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبر نا ما لنا من محيص ( : قرأ السلمي ألم تر بسكون الراء ، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف . وتوجيه آخر وهو أنْ ترى حذفت العرب ألفها في قولهم : قام القوم ولو تر ما زيد ، كما حذفت ياء لا أبالي في لا أبال ، فلما دخل الجازم تخيل أنّ الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في : لا أبالي لم أبل ، تخيلوا اللام آخر الكلمة . والرؤية هنا بمعنى العلم ، فهي من رؤية القلب . وقرأ الإخوان : خالق اسم فاعل ، والأرض بالخفض . قرأ باقي السبعة : خلق فعلاً ماضياً ، والأرض بالفتح . ومعنى بالحق قال الزمخشري : بالحكمة ، والغرض الصحيح ، والأمر العظيم ، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة . وقال ابن عطية : بالحق أي بما يحق من جهة مصالح عباده ، وإنفاذ سابق قضائه ، وليدل عليه وعلى قدرته . وقيل : بقوله وكلامه . وقيل : بالحق حال أي محقاً ، والظاهر أن قوله : يذهبكم ، خطاب عام للناس . وعن ابن عباس : خطاب للكفار . ويأت بخلق جديد : يحتمل أن يكون المعنى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين ، ويحتمل من غير جنسكم . والأول قول جمهور المفسرين ، وتقدم نحو هذين الاحتمالين للمفسرين في قوله في النساء : ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ ( وبينا في ذلك أنه لا يحتمل إلا الوجه الأول . وما ذلك أي : وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر عليه تعالى ، لأنه تعالى هو القادر على ما يشاء . وقال الزمخشري : لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فإذا خلص له الداعي إلى شيء ، وانتفى الصارف ، تكون من غير توقف كتحريك أصبعك . وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال لقوله : القادر ، لأنهم يثبتون القادرية وينفون القدرة ، ولتشبيه فعله تعالى بفعل العبد في قوله : كتحريك أصبعك . وعندنا أن تحريك أصبعنا ليس إلا بقدرة الله تعالى ، وأنّ ما نسب إلينا من القدرة ليس مؤثراً في إيجاد شيء .
وقال الزمخشري أيضاً : وهذه الآية بيان لإبعادهم في الضلال ، وعظيم خطبهم في الكفر بالله ، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة ، وحكمته البالغة ، وأنه هو الحقيق بأن يعبد ويخاف عقابه ، ويرجى ثوابه في دار الجزاء انتهى . وبرزوا : أي ظهروا من قبورهم إلى جزاء الله وحسابه . وقال الزمخشري : ومعنى بروزهم الله ، والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم ، وعلماء أن الله لا تخفى عليه خافية . وقال ابن عطية : وبرزوا معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة ، فاستعير ذلك لجميع يوم القيامة . وقال أبو عبد الله الرازي : تأويل الحكماء أنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها ، وذلك هو البروز لله تعالى . وهذا الرجل كثيراً ما يورد كلام الفلاسفة وهم مباينون لأهل الشرائع في تفسير كلام الله تعالى المنزل بلغة العرب ، والعرب لا تفهم شيئاً من مفاهيم أهل الفلسفة ، فتفسيرهم كاللغز والإحاجي ، ويسميهم هذا الرجل حكماء ، وهم من أجهل الكفرة بالله تعالى وبأنبيائه . والضمير في وبرزوا عائد على الخلق المحاسبين ، وعبر بلفظ الماضي لصدق المخبر به ، فكأنه قد وقع . وقرأ زيد بن علي : وبرزوا مبنياً للمفعول ، وبتشديد الراء . والضعفاء : الأتباع ، والعوام . وكتب بواو في المصحف قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ، ومثله علموا بني إسرائيل . والذين استكبروا : هم رؤساؤهم وقاداتهم ، استغفروا الضعفاء واستتبعوهم . واستكبروا وتكبروا ، وأظهروا تعظيم أنفسهم . أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله . وتبعاً : يحتمل أن يكون اسم جمع لتابع ، كخادم وخدم ، وغائب وغيب . ويحتمل أن يكون مصدراً كقوله : عدل ورضا . وهل أنتم مغنون ؟ استفهام معناه توبيخهم إياهم وتقريعهم ، وقد علموا أنهم لن يغنوا والمعنى :

" صفحة رقم 407 "
إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئاً ، فلذلك جاء جوابهم : لو هدانا الله لهديناكم ، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية لله تعالى ، وهو كلام حق في نفسه . وقال الزمخشري : من الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله ؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء ، هو بعض عذاب الله أي : بعض بعض عذاب الله انتهى . وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله : من شيء على قوله : من عذاب الله ، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله : من عذاب الله . ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه ، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني ، وهو بعض شيء ، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلاً ، فيكون بدل عام من خاص ، لأنّ من شيء أعم من قوله : من عذاب الله ، وإن عنى بشيء شيئاً من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر ، وهو بعض بعض عذاب الله . وهذا لا يقال ، لأنّ بعضية الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض . ونص الحوفي ، وأبو البقاء : على أنّ مِن في قوله : من شيء ، زائدة . قال الحوفي : من عذاب الله متعلق بمغنون ، ومن في من شيء لاستغراق الجنس ، زائدة للتوكيد . وقال أبو البقاء : ومِن زائدة أي : شيئاً كائناً من عذاب الله ، ويكون محمولاً على المعنى تقديره : هل تمنعون عنا شيئاً ؟ ويجوز أن يكون شيء واقعاً موقع المصدر أي : غنى فيكون من عذاب الله متعلقاً بمغنون انتهى . ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام ، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره ، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب : فهل تغنون . وقال الزمخشري : أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأنّ الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ، ولم يضلوهم إما مدركين الذنب في ضلالهم ، وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم . وقالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا ، ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء ( انتهى . وحكى أبو عبد الله الرازي عن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء . قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنّ المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه ، لا يقبل منه . وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا . واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . قال أبو عبد الله الرازي : وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأنْ قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف ، لأن ذلك قد فعله الله . وقيل : لو خلصنا الله من العذاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم . وقال الزمخشري في بسط هذا القول : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة انتهى . وقيل : ويدل على أنّ المراد بالهدى الهدى إلى طريق الجنة ، أنه هو الذي التمسوه وطلبوه ، فوجب أن يكون المراد . وقال ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم . والظاهر أنّ قوله : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره ، داخل تحت قول المستكبرين ، وجاء تجمله بلا واو عطف ، كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة ، وإن كانت مرتبطاً بعضها ببعض من جهة المعنى لأنّ سؤالهم : هل أنتم مغنون عنا ؟ إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك : سوّوا بينهم ، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر . ولما قالوا : لو هدانا الله ، أتبعوا ذلك بالإقناط من النجاة فقالوا : ما لنا من محيص : أي منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا . وقيل : سواء علينا من كلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير : قالوا جميعاً سواء علينا يخبرون عن حالهم . وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أول البقرة ، والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله . وعن محمد بن كعب ،

" صفحة رقم 408 "
وابن زيد : أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام ، وبعد جزعهم مثلها .
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الاْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة ، ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس ، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال . والشيطان هنا إبليس ، وهو رأس الشياطين . وفي حديث الشفاعة من حديث عقبة بن عامر : ( أن الكافرين يقولون : وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ، فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنّك أضللتنا ، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ويقول عند ذلك : إن الله قد وعدكم ) الآية وعن الحسن : يقف إبليس خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً فيقول : إنّ الله وعدكم وعد الحق ، يعني : البعث ، والجنة ، والنار ، وثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، فصدقكم وعده ، ووعدتكم أنْ لا بعث ولا جنة ولا نار ، ولا ثواب ولا عقاب ، فأخلفتكم . قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار ، وذلك كله في الموقف ، وعليه يدل حديث الشفاعة أو بعد حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن ، وهو تأويل الطبري . وقيل : قضي الأمر قطع وفرع منه ، وهو الحساب ، وتصادر الفريقين إلى مقربهما . ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي : الوعد الحق ، وأن يكون الحق صفة الله أي : وعده ، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث والجزاء على الأعمال أي : فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم ، وإلا أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع ، لأنّ دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان ، وهو الحجة البينة . قيل : ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة والتسليط والقدرة أي : ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة ، بل عرضت عليكم شيئاً فأتى رأيكم عليه . وقيل : هو استثناء متصل ، لأنّ القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل ، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسليط . وقيل : وظاهر هذا الكلام يدل على أنّ الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه ، وإزالة عقله ، فلا تلوموني . وقرىء : فلا يلوموني بالياء على الغيبة ، وهو التفات يريد في ما آتيتموه من الضلال ، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة . وقال الزمخشري : ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم ، وأطعتموني إذ دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم ، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها لنفسه ، وليس من الله إلا التمكين ، ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم ، فإنّ الله قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه انتهى . وهو على طريق الاعتزال .
ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس : بنافعكم . وقال ابن جبير : بمنقذكم ، وقال الربيع : بمنجيكم ، وقال مجاهد : بمغيثكم ، وكلها أقوال متقاربة . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، وحمزة : بمصرخي بكسر اللياء ، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة . قال الفراء : لعلها من وهم القراء ، فإنه قل من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنّ الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله ، والباء للمتكلم خارجة من ذلك . وقال أبو عبيد : نراهم غلطوا ، ظنوا أنّ الباء تكسر لما بعدها . وقال الأخفش : ما سمعت هذا من أحد من العرب ، ولا من النحويين . وقال الزجاج : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف . وقال النحاس : صار هذا إجماعاً ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ . وقال الزمخشري : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول :

" صفحة رقم 409 "
قال لها هل لك يا تافي
قالت له ما أنت بالمرضي
وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عصاي فما بالها ، وقبلها باء . ( فإن قلت ) : جرت الياء الأولى مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام ، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن ، فحركت بالكسر على الأصل . ( قلت ) : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى . أما قوله : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلى ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم ، يقول القائل : ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء . وأما التقدير الذي قال : فهو توجيه الفراء ، ذكره عنه الزجاج . وأما قوله ، في غضون كلامه حيث قبلها ألف ، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو : قعد زيد حيث أمام عمر وبكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع . وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روى سكون الياء بعد الألف . وقرأ بذلك القراء نحو : محياي ، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتت إليه . واقتفى آثارهم فيها الخلاف ، فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ ، أو قبيحة ، أو رديئة ، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة ، لكنه قلَّ استعمالها . ونص قطرب على أنها لغة في بني يرفوع . وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويين الكوفيين : هي صواب ، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو فقال : هي جائزة . وقال أيضاً : لا تبالي إلى أسفل حركتها ، أو إلى فوق . وعنه أنه قال : هي بالخفض حسنة . وعنه أيضاً أنه قال : هي جائزة . وليست عند الإعراب بذلك ، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها ، فأبو عمرو إمام لغة ، وإمام نحو ، وإمام قراءة ، وعربي صريح ، وقد أجازها وحسنها ، وقد رووا بيت النابغة :
( عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب
بفخض الياء من عليّ . وما في بما أشركتموني مصدرية ، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله : ) أَنَاْ بَرَاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ( وقال : ويوم القيامة يكفرون بشرككم . وقيل : موصولة بمعنى الذي ، والتقدير : كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه ، فحذف العائد . وقيل : من قبل متعلق بكفرت ، وما بمعنى الذي أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل . تقول : شركت زيداً ، فإذا أدخلت همزة النقل قلت : أشركت زيداً عمراً ، أي جعلته له شريكاً . إلا أن في هذا القول إطلاق ما على الله تعالى ، وما الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم . وقال الزمخشري : ونحو ما هذه يعني في إطلاقها على الله ما في قولهم : سبحان ما سخركن لنا انتهى . ومن منع ذلك جعل سبحان علماً على معنى التسبيح ، كما جعل برة علماً للمبرة . وما مصدرية ظرفية ، ويكون ذلك من إبليس إقراراً على نفسه بكفره الأقدم أي : خطيئتي قبل خطيئتكم . فلا إصراخ عندي أنّ الظالمين لهم عذاب أليم ، الظاهر أنه من تمام كلام إبليس ، حكى الله عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيهاً للسامعين علي النظر في عاقبتهم ، والاستعداد لما لا بد منه . وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول ، يخافوا ، ويعملوا ما يخلصهم منه ، وينجيهم . وقيل :

" صفحة رقم 410 "
هو من كلام الخزنة يوم ذاك . وقيل : من كلام الله تعالى . ولأبي عبد الله الرازي كلام هنا في الشيطان والملائكة يوقف عليه من تفسيره .
( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ( : لما جمع الفريقين في قوله : ) وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا ( وذكر شيئاً من أحوال الكفار ، ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة . وقرأ الجمهور : وأدخل ماضينا مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد : وأدخل بهمزة المتكلم مضارع أدخل أي : وأدخل أنا . وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل الملائكة ، والظاهر تعلق بإذن ربهم بأدخل . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى ، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم ؟ ( قلت ) : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي : تحيتهم فيها سلام . بإذن ربهم يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى . فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله : تحيتهم ، ولذلك قال : يعني أنّ الملائكة يحيونهم بإذن ربهم ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل عليه ، وهو غير جائز . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي الحسن : أدخل برفع اللام على الاستقبال بإخبار الله تعالى عن نفسه ، فيصير بذلك بإذن ربهم ألطف لهم وأحنى عليهم ، وتقدم تفسير ) تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ( في أوائل سورة يونس .
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء ( : تقدم الكلام في ضرب مع المثل في أوائل البقرة ، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا ، إلا أنّ المفسرين أبدوا هنا تقديرات ، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلاً مفعولا بضرب ، وكلمة بدل من مثلا . وإعرابهم هذا تريع ، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد . وقال ابن عطية : وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب ، وكلمة مفعول أول تفريعاً على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين ، لأنها بمعنى جعل . وعلى هذا تكون كشجرة خبر مبتدأ محذوف أي : جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي : الكلمة كشجرة طيبة ، وعلى البدل تكون كشجرة نعتاً للكلمة . وأجاز الزمخشري : وبدأ به أنْ تكون كلمة نصباً بمضمر أي : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله : ضرب الله مثلاً ، كقولك : شرف الأمير زيداً كساه حلة ، وحمله على رس انتهى . وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه .
وقرىء شاذاً كلمة طيبة بالرفع . قال أبو البقاء : على الابتداء ، وكشجرة خبره انتهى . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير : هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة ، وكشجرة نعت لكمة ، والكلمة الطيبة هي : لا له إلا الله قاله ان عباس ، أو الإيمان قاله مجاهد وابن جريج ، أو المؤمن نففسع قاله عطية العوفي والربيع ، أو جميع طاعاته أو القرآن قاله الأصم ، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر ، أو الثناء على الله أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قاله ابن عباس ، أو جوزة الهند قاله على وابن عباس ، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضاً ، أو النخلة وعليه أكثر المتأولين وهو قول : ابن مسعود ، وابن عباس ، وأنس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن زيد ، وجاء ذلك نصاً من حديث ابن عمر مما خرجه الدارقطني عنه قال : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وذكر الآية فقال : ( أتدرون ما هي فوقع في نفسي أنها النخلة ) الحديث . وقال أبو العالية : أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب فقال أنس : كل يا أبا العالية ، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم قال : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بصاع بسر فتلا هذه الآية . وفي الترمذي من حديث أنس نحو هذا . وقال

" صفحة رقم 411 "
الزمخشري : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة ، وشجرة التين ، والعنب ، والرمان ، وغير ذلك انتهى .
وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ، فلا يبعد أن يشبه أيضاً بشجرتها . أصلها ثابت أي : في الأرض ضارب بعروقه فيها . وقرأ نس بن مالك : كشجرة طيبة ثابت أصلها ، أجريت الصفة على الشجرة لفظاً وإن كانت في الحقيقة للسبي . وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السبي لفظاً ومعنى ، وفيها حسن التقسيم ، إذ جاء أصلها ثابت وفرعها في السماء ، يريد بالفرع أعلاها ورأسها ، وإن كان المشبه به ذا فروع ، فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس . ومعنى في السماء : جهة العلو والصعود لا المظلة . وفي الحديث : ( خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً ) ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان ، وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى : ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها ، ووصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف : الأول قوله : طيبة ، أي كريمة المنبت ، والأصل في الشجرة له لذة في المطعم . قال الشاعر : طيب الباءة سهل ولهم
سبل إن شئت في وحش وعر
أي ساحتهم سهلة طيبة . الثاني : رسوخ أصلها ، وذلك يدل على تمكنها ، وأنّ الرياح لا تقصفها ، فهي بطيئة الفناء ، وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه . والثالث : علو فرعها ، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها ، وعلى بعدها عن عفونات الأرض ، وعلى صفائها من الشوائب . الرابع : ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات . والحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر : تناذرها الراقون من سوء سمها
تطلقه حيناً وحيناً تراجع
والمعنى : تعطي جناها كل وقت وقته الله له . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، أي كل سنة ، ولذلك قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحكم ، وحماد ، وجماعة من الفقهاء : من حلف أنْ لا يفعل شيئاً حيناً فإنه لا يفعله سنة ، واستشهدوا بهذه الآية . وقيل : ثمانية أشهر قاله علي ومجاهد ، ستة أشهر وهي مدة بقاء الثمر عليها .
وقال ابن المسيب : الحين شهران ، لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين . وقيل : لا تتعطل من ثمر تحمل في كل شهر ، وهي شجرة جوز الهند . وقال ابن عباس أيضاً والشحاك ، والربيع : كل حين أي كل غدوة وعشية ، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في الجنة . والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهم والتصور للمعاني المدركة بالعقل ، فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم ، وانطبق المعقول على المحسوس ، فحصل الفهم والوصول إلى المطلوب . والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على قول الجمهور . وقال مسروق : الكذب ، وقال : إن تجر دعوة الكفر وما يعزى إليه الكافر . وقيل : كل كلام لا يرضاه الله تعالى . وقرأ أبي : وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة ، وقرىء : ومثل كلمة بنصب مثل عطفاً على كلمة طيبة . والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل قاله الأكثرون : ابن عباس ، ومجاهد ، وأنس بن مالك ، ورواه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الزجاج وفرقة : شجرة الثوم . وقيل : شجرة الكشوت ، وهي شجرة لا ورق لها ولا أصل قال : وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر . وقال ابن عطية : ويرد على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر ، والله تعالى إنما مثل بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوّز ، فقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الثوم والبصل ( من أكل من هذه الشجرة )

" صفحة رقم 412 "
وقيل : الطحلبة . وقيل : الكمأة . وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر . وعن ابن عباس : هي الكافر ، وعنه أيضاً : شجرة لم تخلق على الأرض . وقال ابن عطية : والظاهر عندي أنّ التشبيه وقع بشجرة غير معينة ، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي : اقتلعت جثها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف ، فتقلبها أقل ريح . فالكافر يرى أنّ بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغني عنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع ، وهي خبيثة الجني غير نافعة انتهى . واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله : أصلها ثابت أي : لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض ، وإنما هي نابتة على وجه الأرض . ما لها من قرار أي : استقرار . يقال : أقر الشيء قراراً ثبت ثباتاً ، شبه بهذه الشجرة القول الذي لم يعضد بحجة ، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه ، والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، واطمأنت إليه نفسه . وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا ، كما جرى لأصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول : أحد أحد . وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا ، ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر . والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة . وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء : أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان ، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره ، ورجح هذا القول الطبري . وقال البراء بن عازب وجماعة : في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره ، ورواه البراء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض . وقيل : معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان ، وحشره عليه . وقيل : التثبيت في الدنيا الفتح والنصر ، وفي الآخرة الجنة والثواب . وما صح عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره ، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا الآية ، لا يظهر منه يعني : أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان ، وأن الآخرة في القبر ، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر ، وأن الآخرة هي يوم القيامة ، بل اللفظ محتمل . ومعنى يثبت : يديمهم عليه ، ويمنعهم من الزلل . ومنه قول عبد الله بن رواحة : فثبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله : يثبت . وقيل : يتعلق بآمنوا . وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة . ويضل الله الظالمين أي : الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين ، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم ، إذ ليسوا متمسكين بحجة . وفي الآخرة هو اضطرابهم في جوابهم . ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة ، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلامة الخبيثة ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد منهما ، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى ، إنّ الله يفعل ما يشاء ، لا يسئل عما يفعل . وقال الزمخشري : ويفعل الله ما يشاء أي : توجيه الحكمة ، لأنّ مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية

" صفحة رقم 413 "
بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ( : لم ذكر حال المؤمنين وهداهم ، وحال الكافرين وإضلالهم ، ذكر السبب في إضلالم . والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين قاله الحسن ، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر . وقال مجاهد : هم أهل مكة ، أنعم الله تعالى عليهم ببعثه رسولاً منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به ، وأسكنهم حرمه ، وجعلهم قوام بيته ، فوضعوا مكان شكر هذه النعمة كفراً . وسأل ابن عباس عمر عنهم فقال : هما الأعراب من قريش أخوالي أي : بني مخزوم ، واستؤصلوا ببدر . وأعمامك أي : بني أمية ، ومتعوا إلى حين . وعن علي نحو من ذلك . وقال قتادة : هم قادة المشركين يوم بدر . وعن علي : هم قريش الذين تحزبوا يوم بدر . وعلى أنهم قريش جماعة من الصحابة والتابعين . وعن علي أيضاً : هم منافقو قريش أنعم عليهم بإظهار علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم ، ثم عادوا إلى الكفر . وعن ابن عباس : في جبلة بن الإيهم ، ولا يريد أنها نزلت فيه ، لأن نزول الآية قبل قصته ، وقصته كانت في خلافة عمر ، وإنما يريد ابن عباس أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة .
ونعمة الله على حذف مضاف أي : بدلوا شكر نعمة الله كقوله : ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( أي شكر رزقكم ، كأنه وجب عليهم الشكر كفوضعوا مكانه كفراً ، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب . قال الزمخشري : ووجه آخر وهو أنهم بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة ، وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمة ، وجعلهم قوام بيته ، وأكرمهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكفروا نعمة الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم الله بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم انتهى . ونعمة الله هو المفعول الثاني ، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي : بنعمة الله ، وكفراً هو المفعول الأول كقوله : ) فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( أي بسيئاتهم حسنات . فالمنصوب هو الحاصل ، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب ، على هذا لسان العرب ، وهو على خلاف ما يفهمه العوام ، وكثير ممن ينتمي إلى العلم . وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة : ) وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ( وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر نعمة الله ، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت ، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت . وأحلوا قومهم أي : من تابعهم على الكفر . وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول ثان لبدلوا ، وليس بصحيح ، لأنّ بدل من أخوات اختار ، فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني ، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول . وأعرب الحوفي وأبو البقاء : جهنم بدلاً من دار البوار ، والزمخشري عطف بيان ، فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة . ودار البوار جهنم ، وقاله : ابن زيد . وقيل : عن علي يوم بدر ، وعن عطاء بن يسار : نزلت في قتلى بدر ، فيكون دار البوار أي : الهلاك في الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه . وعلى هذا أعرب ابن عطية وأبو البقاء : جهنم منصوب على الاشتغال أي : يصلون جهنم يصلونها . ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة : جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهذا التأويل أولى ، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه ، ولا ما يكون مساوياً ، وجمهور القراء على النصب . ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي ، إذ زيد ضربته

" صفحة رقم 414 "
أفصح من زيداً ضربته ، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحاً ، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب ، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم ، أو حالاً من دار البوار ، أو حالاً من قومهم ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس القرار هي أي : جهنم . وجعلوا لله أنداداً أي زادوا إلى كفرهم نعمته أن صيروا له أنداداً وهي الأصنام التي اتخذوا آلهة من دون الله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمر : وليضلوا هذا ، و ) لِيُضِلَّ ( في الحج ولقمان والروم بفتح الياء ، وباقي السبعة بضمها . والظاهر أنّ اللام لام الصيرورة والمآل . لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال ، جرى مجرى لام العلة في قولك : جئتك لتكرمني ، على طريقة التشبيه . وقيل : قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام لام العاقبة ، وأما بالضم فتحتمل العاقبة . والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد على حد قوله : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( قال الزمخشري : تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، مأمورون به ، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ، ولا يملكوه لأنفسهم أمراً دونه ، وهو آمر الشهوة والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإنّ مصيركم إلى النار . ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه : ) قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع . وخبر إنّ هو قوله : إلى النار ، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل ، ولذلك تعدى بإلى أي : فإنّ انتقالكم إلى النار ، لأنه تبقى إنّ بلا خبر ، ولا ينبغي أن يدعي حذفه ، فيكون التقدير : فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن ، لأنّ حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل ، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة ، والخبر جار ومجرور . وقد أجاز الحوفي : أن يكون إلى النار متعلقاً بمصيركم ، فعلى هذا يكون الخبر محذوفاً .
( قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ( : لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته ، وجعلهم له أنداداً ، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم ، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة . ومعمول قل ، محذوف تقديره : أقيموا الصلاة يقيموا . ويقيموا مجزوم على جواب الأمر ، وهذا قول : الأخفش ، والمازني . ورد بأنه لا يلزم من القول إنْ يقيموا ، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين ، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى . وهذا قريب مما قبله ، إلا أن في ما قبله معمول القول : أقيموا ، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة . وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله : يقيموا ، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر :
محمد تفد نفسك كل نفس

" صفحة رقم 415 "
أنشده سيبويه إلا أنه قال : إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر . وقال الزمخشري في هذا القول : وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل ، عوض منه . ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز انتهى . وذهب المبرد إلى أنّ التقدير : قل لهم أقيموا يقيموا ، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل . وهو فاسد لوجهين : أحدهما : أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل ، أو في الفاعل ، أو فيهما . فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك : قم يقم ، والتقدير على هذا الوجه : أن يقيموا يقيموا . والوجه الثاني : أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً . وقيل : التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية . وقال الفراء : جواب الأمر معه شرط مقدر تقول : أطع الله يدخلك الجنة ، أي إن تطعه يدخلك الجنة . ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر ، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط . وقيل : هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر ، والمعنى : أقيموا ، قاله أبو علي فرقة . ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر ، لبقي على إعرابه بالنون كقوله : ) هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ ( ثم قال : ) تُؤْمِنُونَ ( والمعنى : آمنوا . واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني : على حذف النون ، لأن المراد أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد ، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى ، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق ، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم ، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة . قال ابن عطية : ويظهرأن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله : الله الذي خلق السموات والأرض انتهى . وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام ، يخالفه ترتيب التركيب ، ويكون قوله : يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله ، أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله ، ولا يترتب أن يكون جواباً ، لأن قوله : الله الذي خلق السموات والأرض ، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً . واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي : كل صلاة فرض وتطوع ، وأن يراد بها الخمس ، وبذلك فسرها ابن عباس . وفسر الإنفاق بزكاة الأموال . وتقدم إعراب ) سِرّا وَعَلاَنِيَةً ( وشرحها في أواخر البقرة .
وقال أبو عبيدة : البيع هنا البذل ، والخلال المخالة ، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصاحبة انتهى . ويعني بالبذل مقابل شيء . وقال امرؤ القيس : صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
ولست بمقلي الخلال ولا قال
وقال الأخفش : الخلال جمع خلة . وتقدم الخلاف في قراءة ) لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ( بالفتح أو بالرفع في البقرة ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ ( قلت ) : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيراً منها ، وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله : وما لا حد عنده من نعمة

" صفحة رقم 416 "
تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة ، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى . ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته ، والشقاوة بالجهل ، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال : الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاء السموات والأرض ، ثم أعقب بباقي الدلائل ، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة ، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد ، والله مرفوع على الابتداء ، والذي خبره . قال ابن عطية : ومن أخبر بذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى . يشير إلى ما تقدم من قوله : إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض الآية . فكأنه يقول : يقيموا الصلاة ، جواب لقوله : قل لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض . والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم ، ومِنْ للتبعيض . ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال ، ويكون المعنى : إن الرزق هو بعض جنى الأشجار ، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات . ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري ، وكأنه قال : فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات . وهذا ليس بجيد ، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ، ورزقاً حالاً من المفعول ، أو نصباً على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق . وقيل : من زائدة ، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين ، لأنّ ما قبلها واجب ، وبعدها معرفة ، ويجوز عند الأخفش . والفلك هنا جمع فلك ، ولذلك قال : لتجري . ومعنى بأمره : راجع إلى الأمر القائم بالذات . وقال الزمخشري : لقوله ، كن .
وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار ، وتسخير الرياح . وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها . وانتصب دائبين على الحال والمعنى : يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال : معناه دائبين في طاعة الله . قال ابن عطية : وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير ، فذلك موجود في قوله : سخر ، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد ، والله أعلم انتهى . وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفه للمنام والمعاش . وقال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز ، لأنّهما عرضان ، والاعراض لا تسخر . ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة ، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال : وآتاكم من كل ما سألتموه ، والخطاب للجنس من البشر أي : أي الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به ، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس ، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال : بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة .
وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، والحسن ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وعمرو بن قائد ، وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع في رواية : من كل بالتنوين ، أي : من كل هذه المخلوقات المذكورات . وما موصولة مفعول ثان أي : ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به . وقيل : ما نافية ، والمفعول الثاني هو من كل كقوله : ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ( أي غير سائليه . أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم ، ولم يعرض لما سألوه . والجملة المنفية في موضع نصب على الحال ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وثنى به ابن عطية وقال : إنه تفسير الضحاك . وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة ، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية ، فيكونون لم يسألوه . وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه ، وما بمعنى الذي . وأجيز أن تكون مصدرية ، ويكون المصدر بمعنى المفعول . ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال : ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه ، أو طلبتموه بلسان الحال . فتأول سألتموه بقوله : ما احتجتم إليه . والضمير في سألتموه

" صفحة رقم 417 "
إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى ، ويكون المصدر يراد به المسؤول . وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها ، والتقدير : من كل الذي سألتموه إياه . ولا يجوز أن يكون عائداً على الله . والرابط للصلة بالموصول محذوف ، لأنك إن قدرته متصلاً فيكون التقدير : ما سألتموهوه ، فلا يجوز . أو منفصلاً فيكون التقدير : ما سألتموه إياه ، فالمنفصل لا يجوز حذف . والنعمة قال الواحدي : اسم أقيم مقام المصدر ، يقال : أنعم إنعاماً ونعمة ، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك : أنفقت إنفاقاً ونفقة ، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى . والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به ، وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع ، كأنه قيل : وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها ، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها ، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال . وأما التفصيل فلا يقدر عليه ، ولا يعلمه إلا الله . وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه ، وحضر عذابه . والمراد بالإنسان هنا الجنس أي : توجد فيه هذه الخلال وهي : الظلم ، والكفر ، يظلم النعمة بإغفال شكرها ، ويكفرها بجحدها . وقيل : ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع . وفي النحل : ) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( والفرق بين الختمين : أنه هنا تقدم قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وبعده ، وجعلوا لله أنداداً ، فكان ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك ، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه ، فجاء أن الإنسان لظلوم كفار . وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات ، وأطنب فيها ، وقال : ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ( أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه ، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه ، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما ، كما هو متصف بالخلق ، ففي ذلك إطماع لمن آمن به . وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلله السابق ويرحمه ، وأيضاً فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ، ذكر ما حصل من المنعم ، ومن جنس المنعم عل ، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة ، إذ لولاهما لما أنعم عليه . وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه ، وهو الظلم والكفران ، فكأنه قيل : إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور ، أو كفران نعمة فالله رحيم ، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره . ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها ، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
2 ( ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّ صْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِىإِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ

" صفحة رقم 418 "
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاٌّ رْضُ غَيْرَ الاٌّ رْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } )
إبراهيم : ( 35 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
جنب مخففاً ، وأجنب رباعياً لغة نجد ، وجنب مشدداً لغة الحجاز ، والمعنى : منع ، وأصله من الجانب . الهوى : الهبوط بسرعة ، قال الشاعر : وإذا رميت به الفجاج رأيته
تهوي مخارمها هوى الأجدل
شخص البصر أحد النظر ، ولم يستقرّ في مكانه . المهطع : المسرع في مشيه . قال الشاعر : بمهطع سرح كأن عنانه
في رأس جذع من أراك مشذب
وقال عمران بن حطان : إذا دعانا فأهطعنا لدعوته
داع سميع فلبونا وساقونا
وقال أبو عبيدة : قد يكون الأهطاع الإسراع وإدامة النظر . المقنع : هو الرافع رأس المقبل ببصره على ما بين يديه ، قاله ابن عرفة والقتبي . وقال الشاعر : يباكرن العصاة بمقنعات
نواجذهن كالحدإ الوقيع

" صفحة رقم 419 "
يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر ، ويقال : أقنع رأسه نكسه وطأطأه ، فهو من الأضداد . قال المبرد : وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة انتهى . وقيل : منه قنع الرجل إذا رضي ، كأنه رفع رأسه عن السؤال . وفم مقنع معطوفة أسنانه إليه داخلاً ، ورجل مقنع بالتشديد عليه بيضة الرأس معروف ، ويجمع في القلة على أرؤس . الطرف : العين . وقال الشاعر : وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
ويقال : طرف الرجل طبق جفنه على الآخر ، وسمي الجفن طرفاً لأنه يكون فيه ذلك . الهواء : ما بين السماء والأرض ، وهو الخلاء الذي لم تشغله الأجرام الكثيفة ، واستعير للجبان فقيل : قلب فلان هواء . وقال الشاعر : كأن الرجل منها فوق صعل
من الظلمات جؤجؤه هواء
المقرّن : المشدود في القرن ، وهو الحبل . الصفد : الغل ، والقيد يقال : صفده صفدا قيده ، والاسم الصفد ، وفي التكثير صفده مشدداً . قال الشاعر :
وأبقى بالملوك مصفدينا
وأصفدته : أعطيته . وقيل : صفد وأصفد معاً في القيد والإعطاء . قال الشاعر :
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
أي : بالعطاء . وسمي العطاء صفداً لأنه يقيده ويعبد . السربال : القميص ، يقال : سربلته فتسربل . القطران : ما يحلب من شجر الابهل فيطبخ ، وتهنأ به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحره وحدته ، وهو أقبل الأشياء اشتعالاً ، ويقال فيه قطران بوزن سكران ، وقطران بوزن سرحان .
( وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفراً ، وجعلوا لله أنداداً وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله ، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه ، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم ، وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة ، ودعا بأنْ يجنب بنيه عبادة الأصنام ، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة ، لينظروا في دين أبيهم ، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام ، فيزدجروا ويرجعوا عنها . وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفاً ، وفي البقرة منكراً .
وقال الزمخشري : هنا سأل في الأول أن

" صفحة رقم 420 "
يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرج من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمناً انتهى . ودعا إبراهيم أولاً بما هو على طاعة الله تعالى ، وهو كون محل العابد أمناً لا يخاف فيه ، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى ، ثم دعا ثانياً بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام . ومعنى واجنبني وبني : أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام . وأراد بقوله : وبنى أولاده ، من صلبه الأقرباء . وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمناً ، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنماً . قال سفيان بن عيينة : وقد سئل ، كيف عبدت العرب الأصنام ؟ قال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً وكانوا ثمانية ، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون : حجر ، فحيث ما نصبوا حجراً فهو بمعنى البيت ، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى .
قال ابن عطية : وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنماً ؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة . وكرر النداء استعطافاً لربه تعالى ، وذكر سبب طلبه : أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله : إنهن أضللن كثيراً من الناس ، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام . ومعنى أضللنا : كنا سبباً لإضلال كثير من الناس ، والمعنى : أنهم ضلوا بعبادتها ، كما تقول : فتنتهم الدنيا أي : افتتنوا بها ، واغتروا بسببها . وقرأ الجحدري ، وعيسى الثقفي : وأجنبني من أجنب ، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول : الأجذاع انكسرت . والأخبار عنه أخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله : فقد ضلوا كثيراً . فمن تبعني أي : على ديني وما أنا عليه ، فإنه مني . جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله : ( من غشنا فليس منا ) أي ليس بعض المؤمنين تنبيهاً على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان ، والمعنى : أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان . ومن عصاني ، هذا فيه طباق معنوي ، لأن التبعية طاعة فقوله : فإنك غفور رحيم . قال مقاتل : ومن عصاني فيحادون الشرك . وقال الزمخشري : تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة . قال ابن عطية : ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله : فمن تبعني فإنه مني ، وإذا كان كذلك فقوله : فإنك غفور رحيم معناه حين يؤمنوا ، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام : ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
) رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( : كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهاراً للتذلل ، والالتجاء إلى الله تعالى . وأتى بضمير جماعة المتكلمين ، لأنه تقدم ذكره . وذكر بنيه في قوله : واجنبني وبنى ، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه . وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة ، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل ، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفاً من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى ، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية . وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره . ومِن للتبعيض ، لأنّ إسحاق كان في الشام ، والوادي ما بين الجبلين ، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء ، وإنما قال : غير ذي زرع ، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقها الماء ، وإنما نظر النظر البعيد فقال : غير ذي زرع ، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال : غير ذي ماء ، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك . قال ابن عطية : وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء ، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء . وقال الزمخشري : بواد هو وادي مكة ، غير ذي ذرع : لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله : ) قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ( بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى . واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاً لقوله : لا يكون ، وليس هو ماضياً ، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات . والظاهر أن قوله : عند بيتك

" صفحة رقم 421 "
المحرم ، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء ، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة ، وفي آل عمران . ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي : منع منه ، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لكونه لم يزل عزيزاً ممنعاً من الجبابرة ، أو لكونه محترماً لا يحل انتهاكه . وليقيموا متعلق بأسكنت . وربنا دعاء معترض ، والمعنى : إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة . وقيل : هي لام الأمر ، دعا لهم بإقامة الصلاة . وقال أبو الفرج بن الجوزي : اللام متعلقة بقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى . وهذا بعيد جداً . وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها ، أو لأنها سبب لكل خير . وقوله : ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك ، ويكون له نسل . وأفئدة : جمع فؤاد وهي القلوب ، سمي القلب فؤاد لإتفاده مأخوذ من فأد ، ومنه المفتأد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم . وقال مؤرج الافئدة : القطع من الناس بلغة قريش ، وإليه ذهب ابن بحر . قال مجاهد : لو قال إبراهيم عليه السلام : أفئدة الناس ، لازدحمت على البيت فارس والروم . وقال ابن جبير : لحجته اليهود والنصارى . والظاهر أنّ من للتبعيض ، إذ التقدير : أفئدة من الناس . قال الزمخشري : ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك : القلب مني سقيم يريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى . ولا يظهر كونها لابتداء الغاية ، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها ، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس ، وإنما الظاهر في من التبعيض . وقرأ هشام : أفئدة بياء بعد الهمزة ، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الإشباع ، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أنّ هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء ، فعبر الراوي عنها بالياء ، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة ، والمراد بياء عوضاً من الهمزة ، قال : فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو : بارئكم ويأمركم ، ونحوه بإسكان حركة لإعراب ، وإنما كان ذلك اختلاساً . قال أبو عمرو والداني الحافظ : ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه ، لأنّ النقلة عن هشام وأبي عمر وكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها ، وليس يفضي بم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرىء آفدة : على وزن فاعلة ، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي : جماعة آفدة ، أو جماعات آفدة ، وأن يكون جمع ذلك فؤاد ، ويكون من باب القلب ، وصار بالقلب أأفدة ، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفاً كما قالوا . في ارآم أأرام ، فوزنه أعفلة . وقرىء أفدة على وزن فعله ، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء ، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه ، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول : فرح فهو فرح . وقرأت أم الهيثم : أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة . قال صاحب اللوامح : وهو جمع وفد ، والقراءة حسنة : لكني لا أعرف هذه المرأة ، بل ذكرها أبو حاتم انتهى . أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون ، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد . وهو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح ، وقلب إذ الأصل أوفده . وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو : نجد وأنجدة ، ووهى وأوهية . وأم الهيثم امرأة نثل عنها شيء من لغات العرب . وقرأ زيد بن علي : إفادة على وزن إشارة . ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا : اشاح في وشاح ، فالوزن فعالة أي : فاجعل ذوي وفادة . ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة ، أو ذوي إفادة ، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم . وقرأ الجمهور : تهوي إليهم أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً ، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى ، وأصله أن يتعدى باللام . قال الشاعر : حتى إذا ما هوت كف الوليد بها
طارت وفي كفه من ريشها بتك

" صفحة رقم 422 "
ومثال ما في الآية قول الشاعر : تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمن الجن ككفارها
. وقرأ مسلمة بن عبد الله : تهوى بضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازمة ، كأنه قيل : يسرع بها إليهم . وقرأ علي بن أبي طالب ، وزيد بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومجاهد : تهوى مضارع هوى بمعنى أحب ، ولما ضمن معنى النزوع والميل عدى بإلى . وارزقهم من الثمرات مع سكانهم وادياً ما فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله : ) يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء ( وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة الثمرات ، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين . وقيل : من الأردن فجاء بها ، وطاف بها حول البيت سبعاً ، ووضعها قريب مكة فهي الطائف . وبهذه القصة سميت وهي موضع ثقيف ، وبها أشجار وثمرات . وروى نحو منه عن ابن عباس . لعلهم يشكرون . قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء ، لا جرم أنّ الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف ، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله . بواد غير ذي زرع وهي : اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والسيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجيب .
( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء الْحَمْدُ ( : كرر النداء للتضرع والالتجاء ، ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم ، وبين إضافته إلى جمع المتكلم ، وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه وما يعلنونه . وقيل : ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة ، وما نعلن من البكاء والدعاء . وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق ، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله أكلكم . قالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : لا نخشى تركتنا إلى كاف . والظاهر أنّ قوله : وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده بكلام إبراهيم . لما ذكر أنه تعالى عمم ما يخفى هو ومن كنى عنه ، تمم جميع الأشياء ، وأنها غير خافية عنه تعالى . وقيل : وما يخفى الآية من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله تعالى : ) وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( والظاهر أنْ هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تقع منه في زمان واحد ، وإنما حكى الله عنه ما وقع في أزمان مختلفة ، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجوداً حالة دعائه ، إذ ترك هاجر والطفيل بمكة . فالظاهر أنّ حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق ، وعلى الكبر يدل على مطلق الكبر ، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب له فيها ولداه . وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة . وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحاق لتسعين . وعن ابن جبير : لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة . وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة فيها بهبة الولد أعظم من حيث أنّ الكبر مظنة اليأس من الولد ، فإنّ مجيء الشيء بعد الإياس أحلى في النفس وأبهج لها . وعلى الكبر في موضع الحال لأنه قال : وأنا كبير ، وعلى علي بابها من الاستعلاء لكنه مجاز ، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون ، وكأنه لما أسنّ وكبر صار مستعلياً على الكبر . وقال الزمخشري : على في قوله على الكبر بمعنى مع ، كقوله :

" صفحة رقم 423 "
إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل ، وكان قد دعا الله أن يهبه ولداً بقوله : ) رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من إجابة دعائه . والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول ، فيكون إضافة من نصب ، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه ، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين ، وخالف الكوفيون فيه . وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول ، وفعال ، ومفعال ، وفعل ، وهذا مذكور في علم النحو . ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم جواز إعماله ، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو : هذا ضارب زيد أمس . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي ، والمراد : سماع الله انتهى . وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب السفة المشبهة ، والصفة متعدية ، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس . وأما هنا فاللبس حاصل ، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول ، لا من إضافته إلى الفاعل . وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل : زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً ظالمين . ودعاؤه بأنْ يجعله مقيم الصلاة وهو مقيمها ، إنما يريد بذلك الديمومة . ومن ذريتي ، من للتبعيض ، لأنه أعلم أنّ من ذريته من يكون كافراً ، أو من يهمل إقامتها وإن كان مؤمناً . وقرأ طلحة ، والأعمش : دعاء ربنا بغير ياء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بياء ساكنة في الوصل ، وأثبتها بعضهم في الوقف . وروي ورش عن نافع : إثباتها في الوصل . والظاهر أنّ إبراهيم سأل المغفرة لأبويه القريبين ، وكانت أمه مؤمنة ، وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله ، وهذا يتمشى إذا قلنا : إن هذه الأدعية كانت في أوقات مختلفة ، فجمع هنا أشياء مما كان دعا بها . وقيل : أراد أمه ، ونوحاً عليه السلام . وقيل : آدم وحواء . والأظهر القول الأول . وقد جاء نصاً دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله : ) وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين ؟ ( قلت ) : هو من تجويزات العقل ، لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف انتهى . وهو في ذلك موافق لأهل السنة ، مخالف لمذهب الاعتزال . وقرأ الحسين بن علي ، ومحمد ، وزيد : ربنا على الخبر . وابن يعمر والزهري والنخعي : ولولديّ بغير ألف وبفتح اللام يعني : إسماعيل وإسحاق ، وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ، وقال : إنّ في مصحف أبيَّ بن كعب : ولأبوي ، وعن يحيى بن يعمر : ولولدي بضم الواو وسكون اللام ، فاحتمل أنْ يكون جمع ولد كأسد في أسد ، ويكون قد دعا لذريته ، وأن يكون لغة في الولد . وقال الشاعر : فليت زياداً كان في بطن أمه
وليت زياداً كان ولد حمار
كما قالوا : العدم والعدم . وقرأ ابن جبير : ولوالدي بإسكان الياء على الإفراد كقوله : واغفر لأبي ، وقيام الحساب مجاز . عن وقوعه وثبوته كما يقال : قامت الحرب على ساق ، أو على حذف مضاف أي : أهل الحساب كما قال : ) يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ).
) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ( : الخطاب بقوله : ولا

" صفحة رقم 424 "
تحسين ، للسامع الذي يمكن منه حسبان مثل هذا لجهله بصفات الله ، لا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه مستحيل ذلك في حقه . وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين ، وتسلية للمظلومين . وقرأ طلحة : ولا تحسب بغير نون التوكيد ، وكذا فلا تحسب الله مخلف وعده . والمراد بالنهي عن حسبانه غافلاً الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون ، لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( يريد الوعيد . ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه ، يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير . وقرأ السلمي والحسن ، والأعرج ، والمفضل ، عن عاصم وعباس بن الفضل ، وهارون العتكي ، ويونس بن حبيب ، عن أبي عمر : ونؤخرهم بنون العظمة ، والجمهور بالياء أي : يؤخرهم الله . مهطعين مسرعين ، قاله : ابن جبير وقتادة . وذلك بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف . وقال ابن عباس ، وأبو الضحى : شديدي النظر من غير أنْ يطرقوا . وقال ابن زيد : غير رافعي رؤوسهم . وقال مجاهد : مد يمين النظر . وقال الأخفش : مقبلين للإصغاء ، وأنشد :
بدجاة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع . وقال الحسن : مقنعي رؤوسهم وجوه الناس يومئذ إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد انتهى . وقال ابن جريج : هواء صفر من الخير خاوية منه . وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : خربة خاوية ليس فيها خير ولا عقل . وقال سفيان : خالية إلا من فزع ذلك اليوم كقوله : وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً ، أي : إلا من هم موسى . وهواء تشبيه محض ، لأنها ليست بهواء حقيقة ، ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة ، فهي منحرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه ، وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور ، وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي حناجرهم ، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب . وحصول هذه الصفات الخمس للظالمين قبل المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله : يوم يقوم الحساب . وقيل : عند إجابة الداعي ، والقيام من القبور . وقيل : عند ذهاب السعداء إلى الجنة ، والأشقياء إلى النار .
( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ ( : هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ويوم منصوب على أنه مفعول ثان لا نذر ، ولا يصح أن يكون ظرفاً ، لأنّ ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار ، وهذا اليوم هو يوم القيامة والمعنى : وأنذر الناس الظالمين ، ويبين ذلك قوله : فيقول الذين ظلموا ، لأن المؤمنين يبشرون ولا ينذرون . وقيل : اليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ، ولقاء الملائكة بلا بشرى كقوله : ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ( ومعنى التأخر إلى أجل قريب الرد إلى الدنيا قاله الضحاك ، إذ الإمهال إلى أمد وحد من الزمان قريب قاله السدي ، أي : لتدارك ما فرطوا من إجابة الدعوة ، واتباع الرسل . أو لم تكونوا هو على إضمار القول والظاهر أنّ التقدير فيقال لهم ، والقائل الملائكة ، أو القائل الله تعالى . يوبخون بذلك ، ويذكرون مقالتهم في إنكار البعث ، وإقسامهم على ذلك كما قال تعالى :

" صفحة رقم 425 "
) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ( ومعنى ما لكم من زوال ، من الأرض بعد الموت أي : لا نبعث من القبور . وقال محمد بن كعب : إنّ هذا القول يكون منهم وهم في النار ، ويرد عليهم : أو لم تكونوا ، ومعناه التوبيخ والتقريع . وقال الزمخشري أو لم تكونوا أقسمتم على إرادة القول ، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً ، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه . وأن يقولوا بلسان الحال حيث بنوا شديداً ، وأملوا بعيداً . وما لكم جواب القسم ، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله : أقسمتم ، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا من زوال ، والمعنى : أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزولون بالموت والفناء ، وقيل : لا تنتقلون إلى دار أخرى انتهى . فجعل الزمخشري أو لم تكونوا محكياً بقولهم ، وهو مخالف لما قد بيناه من أنه يقال لهم ذلك ، وقوله : لا يزولون بالموت والفناء ليس بجيد ، لأنهم مقرون بالموت والفناء . وقوله هو قول مجاهد . وسكنتم إن كان من السكون ، فالمعنى : أنهم قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين بسيرة من قبلهم في الظلم والفساد ، لا يحدثونها بما لقي الظالمون قبلهم . وإن كان من السكنى ، فإنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث ، والأصل تعديته بفي كما يقال : أقام في الدار وقر فيها ، ولكنه لما أطلق على سكون خاص تصرف فيه ، فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوأها ، وتبين لكم بالخبر وبالمشاهدة ما فعلنا بهم من الهلاك والانتقام . وقرأ الجمهور : وتبين فعلاً ماضياً ، وفاعله مضمر يدل عليه الكلام أي : وتبين لكم هو أي حالهم ، ولا يجوز أن يكون الفاعل كيف ، لأنّ كيف إنما تأتي اسم استفهام أو شرط ، وكلاهما لا يعمل فيه ما قبله ، إلا ما روي شاذاً من دخول على علي كيف في قولهم : على كيف تبيع الأحمرين ، وإلى في قولهم : أنظر إلى كيف تصنع ، وإنما كيف هنا سؤال عن حال في موضع نصب بفعلنا . وقرأ السلمي فيما حكى عنه أبو عمرو الداني : ونبين بضم النون ، ورفع النون الأخيرة مضارع بين ، وحكاها صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذلك على إضمار ونحن نبين ، والجملة حالية . وقال المهدوي عن السلمي : إنه قرأ كذلك ، إلا أنه جزم النون عطفاً على أو لم تكونوا أي : ولم نبين فهو مشارك في التقرير . وضربنا لكم الأمثال أي : صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم .
( وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ وَالسَّمَاواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ ( : الظاهر أنّ الضمير في مكروا عائد على المخاطبين في قوله : ) أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ ( أي مكروا بالشرك بالله ، وتكذيب الرسل . وقيل : الضمير عائد على قوم الرسول كقوله : ) وَأَنذِرِ النَّاسَ ( أي : وقد مكر قومك يا محمد ، وهو الذي في قوله : ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية ومعنى مكرهم أي : المكر العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ، والظاهر أنّ هذا إخبار من الله لنبيه بما صدر منهم في الدنيا ، وليس مقولاً في الآخرة . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة للظلمة الذين سكن في منازلهم . وعند الله مكرهم أي : علم مكرهم فهو مطلع عليه ، فلا ينفذ لهم فيه قصداً ، ولا يبلغهم فيه أملاً أو جزاء مكرهم ، وهو عذابه لهم . والظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل ، كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل : وعند الله ما مكروا أي مكرهم . وقال الزمخشري : أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى : وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، وهو عذابهم الذي يستحقونه ، يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون انتهى . وهذا لا يصح إلا إن كان مكر يتعدى بنفسه كما قال هو ، إذ قدر يمكرهم به ، والمحفوظ أنّ مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه . قال تعالى : ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وتقول : زيد ممكور به ، ولا يحفظ زيد ممكور بسبب كذا .
وقرأ الجمهور : وإن كان بالنون . وقرأ عمرو ، وعلي ، وعبد الله ، وأبي ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو إسحاق السبيعي ، وزيد بن علي : وإن كاد بدال مكان النون

" صفحة رقم 426 "
لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، وروي كذلك عن ابن عباس . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن وثاب ، والكسائي كذلك ، إلا أنهم قرؤوا وإن كان بالنون ، فعلى هاتين القراءتين تكون إنْ هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة ، وذلك على مذهب البصريين . وأما على مذهب الكوفيين فإن نافية ، واللام بمعنى إلا . فمن قرأ كاد بالدال فالمعنى : أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم ، ولا يقع الزوال . وعلى قراءة كان بالنون ، يكون زوال الجبال قد وقع ، ويكون في ذلك تعظيم مكرهم وشدته ، وهو بحيث يزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها . ويحتمل أن يكون معنى لتزول ليقرب زوالها ، فيصير المعنى كمعنى قراءة كاد . ويؤيد هذا التأويل ما ذكره أبو حاتم من أنّ في قراءة أبيّ : ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال ، وينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير لمخالفتها لسواد المصحف المجمع عليه . وقرأ الجمهور وباقي السبعة : وإن كان بالنون مكرهم لتزول بكسر اللام ، ونصب الأخيرة . ورويت هذه القراءة عن علي ، واختلف في تخريجها . فعن الحسن وجماعة أنّ إنْ نافية ، وكان تامة ، والمعنى : وتحقير مكرهم ، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها ، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ : وما كان بما النافية : لكنّ هذا التأويل ، وما روي عن ابن مسعود من قراءة وما بالنفي ، يعارض ما تقدم من القراءات ، لأنّ فيها تعظيم مكرهم ، وفي هذا تحقيره . ويحتمل على تقدير أنها نافية أن تكون كان ناقصة ، واللام لام الجحود ، وخبر كان على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين : أهو محذوف ؟ أو هو الفعل الذي دخلت عليه اللام ؟ وعلى أنّ إنْ نافية وكان ناقصة ، واللام في لتزول متعلقة بفعل في موضع خبر كان ، خرجه الحوفي .
وقال الزمخشري : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وإن عظم مكرهم وتتابع في الشدة بضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته أي : وإن كان مكرهم مستوٍ لإزالة الجبال معداً لذلك . وقال ابن عطية : ويحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم أي : وإن كان شديداً بما يفعل ليذهب به عظام الأمور انتهى . وعلى تخريج هذين تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وكان هي الناقصة . وعلى هذا التخريج تتفق معاني القراءات أو تتقارب ، وعلى تخريج النفي تتعارض كما ذكرنا . وقرىء لتزول بفتح اللام الأولى ونصب الثانية ، وذلك على لغة من فتح لام كي . والذي يظهر أنّ زوال الجبال مجاز ضرب مثلاً لمكر قري 5 ، وعظمه والجبال لا تزول ، وهذا من باب الغلو والإيغال والمبالغة في ذم مكرهم . وأما ما روي أن جبلاً زال يحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذباً مات ، فحملها للحلف ، فمكرت بأن رمت نفسها عن الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه عن الدابة ، فأركبها زوجها وذلك الرجل ، وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما ، فنزلت سالمة ، وأصبح الجبل قد اندك ، وكانت المرأة من عدنان . وما روي من قصة النمرود أو بخت نصّر ، واتخاذ الأنسر وصعودهما عليها إلى قرب السماء في قصة طويلة . وما تأول بعضهم أنه عبر بالجبال عن الإسلام ، والقرآن لثبوته ورسوخه ، وعبر بمكرهم عن اختلافهم فيه من قولهم : هذا سحر هذا شعر هذا إفك ، فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ ، وبعيد جداً قصة الأنسر . والنهي عن الحسبان كهو في قوله : ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً ( وأطلق الحسبان على الأمر المتحقق هنا كما قال الشاعر : فلا تحسبن أني أضل منيتي
فكل امرىء كأس الحِمام يذوق
وهذا الوعد كقوله تعالى : ) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده ، ونصب رسله . واختلف في إعرابه فقال الجمهور . الفراء ، وقطرب ، والحوفي ، والزمخشري ، وابن عطية ، وأبو البقاء : إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم : هذا معطي درهم زيداً ، لما

" صفحة رقم 427 "
كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما ، فينتصب ما تأخر . وأنشد بعضهم نظيراً له قول الشاعر : ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
وسائره باد إلى الشمس أجمع . وقال أبو البقاء : هو قريب من قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار . وقال الفراء وقطرب : لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم والتأخير . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثاني على الأول ؟ ( قلت ) : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً لقوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( ثم قال : رسله ، ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ؟ انتهى . وهو جواب على طريقة الاعتزال في أنّ وعد الله واقع لا محالة ، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلاً . ومذهب أهل السنة أنّ كل ما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة . وقيل : مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله : ) لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( فأضيف إليه ، وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال : مخلف ما وعد رسله ، وما مصدرية ، لا بمعنى الذي . وقرأت فرقة : مخلف وعده رسله بنصب وعده ، وإضافة مخلف إلى رسله ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهو كقراءة . قتل أولادهم شركائهم ، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام . وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى ، وأنه مما تعدى فيه مخلف إلى مفعولين . إنّ الله عزيز لا يمتنع عليه شيء ولا يغالب ذو انتقام من الكفرة لا يعفو عنهم . والتبديل يكون في الذات أي : تزول ذات وتجيء أخرى . ومنه : ) بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( ) وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ( ويكون في الصفات كقولك : بدلت الحلقة خاتماً ، فالذات لم تفقد لكنها انتقلت من شكل إلى شكل . واختلفوا في التبديل هنا ، أهو في الذات ، أو في الصفات ، فقال ابن عباس : تمد كما يمد الأديم ، وتزال عنها جبالها وآكامها وشجرها ، وجميع ما فيها حتى تصير مستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، وتبدل السموات بتكوير شمسها ، وانتثار كواكبها ، وانشقاقها ، وخسوف قمرها . وقال ابن مسعود : تبدل الأرض بأرض كالفضة نقية لم يسفك فيها دم ، ولم يعمل فيها خطيئة . وقال على تلك الأرض من فضة والجنة من ذهب . وقال محمد بن كعب وابن جبير : هي أرض من خبز يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم ، وجاء هذا مرفوعاً . وقيل : تصير ناراً والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها . وقال أبي : تصير السموات حقاباً . وقيل : تبديلها طيها . وقيل : مرة كالمهل ، ومرة وردة كالدهان ، قاله ابن الأنباري . وقيل : بانشقاقها فلا تظل . وفي الحديث : ) إِنَّ اللَّهَ يُبَدَّلُ هَاذِهِ الاْرْضِ ( وفي كتاب الزمخشري وعن علي : تبدل أرضاً من فضة ، وسموات من ذهب . وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وعن ابن عباس : هي تلك الأرض وإنما تغير ، وأنشد :
وما الناس بالناس الذين عهدتهمولا الدار بالدار التي كنت تعلم .

" صفحة رقم 428 "
قال ابن عطية : وسمعت من أبي رضي الله عنه روى أن التبديل يقع في الأرض ، ولكنْ تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله ، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه ، وفريق يكونون على فضة إن صح السند بها ، وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو هذا ، وكله واقع تحت قدرة الله تعالى . وفي الحديث : ( المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش ، وفيه أنهم ذلك الوقت على الصراط ) وقال أبو عبد الله الرازي : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة ، والدليل عليه قوله تعالى : ) عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ ( وقوله : ) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( انتهى . وكلامه هذا يدل على أنّ الجنة والنار غير مخلوقتين ، وظاهر القرآن والحديث أنهما قد خلقتا ، وصح في الحديث أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اطلع عليهما ، ولا يمكن أن يطلع عليهما حقيقة إلا بعد خلقهما .
وبرزوا : أي ظهر . وألا يواريهم بناء ولا حصن ، وانتصاب يوم على أنه بدل من يوم يأتيهم قاله الزمخشري ، أو معمولا لمخلف وعده . وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي . وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون ظرفاً فالمخلف ولا لوعده ، لأنّ ما قبل أنْ لا يعمل فيما بعدها ، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلام ما يعمل في الظرف أي : لا يخلف وعده يوم تبدل انتهى . وإذا كان إن وما بعدها اعتراضاً ، لم يبال أنه فصلاً بين العامل والمعمول ، أو معمولاً لانتقام قاله : الزمخشري ، والحوفي ، وأبو البقاء ، أولاً ذكر قاله أبو البقاء . وقرىء : نبدل بالنون الأرض بالنصب ، والسموات معطوف على الأرض ، وثم محذوف أي : غير السموات ، حذف لدلالة ما قبله عليه . والظاهر استئناف . وبرزوا . وقال أبو البقاء يجوز أن يكون حالاً من الأرض ، وقد معه مزادة . ومعنى لله : لحكم الله ، أو لموعوده من الجنة والنار . وقرأ زيد بن علي : وبرزوا بضم الباء وكسر الراء مشددة جعله مبنياً للمفعول على سبيل التكثير بالنسبة إلى العالم وكثرتهم ، لا بالنسبة إلى تكرير الفعل . وجيء بهذين الوصفين وهما : الواحد وهو الواحد الذي لا يشركه أحد في ألوهيته ، ونبه به على أنّ آلهتهم في ذلك اليوم لا تنفع . والقهار وهو الغالب لكل شيء ، وهذا نظير قوله تعالى : ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ). وترى المجرمين يومئذ يوم إذ تبدل ، وبرزوا مقرنين مشدودين في القرن أي : مقرون بعضهم مع بعض في القيود والأغلال ، أو مع شياطينهم ، كل كافر مع شيطانه في غل أو تقرن أيديهم إلى أرجلهم مغللين . والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله : مقرنين أي : يقرنون في الأصفاد . ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمقرنين ، وفي موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف كأنه قيل : مستقرين في الأصفاد . وقال الحسن : ما في جهنم واد ، ولا مفازة ، ولا قيد ، ولا سلسلة ، إلا اسم صاحبه مكتوب عليه .
وقرأ علي ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وابن جبير ، وابن سيرين ، والحسن ، بخلاف عنه . وسنان بن سلمة بن المحنق ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو صالح ، والكلبي ، وعيسى الهمداني ، وعمرو بن فائد ، وعمرو بن عبيد من قطر بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء ، أنّ اسم فاعل من أني صفة لقطر . قيل : وهو القصدير ، وقيل : النحاس . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس بالقطران ، ولكنه النحاس يصير بلونه . والآتي الذائب الحار الذي قد تناهى حره . قال الحسن : قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت ، فتناهى حره . وقال ابن عباس : أي آن أن يعذبوا به يعني : حان تعذيبهم به . وقال الزمخشري : ومن شأنه . أي : القطران ، أن يسرع فيه اشتعال النار ، وقد يستسرج به ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ، لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح . على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين . وكل ما وعده الله ، أو أوعد به في الآخرة ، فبينه وبين ما يشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة ، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه انتهى . وقرأ عمر بن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب : من قطران بفتح القاف وإسكان الطاء ، وهو في شعر أبي النجم قال : لبسنه القطران والمسوحا

" صفحة رقم 429 "
وقرأ الجمهور : وتغشى وجوههم بالنصب ، وقرىء بالرفع ، فالأول على نحو قوله : ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( فهي على حقيقة الغشيان ، والثانية على التجوز ، جعل ورود الوجه على النار غشياناً . وقرىء : وتغشى وجوههم بمعنى تتغشى ، وخص الوجوه هنا . وفي قوله : ) أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : ) تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَةِ ). وليجزي متعلق بمحذوف تقديره : يفعل بالمجرمين ما يفعل ، ليجزي كل نفس أي : مجرمة بما كسبت ، أو كل نفس من مجرمة ومطيعة : لأنه إذا عاقبت المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم ، قاله الزمخشري . ويظهر أنها تتعلق بقوله : وبرزوا أي : الخلق كلهم ، ويكون كل نفس عاماً أي : مطيعة ومجرمة ، والجملة من قوله : وترى ، معترضة . وقال ابن عطية : اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره : فعل هذا ، أو أنفذ هذا العقاب على المجرمين ليجزي في ذلك المسيء على إساءته انتهى . والإشارة بهذا إلى ما ذكر به تعالى من قوله : ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً ( إلى قوله : ) سَرِيعُ الْحِسَابِ ( وقيل : الإشارة إلى القرآن ، وقيل : إلى السورة . ومعنى بلاغ كفاية في الوعظ والتذكير ، ولينذروا به . قال الماوردي : الواو زائدة ، وعن المبرد : هو عطف مفرد أي : هذا بلاغ وإنذار انتهى . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وقيل : هو محمول على المعنى أي : ليبلغوا ولينذروا . وقيل : اللام لام الأمر . قال بعضهم : وهو حسن لولا قوله : وليذكر ، فإنه منصوب لا غير انتعهى . ولا يخدش ذلك ، إذ يكون وليذكر ليس معطوفاً على الأمر ، بل يضمر له فعل يتعلق به . وقال ابن عطية : المعنى هذا بلاغ للناس ، وهو لينذروا به انتهى . فجعله في موضع رفع خبراً لهو المحذوفة . وقال الزمخشري : ولينذروا معطوف على محذوف أي : لينصحوا ولينذروا به بهذا البلاغ انتهى . وقرأ مجاهد ، وحميداً بتاء مضمومة وكسر الذال ، كان البلاغ العموم ، والإنذار للمخاطبين . وقرأ يحيى بن عمارة : الذراع عن أبيه ، وأحمد بن زيد بن أسيد السلمي : ولينذروا بفتح الياء والذال ، مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له . قالوا : ولم يعرف لهذا الفعل مصدر ، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال ولم يعرف له أصل . وليعلموا لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعاهم ذلك إلى النظر ، فيتوصلون إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة ، إذ الخشية أصل الخير . وليذكر أي : يتعظ ويراجع نفسه بما سمع من المواعظ . وأسند التذكر والاتعاظ إلى من له لب ، لأنهم هم الذين يجدي فيهم التذكر . وقيل : هي في أبي بكر الصديق . وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها ، وكثيراً ما جاء في سور القرآن ، حتى أنّ بعضهم زعم أن قوله : ولينذروا به معطوف على قوله : لتخرج الناس .

" صفحة رقم 430 "
( سورة الحجر )
1 ( الرَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاٌّ مَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ وَالاٌّ رْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( )

" صفحة رقم 431 "
الحجر : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
431
رب : حرف جر لا اسم خلافاً للكوفيين والأخفش في أحد قوليه ، وابن الطراوة ومعناها في المشهور : التقليل لا التكثير ، خلافاً لزاعمه وناسبه إلى سيبويه ، ولمن قال : لا تفيد تقليلاً ولا تكثيراً ، بل هي حرف إثبات . ودعوى أبي عبد الله الرازي الاتفاق على أنها موضوعة للتقليل باطلة ، وقول الزجاج : إن رب للكثرة ضد ما يعرفه أهل اللغة ليس بصحيح ، وفيها لغات ، وأحكامها كثيرة ذكرت في النحو ، ولم تقع في القرآن إلا في هذه السورة على كثرة وقوعها في لسان العرب .
ذر : أمر استغنى غالباً عن ماضيه بترك ، وفي الحديث : ( ذروا الحبشة ما وذرتكم ) لو ما : حرف تحضيض ، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وحرف امتناع لوجود فيليها الاسم مبتدأ على مذهب البصريين ومنه ، قول الشاعر : لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وقال بعضهم : الميم في لو ما بدل من اللام في لولا ، ومثله : استولى على الشيء واستوما . وخاللته وخالمته فهو خلى وخلمي أي : صديقي . وقال الزمخشري : لو ركبت مع لا وما لمعنيين ، وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض انتهى . والذي أختاره البساطة فيهما لا التركيب ، وأنّ ما ليست بدلاً من لا . سلك الخيط في الإبرة وأسلكها أدخله فيها ونظمه . قال الشاعر : حتى إذا سلكوهم في قتائدة
شلا كما تطرد الحمالة الشردا
وقال الآخر : وكنت لزاز خصمك لم أعود
وقد سلكوك في يوم عصيب
الشهاب : شعلة النار ، ويطلق على الكوكب لبريقه شبه بالنار . وقال أبو تمام : والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
اللواقح : الظاهر أنها جمع لاقح أي : ذوات لقاح كلابن وتامر ، وذلك أنّ الريح تمر على الماء ثم تمر على السحاب والشجر فيكون فيها لقاح قاله الفراء . وقال الأزهري : حوامل تحمل السحاب وتصرفه ، وناقة لاقح ، ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها . وقال زهير : إذا لقحت حرب عوان مضرة
ضروس تهر الناس أنيابها عصل
وقال أبو عبيدة : أي ملاقح جمع ملقحة ، لأنها تلقح السحاب بإلقاء الماء . وقال :

" صفحة رقم 432 "
ومختبط مما تطيح الطوائح
أي : المطاوح جمع مطيحة . الصلصال : قال أبو عبيدة الطين إذا خلط بالرمل وجف ، وقال أبو الهيثم : الصلصال صوت اللجام وما أشبهه ، وهو مثل القعقعة في الثوب . وقيل : التراب المدقق ، وصلصل الرمل صوت ، وصلصال بمعنى مصلصل كالقضقاض أي المقضقض ، وهو فيه كثير ، ويكون هذا النوع من المضعف مصدراً فتقول : زلزل زلزالاً بالفتح ، وزلزالاً بالكسر ، ووزنه عند البصريين فعلال ، وهكذا جميع المضاعف حروفه كلها أصول لا قعقع ، خلافاً للفراء وكثير من النحويين . ولا فعفل خلافاً لبعض البصريين وبعض الكوفيين ، ولا أنّ أصله فعل بتشديد العين أبدل من الثاني حرف من جنس الحرف الأول خلافاً لبعض الكوفيين . وينبني على هذه الأقوال : ورب صلصال . الحمأ : طين اسود منتن ، واحدة حمأة بتحريك الميم قاله الليث ووهم في ذلك ، وقالوا : لا نعرف في كلام العرب الحمأة إلا ساكنة الميم ، قاله أبو عبيدة والأكثرون ، كما قال أبو الأسود : يجئك بملئها طوراً وطورا
يجيء بحماة وقليل ماء
وعلى هذا لا يكون حمأ بينه وبين مفرده تاء التأنيث لاختلاف الوزن . السموم : إفراط الحر ، يدخل في المسام حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح . وقيل : السموم بالليل ، والحر بالنهار .
( الرَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ ( : هذه السورة مكية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السموات والأرض ، وأحوال الكفار في ذلك اليوم ، وأنّ ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار ، ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس ، وأحوال الكفرة ، وودادتهم لو كانوا مسلمين . قال مجاهد وقتادة : الكتاب هنا ما نزل من الكتب قبل القرآن ، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن ، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن ، وعطفت الصفة عليه ، ولم يذكر الزمخشري إلا أن تلك الإشارة لما تضمنته السورة من الآيات قال : والكتاب والقرآن المبين السورة ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً ، وآي قرآن مبين كأنه قيل : والكتاب الجامع للكمال والغرابة في الشأن ، والظاهر أنّ ما في ربما مهيئة ، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء ، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها . وجوزوا في ما أنْ تكون نكرة موصوفة ، ورب جازة لها ، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره : رب شيء يوده الذين كفروا . ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أنّ لو مصدرية . وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود ، ومن لا يرى أنْ لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفاً . ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجواب لو محذوف أي : ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب ، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى

" صفحة رقم 433 "
ودّ ، ولما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي ، فكأنه قيل : ود ، وليس ذلك بلازم ، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي . ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري : ومعتصم بالجبن من خشية الردى
سيردي وغاز مشفق سيؤب
وقول هند أم معاوية : يا رب قائلة غدا
يا لهف أم معاوية
وقول جحدر : فإن أهلك فرب فتى سيبكي
عليّ مهذب رخص البنان
في عدة أبيات . وقول أبي عبد الله الرازي : أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح ، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجاً إلى تأويل . وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي : ربما كان يودّ فقوله ضعيف ، وليس هذا من مواضع إضمار كان . ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا ، وطول الزمخشري في تأويل ذلك . ومن قال : إنها للتكثير ، فالتكثير فيها هنا ظاهر ، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة . ومن قال : إنّ التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب ، قال : دل سياق الكلام على الكثرة . وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا ، فلذلك قلل . وقرأ عاصم ، ونافع : ربما بتخفيف الباء ، وباقي السبعة بتشديدها . وعن أبي عمر : والوجهان . وقرأ طلحة بن مصرف ، وزيد بن علي ، ريتما بزيادة تاء . ومتى يودون ذلك ؟ قيل : في الدنيا . فقال الضحاك : عند معاينة الموت . وقال ابن مسعود : هم كفار قريش ودّوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين . وقيل : حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم ، ودُّوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل . وقيل : ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله : ابن عباس ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم ، ورواه أبو موسى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقرأ الرسول هذه الآية ، وقيل : حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، ورواه مجاهد عن ابن عباس . وقيل : إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج . وقيل : عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن ، ذكره ابن الأنباري . ثم أمر تعالى نبيه بأن ينذرهم ، وهو أمر وعيد لهم وتهديد أي : ليسوا ممن يرعوي عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب ، ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير ، فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها ، هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله ورسوله . وفي قوله : يأكلوا ويتمتعوا ، إشارة إلى أنّ التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله في الآخرة ، وعن بعض العلماء : التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين . وقال الحسن : ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل . وانجزم يأكلوا ، وما عطف عليه جواباً للأمر . ويظهر أنه أمر

" صفحة رقم 434 "
بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وبمهادنتهم وموادعتهم ، ولذلك ترتب أن يكون جواباً ، لأنه لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحرب ما هنا هم أكل ولا تمتع ، وبدل على ذلك أنّ السورة مكية ، وإذا جعلت ذرهم أمراً بترك نصيحتهم وشغل باله بهم ، فلا يترتب عليه الجواب ، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم ، أم لم يتركها . فسوف يعلمون : تهديد ووعيد أي : فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي ، وفي الآخرة من العذاب السرمدي . ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم ، وأنه لا يستبطأ ، فإنّ له إجلالاً يتعداه ، والمعنى : من أهل قرية كافرين . والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل ، وهو أبلغ في الزجر . وقيل : المراد الإهلاك بالموت ، والواو في قوله : ولها ، واو الحال . وقال بعضهم : مقحمة أي زائدة ، وليس بشيء . وقرأ ابن أبي عبلة : بإسقاطها وقال الزمخشري : الجملة واقعة صفة لقرية ، والقياس أنْ لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : ) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ( وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه ثوب انتهى . ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال : الجملة نعت لقرية كقولك : ما لقيت رجلاً إلا عالماً قال : وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله : ) وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحداً قاله من النحويين ، وهو مبني على أنّ ما بعداً لا يجوز أن يكون صفة ، وقد منعوا ذلك . قال : الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم ، قال : ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره : إلا رجل راكب ، وفيه قبح بجعلك الصفة كالإسم . وقال أبو علي الفارسي : تقول ما مررت بأحد إلا قائماً ، فقائماً حال من أحد ، ولا يجوز إلا قائم ، لأنّ إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف . وقال ابن مالك : وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله : في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه ، أنّ الجملة بعد إلا صفة لأحد ، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي ، فلا يلتفت إليه . وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أنّ الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف . وقال القاضي منذر بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أنّ الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله تعالى : ) إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا ( انتهى .
والظاهر أنّ الكتاب المعلوم هو الأجل الذي كتب في اللوح وبين ، ويدل على ذلك ما بعده . وقيل : مكتوب فيه أعمالهم وأعمارهم وآجال هلاكهم . وذكر الماوردي : كتاب معلوم أي : فرض محتوم ، ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي : ما تسبق أمة ، وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملاً على المعنى ، وحذف عنه لدلالة الكلام عليه .
( وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أمية ، والنضر بن الحرث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة . وقرأ زيد بن علي : نزل عليه الذكر ماضينا مخففاً مبنياً للفاعل . وقرأ : يا أيها الذي ألقي إليه الذكر ، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيراً ، لأنها مخالفة لسواد المصحف . وهذا الوصف بأنه الذي نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف ، لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه ، وينسبونه إلى الجنون ، إذ لو كان مؤمناً برسالة موسى وما أخبر عنه بالجنون . ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين لصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال : ) لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ( فيكون معه نذيراً أو معاقبين على تكذيبك ، كما كانت تأتي الأمم المكذبة . وقرأ الحرميان والعربيان : ما تنزل مضارع تنزل أي : ما تتنزل الملائكة بالرفع . وقرأ أبو بكر ، ويحيى بن وثاب : ما تنزل بضم التاء وفتح النون والزاي الملائكة بالرفع . وقرأ الأخوان ، وحفص ، وابن مصرف : ما ننزل بضم النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي الملائكة بالنصب . وقرأ زيد بن علي : ما نزل ماضياً مخففاً مبنياً للفاعل الملائكة بالرفع . والحق هنا العذاب قاله الحسن ، أو الرسالة قاله مجاهد ، أو قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب ، أو القرآن ذكره الماوردي . وقال الزمخشري : ألا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أنْ تأتيكم عيانا

" صفحة رقم 435 "
ً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار . وقال ابن عطية : والظاهر أنّ معناها : كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده ، لا على اقتراح كافر ، ولا باختيار معترض . ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إنْ لم يؤمنوا ، فكان الكلام ما تنزل الملائكة إلا بحق واجب لا باقتراحكم . وأيضاً فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب أي : تؤخروا والمعنى ، وهذا لا يكون إذ كان في علم الله أنّ منهم من يؤمن ، أو يلد من يؤمن .
وقال الزمخشري : وادن جواب وجزاء ، لأنه جواب لهم ، وجزاء بالشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذبهم . ولما قالوا على سبيل الاستهزاء : يا أيها الذي نزل عليه الذكر ، رد عليهم بأنه هو المنزل عليه ، فليس من قبله ولا قبل أحد ، بل هو الله تعالى الذي بعث به جبريل عليه السلام إلى رسوله ، وأكد ذلك بقوله : إنا نحن ، بدخول إنّ وبلفظ نحن . ونحن مبتدأ ، أو تأكيد لاسم إنّ ثم قال : وإنا له لحافظون أي : حافظون له من الشياطين . وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه ، فلا يعتريه زيادة ولا نقصان ، ولا تحريف ولا تبديل ، بخلاف غيره من الكتب المتقدمة ، فإنه تعالى لم يتكفل حفظها بل قال تعالى : ) ءانٍ ( ولذلك وقع فيها الاختلاف . وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى ، إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر . وقال الحسن : حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة . وقيل : يحفظه في قلوب من أراد بهم خيراً حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان : كذبت ، وصوابه كذا ، ولم يتفق هذا لشيء من الكتب سواه . وعلى هذا فالظاهر أنّ الضمير في له عائد على الذكر ، لأنه المصرح به في الآية ، وهو قول الأكثر : مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما . وقالت فرقة : الضمير في له عائد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي : يحفظه من أذاكم ، ويحوطه من مكركم كما قال تعالى : ) فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حتى يظهر الله به الدين .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاْوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ( : لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه السلام ، ونسبته إلى الجنون ، واقتراح نزول الملائكة ، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك . وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام . ومفعول أرسلنا محذوف أي : رسلاً من قبلك . وقال الفراء : في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله : حق اليقين ، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف ، أي : في شيع الأمم الأولين ، والأولون هم الأقدمون . وقال الزمخشري : وما يأتيهم حكاية ماضية ، لأنّ ما لا تدخل على مضارع ، إلا وهو في موضع الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى . وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له ، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مراداً به الحال ، وتدخل عليه مراداً به الاستقبال ، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب : أودي بني وأودعوني حسرة
عند الرقاد وعبرة ما تقلع
وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام : له نافلات ما يغب نوالها
وليس عطاء اليوم مانعه غدا

" صفحة رقم 436 "
وقال تعالى : ) مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى ( إلى والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري ، قال : والضمير للذكر أي : مثل ذلك السلك . ونحوه : نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأ به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام يعني : مثل هذا الإنزال أنزلها بهم ، مردودة غير مقصية . ومحل قوله : لا يؤمنون النصب على الحال أي : غير مؤمن به ، أو هو بيان لقوله : كذلك نسلكه انتهى . وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن . قال الحسن : معناه نسلك الذكر إلزاماً للحجة . وقال ابن عطية : الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه ، وهو قول : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد . ويكون الضمير في به يعود أيضاً على ذلك نفسه ، وتكون باء السبب أي : لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ، ويكون قوله : لا يؤمنون به في موضع الحال ، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي : مكذباً به مردوداً مستهزأ به ، يدخله في قلوب المجرمين . ويكون الضمير في به عائداً عليه ، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الاستهزاء والشرك ، والضمير في به يعود على القرآن ، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى . وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب ، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب . والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله : يستهزؤون ، والباء في به للسبب . والمجرمون هنا كفار قريش ، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان . ولا يؤمنون إن كان إخباراً مستأنفاً فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه ، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول . وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم ، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم ، واستهزؤوا بهم ، وهو تهديد لمشركي قريش . والضمير في عليهم عائد على المشركين ، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال ، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق . والظاهر أنّ الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله : عليهم ، أي : لو فتح لهم باب من السماء ، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا : هو شيء تتخيله لا حقيقة له ، وقد سخرنا بذلك . وجاء لفظ فظلوا مشعراً بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا ، على أنّ ظل يأتي بمعنى صار أيضاً . وعن ابن عباس أنّ الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم : ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَةِ ( أي : ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا .
وقرأ الأعمش ، وأبو حيوة : يعرجون بكسر الراء ، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود . وجاء لفظ إنما مشعراً بالحصر ، كأنه قال : ليس ذلك إلا تسكيراً للإبصار . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وابن كثير : سكرت بتخفيف الكاف مبنياً للمفعول ، وقرأ باقي السبعة : بشدها مبنياً للمفعول . وقرأ الزهري : بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنياً للفاعل ، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراه . فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر ، بكسر السين وهو الشد والحبس . وعن الضحاك شدّت ، وعن جوهر جدعت ، وعن مجاهد حبست ، وعن الكلبي عميت ، وعن أبي عمرو غطيت ، وعن قتادة أيضاً أخذت ، وعن أبي عبيد غشيت . وأما قراءة التخفيف فقيل : بالتشديد ، إلا أنه للتكثير ، والتخفيف يؤدي عن معناه . وقيل : معنى التشديد أخذت ، ومعنى التخفيف سحرت . والمشهور أن سكر لا يتعدى . قال أبو علي : ويجوز أن يكون سمع متعدياً في البصرة . وحكى أبو عبيدة عن أبي عبيدة أنه يقال : سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا . وقيل : التشديد من سكر الماء ، والتخفيف من سكر الشراب ، وتقول العرب : سكرت الريح تسكر سكراً إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله ، أولاً وسكراً الرجل من الشراب سكراً إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه . ومن هذا المعنى سكران يبت أي : لا يقطع أمراً . وتقول

" صفحة رقم 437 "
العرب : سكرت في مجاري الماء إذا طمست ، وصرفت المائ فلم ينفذ لوجهه . فإن كان من سكر الشراب ، أو من سكر الريح ، فالتضعيف للتعدية . أو من سكر مجاري الماء فللتكثير ، لأنّ مخففة متعد . وأما سكرت بالتخفيف فإن كان من سكر الماء ففعله متعد ، أو من سكر الشراب أو الريح فيكون من باب وجع زيد ووجعه غيره ، فتقول : سكر الرجل وسكره غيره ، وسكرت الريح وسكرها غيرها ، كما جاء سعد زيد وسعده غيره . ولخص الزمخشري في هذا فقال : وسكرت خيرت أو حبست من السكر ، أو السكر . وقرىء بالتخفيف أي : حبست كما يحبس النهر عن الجري انتهى . وقرأ ابان بن ثعلب : سحرت أبصارنا . ويجيء قوله : بل نحن قوم مسحورون ، انتقالاً إلى درجة عظمى من سحر العقل . وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوة ، لمخالفتها سواد المصحف . وجاء جواب ولو ، قوله : لقالوا أي أنهم يشاهدون ما يشاهدون ، ولا يشكون في رؤية المحسوس ، ولكنهم يقولون ما لا يعتقدون مواطأة على العناد ، ودفع الحجة ، ومكابرة وإيثاراً للغلبة كما قال تعالى : ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ).
) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ( : لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ، ذكر دلائله السماوية ، وبدأ بها ثم أتبعها بالدلائل الأرضية . وقال ابن عطية : لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها ، عقب ذلك بهذه الآية كأنه قال : وإنّ في السماء لعبراً منصوبة عبر عن هذه المذكورة ، وكفرهم بها ، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو انتهى . والظاهر أن جعلنا بمعنى خلقنا ، وفي السماء متعلق بجعلنا . ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، وفي السماء المفعول الثاني ، فيتعلق بمحذوف . والبروج جمع برج ، وتقدم شرحه لغة . قال الحسن وقتادة : هي النجوم . وقال أبو صالح : الكواكب السيارة . وقال علي بن عيسر : اثنا عشر برجاً الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، وهي منازل الشمس والقمر . وقال ابن عطية : قصور في السماء فيها الحرس ، وهي المذكورة في قوله : ) مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ( وقيل : الفلك اثنا عشر برجاً ، كل برج ميلان ونصف . والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها ، والأقرب في اللفظ . وقيل : على السماء ، وهو قول الجمهور . وخص بالناظرين لأنها من المحسوسات التي لا تدرك إلا بنظر العين . ويجوز أن يكون من نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية ، وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة . والضمير في حفظناها عائد على السماء ، ولذلك قال الجمهور : إن الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر ، وحفظ السماء هو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الشياطين تقرب من السماء أفواجاً فينفرد المارد منها فيستمع ، فيرمي بالشهاب فيقول لأصحابه . وهو يلتهب : إنه الأمر كذا وكذا ، فتزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة فيزيدون على الكلمة مائة كلمة ) ونحو هذا الحديث . وقال ابن عباس : إن الشهب تخرج وتؤذي ، ولا تقتل . وقال الحسن : تقتل . وفي الأحاديث ما يدل على أنّ الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام . وحفظت السماء حفظاً تاماً . وعن ابن عباس : كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) منعوا من السمموات كلها . والظاهر أنّ قوله : إلا من استرق ، استثناء متصل والمعنى : فإنها لم تحفظ منه ، ذكره الزهراوي وغيره والمعنى : أنه سمع من خبرها شيئاً وألقاه إلى الشياطين . وقيل : هو استثناء منقطع والمعنى : أنها حفظت منه ، وعلى كلا التقديرين فمِن في موضع نصب . وقال الحوفي : من بدل من كل شيطان ، وكذا قال أبو البقاء : حر على البدل أي : إلا ممن استرق السمع . وهذا الإعراب غير سائغ ، لأن ما قبله موجب ، فلا يمكن التفريغ ، فلا يكون بدلاً ، لكنه يجوز أن يكون إلا من استرق نعتاً على خلاف في ذلك . وقال

" صفحة رقم 438 "
أبو البقاء : ويجوز أن يكون من في موضع رفع على الابتداء ، وفأتبعه الخبر . وجاز دخول الفاء من أجل أنّ مِن بمعنى الذي ، أو شرط انتهى . والاستراق افتعال من السرقة ، وهي أخذ الشيء بخفية ، وهو أن يخطف الكلام خطفة يسيرة . والسمع المسموع ، ومعنى مبين : ظاهر للمبصرين .
( وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( : مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها . قال الحسن : أخذ الله طينة فقال لها : انبسطي فانبسطت . وقيل : بسطت من تحت الكعبة . ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية ، كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء ، فلذلك نصب والأرض . والرواسي : الجبال ، وفي الحديث : ( إن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال ) ومِن في من كل للتبعيض ، وعند الأخفش هي زائدة أي كل شيء . والظاهر أنّ الضمير في فيها يعود على الأرض الممدودة ، وقيل : يعود على الجبال ، وقيل : عليها وعلى الأرض معاً . قال ابن عباس ، وابن جبير : موزون مقدر بقدر . وقال الزمخشري قريباً منه قال : وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار يقتضيه لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان . وقال ابن عطية : قال الجمهور : معناه مقدر محرر بقصد وإرادة ، فالوزن على هذا مستعار . وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة ، وغير ذلك مما يوزن . وقال قتادة : موزون مقسوم . وقال مجاهد : معدود ، وقال الزمخشري : أوله وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة . وبسطه غيره فقال : ما له منزلة ، كما تقول : ليس له وزن أي : قدر ومنزلة . ويقال : هذا كلام موزون ، أي منظوم غير منتثر . فعلى هذا أي : أنبتنا فيها ، ما يوزن من الجواهر والمعادن والحيوان . وقال تعالى : ) وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( والمقصود بالإنبات الإنشاء والإيجاد .
وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع : معائش بالهمز . قال ابن عطية : والوجه ترك الهمز ، وعلل ذلك بما هو معروف في النحو . وقال الزمخشري : معايش بياء صريحة بخلاف الشمائل والخبائث ، فإنّ تصريح الياء فيها خطأ ، والصواب الهمزة ، أو إخراج الياء بين بين . وتقدم تفسير المعايش أول الأعراف والظاهر أنّ من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم . وقال معناه الفراء ، ويدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالأنعام والدواب ، وما بتلك المثابة مما الله رازقه ، وقد سبق إلى ظنهم أنهم الرازقون ، وقال معناه الزجاج . وقال مجاهد : الدواب والأنعام والبهائم . وقيل : الوحوش والسباع والطير . فعلى هذين القولين يكون من لما لا يعقل . والظاهر أنّ مِن في موضع جر عطفاً على الضمير المجرور في لكم ، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش . وقد استدل القائل على صحة هذا المذهب في البقرة في قوله : ) وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( وقال الزجاج : من منصوب بفعل محذوف تقديره : وأعشنا من لستم أي : أمما غيركم ، لأنّ المعنى أعشناكم . وقيل : عطفاً على معايش أي : وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع . وقيل : والحيوان . وقيل : عطفاً على محل لكم . وقيل : من مبتدأ خبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي : ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش . وهذا لا بأس به ، فقد أجازوا ضربت زيداً وعمرو بالرفع على الابتداء أي : وعمرو ضربته ، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه . وتقدم شرح الخزائن . وإنْ نافية ، ومن زائدة ، والظاهر أنّ المعنى : وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والأنعام به ، فتكون الخزائن وهي ما يحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول . وقال قوم : المراد الخزائن حقيقة ، وهي التي تحفظ

" صفحة رقم 439 "
فيها الأشياء ، وأن للريح مكاناً ، وللمطر مكاناً ، ولكل مكان ملك وحفظه ، فإذا أمر الله بإخراج شيء منه أخرجته الحفظة . وقيل : المراد بالشيء هنا المطر ، قاله ابن جريج .
وقرأ الأعمش : وما نرسله مكان وما ننزله ، والإرسال أعم ، وهي قراءة تفسير معنى لا أنها لفظ قرآن ، لمخالفتها سواد المصحف . وعن ابن عباس ، والحكم بن عيينة : أنه ليس عام أكثر مطراً من عام ، ولكنّ الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع . ولواقح جمع لاقح ، يقال : ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء سحاب ماطر ، كما قيل للتي لا تأتي بخير بل بشر ريح عقيم ، أو ملاقح أي : حاملات للمطر . وفي صحيح البخاري : لواقح ملاقح ملقحة . وقال عبيد بن عمير : يرسل الله المبشرة تقم الأرض قمائم المثيرة ، فتثير السحاب . ثم المؤلفة فتؤلفه ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر . ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وسقى وأسقى قد يكونان بمعنى واحد . وقال أبو عبيدة : من سقى الشفة سقى فقط ، أو الأرض والثمار أسقى ، وللداعي لأرض وغيرها بالسقيا أسقى فقط . وقال الأزهري : العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ، ومن السماء ، أو نهر يجري : أسقيته ، أي جعلته شرباً له ، وجعلت له منه مسقى . فإذا كان للشفة قالوا : سقى ، ولم يقولوا أسقى . وقال أبو علي : سقيته حتى روي ، وأسقيته نهراً جعلته شرباً له . وجاء الضمير هنا متصلاً بعد ضمير متصل كما تقدم في قوله : ) أَنُلْزِمُكُمُوهَا ( وتقدم أنّ مذهب سيبويه فيه وجوب الاتصال . وما أنتم له بخازنين أي : بقادرين على إيجاده ، تنبيهاً على عظيم قدرته ، وإظهار العجز . هم أي : لستم بقادرين عليه حين احتياجكم إليه . وقال سفيان : بخازنين أي بمانعين المطر . نحيي : نخرجه من العدم الصرف إلى الحياة . ونميت : نزيل حياته . ونحن الوارثون الباقون بعد فناء الخلق . والمستقدمين قال ابن عباس والضحاك : الأموات ، والمستأخرين الأحياء . وقال قتادة وعكرمة وغيرهما : المستقدمين في الخلق والمستأخرين الذين لم يخلقوا بعد . وقال مجاهد : المستقدمين من الأمم والمستأخرين أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن وقتادة أيضاً : في الطاعة والخبر ، والمستأخرين بالمعصية والشر . وقال ابن جبير : في صفوف الحرب ، والمستأخرين فيه . وقيل : من قتل في الجهاد ، والمستأخرين من لم يقتل . وقيل : في صفوف الصلاة ، والمستأخرين بسبب النساء لينظروا إليهن . وقال قتادة أيضاً : السابقين إلى الإسلام والمتقاعسين عنه . والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر ، والمعنى : أنه تعالى محيط علمه بمن تقدم وبمن تأخر وبأحوالهم ، ثم أعلم تعالى أنه يحشرهم . وقرأ الأعمش : يحشرهم بكسر الشين . وقال ابن عباس ومروان بن الحكم ، وأبو الحوراء : كانت تصلي وراء الرسول امرأة جميلة ، فبعض يتقدم لئلا تفتنه وبعض يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة ، فنزلت الآية فيهم . وفصل هذه الآية بهاتين الصفتين من الحكمة والعلم في غاية المناسبة .
( ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَر

" صفحة رقم 440 "
ٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ( )
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدّينِ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِراطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ( : لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه ، نبههم على مبدأ أصلهم آدم ، وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى . وتقدم شيء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكر الأماتة والإحياء والرجوع إليه تعالى . وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة ، وذكر الموازين فيه . وفي الكهف بعد ذكر الحشر ، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه . فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع عدوه إبليس ليحذرهم من كيده ، ولينظروا ما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة مقر السعادة والراحة ، إلى الأرض مقر التكليف والتعب ، فيتحرزوا من كيده ، ومن حمإ قال الحوفي بدل من صلصال ، بإعادة الجار . وقال أبو البقاء : من حمإ في موضع جر صفة لصلصال . وقال ابن عباس : المسنون الطين ومعناه المصبوب ، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب ، فكنى عن المصبوب بوصفه ، لأنه موضوع له . وقال مجاهد وقتادة ومعمر : المنتن . قال الزمخشري : من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتناً . وقال غيره : من أسن الماء إذا تغير ، ولا يصح لاختلاف المادتين . وقيل : مصبوب من سننت التراب والماء إذا صببته شيئاً بعد شيء ، فكان المعنى : أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها . قال الزمخشري : وحمأ مسنون بمعنى مصور أنْ يكون صفة لصلصال ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصال ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر انتهى . وقيل : المسنون المصور من سنة الوجه ، وهي صورته . قال الشاعر :
تريك سنة وجه غير مقرفة
وقيل : المسنون المنسوب أي : ينسب إليه ذريته .
والجان : هو أبو الجن ، قاله ابن عباس . قال الزمخشري : والجان للجن كآدم للناس . وقال الحسن وقتادة : هو إبليس ، خلق قبل آدم . وقال ابن بحر : هو اسم لجنس الجن ، والإنسان المراد به آدم ، ومن قبل أي : من قبل خلق الإنسان . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : والجأن بالهمز . والسموم قال ابن عباس : الريح الحارة التي تقتل . وعنه : نار لا دخان لها ، منها تكون الصواعق . وقال الحسن : نار دونها حجاب . وعن ابن عباس : نفس النار ، وعنه : لهب النار . وقيل : نار اللهب السموم . وقيل : أضاف الموصوف إلى صفته أي : النار

" صفحة رقم 441 "
السموم . وسويته أكملت خلقه ، والتسوية عبارة عن الإتقان ، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت . ونفخت فيه من روحي أي : خلقت الحياة فيه ، ولا نفخ هناك ، ولا منفوخ حقيقة ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه . وأضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو : بيت الله ، وناقة الله ، أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح ، والمودعها حيث يشاء . وقعوا له أي : اسقطوا على الأرض . وحرف الجر محذوف من أن أي : ما لك فيأن لا تكون . وأي : داع دعا بك إلى إبائك السجود . ولا سجد اللام لام الجحود ، والمعنى : لا يناسب حالي السجود له . وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي : رأى نفسه أكبر من أن يسجد . وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار ، وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما . وهنا نبه على مادة آدم وحده ، وهنا فاخرج منها وفي الأعراف : ) فَاهْبِطْ مِنْهَا ( وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها . وقد تقدمت منها مباحث في سورة البقرة ، والأعراف ، أعادها المفسرون هنا ، ونحن نحيل على ما تقدم إلا ما له خصوصية بهذه السورة فنحن نذكره .
فتقول : وضرب يوم الدين غاية للعنة ، إما لأنه أبعد غاية يضر بها الناس في كلامهم ، وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه . ويوم الدين ، ويوم يبعثون ، ويوم الوقت المعلوم ، واحد . وهو وقت النفخة الأولى حتى تموت الخلائق . ووصف بالمعلوم إما لانفراد الله بعلمه كما قال : ) قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( ) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( أو لأنه معلوم فناء العالم فيه ، فيكون قد عبر بيوم الدين ، وبيوم يبعثون ، ويوم الوقت المعلوم ، بما كان قريباً من ذلك اليوم . قال الزمخشري : ومعنى إغوائه إياه نسبته لغيه ، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام ، فافضى ذلك إلى غيه . وما الأمر بالسجود الأحسن ، وتعريض للثواب بالتواضع ، والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والضمير في لهم عائد على غير مذكور ، بل على ما يفهم من الكلام ، وهو ذرية آدم . ولذلك قال في الآية الأخرى : ) لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( والتزيين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي : في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى : ) أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم ، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا على التزيين لأولاده أقدر . أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض ، ولأرفعن رتبتي فيها أي : لأزينها في أعينهم ، ولا حدثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها ، ونحوه : يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري . وإلاّ عبادك استثناء القليل من الكثير ، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل ، واستثناؤهم إبليس ، لأنه علم أنّ تزيينه لا يؤثر فيهم ، وفيه دليل على جلاله هذا الوصف ، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع .
وقرأ الكوفيون ، ونافع ، والحسن ، والأعرج : بفتح اللام ، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت ، فلا يؤثر فيه تزييني . وقرأ باقي السبعة والجمهور : بكسرها أي : إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره . ولا رأءى به ، والفاعل لقال الله أي : قال الله . والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي : الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل ، لأنّ من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه . وقيل : لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى : هذا أمر مصيره إليّ ، ووصفه بالاستقامة ، أي : هو حق ، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك . والعرب تقول : طريقك في هذا الأمر على فلان أي : إليه يصيرالنظر في أمرك . وقال الزمخشري : هذا طريق حق عليّ أن أراعيه ، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى . فجعل هذا إشارة إلى انتفاء

" صفحة رقم 442 "
تزيينه وإغوائه . وكونه ليس له عليهم سلطان ، فكأنه أخذ الإشارة إلى ما استثناه إبليس ، وإلى ما قرره تعالى بقوله : إن عبادي . وتضمن كلامه مذهب المعتزلة . وقال صاحب اللوامح : أي : هذا صراط عهدة استقامته عليّ . وفي حفظه أي : حفظه عليّ ، وهو مستقيم غير معوج . وقال الحسن : معنى عليّ إليَّ . وقيل : عليّ كأنه من مرّ عليه مرّ عليّ أي : على رضواني وكرامتي . وقرأ الضحاك ، وابراهيم . وأبو رجاء ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وقتادة ، وقيس بن عباد ، وحميد ، وعمرو بن ميمون ، وعمارة بن أبي حفصة ، وأبو شرف مولى كندة ، ويعقوب : عليّ مستقيم أي : عال لارتفاع شأنه . وهذه القراءة تؤكد أنّ الإشارة إلى الإخلاص وهو أقرب إليه . والإضافة في قوله : إنّ عبادي ، إضافة تشريف أي : أنّ المختصين بعبادتي ، وعلى هذا لا يكون قوله : إلا من اتبعك ، استثناء متصلاً ، لأنّ من اتبعه لم يندرج في قوله : إنّ عبادي : وإنْ كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون : إلاّ من اتبعك استثناء من عموم ، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر ، وبقاء المستثنى منه أقل ، وهي مسألة اختلف فيها النحاة . فأجاز ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف ، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو . والذي يظهر أنّ إبليس لما استثنى العباد المخلصين كانت الصفة ملحوظة في قوله : إنّ عبادي أي : عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ليس لك عليهم سلطان . ومن في الغاوين لبيان الجنس أي : الذين هم الغاوون . وقال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة ، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة . قال : وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه ، ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين . وقال ابن عطية : وأجمعين تأكيد ، وفيه معنى الحال انتهى . وهذا جنوح لمذهب من يزعم أنّ أجمعين تدل على اتحاد الوقت ، والصحيح أنّ مدلوله مدلول كلهم .
والظاهر أن جهنم هي واحدة ، ولها سبعة أبواب . وقيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصائبين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين . وقرأ ابن القعقاع : جز بتشديد الزاي من غير همز ، ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ، ثم وقف بالتشديد نحو : هذا فرج ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف . واختلف عن الزهري ، ففي كتاب ابن عطية : وقرأ ابن شهاب بضم الزاي ، ولعله تصحيف من الناسخ ، لأني وجدت في التحرير : وقرأ ابن وثاب بضمها مهموزاً فيهما . وقرأ الزهري بتشديد الزاي دون همز ، وهي قراءة ابن القعغقاع . وأنّ فرقة قرأت بالتشديد منهم : ابن القعقاع . وفي كتاب الزمخشري وكتاب اللوامح : أنه قرأ بالتشديد ، وفي اللوامح هو وأبو جعفر .
2 ( ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّ لِيمُ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ

" صفحة رقم 443 "
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاٌّ مْرَ أَنَّ دَابِرَ هَاؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَاؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَاؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الاٌّ يْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَءَاتَيْنَاهُمْ ءَايَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّىأَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلاهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } )
الحجر : ( 45 ) إن المتقين في . . . . .
السرر : جمع سرير ، ككليب وكلب . وبعض تميم يفتح الراء ، وكذا كل مضاعفة فعيل . النصب : التعب . القنوط : أتم اليأس ، يقال : قنط يقنط بفتحها ، وقنط بفتح النون يقنط بكسرها وبضمها . الفضح والفضيحة مصدران لفضح يفضح ، إذا أتى من أمر الإنسان ما يلزمه به العار ، ويقال : فضحك الصبح ، إذا تبين للناس . قال الشاعر : ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
مثل القلامة قد قصت من الظفر

" صفحة رقم 444 "
التوسم : تفعل من الوسم ، هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها ، يقال : توسم فيه الخير إذا رأى ميسم ذلك . وقال عبد الله بن رواحة في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إني توسمت فيك الخير أجمعه
والله يعلم أني ثابت البصر
وقال الشاعر : توسمت لما أن رأيت مهابة
عليه وقلت المرء من آل هاشم
واتسم الرجل جعل لنفسه علامة يعرف بها ، وتوسم الرجل طلب كلاء الوسمي . وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك . وأصل التوسم التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو غيره . الأيكة : الشجرة الملتفة واحدة أيك . قال الشاعر : تجلو بقادمتي حمامة أيكة
برداً أسف لثاته بالأثمد
الخفض مقابل الرفع ، وهو كناية عن الإلانة والرفق . عضين : جمع عضة ، وأصلها الواو والهاء يقال : عضيت الشيء تعضيه فرقته ، وكل فرقة عضة ، فأصله عضوة . وقيل : العضة في قريش السحر ، يقولون للساحر : عاضه ، وللساحرة : عاضهة . قال الشاعر : أعوذ بربي من النافثات
في عقد العاضه المعضه
وفي الحديث : ( لعن الله العاضهة والمستعضهة ) وفسر بالساحر والمستسحرة ، فأصله الهاء . وقيل : من العضه يقال : عضهه عضها ، وعضيهة رماه بالبهتان . قال الكسائي : العضه الكذب والبهتان ، وجمعها عضون . وذهب الفراء إلى أنّ عضين من العضاة ، وهي شجرة تؤذي تخرج كالشوك . ومن العرب من يلزم الياء ويجعل الإعراب في النون فيقول : عضينك كما قالوا : سنينك ، وهي كثيرة في تميم وأسد . الصدع : الشق ، وتصدع القوم تفرقوا ، وصدعته فانصدع أي شققته فانشق . وقال مؤرج : أصدع أفصل ، وقال ابن الأعرابي : أفصد .
( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ ( : لما ذكر تعالى ما أعد لأهل النار ، ذكر ما أعد لأهل الجنة ، ليظهر تباين ما بين الفريقين . ولما كان حال المؤمنين معتنى به ، أخبر أنهم في جنات وعيون ، جعل ما يستقرون فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا ، ولذلك جاء : ادخلوها على قراءة الأمر ، لأنّ من استقر في الشيء لا يقال له : أدخل فيه . وجاء حال الغاوين موعوداً به في قوله : ) لَمَوْعِدُهُمْ ( لأنهم لم يدخلوها . والعيون : جمع عين . وقرأ نافع ، وأبو عمر

" صفحة رقم 445 "
وحفص ، وهشام : وعيون بضم العين ، وباقي السبعة بكسرها . وقرأ الحسن : ادخلوها ماضياً مبنياً للمفعول من الإدخال . وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك ، وبضم التنوين ، وعنه فتحه . وما بعده أمر على تقدير : أدخلوها إياهم من الإدخال ، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة ، وتسقط الهمزة في القراءتين . وقرأ الجمهور : ادخلوها أمر من الدخول . فعلى قراءتي الأمر ، ثم محذوف أي : يقال لهم ، أو يقال للملائكة . وبسلام في موضع نصب على الحال ، واحتمبل أن يكون المعنى : مصحوبين بالسلامة ، وأن يكون المعنى : مسلماً عليكم أي : محيون ، كما حكي عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة يقولون : سلام عليكم . ) وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ ( تقدم شرحه في الأغراف . قيل : وانتصب إخواناً على الحال ، وهي حال من الضمير ، والحال من المضاف إليه إذا لم يكن معمولاَ لما أضيف على سبيل الرفع أو النصب تندر ، فلذلك قال بعضهم : إنه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه كهذا ، لأنّ الصدور بعض ما أضيفت إليه وكالجزء كقوله : ) واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ( جاءت الحال من المضاف . وقد قررنا أنّ ذلك لا يجوز . وما استدلوا به له تأويل غير ما ذكروا ، فتأويله هنا أنه منصوب على المدح ، والتقدير : أمدح إخواناً . لما لم يمكن أن يكون نعتاً للضمير قطع من إعرابه نصباً على المدح ، وقد ذكر أبو البقاء أنه حال من الضمير في الظرف في قوله : في جنات ، وأن يكون حالاً من الفاعل في : ادخلوها ، أو من الضمير في : آمنين .
ومعنى إخواناً : ذوو تواصل وتوادد . وعلى سرر متقابلين : حالان . والقعود على السرير : دليل على الرفعة والكرامة التامة كما قال : يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة . وعن ابن عباس : على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر . وقال قتادة : متقابلين متساوين في التواصل والتزاور . وعن مجاهد : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، تدور بهم الأسرة حيث ما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين انتهى .
ولا كانت الدنيا محل تعب بما يقاسى فيها من طلب المعيشة ، ومعاناة التكاليف الضرورية لحياة الدنيا وحياة الآخرة ، ومعاشرة الأضداد ، وعروض الآفات والأسقام ، ومحل انتقال منها إلى دار أخرى مخوف أمرها عند المؤمن ، لا محل إقامة ، أخبر تعالى بانتفاء ذلك في الجنة بقوله : لا يمسهم فيها نصب . وإذا انتفى المس ، انتفت الديمومة . وأكد انتفاء الإخراج بدخول الباء في : بمخرجين . وقيل : للثواب أربع شرائط أن يكون منافع وإليه الإشارة بقوله : في جنات وعيون مقرونة بالتعظيم ، وإليه الإشارة بقوله : ادخلوها بسلام آمنين خالصة عن مظان الشوائب الروحانية : كالحقد ، والحسد ، والغل ، والجسمانية كالإعياء ، والنصب . وإليه الإشارة بقوله : ونزعنا إلى لا يمسهم فيها نصب دائمة ، وإليه الإشارة بقوله : وما هم منها بمخرجين . وعن علي بن الحسين : أن قوله ونزعنا الآية ، نزلت في أبي بكر وعمر ، والغل غل الجاهلية . وقيل : كانت بين بني تميم وعدي وهاشم أضغان ، فلما أسلموا تحابوا . ولما تقدّم ذكر ما في النار ، وذكر ما في الجنة ، أكد تعالى تنبيه الناس . وتقرير ذلك وتمكينه في النفس بقوله : نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وناسب ذكر الغفران والرحمة اتصال ذلك بقوله : إن المتقين . وتقديماً لهذين الوصفين العظيمين اللذين وصف بهما نفسه وجاء قوله : وأن عذابي ، في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة . وأني المعذب المؤلم ، كل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة . وسدت أنّ مسد مفعولي نبىء إن قلنا إنها تعدت إلى ثلاثة ، ومسد واحد إن قلنا : تعدّت إلى اثنين . وعن ابن عباس : غفور لمن تاب ، وعذابه لمن لم يتب . وفي قوله : نبىء الآية ، ترجيح جهة الخير من جهة أمره تعالى رسوله بهذا التبليغ ، فكأنه إشهاد على نفسه بالتزام المغفرة والرحمة . وكونه أضاف العباد إليه فهو تشريف لهم ، وتأكيد اسم أنّ بقوله : أنا . وإدخال أل على هاتين الصفتين وكونهما جاءتا بصيغة المبالغة والبداءة بالصفة السارة أولاً وهي الغفران ، واتباعها بالصفة التي نشأ عنها الغفران وهي الرحمة . وروي في الحديث : ( لو

" صفحة رقم 446 "
يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه ) وفي الحديث عن ابن المبارك بإسناده أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) طلع من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال : ( ألا أراكم تضحكون ) ثم أدبر حتى إذا كان عناء الحجر ، رجع إلينا القهقرى فقال : ( جاء جبريل عليه السلام فقال يقول الله لم تقنط عبادي نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) .
( وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ( ولما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار ، وللطائعين من الجنة ، ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، ليزدجروا عن كفرهم ، وليعتبروا بما حل بغيرهم . فبدأ بذكر جدهم الأعلى إبراهيم عليه السلام ، وما جرى لقوم ابن أخيه لوط ، ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح ، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب . وقرأ أبو حيوة : ونبيهم بإبدال الهمزة ياء . وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد ، وبهلاك قوم لوط . وأضيفوا إلى إبراهيم وإن لم يكونوا أضيافاً ، لأنهم في صورة من كان ينزل به من الأضياف ، إذ كان لا ينزل به أحد إلى ضافه ، وكان يكنى أبا الضيفان . وكان لقصره أربعة أبواب ، من كل جهة باب ، لئلا يفوته أحد . والضيف أصله المصدر ، والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع للمثنى والمجموع ، ولا حاجة إلى تكلف إضمار كما قاله النحاس وغيره من تقدير : أصحاب ضيف . وسلاماً مقتطع من جملة محكية بقالوا ، فليس منصوباً به ، والتقدير : سلمت سلاماً من السلامة ، أو سلمنا سلاماً من التحية . وقيل : سلاماً نعت لمصدر محذوف تقديره : فقالوا قولاً سلاماً ، وتصريحه هنا بأنه رجل منهم ، كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ ، وامتناعهم من الأكل وفي هو ذاته أوجس في نفسه خيفة ، فيمن أنّ هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة . ويحتمل أن يكون القول هنا مجازاً بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل .
وقرأ الجمهور : لا توجل مبنياً للفاعل . وقرأ الحسن : بضم التاء مبنياً للمفعول من الإيجال . وقرىء : لا تاجل بإبدال الواو ألفاً كما قالوا : تابة في توبة . وقرىء : لا تواجل من واجله بمعنى أوجله . إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، أي : إنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل . والمبشر به هو إسحاق ، وذلك بعد أنْ ولد له إسماعيل وشب بشروه بأمرين : أحدهما : أنه ذكر . والثاني : وصفه بالعلم على سبيل المبالغة . فقيل : النبوة كقوله تعالى : ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً ( وقيل : عليم بالدين .
وقرأ الأعرج : بشرتموني بغير همزة الاستفهام ، وعلى أنّ مسني الكبر في موضع الحال . وقرأ ابن محيصن : الكبر بضم الكاف وسكون الباء ، واستنكر إبراهيم عليه السلام أنْ يولد له مع الكبر . وفبم تبشرون ، تأكيد استبعاد وتعجب ، وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة رسل الله إليه ، فلذلك استفهم ، واستنكر أن يولد له . ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر ، ولا سيما وقد رأى من آيات الله عياناً كيف أحيا الموتى . قال الزمخشري : كأنه قال : فبأيّ أعجوبة تبشروني ، أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة ، فبأي شيء تبشرون ؟ يعني : لا تبشروني في الحقيقة بشيء ، لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء . ويجوز أن لا تكون صلة لبشر ، ويكون سؤالاً على الوجه والطريقة يعني : بأي طريقة تبشرونني بالولد ، والبشارة به لا طريقة لها في العادة انتهى . وكأنه قال : أعلى وصفي بالكبر ، أم على أني أرد إلى الشباب ؟ وقيل : لما استطاب البشارة أعاد السؤال ، ويضعف هذا

" صفحة رقم 447 "
قولهم له : بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . وقرأ الحسن : تبشروني بنون مشددة وياء المتكلم ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية . وابن كثير : بشدها مكسورة دون ياء . ونافع يكسرها مخففة ، وغلّطه أبو حاتم وقال : هذا يكون في الشعر اضطراراً ، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية وكسر نون الرفع للياء ، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها . وقالوا هو مثل قوله : يسوء القالبات إذا قليني وقول الآخر :
لا أباك تخوفيني وقرأ باقي السبعة : بفتح وهي علامة الرفع . قال الحسن : فبم تبشرون على وجه الاحتقار وقلة المبالاة بالمبشرات لمضي العمر واستيلاء الكبر . وقال مجاهد : عجب من كبره وكبر امرأته ، وتقدم ذكر سنة وقت البشارة . وبالحق أي باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بالطريقة التي هي حق ، وهي قول الله ووعده وأنه قادر على أنْ يوجد ولداً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فانٍ ، وعجوز عاقر . وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، ورويت عن أبي عمرو : من القنطين ، من قنط يقنط . وقرأ النحويان والأعمش : ومن يقنط . وهو استفهام في ضمنه النفي ، ولذلك دخلت إلا في قوله : إلا الضالون وقولهم له : فلا تكن من القانطين نهي ، والنهي عن الشيء لا يدل على تلبس المنهى عنه به ولا بمقارنته . وقوله : ومن يقنط ردّ عليهم ، وأن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط ، بل ذلك على سبيل الاستبعاد لما جرت به العادة . وفي ذلك إشارة إلى أنّ هبة الولد على الكبر من رحمة الله ، إذ يشد عضد والده به ويؤازره حالة كونه لا يستقل ويرث منه علمه ودينه .
( قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَاتَيْنَاكَ بِالْحَقّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( : لما بشروه بالولد راجعوه في ذلك ، علم أنهم ملائكة الله ورسله ، فاستفهم بقوله : فما خطبكم ؟ الخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد ، فأضافه إليهم من حيث أنهم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين . ونكر قوماً وصفتهم تقليلاً لهم واستهانة بهم ، وهم قوم لوط أهل مدينة سدوم والمعنى : أرسلنا بالهلاك . وإلا آل لوط : يحتمل أن يكون استثناء من الضمير المستكن في مجرمين والتقدير : أجرموا كلهم إلا آل لوط ، فيكون استثناء متصلاً ، والمعنى : إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا . ويكون قوله : إنا لمنجوهم أجمعين ، استئناف إخبار عن نجاتهم ، وذلك لكونهم لم يجرموا ، ويكون حكم الإرسال منسحباً على قوم مجرمين وعلى آل لوط لإهلاك هؤلاء ، وإنجاء هؤلاء . والظاهر أنه استثناء منقطع ، لأنّ آل لوط ، ولا على عموم الشمول لتنكير قوم مجرمين ، ولانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط . وإذا كان استثناء فهو مما يجب فيه النصب ، لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن بوجه العامل على المستثنى فيه ، لأنهم لم يرسلوا إليهم أصلاً ، وإنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة . ويكون قوله : إنا لمنجوهم جرى مجرى خبر ، لكن في اتصاله بآل لوط ، لأن المعنى : لكن آل لوط منجون . وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدر بلكن إذا لم يكن بعده ما يصح أن يكون خبراً أنّ الخبر محذوف ، وأنه في موضع رفع لجريان إلا وتقديرها بلكن .
قال الزمخشري : فإن قلت : فقلوه إلا امرأته مم استثنى ، وهل هو استثناء من استثناء ؟ قلت : استثنى من الضمير المجرور في قوله : لمنجوهم ، وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء ، لأن الاستثناء إنما يكون

" صفحة رقم 448 "
فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلى امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة ، وفي قول المقر لفلان : عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً . فأما في الآية فقد اختلف الحكان ، لأنّ إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين ، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء : انتهى . ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء . ومن قال : إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين : أحدهما : أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط ، وقد استثنى منه المرأة ، صار كأنه مستثنى من آل لوط ، لأنّ المضمر هو الظاهر في المعنى . والوجه الآخر : أن قوله : إلا آل لوط ، لما حكم عليهم بغير الحكم علي قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم ، فجاء قوله : إنا لمنجوهم أجمعين تأكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى إلا آل لوط ، فلم يرسل إليهم بالعذاب ، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير قولك : قام القوم إلا زيداً ، فإنه لم يقم وإلا زيداً لم يقم . فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه ، فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط ، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد .
وقرأ الأخوان : لمنجوهم بالتخفيف ، وباقي السبعة بالتشديد . وقرأ أبو بكر : قدرنا بالتخفيف ، وباقي السبعة بالتشديد ، وكسرت إنها إجراء لفعل التقدير مجرى العلم ، إما لكونه بمعناه ، وإما لترتبه عليه . وأسندوا التقدير إليهم ، ولم يقولوا : قدر الله ، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك ومن هو متصرف بأوامره : أمرنا بكذا ، والآمر هو الملك . وقال الزمخشري : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم انتهى . فأدرج مذهب الاعتزال في تفضيل الملائكة في غضون كلامه ، ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم ، وخاف أن يطرقوه بشر . وبل إضراب عن قول محذوف أي : ما جئناك بشيء تخافه ، بل جئناك بالعذاب لقومك ، إذ كانوا يمترون فيه أي : يشكون في وقوعه ، أو يجادلونك فيه تكذيباً لك بما وعدتهم عن الله . ويحتمل أن يكون نكرهم لكونهم ليسوا بمعروفين في هذا القطر ، فخاف الهجوم منهم عليه ، أو أن يتعرض إليهم أحد من قومه إذ كانوا في صورة شباب حسان مرد . وأتيناك بالحق أي : باليقين من عذابهم ، وإنا لصادقون في الإخبار لحلوله بهم . وتقدم الخلاف في القراءة في فأسر . وروى صاحب الإقليد فسر من السير ، وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني . وحكى القاضي منذر بن سعيد أنّ فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء ، وتقدم الكلام في القطع وفي الالتفات في سورة هود . وخطب الزمخشري هنا فقال : ( فإن قلت ) : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ، ونهيهم عن الالتفات ؟ ( قلت ) : قد بعث الله الهلاك على قومه ونجاه وأهله ، إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجراً فلم يكن بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله ، لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أهوالهم ، فلا يفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي تقدم سريه وتفوت به .
وحيث تؤمرون قال ابن عباس : الشام . وقيل : موضع نجاة غير معروف . وقيل : مصر . وقيل : إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين . وحيث على بابها من أنها ظرف مكان ، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله : فأسر بأهلك بقطع من الليل ، ثم قيل له : حيث تؤمر ضعيف . ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك ، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم ، وحيث من الظروف المكانية المبهمة ، ولذلك يتعدّى إليها الفعل وهو : امضوا بنفسه ، تقول : قعدت حيث قعد زيد ، وجاء في الشعر دخول في عليها . قال الشاعر : فأصبح في حيث التقينا شريدهم
طليق ومكتوف اليدين ومرعف

" صفحة رقم 449 "
ولما ضمّن قضينا معنى أوحينا ، تعدت تعديها بإلى أي : وأوحينا إلى لوط مقضياً مبتوتاً ، والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه . وأنّ دابر تفخيم للأمر وتعظيم له ، وهو في موضع نصب على البدل من ذلك قاله الأخفش ، أو على إسقاط الباء أي بأنّ دابراً قاله الفراء ، وجوزه الحوفي . وأنّ دابر هؤلاء مقطوع كناية عن الاستئصال . وتقدم تفسير مثله في قوله : ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( ومصبحين داخلين في الصباح ، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى ، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد : إذا كانوا مصبحين ، كما تقول : أنت راكباً أحسن منك ماشياً ، فإن كان تفسير معنى فصحيح ، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير . وقرأ الأعمش وزيد بن علي : إن دابر بكسر الهمزة لما ضمن قضينا معنى أوحينا ، فكان المعنى : أعلمنا ، علق الفعل فكسر إنْ أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء معناه القول كسران ، ويؤيده قراءة عبد الله . وقلنا : إنّ دابر وهي قراءة تفسير لا قرآن ، لمخالفتها السواد . والمدينة : سدوم ، وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور .
( وَجَآء أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَاؤُلآء بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( : استبشارهم : فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط عليه السلام . والظاهر أنّ هذا المجيء ومحاورته مع قومه في حق أضيافه ، وعرضه بناته عليهم ، كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله ، ولذلك سماهم ضيفان خوف الفضيحة ، لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح . وقد جاء ذلك مرتباً هكذا في هود ، والواو لا ترتب . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المجيء والمحاورة بعد علمه بهلاكهم ، وخاور تلك المحاورة على جهة التكتم عنهم ، والإملاء لهم ، والتربص بهم انتهى . ونهاهم عن فضحهم إياه لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه . ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال ، أو من الخزاية وهو الاستحياء . وفي قولهم : أو لم ننهك دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف ، أو يجبر أحداً ، أو يدفع عنه ، أو يمنع بينهم وبينة ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد . وكان هو صلى الله على نبينا وعليه يقوم بالنهي عن المنكر ، والحجز بينهم وبين من تعرضوا له ، فأوعدوه بأنه إنْ لم ينته أخرجوه . وتقدم الكلام في قوله : بناتي ، ومعنى الإضافة في هود . وإن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله : كأنه قال إن فعلتم ما أقول ، ولكم ما أظنكم تفعلون . وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم . واللام في لعمرك لام الابتداء ، والكاف خطاب للوط عليه السلام ، والتقدير : قالت الملائكة للوط لعمرك ، وكنى عن الضلالة والغفلة بالسكرة أي : تحبرهم في غفلتهم ، وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به من ترك البنين إلى البنات . وقيل : الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو قول الجمهور ابن عباس ، وأبو الحوراء ، وغيرهما . أقسم تعال بحياته تكريماً له . والعمر : بفتح العين وضمها البقاء ، وألزموا الفتح القسم ، ويجوز حذف اللام ، وبذلك قرأ ابن عباس : وعمرك . وقال أبو الهيثم : لعمرك لدينك الذي يعمر ، وأنشد : أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
أي : عبادتك الله . وقال ابن الأعرابي : عمرت ربي أي عبدته ، وفلان عامر لربه أي عابد . قال : ويقال تركت

" صفحة رقم 450 "
فلاناً يعمر ربه أي يعبده ، فعلى هذا لعمرك لعبادتك . وقال الزجاج : ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم ، وهم يكثرون القسم بالعمرى ولعمرك فلزموا الأخف ، وارتفاعه بالابتداء ، والخبر محذوف أي : ما أقسم به . وقال بعض أصحاب المعاني : لا يجوز أن يضاف إلى الله ، لأنه لا يقال لله تعالى عمر ، وإنما يقال : هو أزلي ، وكأنه يوهم أنّ العمر لايقال إلا فيما له انقطاع ، وليس كذلك العمر ، والعمر البقاء . قال الشاعر : إذا رضيت عليّ بنو قشير
لعمر الله أعجبني رضاها
وقال الأعشى : ولعمر من جعل الشهور علامة
فبين منها نقصها وكمالها
وكره النخعي أن يقال : لعمري ، لأنه حلف بحياة المقسم . وقال النابغة :
لعمري وما عمري عليّ بهين
والضمير في سكرتهم عائد على قوم لوط ، وقال الطبري : لقريش ، وهذا مروي عن ابن عباس . قال : ما خلق الله نفساً أكرم على الله من محمد قال له : وحياتك إنهم أي قومك من قريش لفي سكرتهم أي ضلالهم ، وجهلهم يعمهون يتردّدن . قال ابن عطية : وهذا بعيد لانقطاعه مما قبله وما بعده . وقرأ الأشهب : سكرتهم بضم السين ، وابن أبي عبلة : سكراتهم بالجمع ، والأعمش : سكرهم بغير تاء ، وأبو عمرو في رواية الجهضمي : أنهم بفتح همزة أنهم . والصبحة : صبحة الهلاك . وقيل : صوت جبريل عليه السلام . وقال ابن عطية : هي صيحة الوحشة ، وليست كصيحة ثمود مشرقين : داخلين في الشروق ، وهو بزوغ الشمس . وقيل : أول العذاب كان عند الصبح ، وامتد إلى شروق الشمس ، فكأنه تمام الهلاك عند ذلك . والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدّمة الذكر . وقال الزمخشري : لقرى قوم لوط ، ولم يتقدم لفظ القرى . وقال مقاتل وابن زيد : للمتوسمين ، للمتفكرين . وقال الضحاك : للناظرين . قال الشاعر : أو كلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إلى عريفهم يتوسم
وقال أبو عبيدة : للمتبصرين . وقال قتادة : للمعتبرين . وروي نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال : لأهل الصلاح والخير ، والضمير في وأنها عائد على المدينة المهلكة أي : أنها لبطريق ظاهر بين للمعتبر قاله : مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد . قيل : ويحتمل أن يعود على الآيات ، ويحتمل أن يعود على الحجارة . وقوله : لبسبيل أي ممر ثابت ، وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس . وهو تنبيه لقريش ، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل . وقيل : عائد على الصيحة أي : وإنّ الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله : وما هي من الظالمين ببعيد . وقيل : مقيم معلوم . وقيل : معتد دائم . وقال ابن عباس : هلاك دائم السلوك إنّ في ذلك أي : في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلاً لمن آمن بالله .
( وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الاْيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ( : هم قوم شعيب ، والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجر الدوم . وقيل : المقل . وقيل : السدر . وقيل :

" صفحة رقم 451 "
الأيكة اسم الناحية ، فيكون علماً . ويقويه قراءة من قرأ في الشعراء وص : ليكة ممنوع الصرف . كفروا فسلط الله عليهم الحر ، وأهلكوا بعذاب الظلة . ويأتي ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في سورة الشعراء . وإنْ عند البصريين هي لمخففة من الثقيلة ، وعند الفراء نافية ، واللام بمعنى ألا . وتقدم نظير ذلك في : ) وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ( في البقرة . والظاهر قول الجمهور من أنّ الضمير في وأنهما عائد على قريتي : قوم لوط ، وقوم شعيب . أي : على أنهما ممر السائلة . وقيل : يعود على شعيب ولوط أي : وإنهما لبإمام مبين ، أي بطريق من الحق واضح ، والإمام الطريق . وقيل : وإنهما أي : الحر بهلاك قوم لوط وأصحاب الأيكة ، لفي مكتوب مبين أي : اللوح المحفوظ . قال مؤرج : والإمام الكتاب بلغة حمير . وقيل : يعود على أصحاب الأيكة ومدين ، لأنه مرسل إليهما ، فدل ذكر أحدهما على الآخر ، فعاد الضمير إليهما .
( وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَءاتَيْنَاهُمْ فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( : أصحاب الحجر ثمود قوم صالح عليه السلام ، والحجر أرض بين الحجاز والشام ، وتقدّمت قصته في الأعراف مستوفاة . والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً ، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً . قال الزمخشري : أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل : الخبيبيون في ابن الزبير وأصحابه . وعن جابر قال : مررنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على الحجر فقال لنا : ) لاَ تَدْخُلُواْ مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ إِلا أَنْ تَكُونُواْ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء ( ثم زجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) راحلته فأسرع حتى خلفها وفي بعض طرقه ثم قال : ) هَؤُلاَء قَوْمٌ صَالِحٌ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ ( قيل : من هو يا رسول الله ؟ قال : ( أبو رغال ) وإليه تنسب ثقيف .
وآتيناهم آياتنا قيل : أنزل إليهم آيات من كتاب الله ، وقيل : يراد نصب الأدلة فأعرضوا عنها . وقيل : كان في الناقة آيات خمس . خروجها من الصخرة ، ودنو نتاجها عند خروجها ، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعاً . وقيل : كانت له آيات غير الناقة . وقرأ الجمهور : ينحتون بكسر الخاء . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة بفتحها وصفهم بشدة النظر للدنيا والتكسب منها ، فذكر من ذلك مثالاً وهو نقرهم بالمعاول ونحوها في الحجارة . وآمنين ، قيل : من الانهدام . وقيل : من حوادث الدنيا . وقيل : من الموت لاغترارهم بطول الأعمار . وقيل : من نقب اللصوص ، ومن الأعداء . وقيل : من عذاب الله ، يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه . قال ابن عطية : وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة ، فكانوا لا يعملون بحسبها ، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها . ومصبحين : داخلين في الصباح . والظاهر أنّ ما في قوله فما أغنى نافية ، وتحتمل الاستفهام المراد منه التعجب . وما في كانوا يحتمل أن تكون مصدرية ، والظاهر أنها بمعنى الذي ، والضمير محذوف أي : يكسبونه من البيوت الوثيقة والأموال والعدد ، بل خروا جاثمين هلكى ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلاهًا ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( : إلا بالحق أي : خلقاً ملتبساً بالحق . لم يخلق شيء من ذلك عبثاً ولا هملاً ، بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم ، وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى . ولذلك نبه من يتنبه بقوله : وأن الساعة لآتية ، فيجازي من أطاع ومن عصي . ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالصفح

" صفحة رقم 452 "
وذلك يقتضي المهادنة ، وهي منسوخة بآية السيف قاله قتادة . أو إظهار الحكم عنهم والإغضاء لهم .
ولما ذكر خلق السموات والأرض وما بينهما قال : إن ربك هو الخلاق ، أتى بصفة المبالغة لكثرة ما خلق ، أو الخلاق من شاء لما شاء من سعادة أو شقاوة . وقال الزمخشري : الخلاق الذي خلقك وخلقهم ، وهو العليم بحالك وحالهم ، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم . أو إنّ ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، وقد علم أنّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح . وقرأ زيد بن علي ، والجحدري ، والأعمش ، ومالك بن دينار : هو الخالق ، وكذا في مصحف أبي وعثمان ، من المثاني .
والمثاني جمع مثناة ، والمثنى كل شيء يثني أي : يجعل اثنين من قولك : ثنيت الشيء ثنياً أي عطفته وضممت آليه آخر ، ومنه يقال لركبتي الدابة ومر فقيه : مثاني ، لأنه يثني بالفخذ والعضد . ومثاني الوادي معاطفه . فتقول : سبعاً من المثاني مفهوم سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثني ، وهذا مجمل ، ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل . قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وابن جبير : السبع هنا هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة ، لأنهما في حكم سورة ، ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية . وسميت الطوال مثاني لأنّ الحدود والفرائض والأمثال ثنيت فيها قاله ابن عباس ، وعلى قوله من لبيان الجنس . وقيل : السابعة سورة يونس قاله ابن جبير ، وقيل : براءة وحدها ، قاله أبو مالك . والمثاني على قول هؤلاء وابن عباس في قوله المتقدم : القرآن . كما قال تعالى : ) كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ( وسمي بذلك لأنّ القصص والأخبار تثني فيه وتردّد . وقيل : السبع آل حميم ، أو سبع صحائف وهي الأسباع . وقيل : السبع هي المعاني التي أنزلت في القرآن : أمر ، ونهي ، وبشارة ، وإنذار ، وضرب أمثال ، وتعداد النعم ، وإخبار الأمم . قاله زياد بن أبي مريم . وقال عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس أيضاً ، والحسن ، وأبو العالية ، وابن أبي مليكة ، وعبيد بن عمير ، وجماعة : السبع هنا هي آيات الحمد . قال ابن عباس : وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم . وقال غيره : سبع دون البسملة . وقال أبو العالية : لقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء ، ولا ينبغي أن يعدل عن هذا القول ، بل لا يجوز العدول عنه لما في حديث أبيَ ففي آخره ، ( هي السبع المثاني ) وحديث أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنها السبع المثاني وأمّ القرآن وفاتحة الكتاب ) وسميت بذلك لأنها تثني في كل ركعة . وقيل : لأنها يثني بها على الله تعالى جوزه الزجاج . قال ابن عطية : وفي هذا القول من جهة التصريف نظر انتهى . ولا نظر في ذلك ، لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعياً أي : مقر ثناء على الله تعالى أي : فيها ثناء على الله تعالى . وقال ابن عباس : لأن الله استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها ، وقال نحوه ابن أبي مليكة . وعلى هذا التفسير الوارد في الحديث تكون من لبيان الجنس ، كأنه قيل : التي هي المثاني ، وكذا في قول من جعلها أسباع القرآن ، أو سبع المعاني . وأما من جعلها السبع الطوال أو آل حميم فمن للتبعيض ، وكذا في قول من جعل سبعاً الفاتحة والمثاني القرآن . قال الزمخشري : يجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني ، لأنها تثني عليه ، ولما فيها من المواعظ المكررة ، ويكون القرآن بعضها .
وقرأ الجمهور : والقرآن العظيم بالنصب . فإن عني بالسبع الفاتحة أو السبع الطوال لكان ذلك من عطف العام على الخاص ، وصار الخاص مذكوراً مرتين . إحداهما : بجهة الخصوص ، والأخرى : بجهة العموم . أو لأنّ ما دون الفاتحة أو السبع الطوال ينطلق عليه لفظ القرآن ، إذ هو اسم يقع على بعض الشيء ، كما يقع على كله . وإنْ عنى الإسباع فهو من باب عطف الشيء على نفسه ، من حيث أنّ المعنى : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي : الجامع لهذين المعنيين وهو الثناء والتنبيه والعظم . وقرأت فرقة : والقرآن العظيم بالخفض عطفاً على المثاني . وأبعد من ذهب إلى أنّ الواو مقحمة ، والتقدير : سبعاً من المثاني القرآن العظيم . ولما ذكر تعالى ما أنعم به على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من إتيانه ما آتاه ، نهاه . وقد قلنا : إنّ النهي لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة عن طموح عينه إلى شيء من متاع الدنيا ، وهذا وإن كان خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فالمعنى : نهى أمته عن ذلك لأنّ من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن==

مجلد 16.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 453 "
الاشتغال بزهرة الدنيا . ومد العين للشيء إنما هو لاستحسانه وإيثاره . وقال ابن عباس : أي لا تتمن ما فضلنا به أحداً من متاع الدنيا أزواجاً منهم ، أي رجالاً مع نسائهم ، أو أمثالاً في النعم ، وأصنافاً من اليهود والنصارى والمشرين أقوال . ونهاه تعالى عن الحزن عليهم إن لم يؤمنوا ، وكان كثير الشفقة على من بعث إليه ، وادًّا أن يؤمنوا بالله كلهم ، فكان يلحقه الحزن عليهم . نهاه تعالى عن الحزن عمن لم يؤمن ، وأمره بخفض جناحه لمن آمن ، وهي كناية عن التلطف والرفق . وأصله : أنّ الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه لم ثم قبضه على فرخه ، والجناحان من ابن آدم جانباه . ثم أمره أن يبلغ أنه هو النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم إنْ لم تؤمنوا ، وإنزال نقم الله المخوفة بكم . والكاف قال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق بقوله : ولقد آتيناك أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم : بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل ، وعصوه . وقيل : كانوا يستهئون به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي . ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريهم ، وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم : سحر ، وشعر ، وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم . والثاني : أن يتعلق بقوله تعالى : وقل أني أنا النذير المبين ، وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني : اليهود ، هو ما جرى على قريظة والنضير ، جعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان . ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي : أنذر المعضين الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم : الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر ، وقبله بآفات : كالوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وغيرهم . أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام والاقتسام بمعنى التقاسم ( فإن قلت ) : إذا علقت قوله كما أنزلنا بقوله ولقد آتيناك فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره بينهما ( قلت ) : لما كان ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين انتهى أما الوجه الأول وهو تعلق كما بآتيناك فذكره أبو البقاء على تقدير وهو وأن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالاً كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله أن المقتسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه العوفي عن ابن عباس وأما قوله اقتسموا القرآن فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير وأما قوله اقتسموا فقال بعضهم سورة البقرة وبعضهم سورة آل عمران الخ فقاله عكرمة وقال السدي هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوثب والوليد والعاصي والحرث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل البعوض لي ومن قائل النمل لي وقائل الذباب لي وقائل العنكبوت لي استهزاء فأهلك الله جميعهم . وأما قوله أن القرآن عبارة عما يقرؤونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد . وأما قوله ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين فلا يجوز أن يكون منصوباً بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقوله شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية تذكر دلائلها في علم النحو . وأما قوله الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير فمروي عن قتادة إلا أنه قال بدل شعر كهانة . وأما قوله الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه أن الوليد بن المغيرة قال ليقل بعضكم كاهن

" صفحة رقم 454 "
وبعضكم ساحر وبعضكم شاعر وبعضكم غاووهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاصي بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن احرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة تقاسموا على تكذيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأهلكوا جميعاً . وأما قوله أنهم الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحاً فقول عبد الله بن يزد . وقال ابن عطية والكاف من قوله كما متعلقه بفعل محذوف تقديره وقل أني أنا النذير عذاباً كالذي أنزلنا على المقتسمين فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس مما يقوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بل هو من قول الله تعالى فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدران الله تعالى قال له أنذر عذاباً كما والذي أقول في هذا المعنى وقل أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل أني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً وهذا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى . أما قوله وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا وإن كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الملك هو الآمر . وأما قوله والذي أقول في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم . وقال أبو البقاء وقيل التقدير متعناهم تمتيعاً كما أنزلنا والمعنى متعناً بعضهم كما عذبنا بعضهم . وقيل التقدير إنذار مثل ما أنزلنا انتهى . وقيل الكاف زائدة التقدير أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين هذه أقوال وتوجيهات متكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره بخفض جناحه للمؤمنين أمره أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمره تعالى بأن يقول لهم إني أنا النذير المبين لكم ولغيركم كما قال تعالى إنما أنت منذر من يخشاها وتكون الكاف نعتاً لمصدر محذوف تقديره وقل قولاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمنين كما تنذر الكافرين كما قال تعالى نذير وبشير لقوم يؤمنون والظاهر أن الذين صفة للمقتسمين وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن ينتصب على الذم وتقدم تجويز الزمخشري له أن يكون مفعولاً بالنذير فوربك أقسم تعالى بذاته وربوبيته مضافاً إلى رسوله على جهة التشريف والضمير في لنسألنهم يظهر عود على المقتسمين وهو وعيده من سؤال تقريع ويقال أنه يعود على الجميع من كافر ومؤمن إذ قد تقدم ذكرهما والسؤال عام للخلق ويجوز أن يكون السؤال كناية عن الجزاء وعن ما كانوا يعملون عام في جميع الأعمال . وقال أبو العالية يسأل العباد عن حالتين عن ما كانوا يعبدون وعن ما أجابوا المرسلين وقال ابن عباس يقال لهم لم عملتم كذا قال أنس وابن عمر ومجاهد السؤال عن لا إله إلا الله وذكره الزهراوي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإذا ثبت ذلك فيكون المعنى عن الوفاء بلا إله إلا الله والصدق لمقالها كما قال الحسن ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال . وقال ابن عباس فاصدع بما تؤمر امض به . وقال الكلبي اجهر به وأظهره من الصديع وهو الفجر قال الشاعر :
كأن بياض غرته صديع

" صفحة رقم 455 "
وقال السدي تكلم بما تؤمر . وقال ابن زيد أعلم بالتبليغ . وقال ابن بحر جرد لهم القول في الدعاء إلى الإيمان . وقال أبو عبيدة عن رؤبة ما في القرآن أغرب من قوله فاصدع بما تؤمر وما في بما بمعنى الذي والمفعول الثاني محذوف تقديره بما تؤمره وكان أصله تؤمر به من الشرائع فحذف الحرف فتعدى الفعل إليه . وقال الأخفش ما موصولة والتقدير فاصدع بما تؤمر بصدعه فحذف المضاف ثم الجار ثم الضمير . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول انتهى وهذا ينبني على مذهب من يجوز أن المصدر يراد به أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز وأعرض عن المشركين من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف قاله ابن عباس ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها الرسول ولا تكلف لها مشقة . قال عروة وابن جبير هم خمسة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ومن بني خزاعة الحرث بن الطلاطلة . قال أبو بكر الهذلي قلت للزهري أن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين فقال ابن جبير هو الحرث بن عيطلة وقال عكرمة هو الحرث بن قيس فقال الزهري صدقا إنه عيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في المستهزئين هبار بن الأسود وذلك وهم لأن هباراً أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة . وعن ابن عباس أن المستهزئين كانوا ثمانية وفي رواية مكان الحرث بن قيس عدي بن قيس . وقال الشعبي وابن أبي بزة كانوا سبعة فذكر الوليد والحرث بن عدي والأسودين والأثرم وبعكك ابني الحرث بن السباق وكذا قال مقاتل إلا أنه قال مكان الحرث بن عدي الحرث بن قيس السهمي وذكر المفسرون والمؤرخون أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه فمنعه الكبر أن يطامن لنزعه فأصاب عرقاً في عقبه . قال قتادة ومقسم وهو الأكحل فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة . وقيل ضربته حية فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمى وهلك وأشار إلى أنف الحرث بن قيس فامتخط قيحاً فمات . وقيل أصابته سموم فاسودّ حتى صار كأنه حبشي فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا الباب في وجهه فصار يطوف في شعاب مكة حتى مات وفي بعض ما أصاب هؤلاء اختلاف والله أعلم . وقال مقاتل أصاب الأثرم أو بعككاً الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا فسوف يعلمون وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلهاً مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكنى بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما يقولون وهو ما ينطلقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عن ما نسبوا إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوباً بحمده والثناء على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد والله أعلم من المصلين فكنى بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولما كان الصادر من المستهزئين اعتقاداً وهو فعل القلب وقولاً وهو ما يقولون في الرسول وما جاء به وهو فعل جارحة أمر تعالى بما يقابل ذلك من التنزيه لله ومن السجود وهما جامعان فعل القلب وفعل الجسد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب بها إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دم على كذا لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما زال متلبساً بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة وهو تفسير ابن عمر ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في عثمان بن مظعون عند موته أما هو فقد رأى اليقين ويروى فقد جاءه اليقين وليس اليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل فسمي يقيناً تجوزاً أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه . وقال ابن عطية ويحتمل أن يكون المعنى

" صفحة رقم 456 "
حتى يأتيك اليقين في النصر الذي وعدته انتهى وقاله ابن بحر قال اليقين النصر على الكافرين انتهى وحكمة التغيية باليقين وهو الموت أنه يقتضي ديمومة العبادة ما دام حياً بحلاف الاقتصار على الأمر بالعبادة غير مغياً لأنه يكون مطلقاً فيكون مطيعاً بالمرة الواحدة والمقصود أن لا يفارق العبادة حتى يموت .

" صفحة رقم 457 "
( سورة النحل )
مائة وثمان وعشرون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَالاٌّ نْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ الَّذِىأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِى الاٌّ رْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ

" صفحة رقم 458 "
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( )
النحل : ( 1 ) أتى أمر الله . . . . .
النطفة : القطرة من الماء ، نظف رأسه ماء أي قطر . الدفء اسم لما يدَّفأ به أي يسخن . وتقول العرب : دفىء يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد ، ودفىء الرجل فداء ودفأ ، وجمع الدفء أدفاء . ورجل دفآن وامرأة دفأى ، والدفئة الإبل الكثيرة الأوبار ، لا دفاء بعضها بعضاً بأنفاسها . وقد تشدَّد ، وعن الأصمعي الدفئة الكثيرة الأوبار والشحوم . وقال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها ، وما ينتفع به منها . البغل : معروف ، ولعمرو بن بحر الجاحظ كتاب البغال . الحمار : معيروف ، يجمع في القلة على أحمر وفي الكثرة على حمر ، وهو القياس وعلى حمير . الطرى : فعيل من طر ويطر ، وطراوة مثل سر ويسر سراوة . وقال الفراء : طري يطري طراء وطراوة مثل : شقى ، يشقى ، شقاء ، وشقاوة . المخر : شق الماء من يمين وشمال ، يقال : مخر الماء الأرض . وقال الفراء : صوت جرى الفلك بالرياح ، وقيل : الصوت الذي يكون من هبوب الريح إذا اشتدت ، وقد يكون من السفينة ونحوها . ماد : تحرك ودار . السقف : معروف ويجمع على سقوف وهو القياس ، وعلى سقف وسقف ، وفعل وفعل محفوظان في فعل ، وليسا مقيسين فيه .
( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُشْرِكُونَ يُنَزّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ خَلَقَ ( : قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر : هي كلها مكية . وقال ابن عباس : إلا ثلاث آثات منها نزلت بالمدينة بعد حمزة وهي قوله : ) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( إلى قوله : ) بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( وقيل : إلا ثلاث آيات ) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ( الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد ، وقوله : ) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( وقوله : ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ( وقيل : من أولها إلى قوله : ) يُشْرِكُونَ ( مدني وما سواه مكي . وعن قتادة عكس هذا .
ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال : ) فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة ، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا ، فقيل : أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور . وعن ابن عباس المراد بالأمر : نصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وظهوره على الكفار . وقال الزمخشري : كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ، أو نزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد انتهى . وهذا الثاني قاله ابن جريج قال : الأمر هنا ما وعد الله نبيه من النصر وظفره بإعدائه ، وانتقامه منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال ، والاستيلاء على منازلهم وديارهم . وقال الضحاك : الأمر هنا مصدر أمر ، والمراد به : فرائضه وأحكامه . قيل : وهذا فيه بعد ، لأنه لم ينقل أنّ أحداً من الصحابة استعجل فرائض من قبل أن تفرض عليهم . وقال الحسن وابن جريج أيضاً : الأمر عقاب الله لمن أقام على الشرك ، وتكذيب الرسول ، واستعجال العذاب منقول عن

" صفحة رقم 459 "
كثير من كفار قريش وغيرهم . وقريب من هذا القول قول الزجاج : هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم . وقيل : الأمر بعض أشراط الساعة . وأتى قيل : باق على معناه من المضي ، والمعنى : أقي أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً . وقيل : أتى أمر الله ، أتت مبادئه وأماراته . وقيل : عبر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه ، وفي ذلك وعيد للكفار . وقرأ الجمهور : تستعجلوه بالتاء على الخطاب ، وهو خطاب للمؤمنين أو خطاب للكفار على معنى : قل لهم فلا تستعجلوه . وقال تعالى : ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ( وقرأ ابن جبير : بالياء نهياً للكفار ، والظاهر عود الضمير في فلا تستعجلوه على الأمر لأنه هو المحدث عنه . وقيل : يعود على الله أي : فلا تستعجلوا الله بالعذاب ، أو بإتيان يوم القيامة كقوله : ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ( وقرأ حمزة والكسائي : تشركون بتاء الخطاب ، وباقي السبعة والأعرج وأبوه جعفر ، وابن وضاح ، وأبو رجاء ، والحسن . وقرأ عيسى : الأولى بالتاء من فوق ، والثانية بالياء والتاء من فوق معاً ؛ الأعمش ، وأبو العالية ، وطلحة ، وأبو عبد الرحمن ، وابن وثاب ، والجحدري ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية . وأفضل قراءته عما يشركون باستعجالهم ، لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب ، وذلك من الشرك . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ينزل مخففاً ، وباقي السبعة مشدداً ، وزيد بن علي والأعمش وأبو بكر : تنزل مشدداً مبنياً للمفعول ، الملائكة بالرفع . والجحدري كذلك ، إلا أنه خفف . والحسن ، وأبو العالية ، والأعرج ، والمفضل ، عن عاصم ويعقوب : بفتح التاء مشدداً مبنياً للفاعل . وقرأ ابن أبي عبلة : ما ننزل بنون العظمة والتشديد ، وقتادة بالنون والتخفيف . قال ابن عطية : وفيهما شذوذ كثير انتهى . وشذوذهما أنّ ما قبله وما بعده ضمير غيبة ، ووجهه أنه التفات ، والملائكة هنا جبريل وحده قاله الجمهور ، أو الملائكة المشار إليهم بقوله : ) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ( وقال ابن عباس : الروح الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء ، ونظيره : ) يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( وقال الربيع بن أنس : هو القرآن ، ومنه ) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( وقال مجاهد : المراد بالروح أرواح الخلق ، لا ينزل ملك إلا ومعه روح . وقال الحسن وقتادة : الروح الرحمة . وقال الزجاج : ما معناه الروح الهداية لأنها تحيا بها القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح . وقيل : الروح جبريل ، ويدل عليه : ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( وتكون الباء للحال أي : ملتبسة بالروح . وقيل : بمعنى مع ، وقيل : الروح حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة ، كما الملائكة حفظة علينا لا تراهم . وقال مجاهد أيضاً : الروح اسم ملك ، ومنه : ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً ( وعن ابن عباس : أنّ الروح خلق من خلق الله كصور ابن آدم ، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وقال نحوه ابن جريج . قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف لم يأت به سند .
وقال الزمخشري : بالروح من أمره ، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل ، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى . ومِنْ للتبعيض ، أو لبيان الجنس . ومن يشاء : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأنْ مصدرية ، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع ، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم : كتبت إليه بأنْ قم ، وهو بدل من الروح . أو على إسقاط الخافض : بأن أنذروا ، فيجري الخلاف فيه : أهو في موضع نصب ؟ أو في موضع خفض ؟ وقال الزمخشري : وأن أنذروا بدلاً من الروح أي : ننزلهم بأن أنذروا ، وتقديره : أنذروا أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا . أنه لا إله إلا أنا انتهى . فجعلها المخفف من الثقيلة ، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن ، وقدر إضمار القول : حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع . وجوّز ابن عطية ، وأبو البقاء ، وصاحب الغنيان : أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول أي : أعلموا الناس من نذرت بكذا إذا أعلمته . قال الزمخشري : والمعنى يقول لهم : أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون انتهى . لما جعل أنْ هي التي حذف منها ضمير الشأن قدر هذا التقدير وهو يقول لهم : أعلموا . وقرىء : لينذروا أنه ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان

" صفحة رقم 460 "
المنذرون كافرين بألوهيته ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان . ومعنى : فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلهاً غيري . وجاءت الحكاية على المعنى في قوله : إلا أنا ، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا الله ، وكلاهما سائغ . وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة ، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض ، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها . وبالحق أي : بالواجب اللائق ، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك .
وقرأ الأعمش : فتعالى بزيادة فاء ، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه الله تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة . ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض ، وهو استدلال بالخارج ، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان ، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله . والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم ، أو بمعنى مخاصم ، كالخليط والجليس ، والمبين الظاهر الخصومة أو المظهرها . والظاهر أنّ سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله : سبحانه وتعالى عما يشركون ، وقوله : أن أنذروا الآية . ولتكرير تعالى عما يشركون ، ولقوله في يس : ) أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ ( الآية وقال : ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( وعنى به مخاصمتهم لأنبياء الله وأوليائه بالحجج الداحضة ، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم ، أو مردفاً بالذم .
وقيل : المراد بالإنسان هنا أبي بن خلف الجمحي . وقال قوم : سياق الوصفين سياق المدح ، لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم ، وجعله مبين الحق من الباطل ، ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة وهي : حالة النطق والإبانة . وإذ هنا للمفاجأة ، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها ، فتلك الأحوال محذوفة ، وتقع المفاجأة بعدها . وقال أبو عبد الله الرازي : إعلم أنّ أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان ، ثم ذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره ، ولا نسلم ما ذكره من أنّ الأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان . ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته ، فذكر أولاً أكثرها منافع ، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام ، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام . والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها ، ودفء مبتدأ وخبره لكم ، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار . وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء ، إذ لو تأخر لكان صفة . وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر ، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها ، لا يجوز : فائماً في الدار زيد ، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف ، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش ، ومنعه الجمهور . وأجاز أيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بال ، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى . ولا تسمى جملة ، لأنّ التقدير : خلقها لكم فيها دفء ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء ، وهذا من قبيل المفرد ، لا من قبيل الجملة . وجوزوا أن يكون لكم متعلقاً بخلقها ، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام . ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله : ولكم فيها جمال ، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية . وقال ابن عباس : الدفء نسل كل شيء ، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب . والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال ، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت ، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام . وقال الزمخشري ، وابن عطية : يجوز أن يكون قد عطف على البيان ، وعلى هذا كون لكم استئناف ، أو متعلق بخلقها . وقرأ الزهري وأبو جعفر : دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها ، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها ، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف ، إذ يجوز تشديدها في الوف . وقرأ زيد بن علي : دف بنقل الحركة ، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء . وقال صاحب اللوامح :

" صفحة رقم 461 "
الزهري دف بضم الفاء من غير همز ، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة . ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء ، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفاً . وقال مجاهد : ومنافع الركوب ، والحمل ، والألبان ، والسمن ، والنضج عليها ، وغير ذلك . وأفرد منفعة الأكل بالذكر ، كما أفرد منفعة الدفء ، لأنهما من أعظم المنافع .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : تقدم الظرف في قوله : ومنها تأكلون مؤذن ، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها ( قلت ) : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم ، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به ، وكالجاري مجرى التفكه . وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص . وقد رددنا عليه ذلك في قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( والظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك : إذا أكلت من الرغيف . وقال الزمخشري : ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر ، والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وتكتسبون بإكراء الإبل ، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى . فعلى هذا يكون التبعيض مجازاً ، أو تكون من للسبب . الجمال مصدر جمل بضم الميم ، والرجل جميل ، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد : فهي جملاء كبدر طالع
بزت الخلق جميعاً بالجمال
ويطلق الجمال ويراد به التجمل ، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد . والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر ، ويلقيه في ألقاب ، فتتعلق به النفس من غير معرفة . وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة : كالعلم ، والعفة ، والحلم ، وفي الأفعال : بوجودها ملائمة لمصالح الخلق ، وجلب المنفعة إليهم ، وصرف الشر عنهم . والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة ، والمعنى : أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا ، وكونه فيها من أهل السعة ، فمنّ الله تعال بالتجمل بها ، كما منّ بالانتفاع الضروري ، لأن التجمل بها من أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها ، والعرب تفتخر بذلك . ألا ترى إلى قول الشاعر : لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم
مرابط للإمهاز والعكر الدثر أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين ، والجمع عكر . والدثر الكثير ، ويقال : أراح الماشية ردها بالعشيّ من المرعى ، وسرحها يسرحها سرحاً وسروحاً أخرجها غدوة إلى المرعى ، وسرحت هي يكون متعدياً ولازماً ، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا للنجعة . وقدم الإراحة على السرح لأنّ الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر ، بخلاف وقت سرحها ، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية ، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء ، فيأتنس أهلها ، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها ، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى : ) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( وقوله تعالى : ) زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( ثم قال تعالى : ) وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ ( وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري : حيناً فيهما بالتنوين ، وفك الإضافة . وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله : ) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى ( ويكون العامل في حيناً على هذا ، إمّا المبتدأ لأنه في معنى التجمل ، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار والأثقال . الأمتعة : واحدها

" صفحة رقم 462 "
ثقل . وقيل : الأجسام لقوله تعالى : ) وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( أي أجساد بني آدم . وقوله : إلى بلد ، لا يراد به معين أي : إلى بلد بعيد توجهتم إليه لأغراضكم . وقيل : المراد به معين وهو مكة ، قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والربيع بن أنس . وقيل : مدينة الرسول . وقيل : مصر . وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على المراد ، إذ المنة لا تختص بالحمل إليها . ولم تكونوا بالغيه صفة للبلد ، ويحتمل أن يكون التقدير بها ، وذلك تنبيه على بعد البلد ، وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا يصلون إليه إلا بالمشقة . أو يكون التقدير : لم تكونوا بالغيه بأنفسكم دونها إلا بالمشقة عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم . وقرأ الجمهور : بشق بكسر الشين . وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وعمر بن ميمون ، وابن أرقم : بفتحها . ورويت عن نافع وأبي عمرو ، وهما مصدران معناهما المشقة . وقيل : الشق بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم ، ويعني به : المشقة . وقال الشاعر في الكسر : وذي إبل يسعى ويحسبها له
أخي نصب من شقها ودؤوب
أي مشقتها . وشق الشيء نصفه ، وعلى هذا حمله الفراء هنا أي : يذهبان صف الأنفس ، كأنها قد ذابت تعباً ونصباً كما تقول : لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك ، وبفطعة من كبدك . ونحو هذا من المجاز . ويقال : أخذت شق الشاة أي نصفها والشق : الجانب ، والأخ الشقيق ، وشق اسم كاهن . وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الخثم بصفة الرأفة والرحمة ، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم . ولما ذكر تعالى مننه بالأنعام ومنافعها الضرورية ، ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية . وقرأ الجمهور : والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفاً على والأنعام . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع . ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه ، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز لكل الخيل ، خلافاً لمن استدل بذلك . وانتصب وزينة ، ولم يكن باللام ، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف ، وكلاهما مفعول من أجله ، لأن التقدير : خلقها ، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب ، وهو : اتحاد الفاعل ، فعدى باللام . والزينة من وصف الخالق ، فاتحد الفاعل ، فوصل الفعل إليه بنفسه . وقال ابن عطية : وزينة نصب بإضمارفعل تقديره : وجعلناها زينة . وروى قتادة عن ابن عباس : لتركبوها زينة بغير واو . قال صاحب اللوامح : والزينة مصدر أقيم مقام الاسم ، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها ، أو من لتركبوها . وقال الزمخشري : أي وخلقها زينة لتركبوها ، أو يجعل زينة حالاً من هاء ، وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال . وقال ابن عطية : والنصب حينئذ على الحال من الهاء في تركبوها . والظاهر نفي العلم عن ذوات ما يخلق تعالى ، فقال الجمهور : المعنى ما لا تعلمون من الآدميين والحيوانات والجمادات التي خلقها كلها لمنافعكم ، فأخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، لنزداد دلالة على قدرته بالإخبار ، وإنْ طوى عنا علمه حكمة له في طيه ، وما خلق تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمه بشر . وقال قتادة : ما لا تعلمون ، أصل حدوثه كالسوس في النبات والدود في الفواكه . وقال ابن بحر : لا تعلمون كيف يخلقه . وقال مقاتل : هو ما أعد الله لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . قال الطبري : وزاد بعد في الجنة وفي النار لأهلها ، والباقي بالمعنى .
ورويت تفاسير في : ما لا تعلمون في الحديث عن ابن عباس ، ووهب بن منبه ، والشعبي ، الله أعلم بصحتها . ويقال : لما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعاً ضرورياً وغير ضروري ، أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالباً على سبيل الإجمال ، إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء والعد ، والقصد مصدر يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والسبيل هنا مفرد

" صفحة رقم 463 "
اللفظ . فقيل : مفرد المدلول ، وأل فيه للعهد ، وهي سبيل الشرع ، وليست للجنس ، إذ لو كانت له لم يكن منها جائز . والمعنى : وعلى الله تبين طريق الهدى ، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : إنّ من سلك الطريق القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه ، وإلى ذلك مصيره . وعلى أنّ للعهد يكون الضمير في قوله : ومنها جائز ، عائد على السبيل التي يتضمنها معنى الآية ، كأنه قيل : ومن السبيل جائر ، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر ، لأنّ مقابلها يدل عليها . قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع ، وتكون مِن للتبعيض ، والمراد : فرق الضلالة من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . كأنه قال : ومن بنيات الطرق في هذه السبيل ، ومن شعبها . وقيل : أل في السبيل للجنس ، وانقسمت إلى مصدر وهو طريق الحق ، وإلى جائر وهو طريق الباطل ، والجائر العادل عن الاستقامة والهداية كما قال :
يجور بها الملاح طوراً ويهتدي
وكما قال الآخر : ومن الطريقة جائر وهدى
قصد السبيل ومنه ذو دخل
قسم الطريقة : إلى جائر ، وإلى هدى ، وإلى ذي دخل وهو الفساد . وقال الزمخشري : ومعنى قوله : وعلى الله قصد السبيل إنّ هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه لقوله : ) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ( ( فإن قلت ) : لم غير أسلوب الكلام في قوله : ومنها جائر ؟ ( قلت ) : ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل ، وعليه جائرها ، أو وعليه الجائر . وقرأ عبد الله : ومنكم جائر يعني ومنكم جائر عن القصد بسواء اختياره ، والله بريء منه . ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً والجاء انتهى . وهو تفسير على طريقة الاعتزال . وقيل : الضمير في ومنها يعود على الخلائق أي : ومن الخلائق جائر عن الحق . ويؤيده قراءة عيسى : ومنكم جائر ، وكذا هي في مصحف عبد الله ، وقراءة علي : فمنكم جائر بالفاء . قال ابن عباس : هم أهل الملل المختلفة . وقيل : اليهود والنصارى والمجوس . ولهداكم : لخلق فيكم الهداية ، فلم يضل أحد منكم ، وهي مشيئة الاختيار . وقال الزجاج : لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان . قال ابن عطية : وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد ، لم يحصله الزجاج ، ووقع فيه رحمة الله من غير قصد انتهى . ولم يعرف ابن عطية أنّ الزجاج معتزلي ، فلذلك تأول أنه لم يحصله ، وأنه وقع فيه من غير قصد . وقال أبو علي : لو شاء لهداكم إلى الثواب ، أو إلى الجنة بغير استحقاق . وقال ابن زيد : لو شاء لمحض قصد السبيل دون الجائر . ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي : ولو شاء هدايتكم .
( هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَابَ وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الاْرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب ، ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان ، وما يتولد عنه من

" صفحة رقم 464 "
أقواتهم وأقواتها من الزرع ، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب ، ثم عمم بقوله : ومن كل الثمرات ، ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم ، والنهار الذي هو معاش ، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه ، ثم بما ذرأ في الأرض .
والظاهر أنّ لكم ، في موضع الصفة لماء ، فيتعلق بمحذوف ، ويرتفع شراب به أي : ماء كائناً لكم منه شراب . ويجوز أن يتعلق بانزل ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، وشراب مبتدأ . لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه . والشراب هو المشروب ، والتبعيض في منه ظاهر ، وأما في منه شجر فمجاز ، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال : أسنمة الآبال في ربابه ، أي في سحاب المطر . وقال ابن الأنباري : هو على حذف المضاف ، إما قبل الضمير أي : ومن جهته ، أو سقيه شجر ، وإما قبل شجر أي : شرب شجر كقوله ) وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ( أي حبه . والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج . وقال : نطعمها اللحم إذا عز الشجر ، فسمى الكلأ شجراً . وقال ابن قتيبة : الشجر هنا الكلأ ، وفي حديث عكرمة : ( لا تأكلوا الشجر فإنه سحت ) يعني الكلأ .
ويقال : أسام الماشية وسومها جعلها ترعى ، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت ، قال الزجاج : من السومة ، وهي العلامة ، لأنها تؤثر في الأرض علامات . وقرأ زيد بن علي : تسيمون بفتح التاء ، فإن سمع متعدياً كان هو وأسام بمعنى واحد ، وإن كان لازماً فتأويله على حذف مضاف تسيمون أي : تسيم مواشيكم لما ذكر ، ومنه شجر . أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المراد من قوله : ومنه شجر العموم ، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف إخبار منافع الماء . ويقال : نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت ، وهذا قياسه منبت . وقيل : يقال أنبت الشجر لازماً . وأنشد الفراء : رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل أي نبت . وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت . وقرأ أبو بكر : ننبت بنون العظمة . وقرأ الزهري : ننبت بالتشديد قيل : للتكثير والتكرير ، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية . وقرأ أبيّ : ينبت من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه . وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت ، وأجمعه للمنافع . وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم ، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه ، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه ، والاطلاء بدهنه ، ثم بالنخل لأنّ ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد ، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال : ومن كل الثمرات ، أتى بلفظ مِن التي للتبعيض ، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة ، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة . ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله : ويخلق ما لا تعلمون ، كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، ثم قال :

" صفحة رقم 465 "
ومن كل الثمرات ، تنبيهاً على أنّ تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر ، كما أن تفصيل ما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر . وختم ذلك تعالى بقوله : لآية لقوم يتفكرون ، لأنّ النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر . ألا ترى أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به ، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء ، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق ، ثم ينمو الأعلى ويقوى ، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام ، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع ، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى .
وقرأ الجمهور : والشمس وما بعده منصوباً ، وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول ، وهو إعراب الجمهور . وقال الزمخشري : ويجوز أن كون المعنى : أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر بمعنى : تسخير من قولك : سخره الله مسخراً ، كقولك : سرحه مسرحاً ، كأنه قيل : وسخرها لكم تسخيرات بأمره انتهى . وقرأ ابن عامر : والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر ، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما ، وهاتان القراءتان يبعدان قول الزمخشري إنّ مسخرات بمعنى تسخيرات . وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، وابن مصرف : والرياح مسخرات في موضع ، والنجوم وهي مخالفة لسواد المصحف . والظاهر في قراءة نصب الجميع أنّ والنجوم معطوف على ما قبله . وقال الأخفش : والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره : وجعل النجوم مسخرات ، فأضمر الفعل . وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالاً مؤكدة ، بل مفعولاً ثانياً لجعل إن كان جعل المقدرة بمعنى صير ، وحالاً مبينة إن كان بمعنى خلق . وتقدم شرح تسخير هذه النيرات في الأعراف . وجمع الآيات هنا ، وذكر العقل ، وأفرد فيما قبل ، وذكر التفكر لأنّ فيما قبل استدلالاً بإثبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات ، والاستدلال هنا متعدّد ، ولأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة . وما درأ معطوف على الليل والنهار يعني : ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفاً ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك . وقيل : مختلفاً ألوانه أصنافه كما تقول : هذه ألوان من الثمر ومن الطعام . وقيل : المراد به المعادن . إنّ في ذلك أي : فيما ذرأ على هذه الحال من اختلاف الألوان ، أو إنّ في ذلك أي : اختلاف الألوان . وختم هذا بقوله : يذكرون ، ومعناه الاعتبار والاتعاظ ، كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل : يذكرون أي : يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض .
( وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( : لما ذكر تعالى الاستدلال بما ذرأ في الأرض ، ذكر ما امتن به من ستخير البحر . ومعنى تسخيره : كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح ، وللغوص في استخراج ما فيه ، وللاصطياد لما فيه . والبحر جنس يشمل الملح والعذب ، وبدأ أولاً من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل ، ومنه على حذف مضاف أي : لتأكلوا من حيوانه طرياً ، ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان ، ونبه على غاية الحلية وهو اللبس . وفيه منافع غير اللبس ، فاللحم الطري من الملح والعذب ، والحلية من الملح . وقيل : إنّ العذب يخرج منه لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً وإنما يتداوى به ، ويقال : إنّ في الزمرد بحرياً ، فأما لتأكلوا فعام في النساء والرجال ، وأما تلبسونها فخاص بالنساء . والمعنى : يلبسها نساؤكم . وأسند اللبس إلى الذكور ، لأنّ النساء إنما يتزين بالحلية من أجل رجالهن ، فكأنها زينتهم ولباسهم . ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه والاستخراج للحلية ، ذكر نعمة تصرف الفلك فيه ماخرة أي : شاقة فيه ، أو ذات صوت لشق الماء لحمل الأمتعة

" صفحة رقم 466 "
والأقوات للتجارة وغيرها ، وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال : وترى ، وجعلها جملة معترضة بين التعليلين : تعليل الاستخراج ، وتعليل الابتغاء ، لذلك عدل عن جمع المخاطب ، والظاهر عطف ، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه . وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي : لتبتغوا بذلك . ولتبتغوا ، وأن يكون على إضمار فعل أي : وفعل ذلك لتبتغوا . والفضل هنا حصول الأرباح بالتجارة ، والوصول إلى البلاد الشاسعة ، وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر . ولعلكم تشكرون ، على ما منحكم من هذه النعم . قيل : خلق الله اورض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال ، لم تدر الملائكة مم خلقت . وعطف وأنهاراً على رواسي . ومعنى ألقى : جعل ، ألا ترى إلى قوله : ) أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( وقوله : وجعل فيها رواسي ، من فوقها . وقال ) وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى ( أي : جعلت . وقال ابن عطية : قال المتأولون : ألقى بمعنى خلق وجعل ، وهي عندي أخص من خلق وجعل ، وذلك أن ألقى يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه ، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن ، عن قيس بن عباد : أنّ الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلى آخر الكلام السابق ، وهو أيضاً مروي عن وهب بن منبه . وقال ابن عطية أيضاً : وقوله : وأنهاراً ، منصوب بفعل مضمر تقديره : وجعل ، أو خلق أنهار أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى ، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار انتهى . وأي إجماع في هذا ، وقد حكى عن المتأولين أنّ ألقى بمعنى خلق وجعل ، وقال الزمخشري : وأنهاراً ، وجعل فيها أنهاراً لأنّ ألقى فيه معنى جعل . ألا ترى إلى قوله : ) أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ). وقال أبو البقاء : أي وشق أنهاراً وعلامات أي : وضع علامات ، ويجوز أن يعطف على رواسي . وقال أبو عبد الله الرازي : ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال ، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار ، وسبلاً طرقاً إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم ، هذا هو الظاهر ، ويدل عليه ما بعده . وقال تعالى : وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون . وقيل : تهتدون أي : بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها ، فهو من الهداية إلى الحق ، ودين الله . وعلامات هي معالم الطرق ، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري ، وهو معنى قول ابن عباس . وقال أبو عبد الله الرازي : ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب . وقال ابن عيسى : العلامة صورة يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة . وقال ابن عطية : وعلامات نصب كالمصدر أي : فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها ، وعلامات أي : عبرة وإعلاماً في كل سلوك ، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى . وقال ابن الكلبي : العلامات الجبال . وقال النخعي ومجاهد : النجوم . وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات ، وذلك في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن ، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة . وقرأ الجمهور : وبالنجم ، على أنه اسم جنس ، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب : وبالنجم بضم النون والجيم ، وقراءة الحسن : بضم النون . وفي اللوامح الحسن : النجم بضمتين ، وابن وثاب : بضمة واحدة ، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي ، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصم انتهى . وذلك جمع كسقف وسقف ، ورهن وترهن ، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم ، فحذف الواو . إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم : النجم من ضرورة الشعر ، وأنشد :

" صفحة رقم 467 "
إن الذي قضى بذا قاض حكم
أن يرد الماء إذا غاب النجم
قال : يريد النجوم . مثل قوله :
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق
يريد : الحلوق . والتسكين : قيل تخفيف ، وقيل : لغة . وعن السدي : هو الثريا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي . وقال الفراء : المراد الجدي والفرقدان انتهى . قيل : والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى ، والفرقدان الأولان منها ، وليس بالجدي الذي هو المنزلة ، وبعضهم يصغره فيقول : جدي . وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن قوله : وبالنجم ، فقال : ( هو الجدي ) ولو صح هذا لم يعدل أحد عنه . وقال ابن عباس : عليه قبلتكم ، وبه تهتدون في بركم وبحركم . وقيل : هو القطب الذي لا يجري . وقيل : هو الثريا . وقال الشاعر : إذا طلب الجوزاء والنجم طالع
فكل مخاضات الفرات معابر
وقال آخر : حتى إذا ما استقل النجم في غلس
وغودر البقل ملوى ومحصود أي ومنه ملوى ، ومنه محصود ، وذلك إنما يكون عند طلوع الثريا . وهم : ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة ، كان الضمير النعت به إلى قريش إذ كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم . وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة . والزمخشري على عادته كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هم يهتدون .
( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَاهُكُمْ إِلاهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ( : ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري تعالى ، وبين من لا يخلق وهي الأصنام ، ومن عبد ممن لا يعقل ، فجدير أن يفرد بالعبادة من له الإنشاء دون غيره . وجيء بمن في الثاني لاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل ، أو لاعتقاد الكفار أنّ لها تأثيراً وأفعالاً ، فعوملت معاملة أولي العلم ، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق ، أو لتخصيصه بمن يعلم . فإذا وقعت البينونة بين الخالق وبين غير الخالق ، من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتة كقوله : ) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( أي : أن آلهتهم منحطة عن حال من له أرجل ، لأنّ من له هذه حي ، وتلك أموات ، فكيف يصح أن يعبد لا أن من له رجل يصح أن يعبد ؟ قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فكان حق الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق

" صفحة رقم 468 "
( قلت ) : حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له ، وسووا بينه وبينه ، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق ، ثم وبخهم بقوله : أفلا تذكرون ، أي : مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة . والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة ، يدل على ذلك قوله تعالى : ) وَإِن تَعُدُّواْ ( وقوله : ) لاَ تُحْصُوهَا ( إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة ، والمعنى : لا تحصوا عدها ، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها ، وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر . ولما ذكر نعماً سابقة أخبر أنّ جميع نعمه لا يطيقون عدها . وأتبع ذلك بقوله : إن الله لغفور رحيم ، حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم ، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قال في عقب الآية التي في إبراهيم : ) إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة . وفي هذه الآية ذكر الغفران والرحمة لطفاً به ، وإيذاناً في التجاوز عنه . وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون ، وضمنه الوعيد لهم ، والإخبار بعلمه تعالى . وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم .
وقرأ الجمهور : بالتاء من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون ، وهي قراءة : مجاهد ، والأعرج ، وشيبة ، وأبي جعفر ، وهبيرة ، عن عاصم على معنى : قل لهم . وقرأ عاصم في مشهورة : يدعون بالياء من تحت ، وبالتاء في السابقتين . وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله : يعلم الذي يبدون وما يكتمون ، وتدعون بالتاء من فوق في الثلاثة . وقرأ طلحة : ما يخفون وما يعلنون ، وتدعون بالتاء من فوق ، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف ، والمشهور ما روي عن الأعمش وغيره ، فوجب حملها على التفسير ، لا على أنها قرآن . ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره ، نص على أنّ آلهتهم لا تخلق ، وعلى أنها مخلوقة . وأخبر أنهم أموات . وأكد ذلك بقوله : غير أحياء ، ثم نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم ، فضلاً عن العلم الذي تتصف به العقلاء . وعبر بالذين وهو للعاقل عومل غيره معاملته ، لكونها عبدت واعتقدت فيها الألوهية ، وقرأ محمد اليماني : يدعون بضم الياء وفتح العين مبنياً للمفعول ، والظاهر أنّ قوله : وهم يخلقون ، أي : الله أنشأهم واخترعهم . وقال الزمخشري : ووجه آخر وهو أن يكون المعنى : أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير ، وهم لا يقدرون على ذلك فهم أعجز من عبدتهم انتهى . وأموات خبر مبتدأ محذوف أي : هم أموات . ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر . والظاهر أن هذه كلها مما حدث به عن الأصنام ، ويكون بعثهم إعادتها بعد فنائها . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ). وقيل : معنى بعثها إثارتها ، كما تقول : بعثت النائم من نومه إذ نبهته ، كأنه وصفهم بغاية الجمود أي : وإن طلبتهم بالتحريك أو حركتهم لم يشعروا بذلك ، ونفى عنهم الحياة لأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطق التي ينشئها الله حيواناً ، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها . وأما الأصنام من الحجارة والخشب فأموات لا يعقب موتها حياة ، وذلك أعرق في موتها . وقيل : والذين تدعون ، هم الملائكة ، وكان ناس من الكفار يعبدونهم . وأموت أي : لا بد لهم من الموت ، وغير أحياء أي : غير باق حياتهم ، وما يشعرون أي : لا علم لهم بوقت بعثهم . وجوزوا في قراءة : والذين يدعون ، بالياء من تحت أن يكون قوله : أو موت ، يراد به الكفار الذين ضميرهم في : يدعون ، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال . غير مهتدين وما بعده عائد عليهم ، والبعث الحشر من قبورهم . وقيل : في هذا التقدير وعيد أي : أيان يبعثون إلى التعذيب . وقيل : الضمير في وما يشعرون ، للأصنام وفي : يبعثون ، لعبدتها . أي : لا تشعر الأصنام متى تبعث عبدتها . وفيه تهكم بالمشركين ، وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعث عبدتهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم . وتلخص من هذه الأقوال أن تكون الإخبار بتلك الجمل كلها من المدعوين آلهة ، أما الأصنام ، وأما الملائكة ، أو يكون من قوله : أموات إلى آخره ( سقط : إخبارا عن الكفار ، أيكون وما يشعرون أيان يبعثون فقط إخبارا عن الكفار ، أو يكون وما

" صفحة رقم 469 "
يشعرون ) ، إخباراً عن المدعوين ، ويبعثون : إخباراً عن الداعين العابدين . وقرأ أبو عبد الرحمن إيان بكسر الهمزة ، وهي لغة قومه سليم . والظاهر أنّ قوله : إيان ، معمول ليبعثون ، والجملة في موضع نصب بيشعرون ، لأنه معلق . إذ معناه العلم . والمعنى : أنه نفى عنهم علم ما انفرد بعلمه الحي القيوم ، وهو وقت البعث إذا أريدبالبعث الحشر إلى الآخرة . وقيل : تم الكلام عند قوله : وما يشعرون . وأيان يبعثون ظرف لقوله : آلهكم إله واحد ، أخبر عن يوم القيامة أنّ الإله فيه واحد انتهى . ولا يصح هذا القول لأنّ أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً ، إما استفهاماً ، وإما شرطاً . وفي هذا التقدير تكون ظرفاً بمعنى وقت مضافاً للجملة بعدها ، معمولاً لقوله : واحد ، كقولك : يوم يقوم زيد قائم . وفي قوله : أيان يبعثون دلالة على أنه لا بد من البعث ، وأنه من لوازم التكليف . ولما ذكر تعالى ما اتصفت به آلهتهم بما ينافي الألوهية ، أخبر تعالى أنّ إله العالم هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ وأن الذين لا يؤمنون بالجزاء بعد وضوح بطلان أن تكون الإلهية لغيره بل له وحده ، هم مستمرون على شركهم ، منكرون وحدانيته ، مستكبرون عن الإقرار بها ، لاعتقادهم الإلهية لأصنامهم وتكبرها في الوجود . ووصفهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة مبالغة في نسبة الكفر إليهم ، إذ عدم التصديق بالجزاء في الآخرة يتضمن التكذيب بالله تعالى وبالبعث ، إذ من آمن بالبعث يستحيل أن يكذب الله عز وجل . وقيل : مستكبرون عن الإيمان برسول الله وأتباعه . وقال العلماء : كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان . وفي الحديث الصحيح : ( إنالمستكبرين يجيؤون أمثال الذر يوم القيامة ، يطؤهم الناس بأقدامهم ) أو كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتقدم الكلام في ) لاَ جَرَمَ ( في هود . وقرأ عيسى الثقفي إن بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله . وقال بعض أصحابنا : وقد يغني لا جرم عن لفظ القسم ، تقول : لا جرم لآتينك ، فعلى هذا يكون لقوله : إن الله بكسر الهمزة تعلق بلا جرم ، ولا يكون استئنافاً . وقد قال بعض الأعراب لمرداس الخارجي : لا جرم والله لأفارقنك أبداً ، نفى كلامه تعلقها بالقسم . وفيقوله : يعلم ما يسرون وما يعلنون وعيد وتنبيه على المجازاة ، وقال يحيى بن سلام ، والنقاش : المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى . ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين ، يأخذ كل واحد منهم بقسطه .
( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالو أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بل إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ). قيل : سبب نزول وإذا قيل لهم الآية ، أنّ النضر بن الحرث سافر عن مكة إلى الحيرة ، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة ، وأخبار اسفنديار ورستم ، فجاء إلى مكة فكان يقول : إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحديثي أجمل من حديثه . وما كلمة استفهام مفعول بأنزل ، أو مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي ، وعائده في

" صفحة رقم 470 "
أنزل محذوف أي : أي شيء الذي أنزله . وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال : بمعنى أي شيء أنزله ربكم . وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر ، والضمير في لهم عائد على كفار قريش . وماذا أنزل ليس معمولاً لقيل على مذهب البصرين ، لأنه جملة ، والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله ، كما لا تقع موقع الفاعل . وقرىء شاذاً : أساطير بالنصب على معنى ذكر ثم أساطير ، أو أنزل أساطير على سبيل التهكم والسخرية ، لأنّ التصديق بالإنزال ينافي أساطير ، وهم يعتقدون أنه ما نزل شيء ولا أن ثمّ منزل . وبنى قيل : للمفعول ، فاحتمل أن كون القائل بعضهم لبعض ، واحتمل أن يكون المؤمنون قالوا لهم على سبيل الامتحان . وقيل : قائل ذلك الذين تقاسموا مداخل مكة ينفرون عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا سألهم وفود الحاج : ماذا أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ قالوا : أحاديث الأولين .
وقرأ الجمهور : برفع أساطير ، فاحتمل أن يكون التقدير المذكور : أساطير ، أو المنزل أساطير ، جعلوه منزلاً على سبيل الاستهزاء ، وإن كانوا لا يؤمنون بذلك . واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم ، أو لام التعليل من غير أن يكون غرضاً كقولك : خرجت من البلد مخافة الشر ، وهي التي يعبر عنها بلام العاقبة ، لأنهم لم يقصدوا بقولهم : أساطير الأولين ، أن يحملوا الأوزار . ولما قال ابن عطية : إنه يحتمل أن تكون لام العاقبة قال : ويحتمل أن يكون صريح لام كي على معنى قدر هذا لكذا ، وهي لام التعليل ، لكنه لم يعلقها بقوله . قالوا : بل أضمر فعلاً آخر وهو : قدر هذا ، وكاملة حال أي : لا ينقص منها شيء ، ومِن للتبعيض . فالمعنى : أنه يحمل من وزر كل من أضل أي : بعض وزر من ضلّ بضلالهم ، وهو وزر الإضلال ، لأنّ المضل والضال شريكان ، هذا يضله ، وهذا يطاوعه على إضلاله ، فيتحاملان الوزر ، لأنّ المضل والضال شريكان ، هذا يضله ، وهذا يطاوعه على إضلاله ، فيتحاملان الوزر . وقال الأخفشا : مِن زائدة أي : وأوزار الذين يضلونهم ، والمعنى : ومثل ) أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ( كقوله : ( فعليه وزرها ووزر عن عمل بها إلى يوم القيامة ) المراد : ومثل وزر ، والمعنى : أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عابه حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لعقاب كل من اقتدىء به في ذلك . وقال الواحدي : ليست مِن للتبعيض ، لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع ، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) لكنها للجنس أي : ليحملوا من جنس أوزار الاتباع انتهى . ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا التقدير الذي قدره الواحدي ، وإنما تقدر : الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم ، فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش ، وإن اختلفا في التقدير . وبغير علم قال الزمخشري : حال من المفعول أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلال . وقال غيره : حال من الفاعل وهو أولى ، إذ هو المحدث عنه المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية ، والمعنى : أنهم يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال . ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة ، وتقدم الكلام في إعراب مثل ساء ما يزرون . فأتى الله أي : أمره وعذابه والبنيان ، قيل : حقيقة . قال ابن عباس وغيره : الذين من قبلهم نمرود بني صرحاً ليصعد بزعمه إلى السماء ، وأفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش ، وقاله كعب الأحبار . وقال ابن عباس ووهب : طوله في السماء خمسة آلاف ذراع ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع ، فبعث الله تعالى عليه ريحاً فهدمته ، وخر سقفه عليه وعلى اتباعه . وقيل : هدمه جبريل بجناحه ، وألقى أعلاه في البحر ، والحقف من أسفله . وقال ابن الكلبي : المراد المقتسمون المذكورون في سورة الحجر . وقيل : الذين من قبلهم بخت نصر وأصحابه . وقال الضحاك : قريات قوم لوط ، وقالت فرقة : المراد بالذين من قبلهم من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ، ونزلت به عقوبة من الله ، ويكون فأتى الله بنيانهم إلى آخره تمثيلاً والمعنى : أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله ، فجعل الله

" صفحة رقم 471 "
هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين ، فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت ، فسقط عليهم السقف وهلكوا ونحوه : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . ومن القواعد لابتداء الغاية أي : أتاهم أمر الله من جهة القواعد . وقالت فرقة : المراد بقوله : فخرَّ عليهم السقف من فوقهم . جاءهم العذاب من قبل السماء التي هي فوقهم ، وقاله ابن عباس . وقيل : المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه . قال ابن عطية : وهذا ينجر إلى اللغز . ومعنى قوله : من فوقهم ، رفع الاحتمال في قوله : فخرَّ عليهم السقف ، فإنك تقول : انهدم على فلان بناؤه وليس تحته ، كما تقول : انفسد عليه ، وقوله : من فوقه ، ألزم أنهم كانوا تحته انتهى . وهذا الذي قاله ابن الأعرابي قال : يعلمك أنهم كانوا جالسين تحته ، والعرب تقول : خر علينا سقف ، ووقع علينا سقف ، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه . وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله من فوقهم ليخرج هذا الذي في كلام العرب فقال : من فوقهم ، أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا ، فأتاهم العذاب . قال ابن عباس : يعني البعوضة التي أهلك بها نمروذ ، وقيل : من حيث لا يشعرون ، من حيث ظنوا أنهم في أمان . وقرأ الجمهور : بنيانهم ، وقرأت فرقة بنيتهم . وقرأ جعفر : بيتهم ، والضحاك : بيوتهم .
وقرأ الجمهور : السقف مفرداً ، والأعرج السقف بضمتين وزيد بن علي ومجاهد ، بضم السين فقط . وتقدم توجيه مثل هاتين القراءتين في وبالنجم . وقرأت فرقة : السقف بفتح السين وضم القاف ، وهي لغة في السقف ، ولعل السقف مخفف منعه ، ولكنه كثر استعماله كما قالوا في رجل رجل وهي لغة تميمية . ولما ذكر تعالى ما حل بهم في دار الدنيا ، ذكر ما يحل بهم في الآخرة . ويخزيهم : يعم جميع المكاره التي تحل بهم ، ويقتضي ذلك إدخالهم النار كقوله : ) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( أي أهنته كل الإهانة . وجمع بين الإهانة بالفعل ، والإهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في قوله : يخزيهم . ويقول : أين شركائي ، أضاف تعالى الشركاء إليه ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ، والمعنى : شركائي في زعمكم ، إذ أضاف على الاستهزاء . وقرأ الجمهور : شركائي ممدوداً مهموزاً مفتوح الياء ، وفرقة كذلك : تسكنها ، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين . والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه : مقصوراً وفتح الياء هنا خاصة . وروي عنه : ترك الهمز في القصص والعمل على الهمز فيه وقصر الممدود ، وذكروا أنه من ضرورة الشعر ، ولا ينبغي ذلك لثبوته في هذه القراءة ، فيجوز قليلاً في الكلام . والمشاقة : المفاداة والمخاصمة للمؤمنين . وقرأ الجمهور : تشاقون بفتح النون ، وقرأ نافع بكسرها ، ورويت عن الحسن ، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة . وقرأت فرقة : بتشديدها ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية . والذين أوتوا العلم ، عام فيمن أوتي العلم من الأنبياء ، وعلماء أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم ، فلا يلتفتون إليهم ، وينكرون عليهم . وقيل : هم الملائكة ، وقاله ابن عباس . وقيل : الحفظة من الملائكة . وقيل : من حضر الموقف من ملك وأنسي ، وغير ذلك . وقال يحيى بن سلام : هم المؤمنون انتهى . ويقول أهل العلم : شماتة بالكفار وتسميعاً لهم ، وفي ذلك إعظام للعلم ، إذ لا يقول ذلك إلا أهله ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( تقدم تفسيره في سورة النساء . والظاهر أنّ الذين صفة للكافرين ، فيكون ذلك داخلاً في القول . فإن كان القول يوم القيامة فيكون تتوفاهم حكاية حال ماضية ، وإن كان القول في الدنيا لما أخبر تعالى أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول لهم ما يقول قال أهل العلم : إذا أخبر الله تعالى بذلك أن الخزي اليوم الذي أخبر الله أنه يخزيهم فيه ، فيكون تتوفاهم على بابها . ويشمل من حيث المعنى من توفته ، ومن تتوفاه . ويجوز أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف ، وأن يكون منصوباً على الذم ، فاحتمل أن يكون مقولاً لأهل العلم ، واحتمل أنْ يكون غير مقول ، بل من إخبار الله تعالى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الذين مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله ، وخبره في قوله : فألقوا السلم ، فزيدت الفاء في الخبر ، وقد يجيء مثل هذا انتهى . وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش ، فإنه يجيز : زيد فقام ، أي قام . ولا يتوهم أنّ الفاء هي الداخلة

" صفحة رقم 472 "
في خبر المبتدإ إذا كان موصولاً ، وضمن معنى الشرط ، لأنه لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح الشرط ، فلا يجوز فيما ضمن معناه . وقرأ حمزة ، والأعمش : يتوفاهم بالياء من أسفل في الموضعين . وقرىء : بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ، وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين . والسلم هنا الاستسلام . قاله الأخفش ، أو الخضوع قاله مقاتل . أي ، انقادوا حين عاينوا الموت قد نزل بهم . وقيل : في القيامة انقادوا وأجابوا بما كانوا على خلافه في الدنيا من الشقاق والكبر . والظاهر عطف فألقوا على تتوفاهم ، وأجاز أبو البقاء أن يكون معطوفاً على قوله : الذين ، وأن يكون مستأنفاً .
وقيل : تم الكلام عند قوله : ظالمي أنفسهم ، ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة ، فعلى هذا يكون قوله : قال الذين إلى قوله فألقوا ، جملة اعتراضية بين الإخبار بأحوال الكفار ما كنا نعمل من سوء هو على إضمار القول أي : ونعتهم بحمل السوء ، إما أن يكون صريخ كذب كما قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، فقال تعالى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم . وإما أن يكون المعنى : عند أنفسنا أي لو كان الكفر عند أنفسنا سواء ما علمناه . ويرجح الوجه الأول الرد عليهم ببلى ، إذ لو كان ذلك على حسب اعتقادهم لما كان الجواب بلى ، على أنه يصح على الوجه الثاني أن يرد عليهم ببلى ، والمعنى : أنكم كذبتم في اعتقادكم أنه ليس بسوء ، بل كنتم تعتقدون أنه سوء لأنكم تبينتم الحق وعرفتموه وكفرتم لقوله : ) فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( وقوله : ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( والظاهر أنّ هذا السياق كله هو مع أهل العلم والكفار ، وإن أهل العلم هم الذين ردوا عليهم إخبارهم بنفي عمل السوء . ويجوز أن يكون الرد من الملائكة وهم الآمروهم بالدخول في النار ، يسوقونهم إليها . وقيل : الخزنة ، والظاهر الأبواب حقيقة . وقيل : المراد الدركات . وقيل : الأصناف كما يقال : فلان ينظر في باب من العلم أي صنف . وأبعد من قال : المراد بذلك عذاب القبر مستدلاً بما جاء ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) ولما أكذبوهم من دعواهم أخبروا أنه هو العالم بأعمالهم ، فهو المجازى عليها ، ثم أمروهم بالدخول ، واللام في فلبئس لام تأكيد ، ولا تدخل على الماضي المنصرف ، ودخلت على الجامد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء . والمخصوص بالذم محذوف أي : فلبئس مثوى المتكبرين هي أي جهنم . ووصف التكبر دليل على استحقاق صاحبه النار ، وذلك إشارة إلى قوله . ) قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ).
2 ( ) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا

" صفحة رقم 473 "
اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىإِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الاٌّ رْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( )
النحل : ( 30 ) وقيل للذين اتقوا . . . . .
خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب ، وخسفه الله يريد أذهبه في الأرض به . دخر دخوراً تصاغر ، وفعل ما يؤمر شاء أو أبى . فقال ابن عطية : تواضع . قال ذو الرمة : فلم يبق إلا داخر في مجلس
ومنجحر في غير أرضك في جحر
) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ( : تقدم إعراب ماذا ، إلا أنه إذا كانت ذا موصولة لم يكن الجواب على وفق السؤال ، لكون ماذا مبتدأ وخبر ، أو الجواب نصب وهو جائز ، ولكن المطابقة في الإعراب أحسن . وقرأ الجمهور : خيراً بالنصب أي : أنزل خيراً . قال الزمخشري : فإن قلت : لم نصب هذا ، ورفع الأول ؟ قلت : فصلاً بين جواب المقر وجواب الجاحد ، يعني : أنّ هؤلاء لما سئلوا : لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا : خيراً ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين ، وليس من الإنزال في شيء انتهى . وقرأ زيد بن علي : خير بالرفع أي : المنزل فتطابق هذه القراءة تأويل من جعل إذا موصولة ، ولا تطابق من

" صفحة رقم 474 "
جعل ماذا منصوبة ، لاختلافهما في الإعراب ، وإن كان الاختلاف جائزاً كما ذكرنا . وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام المواسم من يأتيهم بخير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإذا جاء الوفد كفه المقتسمون وأمره بالانصراف وقالوا : إنْ لم تلقه كان خيراً لك فيقول : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأراه ، فيلقى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيخبرونه بصدقه ، وأنه نبي مبعوث ، فهم الذين قالوا خيراً . والظاهر أن قوله : للذين ، مندرج تحت القول ، وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي : أنّ من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة . وقال الزمخشري : للذين أحسنوا وما بعده بدل من خير ، حكاية لقول الذين اتقوا أي : قالوا هذا القول ، فقدم عليه تسميته خيراً ثم خكاه انتهى . وقالت فرقة : هو ابتداء كلام من الله تعالى ، مقطوع مما قبله ، وهو بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم . ومعنى حسنة مكافأة في الدنيا بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها . ولما ذكر حال الكفار في الدنيا والآخرة ذكر حال المؤمنين في الدارين ، والظاهر أنّ المخصوص بالمدح هو جنات عدن . وقال الزمخشري : ولنعم دار المتقين دار الآخرة ، فحذف المخصص بالمدح لتقدم ذكره ، وجنات عدن خبر مبتدأ محذوف انتهى . وقاله ابن عطية : وقبلهما الزجاج وابن الأنباري ، وجوزوا أن يكون جنات عدن مبتدأ ، والخبر يدخلونها . وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات عدن بالنصب على الاشتغال أي : يدخلون جنات عدن يدخلونها ، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع أنه مبتدأ ، ويدخلونها الخبر . وقرأ زيد بن علي : ولنعمت دار ، بتاء مضمومة ، ودار مخفوض بالإضافة ، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الخبر . وقرأ السلمي : تدخلونها بتاء الخطاب . وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع : يدخلونها بياء على الغيبة ، والفعل مبني للمفعول ، ورويت عن أبي جعفر وشيبة : تجري . قال ابن عطية : في موضع الحال ، وقال الحوفي : في موضع نعت لجنات انتهى . فكان ابن عطية لحظ كون جنات عدن معرفة ، والحوفي لحظ كونها نكرة ، وذلك على الخلاف في عدن هل هي علم ؟ أو نكرة بمعنى إقامة ؟ والكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف أي : جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا يجزي ، وطيبين حال من مفعول تتوفاهم ، والمعنى : أنهم صالحوا الأحوال مستعدّون للموت والطيب الذي لا خبث فيه ، ومنه : ) طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ).
وقال أبو معاذ : طيبين طاهرين من الشكر بالكلمة الطيبة . وقيل : طيبين سهلة وفاتهم لا صعوبة فيها ولا ألم ، بخلاف ما يقبض روح الكافر والمخلط . وقيل : طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله تعالى ، وقيل : زاكية أفعالهم وأقوالهم ، وقيل : صالحين ، وقال الزمخشري : طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي ، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم . ويقولون نصب على الحال من الملائكة ، وتسليم الملائكة عليهم بشارة من الله تعالى ، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح . وقوله : هدى للمتقين ، هو وقت قبض أرواحهم ، قاله : ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد . والأكثرون جعلوا التبشير بالجنة دخولاً مجازاً . وقال مقاتل والحسن : عند دخول الجنة وهو قول خزنة الجنة لهم في الآخرة : سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار . فعلى هذا القول يكون يقولون حالاً مقدرة ، ولا يكون القول وقت التوفي . وعلى هذا يحتمل أن يكون الذين مبتدأ ، والخبر يقولون ، والمعنى : يقولون لهم سلام عليكم . ويدل لهذا القول قولهم : ادخلوا الجنة ، ووقت الموت لا يقال لهم ادخلوا الجنة ، فالتوفي هنا توفي الملائكة لهم وقت الحشر . وقوله : بما كنتم تعملون ظاهره في دخول الجنة بالعمل الصالح .
( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن ( : مناسبة هذه الآية لما قلبها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم : أساطير الأولين ، ثم أتبع ذلك بوعيدهم

" صفحة رقم 475 "
وتهديدهم ، ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية بين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد ، أو امر الله بعذاب الاستئصال . وقرأ حمزة والكسائي : يأتيهم بالياء ، وهي قراءة ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وباقي السبعة بالتاء على تأنيث الجمع ، وإتيان الملائكة لقبض الأرواح ، وهم ظالمو أنفسهم ، وأمر ربك العذاب المستأصل أو القيامة . والكاف في موضع نصب أي : مثل فعلهم في انتظار الملائكة أوامر الله فعل الكفار الذين يقدمونهم . وقيل : مثل فعلهم في الكفر والديمومة عليه فعل متقدموهم من الكفار . وقيل : فعل هنا كناية عن اغترارهم ، كأنه قيل : مثل اغترارهم باستبطاء العذاب اغتر الذين من قبلهم ، والظاهر القول الأول لدلالة : هل ينظرون عليه ، وما ظلمهم بالله بإهلاكهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بكفرهم وتكذيبهم الذي أوجب لهم العذب في الدنيا والآخرة . وقوله : فأصابهم ، معطوف على فعل ، وما ظلمهم اعتراض . وسيئات : عقوبات كفرهم . وحاق بهم أحاط بهم جزاء استهزائهم . وقال الذين أشركوا ، تقدم تفسير مثل هذه الآية في آخر الأنعام ، فأغنى عن الكلام في هذا . وقال الزمخشري : هنا يعني أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل من البحيرة والسائبة وغيرهما ، ثم نسبوا فعلهم إلى الله ، وقالوا : لو شاء الله لم نفعل ، وهذا مذهب المجبرة بعينه . كذلك فعل الذين من قبلهم أي أشركوا وحرموا حلال الله ، فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوا على ربهم ، فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق ، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه ، وبراءة الله من أفعال العباد ، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم ، والله تعالى باعثهم على جميلها ، وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وهذا القول صادر ممن أقر بوجود الباري تعالى وهم الأكثرون ، أو ممن لا يقول بوجوده . فعلى تقدير أنّ الرب الذي يعبده محمد ويصفه بالعلم والقدرة يعلم حالنا ، وهذا جدال من أي الصفنين كان ليس فيه استهزاء . وقال الزجاج : قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، ومن المطابقة التي أنكرت مطابقة الأدلة لإقامة الحجة من مذهب خصمها مستهزئة في ذلك .
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً مّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ ( : قال الزمخشري : ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيه الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله واجتناب الشر الذي هو الطاغوت فمنهم من هدى الله أي لطف به ، لأنه عرفه من أهل اللطف ، ومنهم من حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف ، لأنه عرفه مصمماً على الكفر لا يأتي منه خير . فسيروا في الأرض فانظروا ما فعلت بالمكذبين حتى لا تبقى لكم شبهة وإني لا أقدر الشر ولا أشاؤه ، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . ولما قال : فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ، بيَّن ذلك هنا بأنه بعث الرسل بعبادته وتجنب عبادة غيره ، فمنهم من اعتبر فهداه الله ، ومنهم من أعرض وكفر ، ثم أحالهم في معرفة ذلك على السير في الأرض واستقراء الأمم ، والوقوف على عذاب الكافرين المكذبين ، ثم خاطب نبيه وأعلمه أنّ من حتم عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته .
وقرأ النخعي : وإن بزيادة واو وهو والحسن ، وأبو حيوة : تحرص بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة . وقرأ الجمهور

" صفحة رقم 476 "
بالكسر مضارع حرص بالفتح ، وهي لغة الحجاز . وقرأ الحرميان ، والعربيان ، والحسن ، والأعرج ، ومجاهد ، وشيبة ، وشبل ، ومزاحم الخراساني ، والعطاردي ، وابن سيرين : لا يهدي مبنياً للمفعول ، ومن مفعول لم يسم فاعله . والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره : من يضله الله . وقرأ الكوفيون ، وابن مسعود ، وابن المسيب ، وجماعة : يهدي مبنياً للفاعل . والظاهر أنّ في يهدي ضميراً يعود على الله ، ومن مفعول ، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازماً ، والفاعل من أي لا يهتدي من يضله الله . وقرأت فرقة منهم عبد الله : لا يهدي بفتح الياء وكسر الهاء والدال . كذا قال ابن عطية ، ويعني : وتشديد الدال وأصله يهتدي ، فأدغم كقولك في : يختصم بخصم . وقرأت فرقة : يهدي بضم الياء وكسر الدال ، قال ابن عطية : وهي ضعيفة انتهى . وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة ، لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية ، فالمعنى : لا يجعل مهتدياً من أضله ، وفي مصحف أُبي : لا هادي لمن أضل . وقال الزمخشري : وفي قراءة أبيّ فإنّ الله لا هادي لمن يضل ولمن أضل . وقرىء : يضل بفتح الياء ، وقال أيضاً : حرص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على إيمان قريش ، وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه لا يهدي من يضل أي : لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث ، والله تعالى متعالٍ عن العبث ، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والضمير في لهم عائد على معنى من ، والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش . وعن أبي العالية : نزلت في رجل من المسلمين تقاضى ديناً على رجل من المشركين ، فكان فيما تكلم به المسلم الذي ادخره بعد الموت فقال المشرك ، وأنكر أنك تبعث بعد الموت ، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت ، بلى رد عليه ما نفاه ، وأكده بالقسم ، والتقدير : بلى يبعثه . وانتصب وعداً وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه . وقال الحوفي : حقاً نعت لو عدا . وقرأ الضحاك : بلى وعد حق ، والتقدير : بعثهم وعد عليه حق ، وحق صفة لوعد . وقال الزمخشري : وأقسموا بالله معطوف على وقال الذين أشركوا ، إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا ، توريك ذنوبهم على مشيئة الله ، وإنكارهم البعث مقسمين عليه ، وبيّن أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون ، أو أنه وعد واجب على الله لأنهم يقولون : لا يجب على الله شيء ، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وأكثر الناس هم الكفار المكذبون بالبعث . وأما قول الشيعة : إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعليّ بن أبي طالب ، وأن الله سيبعثه في الدنيا ، فسخافة من القول . والقول بالرجعة باطل وافتراء على الله على عادتهم ، رده ابن عباس وغيره . واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي : نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل : ما ضربت أحداً فيقول : بلى زيداً أي : ضربت زيداً . ويعود الضمير في يبعثهم المقدر ، وفي لهم على معنى من في قوله : من يموت ، وهو شامل للمؤمنين والكفار . والذي اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله ، وإنكار النبوّات ، وإنكار البعث ، وغير ذلك مما أمروا به . وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إلى الله تعالى . وقال الزمخشري : إنهم كذبوا في قولهم : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ، وفي قولهم : لا يبعث الله من يموت انتهى . وفي قولهم دسيسة الاعتزال . وقيل : تتعلق ليبين بقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ، أي : ليظهر لهم اختلافهم ، وأنّ الكفار كانوا على ضلالة من قبل بعث ذلك الرسول ، كاذبون في رد ما يجيء به الرسل .
( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلاَجْرُ الاْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( : لما تقدّم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم ، ورد عليهم تعالى بقوله : ) بَلَى ( وذكر حقية وعده بذلك ، أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شيء أوجده . وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائة وأرضه ، وأن إيجاده ذلك لم يوقف على سبق مادّة ولا آلة ، فكما قدر على

" صفحة رقم 477 "
الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادراً على الإعادة . وتقدم تفسير قوله تعالى : كن فيكون في البقرة ، فأغنى عن إعادته . والظاهر أن اللام في لشيء وفي له للتبليغ ، كقولك : قلت لزيد قم . وقال الزجاج : هي لام السبب أي : لأجل إيجاد شيء ، وكذلك له أي لأجله . قال ابن عطية : وما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد ، لا إلى الإرادة . وذلك أنّ الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال ، لا في إرادة ذلك ، ولا في الأمر به ، لأن ذينك قديمان . فمن أجل المراد عبر بإذا ، ونقول : وأما قوله لشيء فيحتمل وجهين : أحدهما : أنه لما كان وجوده حتماً جاز أن يسمى شيئاً وهو في حالة عدم . والثاني : أن قوله لشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها ، وأنّ ما كان منها موجوداً كان مراداً ، وقيل له : كن فكان ، فصار مثالاً لما يتأخر من الأمور بما تقدّم ، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئاً انتهى . وفيه بعض تلخيص . وقال : إذا أردناه منزل منزلة مراد ، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أنّ الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء ، فكأنه قال : إذا ظهر المراد فيه . وعلى هذا الوجه يخرج قوله : ) فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ( وقوله : ) لِيَعْلَمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ( ونحو هذا معناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه ، وقوله : أن نقول ، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا ، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في الصدر في أغلب أمرها ، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية . وكقوله تعالى : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالاْرْضُ بِأَمْرِهِ ( وغير ذلك انتهى . وقوله : ولكنْ أنّ مع الفعل يعني المضارع ، وقوله : في أغلب أمرها ليس بجيد ، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها . وأما قوله : وقد تجيء إلى آخره ، فلم يفهم ذلك من دلالة أنْ ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله ، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى . ونظيره ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيراً ( فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي ، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً ، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن . والذين هاجروا قال قتادة : نزلت في مهاجري أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال داود بن أبي هند : في أبي جندل بن سهيل بن عمرو . وعن ابن عباس : في صهيب ، وبلال ، وخباب بن الأرت ، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة ، فبوأهم الله المدينة . وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله : والذين هاجروا . قال ابن عطية : لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية ، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى . والذين هاجروا ، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا ، فيشمل أولهم وآخرهم . وقرأ الجمهور : لنبوأنهم ، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي : تبوئة حسنة . وقيل : انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر ، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم ، فحسنة في معنى إحساناً . وقال أبو البقاء : حسنة مفعول ثان لنبوأنهم ، لأنّ معناه لنعطينهم ، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي : دار حسنة انتهى . وقال الحسن ، والشعبي ، وقتادة : داراً حسنة وهي المدينة . وقيل : التقدير منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب . وقال مجاهد : الرزق الحسن . وقال الضحاك : النصر على عدوهم . وقيل : ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات . وقيل : ما بقي لهم فيها من الثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف . وقيل : الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون . وقرأ عليّ ، وعبد الله ، ونعيم بن ميسرة ، والربيع بن خيثم : لنثوينهم بالثاء المثلثة ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه ، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة ، أو على نزع الخافض

" صفحة رقم 478 "
أي : في حسنة ، أي : دار حسنة ، أو منزلة حسنة . ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة ، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته . وفي الله دليل على إخلاص العمل لله ، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه . وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ ، خلافاً لثعلب . وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم ، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل . ولا يجوز زيداً لأضربن ، فلا يجوز زيداً لأضربنه . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر ، ولأجر الآخرة أي : ولأجر الدار الآخرة أكبر ، أي : أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال : وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً . والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي : لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم . وقيل : يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم ، والذين صبروا على تقديرهم الذين ، أو أعني الذين صبروا على العذاب ، وعلى مفارقة الوطن ، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن ، فكيف لمن كان مسقط رأسه ؟ وعلى بذل الروح في ذات الله ، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها ، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب .
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( : نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا : الله أعظم أن يكون رسوله بشراً ، فهلا بعث إلينا ملكاً ؟ وتقدّم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف ، والمعنى : نوحي إليهم على ألسنة الملائكة . وقرأ الجمهور : يوحى بالياء وفتح الحاء ، وقرأت فرقة : بالياء وكسرها وعبد الله ، والسلمي ، وطلحة ، وحفص : بالنون وكسرها . وأهل الذكر : اليهود ، والنصارى ، قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن . وعن مجاهد أيضاً : اليهود . والذكر : التوراة لقوله تعالى : ) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ ( وعن عبد الله بن سلام ، وسلمان . وقال الأعمش ، وابن عيينة : من أسلم من اليهود والنصارى . وقال الزجاج : عام فيمن يعزى إليه علم . وقال أبو جعفر وابن زيد : أهل القرآن . ويضعف هذا القول وقول من قال : من أسلم من الفريقين ، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين ، لأنهم مكذبون لهم . قال ابن عطية : والأظهر أنهم اليهود والنصارى الذين لم يسلموا ، وهم في هذه الآية النازلة ، إنما يخبرون من الرسل عن البشر ، وإخبارهم حجة على هؤلاء ، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا ، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا هو كسر حجتهم ومذهبهم ، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء ، بل الحق واضح في نفسه . وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسدون إليهم انتهى . والأجود أن يتعلق قوله : بالبينات ، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل : ثم أرسلوا ؟ قال : أرسلناهم بالبينات والزبر ، فيكون على كلامين ، وقاله : الزمخشري وابن عطية وغيرهما . وقد يتعلق بقوله : وما أرسلنا ، وهذا فيه وجهان : أحدهما : أنّ النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء ، والتقدير : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظاً ورتبة ، داخلين تحت الحصر لما قبلها ، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة . والوجه الثاني : أنْ لا ينوي به التقديم ، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر ، وهذا قاله الحوفي والزمخشري ، وبدأ به قال : تتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلا زيداً بالسوط ، لأن أصله ضربت زيداً بالسوط انتهى . وقال أبو البقاء : وفيه ضعف ، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما يليها ، إلا أنه قد جاء في الشعر . قال الشاعر

" صفحة رقم 479 "
ليتهم عذبوا بالنار جارهم
ولا يعذب إلا الله بالنار
انتهى . وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين ، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا ، إلا مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعاً ، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل . وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً ، ومخفوض نحو : ما مرّ إلا زيد بعمرو ، ومرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو . ووافقه ابن الأنباري في الموفوع ، والأخفش في الظرف والجار والحال . فالقول الذي قاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش ، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو . وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي : رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف ، وهذا وجه سائغ ، لأنه في موضع صفة لما بعد : إلا ، فوصف رجالاً بيوحى إليهم ، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول : ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير . وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم ، وأن يتعلق بلا يعلمون . قال : على أنّ الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير : إن كانت علمت لك فاعطني حقي ، وقوله : فاسألوا أهل الذكر ، اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني : من التي ذكر غير الوجه الأخير . وأنزلنا إليك الذكر : هو القرآن ، وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين . وقيل : الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه ، لأن النص والظاهر لا يحتاجان إلى بيان . وقال الزمخشري : مما أمروا به ونهوا عنه ، ووعدوا وأوعدوا . وقال ابن عطية : لتبين بسردك بنص القرآن ما نزل إليهم . ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل ، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة ، وهذا قول مجاهد انتهى . ولعلهم يتفكرون أي : وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا ، والسيئات نعت لمصدر محذوف أي : المكرات السيئات قاله الزمخشري ، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا ، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة ، أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية . وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات . وعلى القولين ، قبله مفعول بامن ، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال مجاهد : هو نمرود ، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل . وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون ، وذكر لنا أنّ أخلاطاً من بلاد الروم خسف بها ، وحين أحسن أهلها بذلك فرّ أكثرهم ، وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته . من حيث لا يشعرون : من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها ، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة ، أو في منامهم روي هذا وما قبله عن ابن عباس . وقال الضحاك ، وابن جريج ، ومقاتل : في ليلهم ونهارهم أي : حالة ذهابهم ومجيئهم فيمما . وقيل : في تقلبهم في مكرهم وحيلهم ، فيأخذهم قبل تمام ذلك . وقال الزجاج : جميع ما يتقلبون فيه ، فما هم بسابقين الله ولا فائتيه . والأخذ هنا الإهلاك كقوله : ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ( وعلى تخوف على تنقص قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك . وقال ابن قتيبة : يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه . وقال الهيثم بن عدي : هو النقص بلغة أزدشنوءة . وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف ، فأجابه شيخ : بأنه التنقص في لغة هذيل . وأنشده قول أبي كثير الهذلي : تخوف الرجل منها تامكاً قردا
كما تخوف عود النبة السقر

" صفحة رقم 480 "
وهذا التخوف بمعنى التنقص ، قيل : من أعماله ، وقيل : يأخذ واحداً بعد واحد ، ورويا عن ابن عباس . وقال الزجاج : ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم . وقيل : على تخوف ، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهم قاله قتادة . وقال الزمخشري : على تخوف متخوفين ، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا ، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون ، وهو خلاف قوله : من حيث لا يشعرون انتهى . وقاله الضحاك ، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى . وقال ابن بحر : على تخوف ضد البغتة أي : على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق ، ولهذا ختم بقوله تعالى : إن ربكم لرؤوف رحيم ، لأنّ في ذلك مهلة وامتداد وقت ، فيمكن فيه التلافي . وقال الليث بن سعد : على تخوف على عجل . وقيل : على تقريع بما قدّموه ، وهذا مروي عن ابن عباس . ولما كان تعالى قادراً على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة .
( أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاْرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( : لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ ، ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين ، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره . وقرأ السلمي ، والأعرج ، والأخوان : أو لم تروا بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الأخبار ، وإما على معنى : قل لهم إذا كان خطاباً خاصاً . وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة . واحتمل أيضاً أن يعود الضمير على الذين مكروا ، واحتمل أن يكون إخباراً عن المكلفين ، والأول أظهر لتقدم ذكرهم . وقرأ أبو عمرو ، وعيسى ، ويعقوب : تتفيئوا بالتاء على لتأنيث ، وباقي السبعة بالياء . وقرأ الجمهور : ظلاله جمع ظل . وقرأ عيسى : ظلله جمع ظلة ، كحلة وحلل . والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار ، ولكنها بواسطة رؤية العين . قيل : والاستفهام هنا معناه التوبيخ . قيل : ويجوز أن يكون معناه التعجب والتقدير : تعجبوا من اتخاذهم مع الله شريكاً وقد رأوا هذه المصنوعات التي أظهرت عجائب قدرته وغرائب صنعه ، مع علمهم بأنّ آلهتهم التي اتخذوها شركاء لا يقدر على شيء البتة . والجملة من قوله : تتفيئوا ، في موضع الصفة قاله الحوفي ، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري . قال ابن عطية : من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله : تتفيؤ ظلاله ، لأنّ ذلك صفة لما عرض للعبرة في جميع الأشجاص التي لها ظل . وقال الزمخشري : وما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه من شيء تتفيؤ ظلاله ، وقال غير هؤلاء : المعنى من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ، وقوله : تتفيؤ ظلاله ، إخبار عن قوله من شيء وصف له ، وهذا الإخبار يدل على ذلك الوصف المحذوف الذي هو له ظل . وتتفيؤ تتفعل من الفيء ، وهو الرجوع يقال : فاء الظل يفيء فيأرجع ، وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس . وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( أو بالتضعيف نحو : فيأ الله الظل فتفيأ ، وتفيأ من باب المطاوعة ، وهو لازم وقد استعمله أبو تمام متعدياً قال : طلبت ربيع ربيعة الممهى لها
وتفيأت ظلالها ممدودا

" صفحة رقم 481 "
ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعدياً . قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله .
وقال الشاعر : فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
وقال امرؤ القيس : تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طام
وعن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ما لم تكن عليه فهو ظل ، وذلك أنّ الشمس من طلوعها إلى وقت الزوال تنسخ الظل ، فإذا زالت رجع ، ولا يزال ينمو إلى أن تغيب . والمشهور أنّ الفيء لا يكون إلا بعد الزوال ، والاعتبار في هذه الآية من أول النهار إلى آخره . فمعنى تتفيؤ تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال وهي جمع إلى ضمير مفرد ، لأنه ضمير ما ، وهو جمع من حيث المعنى لقوله : ) لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( وقال صاحب اللوامح : في قراءة عيسى ظلله ، وظله الغيم وهو جسم ، وبالكسر الفيء وهو عرض في العامة : فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى ، وأما في العامة فعلى الاستعارة انتهى .
قالوا في قوله : عن اليمين والشمائل ، بحثان . أحدهما : ما المراد بذلك . والثاني : ما الحكمة في إفراد اليمين وجمع الشمائل ؟ أما الأول فقالوا : يمين الفلك وهو المشرق . وشماله هو المغرب . وخص هذان الاسمان بهذين الجانبين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ، ومنه تظهر الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب ، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله ، فعلى هذا تقول الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك يقع الظلال إلى الجانب الغربي ، فإن انحدرت من وسط الفلك عن الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي ، فهذا المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال . وقيل : البلدة التي عرضها أقل من مقدار الميل تكون الشمس في الصيف عن يمين البلدة فتقع الظلال على يمينهم . وقال الزمخشري : المعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ضلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقيه ، استعارة من يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب انتهى . وقال ابن عطية : والمقصود العبرة في هذه الآية ، هو كل جرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على حسب الاستعارة لغير اللبس تقدره : ذا يمين وشمال ، وتقدره : بمستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا يعم ألفاظ الآية . وفيه تجوز واتساع . ومن ذهب إلى أنّ اليمين من غدوة الزوال ، ويكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب فيما قدره مستقبل الجنوب انتهى . وأما الثاني فقال الزمخشري : واليمين بمعنى الأيمان ، فجعله وهو مفرد بمعنى الجمع ، فطابق الشمائل من حيث المعنى كما قال : ) وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( يريد الإدبار . وقال الفراء : كأنه إذا وجد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلها لأنّ قوله ما خلق الله من شيء ، لفظ واحد ومعناه الجمع ، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد لقوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( وقوله : ) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( وقيل : إذا فسرنا اليمين بالمشرق ، كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة . وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة ، فلذلك عبر عنها

" صفحة رقم 482 "
بصيغة الجمع . وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف ، لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها فبدىء باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها ، أو تيمناً بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد ، وتنزل القدام والخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف . وقيل : وحد اليمين وجمع الشمائل ، لأن الابتداء عن اليمين ، ثم ينقبض شيئاً فشيئاً حالاً بعد حال ، فهو بمعنى الجمع ، فصدق على كل حال لفظة الشمال ، فتعدد بتعدد الحالات . وقال ابن عطية : وما قال بعض الناس من أن اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل ، وأفرد اليمين فتخليط من القول ومبطل من جهات . وقال ابن عباس : إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض إليه الظل ، فعلى هذا تأول دورة الشمس بالظل عن يمين مستقبل الجنوب ، ثم يبدأ الانحراف فهو من الشمائل ، لأنه حركات كثيرة وظلال منقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء انتهى . وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بانب الصائغ : أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين ، لأنّ ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة ، وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات ، فلحظت الغايتان في الآية : هذا من جهة المعنى ، وفيه من جهة اللفظ المطابقة ، لأنّ سجداً جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به ، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ، ولحظهما معاً وتلك الغاية في الإعجاز انتهى . والظاهر حمل الظلال على حقيقتها ، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا : إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك ، فإذا ارتفعت كان على يمينك ، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك . وقالت فرقة : الظلال هنا الأشخاص وهي المرادة نفسها ، والعرب تخبر أحياناً عن الأشخاص بالظلال . ومنه قول عبدة بن الطبيب : إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية
وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الشاعر : تتبع أفياء الظلال عيشة
أي : أفياء الأشخاص . قال ابن عطية : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قرره انتهى .
والظاهر أن السجود هنا عبارة عن الانقياد ، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض على جهة الخضوع : ساجد . قال الزمخشري : سجداً حال من الظلال ، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله ، لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق الله من شيء له ظل . وجمع بالواو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ، والمعنى : أنّ الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها . ذاخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى . فغاير الزمخشري بين الحالين ، جعل سجداً حالاً من الظلال ، ووهم داخرون حالاً من الضمير في سجداً ، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول : جاء زيد راكباً وهو ضاحك ، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً ، ويجوز أن يكون حالاً من زيد ، وهذا الثاني عندي أظهر ، والعامل في الحالين هو تتفيؤ ، وعن متعلقة به ، وقاله الحوفي . وقيل : في موضع الحال ، وقاله أبو البقاء . وقيل : عن اسم أي : جانب اليمين ، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف . وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله : وهم داخرون ، حال من الضمير في ظلاله ، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز ، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة ، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء جاز ، وقد يخبر هنا ويقول : الظلال وإن لم تكن جزءاً من الأجرام فهي كالجزء ، لأن وجودها ناشىء عن وجودها . وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة . قال الضحاك : إذا زالت الشمس سجد كل

" صفحة رقم 483 "
شيء قبل القبلة من نبت وشجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت . وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال دون الأشخاص ، وعنه أيضاً إذا زالت الشمس سجد كل شيء . وقال الحسن : أما ظللك فيسجد لله ، وأما أنت فلا تسجد له . وقيل : لما كانت الظلال ملصقة بالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود ، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادة وقصدها يبعد ، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة . وخصّ الظل بالذكر لأنه سريع التغير ، والتغير يقتضي مغيراً غيره ومدبراً له ، ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به ، ثم انتقل إلى سجود ما في السموات والأرض . ومن دابة : يجوز أن يكون بياناً لما في الظرفين ، ويكون مَن في السموات خلق يدبون . ويجوز أن يكون بياناً لما في الأرض ، ولهذا قال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض . وعطف والملائكة على ما في السموات وما في الأرض ، وهم مندرجون في عموم ما تشريفاً لهم وتكريماً ، ويجوز أن يراد بهم الحفظة التي في الأرض ، وبما في السموات ملائكتهنّ ، فلم يدخلوا في العموم . وقيل : بين تعالى في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله ، بين أنّ أشرف الموجودات وهم الملائكة ، وأخسها وهي الدواب منقادة له تعالى ، ودل ذلك على أن الجميع منقاد لله تعالى . وقيل : الدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب ، فلما ميز الله تعالى الملائكة عن الدابة ، علمنا أنها ليست مما يدب ، بل هي أرواح مختصة بحركة انتهى . وهو قول فلسفي . ولما كان بين المكلفين وغيرهم قدر مشترك في السجود وهو الانقياد لإرادة الله ، جمع بينهما فيه وإن اختلفا في كيفية السجود .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم ؟ قلت : لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب ، فكان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم انتهى . وظاهر السؤال تسليم أنّ من قد تشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب ، وظاهر الجواب تخصيص من بالعقلاء ، وأنّ الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من ، وهذا ليس بجواب ، لأنه أورد السؤال على التسليم ، ثم ذكر الجواب على غير التسليم فصار المعنى : أن من يغلب بها ، والجواب لا يغلب بها ، وهذا في الحقيقة ليس بجواب ، والظاهر أنّ الضمير في قوله : يخافون ، عائد على المنسوب إليهم السجود . في ولله يسجد ، وقاله أبو سليمان الدمشقي . وقال ابن السائب ومقاتل : يخافون من صفة الملائكة خاصة ، فيعود الضمير عليهم . وقال الكرماني : والملائكة موصوفون بالخوف ، لأنهم قادرون على العصيان وإن كانوا لا يعصون . والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى ، فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي : يخافون عذابه كائناً من فوقهم ، لأن العذاب إنما ينزل من فوق ، وإن علقته بربهم كان حالاً منه أي : يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً لقوله : ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ( ) وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( وفي نسبة الخوف لمن نسب إليه السجود أو الملائكة خاصة دليل على تكليف الملائكة كسائر المكلفين ، وأنهم بين الخوف والرجاء مدارون على الوعد والوعيد كما قال تعالى : ) وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( ومن يقل منهم : إنه إله من دونه ، فذلك نجزيه جهنم . وقيل : الخوف خوف جلال ومهابة . والجملة من يخافون يجوز أن تكون حالاً من الضمير في من لا يستكبرون ، ويجوز أن تكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له ، لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته . وقوله : ويفعلون ما يؤمرون ، أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة ، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفذ من أمر الله تعالى .
2 ( ) وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِى الْسَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّ نْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاٌّ عْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاٌّ نْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاٌّ عْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الاٌّ مْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ) ) 2
النحل : ( 51 ) وقال الله لا . . . . .
وصب الشيء دام ، قال أبو الأسود الدؤلي : لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
يوماً بذمّ الدهر أجمع واصبا

" صفحة رقم 484 "
وقال حسان : غيرته الريح يسفى به
وهزيم رعده واصب
والعليل وصيب ، لكنّ المرض لازم له . وقيل : الوصب التعب ، وصب الشيء شق ، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها . والجواز : رفع الصوت بالدعاء ، وقال الأعشى يصف راهباً :
يداوم من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
ويروى : يراوح . دس الشيء في الشيء أخفاه فيه . الفرث : كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعى . النحل : حيوان معروف . الحفدة : الأعوان والخدم ، ومن يسارع في الطاعة حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً ، ومنه : وإليك نسعى ونحفد أي : نسرع في الطاعة . وقال الشاعر : حفد الولائد حولهنّ وأسلمت
بأكفهنّ أزمة الأجمال
وقال الأعشى : كلفت مجهودها نوقاً يمانية
إذا الحداة على أكسائها حفدوا
وتتعدى فيقال : حفدني فهو حافدي . قال الشاعر : يحفدون الضيف في أبياتهم
كرماً ذلك منهم غير ذل
قال أبو عبيدة : وفيه لغة أخرى ، أحفد إحفاداً ، وقال : الحفد العمل والخدمة . وقال الخليل : الحفدة عند العرب الخدم . وقال الأزهري : الحفدة أولاد الأولاد ، وقيل : الأختان . وأنشد : فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت
لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية
عيوف لأصحاب اللئام قذور
) وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ اللَّهِ فَمَنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرّ

" صفحة رقم 485 "
ُ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( : لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها ، فكان هو المتفرد بذلك . نهى أن يشرك به ، ودل النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة . ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو : نعم الرجل زيد ، ونعم الرجلان الزيدان ، وقول الشاعر : فإن النار بالعودين تذكي
وأن الحرب أولها الكلام
أكد الموضوع لهما بالوصف ، فقيل : إلهين اثنين ، وقيل : إله واحد ، وقال الزمخشري : الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين : على الجنسية ، والعدد المخصوص . فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم . والذي يساق به الحديث هو العدد شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه والعناية به . ألا ترى أنك إذا قلت : إنما هو إله ولم تؤكده بواحد ، لم يحسن ، وخيل : أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية انتهى . والظاهر أن لا تتخذوا ، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد . وقيل : هو متعد إلى مفعولين ، فقيل : تقدم الثاني على الأول وذلك جائز ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين . وقيل : حذف الثاني للدلالة تقديره معبوداً واثنين على هذا القول تأكيد ، وتقرير منافاة الاثنينية للإلهية من وجود ذكرت في علم أصول الدين . ولما نهى عن اتخاذ الإلهين ، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة ، أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال : ) وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( بأداة الحصر ، وبالتأكيد بالوحدة . ثم أمرهم بأنْ يرهبوه ، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة ، وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون ، وتقديره : وإياي ارهبوا . وقول ابن عطية : فإياي ، منصوب بفعل مضمر تقديره : فارهبوا إياي فارهبون ، ذهول عن القاعدة في النحو ، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحد هو الضمير ، وجب تأخير الفعل كقولك : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله : إليك حين بلغت إياكا ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى : أنّ له ما في السموات والأرض ، لأنه لما كان هو الإله الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجوداً بإيجاد وخلقه ، وأخبر أنّ له الدين واصباً .
قال مجاهد : الدين الإخلاص . وقال ابن جبير : العبادة . وقال عكرمة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقامة الحدود والفرائض . وقال الزمخشري وابن عطية : الطاعة ، زاد ابن عطية : والملك . وأنشد :
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي : في طاعته وملكه . وقال الزمخشري : أوله الحداد أي : دائماً ثابتاً سرمداً لا يزول ، يعني الثواب والعقاب .

" صفحة رقم 486 "
وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، والثوري : واصباً دائماً . قال الزمخشري : والواصب الواجب الثابت لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه ، وذكر ابن الأنباري أنه من الوصب وهو التعب ، وهو على معنى النسب أي : ذا وصب ، كما قال : أضحى فؤادي به فاتناً ، أي ذا فتون . قال الزمخشري : أو وله الدين ذا كلفة ومشقة ، ولذلك سمى تكليفاً انتهى . وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين ، وإن كان فيه الوصب . والوصب : شدّة التعب . وقال الربيع بن أنس : واصباً خالصاً . قال ابن عطية : والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله : إله واحد ، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى . ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال ، وإنما هي عاطفة : فإما على الخبر كما ذكر أولاً فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر ، وإما على الجملة بأسرها التي هي : إنما هو إله واحد ، فيكون من عطف الجمل . وانتصب واصباً على الحال ، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور . أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي : بعدما عرفتم وحدانيته ، وأن ما سواه له ومحتاج إليه ، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه ؟ ثم أخبر تعالى بأنّ جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه ، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية . ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى : ) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ). وما موصولة ، وصلتها بكم ، والعامل فعل الاستقرار أي : وما استقر بكم ، ومن نعمة تفسير لما ، والخبر فمن الله أي : فهي من قبل الله ، وتقدير الفعل العامل بكم خاصاً كحلّ أو نزل ليس بجيد . وأجاز الفرّاء والحوفي : أن تكون ما شرطية ، وحذف فعل الشرط . قال الفراء : التقدير . وما يكن بكم من نعمة ، وهذا ضعيف جداً لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال ، أو متلوة بما النافية مدلولاً عليه بما قبله ، نحو قوله : فطلقها فلست لها بكفء
وإلا يعل مفرقك الحسام
أي : وإلا تطلقها ، حذف تطلقها الدلالة طلقها عليه ، وحذفه بعد أنْ متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله : قالت بنات العم يا سلمى وإن
كان فقيراً معدماً قالت وإن
أي : وإن كان فقيراً معدماً ، وأما غير إن من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولاً عليه في باب الاشتغال

" صفحة رقم 487 "
مخصوصاً بالضرورة نحو قوله : أينما الريح تميلها تمل . التقدير : أينما تميلها الريح تميلها تمل . ولما ذكر تعالى أنّ جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده ، حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه ، وهي حالة الضر والضر ، يشمل كل ما يتضرر به من مرض أو فقر أو حبس أو نهب مال وغير ذلك . وقرأ الزهري : تجرون بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الجيم . وقرأ قتادة : كاشف ، وفاعل هنا بمعنى فعل ، وإذا الثانية للفجاءة . وفي ذلك دليل على أنّ إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب ، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها . ومنكم : خطاب للذين خوطبوا بقوله : وما بكم من نعمة ، إذ بكم خطاب عام . والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أنّ آلهتهم تنفع وتضر وتشقى . وعن ابن عباس : المنافقن . وعن ابن السائب : الكفار . ومنكم في موضع الصفة ، ومِنْ للتبعيض ، وأجاز الزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال : كأنه قال فإذا فريق كافروهم أنتم . قال : ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله : ) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ( انتهى واللام في ليكفروا ، إن كانت للتعليل كان المعنى : أنّ إشراكهم بالله سببه كفرهم به ، أي جحودهم أو كفران نعمته ، وبما آتيناهم من النعم ، أو من كشف الضر ، أو من القرآن المنزل إليهم . وإن كانت للصيرورة فالمعنى : صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا ، بل آل أمر ذلك الجوار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم ، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به . وإن كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد . وقال الزمخشري : ليكفروا فتمتعوا ، يجوز أن يكون من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية ، واللام لام الأمر انتهى . ولم يخل كلامه من ألفاظ المعتزلة ، وهي قوله : في معنى الخذلان والتخلية . وقرأ أبو العالية : فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومة مبنياً للمفعول ، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففاً ، وهو معطوف على ليكفروا ، وحذفت النون إما للنصب عطفاً إنْ كان يكفروا منصوباً ، وإما للجزم إن كان مجزوماً أن كان عطفاً ، وأن للنصب إن كان جواب الأمر . وعنه : فسوف يعلمون بالياء على الغيبة ، وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والتمتع هنا هو بالحياة الدنيا ومآلها إلى الزوال .
( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ ( : الضمير في : ويجعلون ، عائد على الكفار . والظاهر أنه في يعلمون عائد عليهم . وما هي الأصنام أي : للأصنام التي لا يعلم الكفار أنها تضر وتنفع ، أو لا يعلمون في اتخاذها آلهة حجة ولا برهاناً . وحقيقتها أنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تشفع ، فهم جاهلون بها . وقيل : الضمير في لا يعلمون للأصنام أي : للأصنام التي لا تعلم شيئاً ولا تشعر به ، إذ هي جماد ل يقم بها على البتة . والنصيب : هو ما جعلوه لها من الحرث والأنعام ، قبح تعالى فعلهم ذلك ، وهو أن يفردوا نصيباً مما أنعم به تعالى عليهم لجمادات لا تضر ولا تنفع ، ولا تنتفع هي بجعل ذلك النصيب لها ، ثم أقسم تعالى

" صفحة رقم 488 "
على أنه يسألهم عن افترائهم واختلاقهم في إشراكهم مع الله آلهة ، وأنها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب لها ، والسؤال في الآخرة ، أو عند عذاب القبر ، أو عند القرب من الموت أقوال . ولما ذكر الله تعالى أنه يسألهم عن افترائهم ، ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله تعالى التوالد وهو مستحيل ، ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه ، وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة . وكانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله سبحانه وتنزيه له تعالى عن نسبة الولد إليه ، ولهم ما يشتهون : وهم الذكور ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر . وقال الزمخشري : ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى . وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي . وقال أبو البقاء : وقد حكاه ، وفيه نظر . وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو : وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدّى إلى ضميره المتصل المنصوب ، فلا يجوز زيد ضربه زيد ، تريد ضرب نفسه إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية ، أو فقد ، وعدم ، فيجوز : زيد ظنه قائماً وزيد فقده ، وزيد عدمه . والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل ، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه ، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير : ويجعلون لهم ما يشتهون . قالوا : وضمير مرفوع ، ولهم مجرور باللام ، فهو نظير : زيد غضب عليه .
وإذا بشر ، المشهور أن البشارة أول خبر يسر ، وهنا قد يراد به مطلق الأخبار ، أو تغير البشرة ، وهو القدر المشترك بين الخبر السار أو المخبرين ، وفي هذا تقبيح لنسبتهم إلى الله المنزه عن الولد البنات واحدهم أكره الناس فيهنّ ، وأنفرهم طبعاً عنهن . وظل تكون بمعنى صار ، وبمعنى أقام نهاراً على الصفة التي تسند إلى اسمها تحتمل الوجهين . والأظهر أن يكون بمعنى صار ، لأنّ التبشير قد يكون في ليل ونهار ، وقد تلحظ الحالة الغالبة . وأنّ أكثر الولادات تكون بالليل ، وتتأخر أخبار المولود له إلى النهار وخصوصاً بالأنثى ، فيكون ظلوله على ذلك طول النهار . واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى . قيل : إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف ، ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد ، فترى الوجه مشرقاً متلألئاً . وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه ، فيربد الوجه ويصفر ويسود ، ويظهر فيه أثر الأرضية ، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ، ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده ، فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة ، وعن الغم بالاسوداد . وهو كظيم أي : ممتلىء القلب حزناً وغمًّا . أخبر عما يظهر في وجهه وعن ما يجنه في قلبه . وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة ، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول لقوله : ) وَهُوَ مَكْظُومٌ ( ويقال : سقاء . مكظوم ، أي مملوء مشدود الفم . وروى الأصمعي أنّ امرأة ولدت بنتاً سمتها الذلفاء ، فهجرها زوجها فقالت : ما لأبي الذلقاء لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
يحردان لا نلد البنينا
وإنما نأخذ ما يعطينا
يتوارى : يختفي من الناس ، ومن سوء للتعليل أي : الحال له على التواري هو سوء ما أخبر به ، وقد كان بعضهم في الجاهلية يتوارى حالة الطلق ، فإن أخبر بذكر ابتهج ، أو أنثى حزن . وتوارى أياماً يدبر فيها ما يصنع . أيمسكه قبله حال محذوفة دل عليها المعنى ، والتقدير : مفكراً أو مدبراً أيمسكه ؟ وذكر الضمير ملاحظة للفظ ما في قوله : من سوء ما بشر به . وقرأ الجحدري : أيمسكها على هوان ، أم يدسها بالتأنيث عوداً على قوله : بالأنثى ، أو على معنى ما بشر به ، وافقه

" صفحة رقم 489 "
عيسى على قراءة هوان على وزن فعال . وقرأت فرقة : أيمسكه بضمير التذكير ، أم يدسها بضمير التأنيث . وقرأت فرقة : على هون بفتح الهاء . وقرأ الأعمش : على سوء ، وهي عندي تفسير لا قراءة ، لمخالفتها السواد المجمع عليه . ومعنى الإمساك حبسه وتربيته ، والهون الهوان كما قال : ) عَذَابَ الْهُونِ ( والهون بالفتح الرفق واللبن ، ( يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( وفي قوله : على هون قولان : أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس . قال ابن عباس : إنه صفة للأب ، والمعنى : أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه ؟ وقيل : حال من المفعول أي : أيمسكها مهانة ذليلة ، والظاهر من قوله : أم يدسه في التراب ، إنه يئدها وهو دفنها حية حتى تموت . وقيل : دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس في التراب . والظاهر من قوله : ألا ساء ما يحكمون ، رجوعه إلى قوله : ويجعلون لله البنات الآية أي : ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم ، نافر عنهن طبعهم ، بحيث لا يحتملون نسبتهن إليهن ، ويئدونهن استنكافاً منهن ، وينسبون إليهم الذكر كما قال : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( وقال ابن عطية : ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتجلد له ، أم يئدها فيدفنها حية فهو الدس في التراب ؟ ثم استقبح الله سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله انتهى . فعلق ألا ساء ما يحكمون بصنعهم في بناتهم مثل السوء . قيل : مثل بمعنى صفة أي : صفة السوء ، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ، ووأدهن خشية الإملاق وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ . ولله المثل الأعلى أي : الصفة العليا ، وهي الغنى عن العالمين ، والنزاهة عن سمات المحدثين . وقيل : مثل السوء هو وصفهم الله تعالى بأن له البنات ، وسماه مثل السوء لنسبتهم الولد إلى الله ، وخصوصاً على طريق الأنوثة التي هم يستنكفون منها . وقال ابن عباس : مثل السوء النار . وقال ابن عطية : قالت فرقة مثل بمعنى صفة أي : لهؤلاء صفة السوء ، ولله الوصف الأعلى ، وهذا لا نضطرّ إليه لأنه خروج عن اللفظ ، بل قوله : مثل ، على بابه وذلك أنهم إذا قالوا : أن البنات لله فقد جعلوا لله مثلاً ، فالبنات من البشر وكثرة البنات مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء . والذي أخبر الله تعالى أنهم لهم وليس في البنات فقط ، بل لما جعلوه هم البنات جعله هو هلم على الإطلاق في كل سوء ، ولا غاية أبعد من عذاب النار . وقوله : ولله المثل الأعلى ، على الإطلاق أي : الكمال المستغنى . وقال قتادة : المثل الأعلى لا إله إلا الله انتهى ، وقول قتادة مروي عن ابن عباس . ولما تقدم قوله : ويجعلون لله البنات الآية تقدم ما نسبوا إلى الله ، وأتى ثانياً ما كان منسوباً لأنفسهم ، وبدأ هنا بقوله : للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ، وأتى بعد ذلك بما يقابل قوله : سبحانه وتعالى من التنزيه وهو قوله : ولله المثل الأعلى ، وهو الوصف المنزه عن سمات الحدوث والتوالد ، وهو الوصف الأعلى الذي ليس يشركه فيه غيره ، وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها .
( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلاكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ ( :

" صفحة رقم 490 "
لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له ، بيَّن تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً لفضله ورحمته . ويؤاخذ : مضارع آخذ ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه . وقال ابن عطية : كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى . والظاهر : عموم الناس . وقيل : أهل مكة ، والباء في بظلمهم للسبب . وظلمهم كفرهم ومعاصيهم . والضمير في عليها عائد على غير مذكور ، ودل على أنه الأرض قوله : من دابة ، لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض ، فهو كقوله : ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ( أي بالمكان لأن ) وَالْعَادِيَاتِ ( معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان ، وكذلك الإثارة والنفع . والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح ، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها قاله : ابن مسعود . قال قتادة : وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام . وقال السدي ومقاتل : إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت . وسمع أبو هريرة رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وهذا نظير : ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً ( الآية والحديث ( أنهلك وفينا الصالحون ) وقال ابن السائب ، واختاره الزجاج : من دابة من الإنس والجن . وقال ابن جريج : من الناس خاصة . وقالت فرقة منهم ابن عباس : من دابة من مشرك يدب عليها ، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية ، تقدّم تفسير ما يشبهه في الأعراف . وما في ما يكرهون لمن يعقل ، أريد بها النوع كقوله : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ( ومعنى : ويجعلون ، يصفونه بذلك ويحكمون به . وقال الزمخشري : ما يكرهون لأنفسهم من البنات ، ومن شركاء في رئاستهم ، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم ، ويجعلون له أرذل أموالهم ، ولأصنامهم أكرمها ، وتصف ألسنتهم مع ذلك أنّ لهم الحسنى عند الله كقوله : ) وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( انتهى .
وقال مجاهد : الحسنى قول قريش لنا البنون ، يعني قالوا : لله البنات ولنا البنون . وقيل : الحسنى الجنة ، ويؤيده : لا جرم أن لهم النار ، والمعنى على هذا : يجعلون لله المكروه ، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول : أنت تعصي الله وتقول مع ذلك : أنك تنجو ، أي هذا بعيد مع هذا . وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث ، وكان فيهم من يقول به . أو على تقدير أنْ كان ما يقول من البعث صحيحاً ، وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب ، أو على إسقاط الحرف أي : بأن لهم . وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم : بإسكان التاء ، وهي لغة تميم جمع لساناً المذكر نحو : حمار وأحمرة ، وفي التأنيث : ألسن كذراع وأذرع . وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام : الكذب بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن ، جمع كذوب كصبور وصبر ، وهو مقيس ، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقا ، وعلى هذه القراءة أنّ لهم مفعول تصف ، وتقدم الكلام في لا جرم أن .
وقرأ الحسن وعيسى بن عمران : لهم بكسر الهمزة ، وأن جواب قسم أغنت عنه لا جرم . وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود وأبو رجاء ، وشيبة ، ونافع ، وأكثر أهل المدينة : مفرطون بكسر الراء من أفرط حقيقة أي : متجاوزون الحد في معاصي الله . وباقي السبعة ، والحسن ، والأعرج ، وأصحاب ابن عباس ، ونافع في رواية ، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته ، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه . قال القطامي :

" صفحة رقم 491 "
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا
كما تعجل فراط لوراد
ومنه ( أنا فرطكم على الحوض ) أي متقدمكم . وقال ابن جبير ، ومجاهد ، وابن أبي هند : مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته . قال أبو البقاء : تقول العرب أفرطت منهم ناساً أي خلفتهم ونسيتهم . وقرأ أبو جعفر : مفرطون مشدداً من فرط أي : مقصرون مضيعون . وعنه أيضاً : فتح الراء وشدها أي ، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى : تقدم . ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك ، مقسماً على ذلك ومؤكداً بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز ، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر ، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي : لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو ، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم ، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة . وأل في اليوم للعهد ، وهو اليوم المشهود ، فهو وليهم في ذلك اليوم أي : قرينهم وبئس القرين . والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش ، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم ، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم . ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي : فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى . وهذا فيه بعد ، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، ولا إلى حذف المضاف . واللام في لتبين لام التعليل ، والكتاب القرآن ، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه ، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام : كتحريم البحيرة ، وتحليل الميتة والدم ، وغير ذلك من الأحكام . وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله ، وانتصباً لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما ، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم . ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل ، لأن المنزل هو الله ، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقول الزمخشري : معطوف محل لتبين ليس بصحيح ، لأنّ محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه . ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل ؟ .
والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي : المقصود من القرآن أربعة : الإلهيات ، والنبوات ، والمعاد ، والقدر ، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية ، ثم بالإنسان ثم بالحيوان ، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض ، ثم عاد إلى تقدير الإلاهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصاً . وقال ابن عطية : لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وهي في غاية الظهور ، ولا يختلف فيها عاقل انتهى . ونقول : لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ، ولذلك ختم بقوله : لقوم يؤمنون أي : يصدقون . والتصديق محله القلب ، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها . ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن ، كما قال تعالى : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها ، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل . وكذلك ختم بقوله : يسمعون هذا التشبيه المشار إليه ، والمعنى : سماع إنصاف وتدبر ، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بلقوم يبصرون ، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد . وقال ابن عطية : وقوله يسمعون ، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه ، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر ، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط .
( وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ

" صفحة رقم 492 "
وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ إِنَّ ( : لما ذكر الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها ، ذكر ما ينشأ عن ما ينشأ عن المطر وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشىء عن المطر ، ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم . وقرأ ابن مسعود بخلاف ، والحسن ، وزيد بن علي ، وابن عامر ، وأبو بكر ، ونافع ، وأهل المدينة . نسقيكم هنا ، وفي قد أفلح المؤمنون : بفتح النون مضارع سقى ، وباقي السبعة بضمها مضارع أسقى ، وتقدم الكلام في سقى وأسقى في قوله ) فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ( وقرأ أبو رجاء : يسقيكم بالياء مضمومة ، والضمير عائد على الله أي : يسقيكم الله . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون مسنداً إلى النعم ، وذكر لأنّ النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه : وأنّ لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي : يجعل لكم سقياً انتهى . وقرأت فرقة : بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر . قال ابن عطية : وهي ضعيفة انتهى . وضعفها عنده والله أعلم من حيث أنث في تسقيكم ، وذكر في قوله مما في بطونه ، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة ، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين ، وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس ، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراً كقولهم : هو أحسن الفتيان وأنبله ، لأنه يصح هو أحسن فتى ، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه ، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب . وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ، ومعاملة الجمع ، فيعود الضمير عليه مفرداً . كقوله :
مثل الفراخ نبقت حواصله
وقيل : أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال : فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
فقال : كأنه وقدر بكان المذكور . قال الكسائي : أي في بطون ما ذكرنا . قال المبرد : وهذا سائغ في القرآن قال تعالى : ) إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ ( ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( أي ذكر هذا الشيء . وقال : ) فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَاذَا رَبّى ( أي هذا الشيء الطالع . ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازى ، لا يجوز جاريتك ذهب . وقالت فرقة : الضمير عائد على البعض ، إذ الذكور لا ألبان لها فكأنّ العبرة إنما هي في بعض الأنعام . وقال الزمخشري : ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم : ثواب

" صفحة رقم 493 "
أكياش ، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً ، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع ، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان : أحدهما : أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم ، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله : في كل عام نعم تحوونه
يلقحه قوم وينتجونه
وإذا أنّث ففيه وجهان : إنه تكسير نعم ، وأنه في معنى الجمع انتهى . وأما ما ذكره عن سيبويه ففي كتابه في هذا في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها ، لأنها ضارعت الواحد . ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل ، وإعراب وأعاريب ، وأيد وأياد ، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع ، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر ، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا ، لأن هذا البناء هو الغاية ، فلما ضارعت الواحد صرفت . ثم قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعاً لأخرجته إلى فعائل ، كما تقول : جدود وجدائد ، وركوب وركائب ، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء . ويقوي ذلك أنّ بعض العرب يقول : أتى للواحد فيضم الألف ، وأما أفعال فقد تقع للواحد من العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه وعز : نسقيكم مما في بطونه .
وقال أبو الخطاب : سمعت العرب يقولون : هذا ثواب أكياس انتهى . والذي ذكره سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل ، وبين أفعال وفعول ، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث أنّ مفاعل ومفاعيل لا يجمعان ، وأفعال وفعول قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد ، من حيث أنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع ، ثم قوى شبههما بالمفرد بأنّ بعض العرب قال في أتى : أتى بضم الهمزة يعني أنه قد جاء نادراً فعول من غير المصدر للمفرد ، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول : هو الأنعام ، وإنما يعني أن ذلك على سبيل المجاز ، لأنّ الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر : تركنا الخيل والنعم المفدى
وقلنا للنساء بها أقيمي
ولذلك قال سيبويه : وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع . فقول الزمخشري : إنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده ، ويدل على ما قلناه أنّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنّ أفعالاً ليس من ابنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام : أفعيل ، ولا أفعول ، ولا أفعال ، ولا أفعيل ، ولا أفعال إلا أنْ تكسر عليه اسماً للجميع انتهى . فهذا نص منه على أنّ أفعالاً لا يكون في الأبنية المفردة . ونسقيكم مما في بطونه تبيين للعبرة . وقال الزمخشري : وهو استئناف كأنه قيل : كيف العبرة ؟ فقيل : نسقيكم من بين فرث ودم ، أي : يخلق الله اللبن وسطاً بين الفرث والذم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من كله انتهى . قال ابن عباس : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً يبقى فيه ، وأعلاه دماً يجري في العروق ، وأوسطه لبناً يجري في الضرع . وقال ابن جبير : الفرث في أوسط المصارين ، والدم في أعلاها ، واللبن بينهما ، والكبد يقسم الفرث إلى الكرش ، والدم إلى

" صفحة رقم 494 "
العروق ، واللبن إلى الضروع .
وقال أبو عبد الله الرازي : قال المفسرون : المراد من قوله من بين فرث ودم ، هو أنّ هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد ، فالفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم في أعلاه ، واللبن في الوسط ، وقد دللنا على أنّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة ، وكان الرازي قد قدم أن الحيوان يذبح ولا يرى في كرشه دم ولا لبن ، بل الحق أنّ الغذاء إذا تناوله الحيوان وصل إلى الكرش وانطبخ وحصل الهضم الأول فيه ، فما كان منه كثيفاً نزل إلى الأمعاء ، وصافياً انحدر إلى الكبد فينطبخ فيها ويصير دماً ، وهو الهضم الثاني مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، فتذهب الصفراء إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، وخالص الدم يذهب إلى الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد فيحصل الهضم الثالث . وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة ينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع ، وهو لحم رخو أبيض فينقلب من صورة الدم إلى صورة اللبن ، فهذا هو الصحيح في كيفية توالد اللبن انتهى ملخصاً . وقال أيضاً : وأما نحن فنقول : المراد من الآية هو أنّ اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم ، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش . فاللبن متولد مما كان حاصلاً فيما بين الفرث أولاً ، ثم مما كان حاصلاً فيما بين الدم ثانياً انتهى ، ملخصاً أيضاً .
والذي يظهر من لفظ الآية أنّ اللبن يكون وسطاً بين الفرث والدم ، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى الرازي أنه على خلاف الحس والمشاهدة . ويحتمل أن تكون البينية مجازية ، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولاً ، وتولده من الدم الناشىء من لطيف ما كان في الفرث ثانياً كما قرره الرازي . ومِن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم ، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم ، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما . ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال ، فتتعلق بمحذوف ، لأنه لو تأخر لكان صفة أي : كائناً من بين فرث ودم . ويجوز أن يكون من بين فرث بدلاً من ما في بطونه . وقرأت فرقة : سيغاً بتشديد الياء ، وعيسى بن عمر : سيغاً مخففاً من سيغ كهين المخفف من هين ، وليس بفعل لازم كان يكون سوغاً . والسائغ : السهل في الحلق اللذيذ ، وروي في الحديث ( أنّ اللبن لم شرق به أحد قط ) ولما ذكر تعالى ما منّ به من بعض منافع الحيوان ، ذكر ما منّ به من بعض منافع النبات . والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون ، وكررت من للتأكيد ، وكان الضمير مفرداً راعياً لمحذوف أي : ومن عصير ثمرات ، أو على معنى الثمرات وهو الثمر ، أو بتقدير من المذكور . وقيل : تتعلق بنسقيكم ، فيكون معطوفاً على مما في بطونه ، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة ، فيكون من عطف الجمل ، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل . وقيل : معطوف على الأنعام أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة ، ثم بين العبرة بقوله : تتخذون . وقال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون . فحذف ما هو لا يجوز على مذهب البصريين ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله : بكفي كان من أرمي البشر . تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه انتهى . وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال : أي وإن من ثمرات ، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء ، ومن ثمرات خبره انتهى .
والسكر في اللغة الخمر . قال الشاعر :

" صفحة رقم 495 "
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم
إذا جرى منهم المزّاء والسكر
وقال الزمخشري : سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو : رشد رشداً ورشداً . قال الشاعر : وجاءونا بهم سكر علينا
فأجلى اليوم والسكران صاحي
وقاله : ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، وابن جبير ، وأبو ثور ، والجمهور . وهذه الآية مكية نزلت قبل تحريم الخمر ، ثم حرمت بالمدينة فهي منسوخة . قال الحسن : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر . وقال ابن عباس : هو الخل بلغة الحبشة . وقيل : العصير الحلو الحلال ، وسمي سكراً باعتبار مآله إذا ترك . وقال أبو عبيدة : السكر الطعم ، يقال هذا سكر لك أي طعم ، واختاره الطبري قال : والسكر في كلام العرب ما يطعم . وأنشد أبو عبيدة : جعلت أعراض الكرام سكراً أي : تنقلت بأعراضهم . وقيل : هو من الخمر ، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها ، قاله الزمخشري ، وتبع الزجاج قال : يصف أنه يخمر بعيوب الناس ، وعلى هذه الأقوال لا نسخ . وقال الزجاج : قول أبي عبيدة لا يصح ، وأهل التفسير على خلافه . وقيل : السكر ما لا يسكر من الأنبذة ، وقيل : السكر النبيذ ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد ، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر انتهى . وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أنّ ذلك منسوخ ، وإذا لم نقل بنسخ فقيل : جمع بين العتاب والمنة . يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم ، وبالمنة على اتخاذ ما يحل ، وهو الخل والرب والزبيب والتمر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن انتهى . فيكون من عطف الصفات ، وظاهر العطف المغايرة . ولما كان مفتتح الكلام : وأن لكم في الأنعام لعبرة ، ناسب الختم بقوله : يعقلون ، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال : ) إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى الالْبَابِ ).
وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن ، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس ، أخبر عن نفسه تعالى بقوله : نسقيكم . ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال : تتخذون ، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق ، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته . ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره ، أتم النعمة بذكر العسل النحل . ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل ، قدم اللبن وغيره عليه ، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة . ولذلك اختاره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين أسري به ، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل ، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى : ) وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ( ففي إخراج اللبن من النعم والسكر ، والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، والعسل من النحل ، دلائل باهرة على الألوهية والقدرة

" صفحة رقم 496 "
والاختيار . والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها ، وتعليمها على وجه هو تعالى أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه . والنحل : جنس واحده نحلة ، ويؤنث في لغة الحجاز ، ولذلك قال : أن اتحذي . وقرأ ابن وثاب : النحل بفتح الحاء ، وأن تفسيرية ، لأنه تقدم معنى القول وهو : وأوحى . أو مصدرية أي : باتخاذ ، قال أبو عبد الله الرازي : أنْ هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول ، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر . لأنّ الوحي هنا بإجماع منهم هو الإلهام ، وليس في الإلهام معنى القول ، وقال : قرر تعالى في أنفسها الأعمال العجيبة التي يعجز عنها للعقلاء من البشر منها بناؤها البيوت المسدسة من أضلاع ، متساوية بمجرد طباعها ، ولا يتم مثل ذلك العقلاء إلا بآلات كالمسطرة والبركان ، ولم تبنها بأشكال غير تلك ، فتضيق تلك البيوت عنها لبقاء فرج لا تسعها ، ولها أمير أكبر جثة منها نافذ الحكم يخدمونه ، وإذ نفرت عن وكرها إلى موضع آخر وأرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات المويسيقا ، وبوساطة تلك الألحان تعود إلى وكرها ، فلما امتازت بهذه الخواص العجيبة وليس إلا على سبيل الإلهام ، وهي حالة تشبه الوحي لذلك قال : وأوحى ربك إلى النحل . انتهى ملخصاً . ومِنْ للتبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال ، وفي متجوف الأشجار . وأما من ما يعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنها للنحل ابن آدم ، والكوى التي تكون في الحيطان . ولما كان النحل نوعين : منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ، ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها ، شمل الأمر باتخاذ البيوت النوعين . وقال الزمخشري : ما يدل على أنّ البيوت ليست الكوى ، وإنما هي ما تبنيه هي ، فقال : أريد منى البعضية ، يعني بمن ، وأنْ لا يبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكلّ ما يعرش . وقال ابن زيد : ومما يعرشون الكروم . وقال الطبري : مما يبنون من السقوف . قال ابن عطية : وهذا منهما تفسير غير متقن انتهى . وقرأ السلمي ، وعبيد بن نضلة ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بضم الراء ، وباقي السبعة بكسرها ، وتقتضي ثم المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخر منه العسل ، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على اتخذي ، وهو أمر معطوف على أمر ، وسيأتي الكلام على أمر غير المكلف في قوله : ) نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( إن شاء الله وكل الثمرات عام مخصوص أي : المعتادة ، لا كلها . قال الزمخشري : أي ابني البيوت ثم كلي من كل ثمرة تشتهيها انتهى . فدل قوله : أي ابني البيوت ، أنه لا يريد بقوله بيوتاً الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا ، وإنما يراد البيوت المسدسة التي تبينها هي . وظاهر مِن في قوله : من كل الثمرات أنها للتبعيض ، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلاً . قال ابن عطية : إنما تأكل النوّار من الأشجار .
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : يحدث الله تعالى في الهواء ظلاً كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل النرنجبين وهو محسوس ، وقليلاً لطيف الأجزاء صغيرها ، وهو الذي ألهم الله تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار ، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئاً من تلك الأجزاء ، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها ، فالمجتمع من ذلك هو العسل . وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية ، لا للتبعيض انتهى . وظاهر العطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي : فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك ، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة ، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران . وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد ، ثم عادت إلى مكانها الأول . وقيل : سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي ما أكلت أي : في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ومنافذ مأكلك . وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف ، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به . وقيل : المراد بقوله ثم كلي ، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك ، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما ، إلا أنّ كلي بمعنى اقصدي الأكل ، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو

" صفحة رقم 497 "
خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها . وقال مجاهد : ذللاً غير متوعرة عليها سبيل تسلكه ، فعلى هذا ذللاً حال من سبيل ربك كقوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( وقال قتادة : أي مطيعة منقادة . وقال ابن زيد : يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم ، فعلى هذا ذللاً حال منالنحل كقوله : ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ( ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله : يخرج من بطونها شراب ، وهو العسل . وسماه شراباً لأنه مما يشرب ، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن ، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن . وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها ، وهو مبدأ الغاية الأولى ، والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ولذلك قال الحريري : تقل هذا مجاج النحل تمدحه
وإن ذممت تقل قيء الزنابير
والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم . وروي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة . وعنه أيضاً : أما العسل فونيم ذباب ، فظاهر هذا أن العسل يخرج من غير الفم ، وقد خفي من أي المخرجين يخرج ، أمن الفم ؟ أم من أسفل ؟ وحكي أن سليمان عليه السلام ، والاسكندر ، وأرسطاطاليس ، صنعوا لها بيوتاً من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها ، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها ؟ فلم تضع من العسل شيئاً حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة . وقال الحسن : لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم ، فجعله لعاباً كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم . وقيل : من بطونها من أفواهها ، سمى الفم بطناً لأنه في حكم البطن ، ولأنه مما يبطن ولا يظهر . واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد ، وذلك لاختلاف طباع النحل ، واختلاف المراعي . وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى كما في الحديث ( جرست نحلة العرفط ) وقيل : الأبيض تلقيه شباب النحل ، والأصفر كهولها ، والأحمر شبيبها . والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل ، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة . وقلَّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل ، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان . وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ، ولم يكن فيما تقدم في أكثر البلدان . وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل ، وليس المراد بالناس هنا العموم ، لأن كثيراً من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل ، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم . ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء ، وإما لدلالته على مطلق الشفاء أي : فيه بعض الشفاء . وروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، والفراء ، وابن كيسان : أن الضمير في فيه عائد على القرآن ، أي : في القرآن شفاء للناس . قال النحاس : وهو قول حسن أي : فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس . قال القاضي أبو بكر بن العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ، ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر ، ولما كان أمر النحل عجيباً في بنائها تلك البيوت المسدسة ، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض

" صفحة رقم 498 "
والمر والضار ، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في النقلة معه ، وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى : إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .
( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآء ( : لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل ، ذكر ما نبهنا به على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا ، وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم ، وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع ، ولذلك ختم بقوله : عليم قدير .
وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل النطق والفكر . وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد ، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء ولا يتقيد أرذل العمر بسن مخصوص ، كما روي عن علي : أنه خمس وسبعون سنة . وعن قتادة : أنه تسعون ، وإنما ذلك بحسب إنسان إنسان فرب ابن خمسين انتهى ، إلى أرذل العمر ، ورب ابن مائة لم يرد إليه . والظاهر أنّ من يرد إلى أرذل العمر عام ، فيمن يلحقه الخرف والهرم . وقيل : هذا في الكافر ، لأن المسلم لا يزداد بطول عمره إلا كرامة على الله ، ولذلك قال تعالى : ) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( أي لم يردوا إلى أسفل سافلين . وقال قتادة : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر .
واللام في لكي قال الحوفي : هي لام كي دخلت على كي للتوكيد ، وهي متعلقة ببرد انتهى . والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أنّ كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن ، واللام جارة ، فينسبك من كي والمضارع بعدها مصدر مجرور باللام تقديراً ، فاللام على هذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما ، لأن اللام مشعرة بالتعليل ، وكي حرف مصدري ، واللام جارة ، وكي ناصبة . وقال ابن عطية : يشبه أن تكون لام صيرورة والمعنى : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً . وهذه عبارة عن قلة علمه ، لا أنه لا يعلم شيئاً البتة . وقال الزمخشري : ليصير إلى حالة شبيهة بحالة في النسيان ، وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إنْ سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً . وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه انتهى . وانتصب شيئاً إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب ، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق .
ولما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث ، ووليت صفة العلم ما جاورها من انتفاء العلم ، وتقدم أيضاً ذكر مناسبة للختم بهذين الوصفين . ولما ذكر تعالى خلقنا ، ثم إماتتنا وتفاوتنا في السن ، ذكر تفاوتنا في الرزق ، وأن رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا ، وربما كان المملوك خيراً من المولى في العقل والدين والتصرف ، وأن الفاضل في الرزق لا يساهم مملوكه فيما رزق فيساويه ، وكان ينبغي أن يردّ

" صفحة رقم 499 "
فضل ما رزق عليه ويساويه في المطعم والملبس ، كما يحكى عن أبي ذرّ أنه ريء عبده وإزاره ورداؤه مثل ردائه من غير تفاوت ، عملاً بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنما هم أخوانكم فاكسوهم مما تلبسون واطعموهم مما تطعمون ) وعن ابن عباس وقتادة : أنّ الأخبار بقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على سبيل المثل أي : إنّ المفضلين في الرزق لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم ، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يشرك في ألوهيته الأوثان والأصنام ، ومن عد من الملائكة وغيرهم والجميع عبيده وخلقه ؟ وعن ابن عباس : أن الآية مشيرة إلى عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام . وقال المفسرون : هذه الآية كقوله : ) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ ( الآية . وقيل : المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق ، فإنما ذلك أجريه إليهم على أيديهم . وعلى هذا القول يكون فهم فيه سواء جملة أخبار عن تساوي الجميع في أكن الله تعالى هو رازقهم ، وعلى القولين الآخرين تكون الجملة في موضع جواب النفي كأنه قيل : فيستووا . وقيل : هي جملة استفهامية حذف منها الهمزة التقدير : أفهم فيه سواء أي : ليسوا مستوين في الرزق ، بل التفضيل واقع لا محالة . ثم استفهم عن جحودهم نعمة استفهام إنكار ، وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى أي : إنّ من تفضل عليكم بالنشأة أولاً ثم مما فيه قوام حياتكم جدير بأن تشكر نعمه ولا تكفر .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو عبد الرحمن ، والأعرج بخلاف عنه : تجحدون بالتاء على الخطاب لقوله : فضل ، تبكيتاً لهم في جحد نعمة الله . ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه ، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه ، واحتمل أن أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم ، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم ، فنسب ذلك إلى بني آدم ، وكلا الاحتمالين مجاز . والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيد كون الجميع من الأزواج ، وأنهم غير البنين . فقال الحسن : هم بنو ابنك . وقال ابن عباس والأزهري : الحفدة أولاد الأولاد ، واختاره ابن العربي . وقال ابن عباس أيضاً : البنون صغار الأولاد ، والحفدة كبارهم . وقال مقاتل : بعكسه ، وقيل : البنات لأنهنّ يخدمن في البيوت أتم خدمة . ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال : ) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( وإنما الزينة في الذكورة . وعن ابن عباس : هم أولاد الزوجة من غير الزوج التي هي في عصمته . وقيل : وحفدة منصوب بجعل مضمرة ، وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج . فقال ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو الضحى ، وابراهيم بن جبير : الأصهار ، وهم قرابة الزوجة كأبيها وأخيها . وقال مجاهد : هم الأنصار والأعوان والخدم . وقالت فرقة : الحفدة هم البنون أي : جامعون بين البنوة والخدمة ، فهو من عطف الصفات لموصوف واحد . قال ابن عطية ما معناه : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنين وحفدة ، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس . ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم ، إنما هو على العموم والاشتراك أي : من أزواج البشر جعل الله منهم البنين ، ومنهم جعل الخدمة ، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم . ويستقيم لفظ الحفدة على مجراها في اللغة ، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة انتهى . وفي قوله : من أنفسكم أزواجاً دلالة على كذب العرب في اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها ، حتى حكوا ذلك عن عمرو بن هندانة تزوج سعلاة .
ومِن في الطيبات للتبعيض ، لأن كل الطيبات في الجنة ، والذي في الدنيا أنموذج منها . والظاهر أنّ الطيبات هنا المستلذات لا الحلال ، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع . ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفع به من جهتين ، ذكر مننه بالرزق . والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة ، ومن الحيوان . وقيل : الطيبات الغنائم . وقيل : ما أتى من غير نصب . وقال مقاتل : الباطل الشيطان ، ونعمة لله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الكلبي : طاعة الشيطان في الحلال والحرام . وقيل : ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها . قال الزمخشري : أفبالباطل

" صفحة رقم 500 "
يؤمنون وهو ما يعتقدون من مننفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به . كأنه شيء معلوم مستيقن . ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل ، وتمييزهم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا تتصوره العقول . وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم انتهى . وقرأ الجمهور : يؤمنون بالياء ، وهو توقيف للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على إيمانهم بالباطل ، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها . وقرأ السلمي بالتاء ، ورويت عن عاصم ، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم ، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم . فالظاهر أنه لا يندرج في التقريع . ويعبدون ، استفهام أخبار عن حالهم في عبادة الأصنام ، وفي ذلك تبيين لقوله : أفبالباطل يؤمنون ، نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسعى عابده في تحصيله منه وهو الرزق ، ولا هو في استطاعته . فنفى أولاً أن يكون شيء من الرزق في ملكهم ، ونفى ثانياً قدرتها على أن تحاول ذلك ، وما لا تملك في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك . وأجازوا في شيئاً انتصابه بقوله : رزقاً ، أجاز ذلك أبو عليّ وغيره . ورد عليه ابن الطراوة بأنّ الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن ، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن . ورد على ابن الطراوة بأنّ الرزق بالكسر يكون أيضاً مصدراً ، وسمع ذلك فيه ، فصح أنْ يعمل في المفعول به والمعنى : ما لا يملك أن يرزق من السموات والأرض شيئاً . ومن السموات متعلق إذ ذاك بالمصدر . قال ابن عطية بعد أن ذكر أعمال المصدر منوناً : والمصدر يعمل مضافاً باتفاق ، لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية . وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر :
ضعيف النكاية أعداءه
البيت وقوله :
لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
انتهى . أما قوله : يعمل مضافاً بالاتفاق إنْ عنى من البصريين فصحيح ، وإن عنى من النحويين فغير صحيح ، لأنّ بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل ، وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر . وأما قوله : لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك ، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة ، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان ، وأبو الحسين بن الطراوة ، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف ، وتوكيده بالمعرفة . وأما قوله : ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قول أخيراً : وقد جاء عاملاً مع الألف واللام . وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين ، ومذهب سيبويه جواز أعماله . قال سيبويه : وتقول عجبت من

" صفحة رقم 501 "
الضرب زيداً ، كما تقول : عجبت من الضارب زيداً ، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين . وإذا كان رزقاً يراد به المرزوق فقالوا : انتصب شيئاً على أنه بدل من رزقاً ، كأنه قيل : ما لا يملك لهم من السموات والأرض شيئاً ، وهو البدل جارياً على جهة البيان لأنه أعم من رزق ، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفاً ، فينبغي أن لا يجوز ، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين . إما البيان ، وإما التوكيد . وأجازوا أيضاً أن يكون مصدراً أي : شيئاً من الملك كقوله : ولا تضرونه شيئاً أي شيئاً من الضرر . وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السموات بقوله : لا يملك ، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف .
ومن السموات رزقاً يعني به المطر ، وأطلق عليه رزق لأنه عنه ينشأ الرزق . والأرض يعني : الشجر ، والثمر ، والزرع . والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها ، لأنه يراد بها آلهتهم ، بعدما عاد على اللفظ في قوله : ما لا يملك ، فأفرد وجاز أن يكون داخلاً في صلة ما ، وجاز أنْ لا يكون داخلاً ، بل إخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصلاً ، لأنهم أموات . وأما قول الزمخشري : إنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر ، لأنّ نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة . وقال ابن عباس : ولا يستطيعون أن يرزقوا أنفسهم . وجوز الزمخشري وابن عطية : أن يعود الضمير على ما عاد عليه في قوله : ويعبدون ، وهم الكفار أي : ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب من ذلك شيئاً ، فكيف بالجماد الذي لا حس به قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها انتهى .
ونهى تعالى عن ضرب الأمثال لله ، وضرب الأمثال تمثيلها والمعنى هنا : تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال . وقصة بقصة من قولهم : هذا ضرب لهذا أي : مثل ، والضرب النوع . تقول : الحيوان على ضروب أي أنواع ، وهذا من ضرب واحد أي : من نوع واحد . وقال ابن عباس : معناه لا تشبهوه بخلقه انتهى . وقال : إن الله يعلم أثبت العلم لنفسه ، والمعنى : أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإشراك به ، وعبر عن الجزاء بالعلم : وأنتم لا تعلمون كنه ما أقدمتم عليه ، ولا وبال عاقبته ، فعدم علمكم بذلك جركم وجرأكم وهو كالتعليل للنهي عن الإشراك . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد أنّ الله يعلم كيف نضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون انتهى . وقاله ابن السائب قال : يعلم بضرب المثل ، وأنتم لا تعلمون ذلك . وقال مقاتل : يعلم أنه ليس له شريك ، وأنتم لا تعلمون ذلك . وقيل : يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطته .
2 ( ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالأَفْئِدَة

" صفحة رقم 502 "
َ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الاٌّ نْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( )
النحل : ( 75 ) ضرب الله مثلا . . . . .
الكل : الثقيل ، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله . وقال الشاعر : أكول لمال الكل قبل شبابه
إذا كان عظم الكل غير شديد والكل أيضاً الذي لا ولد له ولا والد ، والكل العيال ، والجمع كلول . اللمح : النظر بسرعة ، لمحه لمحاً ولمحاناً . الجو : مسافة ما بين السماء والأرض ، وقيل : هو ما يلي الأرض في سمت العلو ، واللوح والسكاك أبعد منه . الظعن : سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ، والظعن الهودج أيضاً . الصوف للضأن ، والوبر للإبل ، والشعر للمعز ، قاله أهل اللغة في قوله : ومن أصوافها الآية . الأثاث : قال المفضل متاع البيت كالفرش والأكسية ، وقال الفراء : لا واحد له من لفظه ، كما أنّ المتاع لا واحد له من لفظه ، ولو جمعت لقلت : أأثثة في القليل ، وأثث في الكثير . وقال أبو زيد : واحده أثاثه ، وقال الخليل : أصله من قولهم أثث النبات والشعر ، فهو أثيث إذا كثر . قال امرؤ القيس :
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيت كقنو النخلة المتعثكل
الكن ما حفظ ، ومنع من الريح والمطر وغير ذلك ، ومن الجبال الغار . استعتبت الرجل بمعنى أعتبته أي : أزلت عنه ما يعتب عليه ويلام ، والاسم العتبى ، وجاءت استفعل بمعنى أفعل نحو استدينته وأدينته . ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا ( سقط : هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب

" صفحة رقم 503 "
إن الله على كل شيء قدير ، والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ، ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) } : مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله غيره وهو لا يجلب نفعاً ولا ضراً لنفسه ولا لعابده ، ضرب لهم مثلاً قصة عبد في ملك غيره ، عاجز عن التصرف ، وحر غني متصرف فيما آتاه الله . فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد ، ومشتركين في الإنسانية ، فكيف تشركون بالله وتسوون به من مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره ، مع تباين الأوصاف . وأنّ موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه ، ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره . قال مجاهد : هذا مثل لله وللأصنام . وقال قتادة : للمؤمن والكافر فالكافر العبد المملوك لا ينتفع بعبادته في الآخرة ، ومن رزقناه المؤمن . وقال ابن جبير : مثل للبخيل والسخي انتهى .
ولما كان لفظ عبد قد يطلق على الحر ، خصص بمملوك . ولما كان المملوك قد يكون له تصرف وقدرة كالمأذون له والمكاتب ، خصص بقوله : لا يقدر على شيء ، والمعنى : على شيء من التصرف في المال ، لأنه يقدر على أشياء من حركاته : كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، وغير ذلك . والظاهر كون ومن موصولة أي : والذي رزقناه ، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر . وقال أبو البقاء : موصوفة . قال الزمخشري : الظاهر أنها موصوفة كأنه قال : وحراً رزقناه ليطابق عبداً ، ولا يمتنع أن تكون موصولة . وقال الحوفي : مَن بمعنى لذي ، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصفا متباينة تعيينهما ، بل ما روي في تعيينهما من أنهما : عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد له أو أنهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبو جهل ، لا يصح إسناده . وجمع الضمير في يستوون ولم يثن لسبق اثنين ، لأن مَن يحتمل أن يراد بها الجمع فيصير إذ ذاك جمع الضمير لانتظام العبد المملوك والأغنياء في الجمع ، وكأنه قيل : عبداً مملوكاً . والملاك المرزوقون المنفقون . ويحتمل أن يراد بعبداً مملوكاً الجنس ، فيصلح عود الضمير جمعاً عليه ، وعلى جنس الأغنياء . ويحتمل أن يعود على العبيد والأحرار وإن لم يجر للجمعين ذكر ، لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما .
قل : الحمد لله ، الظاهر أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : يحتمل أن يكون خطاباً لمن رزقه الله ، أمره أن يحمد الله على أنّ ميزه بهذه القدرة على ذلك الضعيف . وقال ابن عطية : الحمد لله شكر على بيان الأمر بهذا المثل ، وعلى إذعان الخصم له كما تقول لمن أذعن لك ي حجة وسلم تبنى أنت عليه ، قولك : الله أكبر على هذا يكون كذا وكذا ، فلما قال هنا : هل يستوون ، فكأن الخصم قال له : لا ، فقال : الحمد لله ظهرت الحجة انتهى . وقيل : الحمد لله أي : هو المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه ، إذ لا نعمة للأصنام عليهم فتحمد عليها ، إنما الحمد الكامل لله لأنه المنعم الخالق . وقال ابن عباس : الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد . والظاهر نفي العلم عن أكثرهم ، لأنّ منهم من بان له الحق ورجع إليه ، أو أكثر الخلق لأن الأكثر هم المشركون . وقيل : المراد به االعموم أي : بل هم لا يعلمون . ومتعلق يعلمون محذوف ، إما لأنّ المعنى نفي العلم عن الأكثر ولم يلحظ متعلقه ، وإما لأنه محذوف يترتب على الأقوال التي سببها قوله الحمد لله .
وضرب الله مثلاً رجلين أي قصة رجلين . قال الزمخشري : وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع . والأبكم الذي ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم . وهو كل على مولاه أي : ثقيل ، وعيال على من يلي أمره ويعوله . أينما يوجهه : حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح . هل يستوي هو ، ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة ، فهو يأمر الناس بالعدل ، وهو في نفسه على صراط مستقيم على سيرة صالحة ، ودين قويم انتهى . وقال ابن عباس : أحدهما أبكم مثل للكافر ، والذي يأمر بالعدل المؤمن . وقال قتادة : هذا مثل الله تعالى ، والأصنام فهي الأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء ، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، كما الأصنام تحتاج أن تنقل وتخدم

" صفحة رقم 504 "
ويتعذب بها ، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة . وعن قتادة أيضاً وغيره : هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن ، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن ، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى ، وهذا ليس كذلك لأنه قال : مثلاً رجلين ، فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات ، ومقابله رجل موصوف بما يقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية ، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه ، ثم قيل : هل يستوي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات ، وهذا الناطق : ففي ذكر استوائهما أيضاً دليل على حذف المقابل . ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف ، وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق ، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة ، فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع ، وليس بكالّ على أحد . وقد تقرر في بداية العقول أنّ الأبكم العاجز لا يكون مساوياً في العقل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية ، فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساوياً لرب العالمين في المعبودية أحرى وأولى . وكما قلنا في المثل السابق : لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل ، فكذلك هنا ، فتعيين الأبكم بأبي جهل ، والآمر بالعدل : بعمار ، أو بأبيّ بن خلف ، وعثمان بن مظعون ، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعادي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يصح إسناده .
وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، وابن وثاب ، ومجاهد ، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنياً ، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه ، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه . ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الأبكم ، ويكون الفعل لازماً وجه بمعنى توجه ، كان المعنى : أينما يتوجه . وعن عبد الله أيضاً : توجهه بهاءين ، بتاء الخطاب ، والجمهور بالياء والهاءين . وعن علقمة وابن وثاب ، وطلحة ، يوجه بهاء ، واحدة ساكنة ، والفعل مبني للمفعول . وعن علقمة ، وطلحة : يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة . قال صاحب اللوامح : فإنْ صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف ، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف ، أو لم يرد به الشرط ، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه ، وقد حذف منه ضمير المفعول به ، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو : يوم يأت . وإذا يسر انتهى . ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام . وقال أبو حاتم : هذه القراءة ضعيفة ، لأن الجزم لازم انتهى . والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أنّ أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية ، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفاً ، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين ، ويكون معنى يوجه يتوجه ، فهو فعل لازم لا متعد .
ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض ، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه . والظاهر اتصاله بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( أخبر باستئثاره بعلم غيب السموات والأرض ، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب ، والمعنى بهذا الإخبار : أنّ الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما : العلم المحيط بالمغيبات ، والقدرة البالغة التامّة . ومن ذكر أنّ قوله : ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى ، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة ، فبين ذلك بهذه الجملة . قيل : والغيب هنا ما لا يدرك بالحس ، ولا يفهم بالعقل . وقال المفضل : ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه . وقيل : هو ما في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( وقال الزمخشري : أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم . قيل : لما كانت الساعة آتية ولا بد ، جعلت من القرب كلمح البصر . وقال الزجاج : لم يرد أنّ الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي : يقول للشيء كن فيكون . وقيل : هذا تمثيل للقرب كما تقول : ما السنة إلا لحظة . وقال الزمخشري : هو عند الله وإن تراخى ، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه : كلمح البصر ، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله : ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ( ) وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ( ) وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ ( أي هو عنده دان ، وهو عندكم بعيد . وقيل : المعنى أنّ إقامة الساعة وإماتة الأحياء

" صفحة رقم 505 "
وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت أوحاه . أنّ الله على كل شيء قدير ، فهو يقدر على أنْ يقيم الساعة ، ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات . وقال ابن عطية : والمعنى على ما قال قتادة وغيره ، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها : كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر ؟ أو هي أقرب من ذلك ؟ فأو على هذا على بابها في الشك . وقيل : هي للتخيير انتهى . والشك والتخيير بعيدان ، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة ، فالشك مستحيل عليه . ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم : خذ من مالي ديناراً أو درهماً ، أو في التكليفات كآية الكفارات : ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ ( وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله : ) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( وقوله : ) أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا ( وهو تعالى قد علم عددهم ، ومتى يأتيها أمره ، كما علم أمر الساعة ، لكنه أبهم على المخاطب . وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا . وقال القاض : هذا لا يصح ، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال : إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان ، وليس زمان تكليف . والذي نقوله : إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة ، لا وقت الإتيان بها . وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء ، ألا ترى في قوله تعالى : ) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال ، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون . وقال أبو عبد الله الرازي : لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة ، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة ، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة ، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء ، فلذلك قال : ) أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ( ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره ، ثم قال : أو هو أقرب تنبيهاً على ما ذكرناه ، وليس المراد طريقة الشك ، والمراد بل هو أقرب انتهى . وفيه بعض تلخيص . وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل ، هو قول الفراء ، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا . أما أحدهما : فإن يكون إبطالاً للإسناد السابق ، وأنه ليس هو المراد ، وها مستحيل هنا ، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق . والثاني : أن يكون انتقالاً من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق ، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة ، والإخبار بالأقربية ، فلا يمكن صدقهما معاً . وقال صاحب الغيان : وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة ، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم . وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى : قال له البرق وقالت له الريح
جميعاً وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن
نشطت أضحكتكما منكما
أنا ارتداد الطرف قد فته
إلى المدى سبقاً فمن أنتما
ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة ، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة . وتقدم وصفهم بانتفاء العلم ، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئاً ، تنبيهاً على وقوع النشأة الآخرة . ثم ذكر تعال امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم ، ولما كانت النشأة الأولى ، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال : لعلكم تشكرون ، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء . وقرأ حمزة : بكسر الهمزة ، والميم هنا وفي النور ، والزمر ، والنجم ، والكسائي بكسر الهمزة فيهن ، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم ، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم . قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء ، ولكحن قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى . وإنما كانت أصوب

" صفحة رقم 506 "
لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة ، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع ، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها . ولا تعلمون جملة حالية أي : غير عالمين . وقالوا : لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، أو شيئاً مما قضى عليكم من السعادة أو القاوة ، أو شيئاً من منافعكم . والأولى عموم لفظ شيء ، ولا سيما في سياق النفي . وقال وهب : يولد المولود حذر إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألماً . ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم ، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها .
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها ، فعبر عن ذلك بالآية . وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه : إنما جمع الفؤاد جمع قلة ، لأنه إنما خلق للمعارق الحقيقية اليقينية ، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية ، فكان فؤادهم ليس بفؤاد ، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصاً . وهو قول هذياني ، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته ، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري : أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة ، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء : شسوع في جمع شسع لا غير ، فجرى ذلك المجرى انتهى . إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير ، ليس بصحيح ، بل جاء فيه جمع القلة قالوا : أشساع ، فكان ينبغي له أن يقول : غلب شسوع . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وطلحة ، والأعمش ، وابن هرمز : ألم تروا بتاء الخطاب ، وباقي السبعة بالياء . قال ابن عطية : واختلف عن الحسن ، وعيسى الثقفي ، وعاصم ، وأبي عمرو . ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة : السمع ، والنظر ، والعقل ، والأولان مدرك المحسوس ، والثالث مدرك المعقول ، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر ، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت ، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك . وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر ، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به . وتضمنت الآية أيضاً ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط ، إذ ليس تحته ما يدعمه ، ولا فوقه ما يتعلق به ، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى ، كما قال تعالى : ) أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ ( فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل . ومعنى مسخرات : مذللات ، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخراً . وقال أبو عبد الله الرازي : هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته ، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران ، أعطاه جناحاً يبسطه مرة ، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء ، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة ، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً انتهى . وكلامه منتزع من كلام القاضي قال : إنما أضاف الإمساك إلى نفسه ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال ، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى . والذي نقوله : إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح ، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى . وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله ، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار ، فلا نقول : إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران ، ولا لولا الآلات ما أمكن . وقال الزمخشري : ما يوافق كلامهما قال : مسخرات ، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة ، والأسباب المواتية لذلك . ثم أحسن أخيراً في قوله : ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى . لآيات : جمع ولم يفرد ، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها ، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل ، والفضاء الذي بين السماء والأرض ، والإمساك الذي لله تعالى ، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال : لقوم يؤمنون ، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار ، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله ، فهو إخبار منه

" صفحة رقم 507 "
تعالى ما يصدق به إلا المؤمن .
( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الاْنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ( : لما ذكر تعالى ما من به عليهم من خلقهم ، وما خلق لهم من مدارك العلم ، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها ، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها . والسكن فعل بمعنى مفعول ، كالقنص ، والنفص . وأنشد الفراء : جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا
يا ويح نفسي من حفر القراميص وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية ، وكأنه تعالى ذكر أولاً ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل ، بل ينتقل الناس إليها . ثم ذكر ثانياً ما منّ به علينا من المتخذ من جلود الأنعام ، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم ، أو ذكر أولاً البيوت على طريق العموم ، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصاً تنبيهاً على حال أكثر العرب ، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود ، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر ، وبيوت الصوف والوبر . وقال ابن سلام : تندرج لأنها ثابتة فيها ، فهي منها . ومعنى تستخفونها : تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل . يوم ظعنكم : يوم ترحلون خف عليكم حملها ونثلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها . وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي : مدة النجعة والإقامة . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ظعنكم بفتح العين ، وباقي السبعة بسكونها ، وهما لغتان . وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والعر لمكان حرف الخلق ، والظاهر أنّ أثاثاً مفعول ، والتقدير : وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً . وقيل : أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى : جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً ، فيكون ذلك معطوفاً على من جلود الأنعام ، كما تقول : جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن ، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجروراً على مجرور ، ومنصوباً على منصوب كما تقول : ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً ، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا ، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر . والمتاع : ما يتمتع به أي : ينتفع به . وقال ابن عباس : الزينة . وقال المفضل : المتجر والمعاش . وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف اللفظين كقوله : وألفى قولها كذباً وميناً . وغيا تعالى ذلك بقوله : إلى حين ، فقال ابن عباس : إلى الموت . وقال مقاتل : إلى بلى ذلك الشيء . وقيل : إلى انقضاء حاجتكم منه . ولما ذكر تعالى ما منّ به عليهم ما سبق ذكره ، وكانت بلادهم غالباً عليها الحر ، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس . وقال ابن عباس ومجاهد : ظلال الغمام . وقال ابن السائب : طلال البيوت . وقال قتادة ، والزجاج : ظلال الشجر . وقال ابن قتيبة : ظلال الشجر والجبال والأكنان من الجبال هي الغيران ، والكهوف ، والبيوت المنحوتة منها . والسربال ما لبس على البدن من : قميص ، وقرقل ،

" صفحة رقم 508 "
ومجول ، ودرع ، وجوشن ، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها . واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قاله الزجاج ، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد ، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر . وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط ، قاله عطاء الخراساني . وهذا في بلاد الحجاز ، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم :
إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
وقال آخر :
في ليلة من جمادى ذات أندية
والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع . قال كعب بن زهير :
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل والسربال عام ، يقع على ما كان من حديد وغيره . والبأس في أصل اللغة الشدة ، وهنا الحرب . وفي الحديث : ( كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) والمعنى : تقيكم أذى الحرب وهو ما يعرض فيها من الجراح الناشئة من ضرب السيف ، والدبوس ، والرمح ، والسهم ، وغير ذلك مما يعد للحديث . كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمة فيما سبق ، يتم نعمته في المستقبل . وقرأ ابن عباس : تتم بتاء مفتوحة نعمته بالرفع ، أسند التمام إليها اتساعاً ، وعنه نعمه جمعاً . وقرأ : لعلكم تسلمون بفتح التاء ، واللام من السلامة والخلاص ، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب ، أو تسلمون من الشرك . وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى : تؤمنون ، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد . روي أن أعرابياً سمع قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكناً إلى آخر الآيتين فقال : عند كل نعمة اللهم نعم ، فلما سمع : لعلكم تسلمون ، قال : اللهم هذا فلا ، فنزلت .
فإن تولوا ، يحتمل أن يكون ماضياً أي : فإن أعرضوا عن الإسلام . ويحتمل أن يكون مضارعاً أي : فإن تتولوا ، وحذفت التاء ، ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الالتفات ، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة ، والجواب حقيقة محذوف أي : فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك ، فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه . وقال ابن عطية : المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم ، فإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه انتهى . ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها ، وأنها منه تعالى ، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله ، وجعل ذلك إنكاراً على سبيل المجاز ، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته ، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه من الشركاء ، قال قريباً من هذا المعنى مجاهد . وقال السدّي : النعمة هنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته ، وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه الطبري . وعن مجاهد أيضاً : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا . وعن ابن عون : إضافتها إلى الأسباب لا

" صفحة رقم 509 "
إلى مسببها ، وحكى صاحب الغنيان : يعرفونها في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء . وقيل : إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله . وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم . والظاهر أنّ المراد مِن وأكثرهم موضوعه الأصلي . وقال الحسن : وكلهم : ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر ، فجعله من كفران النعمة . وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان . وقيل : أكثر أهل مكة ، لأنّ منهم من أبى . وقيل : معنى الكافرون الجاحدون المعاندون ، لأنّ فيهم من كان جاهلاً لم يعرف فيعاند . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى ثم ؟ ( قلت ) : الدلالة على أنّ إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة ، لأنّ حق من عرف النعمة أنْ يعترف لا أنْ ينكر .
( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَءا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( : لما ذكر إنكارهم لنعمة الله تعالى ، ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم . وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله : الحوفي ، والزمخشري ، وابن عطية ، وأبو البقاء . وقال الزمخشري : أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه . وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه : ثم ينكرونها ، أي ينكرونها اليوم . ويوم نبعث أي : ينكرون كفرهم ، فيكذبهم الشهيد ، والشهيد نبي تلك الأمة يشهد عليهم بإيمانهم وبكفرهم ، ومتعلق الأذن محذوف . فقيل : في الرجوع إلى دار الدنيا . وقيل : في الكلام والاعتذار كما قال : ) هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ ( فيعتذرون أي بعد شهادة أنبيائهم عليهم ، وإلا فقبل ذلك تجادل كل أمة عن نفسه . وجاء كلامهم في ذلك ، ولكنها مواطن يتكلمون في بعضها ولا ينطقون في بعضها ولا هم يستعتبون أي : مزال عنهم العتب . وقال قوم : معناه لا يسألون أن يرجعوا عن ما كانوا عليه في الدنيا ، فهذا استعتاب معناه طلب عتباهم ، ونحوه قول من قال : ولا هم يسترضون أي : لا يقال لهم ارضوا ربكم ، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل قاله الزمخشري . وقال الطبري : معناه يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة وعمل .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى ثم هذه ؟ ( قلت ) : معناها انهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منه ، وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقائ معذرة ، ولا إدلاء بحجة انتهى . ولما كانت حالة العذاب في الدنيا مخالفة لحال الآخرة إذ من رأى العذاب في الدنيا رجا أن يؤخر عنه ، وإن وقع فيه أن يخفف عنه ، أخبر تعالى أن عذاب الآخرة لا يكون فيه تخفيف ولا نظرة . والظاهر أنّ جواب إذا قوله فلا يخفف ، وهو على إضمار هو أي : فهو لا يخفف ، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء ، لأن جواب إذا إذا كان مضارعاً لا يحتاج إلى دخول الفاء ، سواء كان موجباً أم منفياً ، كما قال تعالى : ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ

" صفحة رقم 510 "
ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ ( وتقول : إذا جاء زيد لا يجيء عمرو . قال الحوفي : فلا يخفف جواب إذا ، وهو العامل في إذا ، وقد تقدم لنا أنّ ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعمل فيما قبله ، وبينا أنّ العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط ، وإن كان ليس قول الجمهور . وجعل الزمخشري جواب إذا محذوفاً فقال : وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوماً قال : ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكذلك وإذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف ولا هم ينظرون كقوله : ) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً ( فتبهتهم الآية انتهى . والظاهر أن قوله : شركاءهم ، عام في كل من اتخذوه شريكاً لله من صنم ووثن وآدمي وشيطان وملك ، فيكذبهم من له منهم عقل ، فيكون : فألقوا عائداً على من له الكلام ، ويجوز أن يكون عاماً ينطق الله تعالى بقدرته الأوثان والأصنام . وإضافة الشركاء إليهم على هذا القول لكونهم هم الذين جعلوهم شركاء لله . وقال الحسن : شركاؤهم الشياطين ، شركوهم في الأموال والأولاد كقوله تعالى : ) وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ ( ، وقيل : شركاؤهم في الكفر . وعلى القول الأول شركاؤهم في أنْ اتخذوهم آلهة مع الله وعبدوهم ، أو شركاؤهم في أنْ جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وأنعامهم ، والظاهر أنّ القول منسوب إليهم حقيقة . وقيل : منسوب إلى جوارحهم ، لأنهم لما أنكروا الإشراك بقولهم : ) إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم . ومعنى : تدعو ، ونعبد قالوا ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب ، إذ يحصل التأسي ، أو اعتذاراً عن كفرهم إذ زين لهم الشيطان ذلك وحملهم عليه ، إن كان الشركاء هم الشياطين . وقال أبو مسلم الأصبهان . قالوا : ذلك إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ، وظناً أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو من عذابهم ، فعند ذلك تكذيبهم تلك الأصنام . وقال القاضي : هذا بعيد ، لأنّ الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ، ولا نصرة ، ولا فدية ، ولا شفاعة . وتقدم الإخبار بأنهم شركاء ، والإخبار أنهم كانوا يدعونهم : أي يعبدونهم ، فاحتمل التذكيب أن يكون عائداً للإخبار الأول أي : لسنا شركاء لله في العبادة ، ولا آلهة نزهوا الله تعالى عن أن يكونوا شركاء له . واحتمل أن يكون عائداً على الإخبار الثاني وهو العبادة ، لما لم يكونوا راضين بالعبادة جعلوا عبادتهم كلا عبادة ، أو لما لم يدعوهم إلى العبادة . ألا ترى أنّ الأصنام والأوثان لا شعور لها بالعبادة ، فضلاً عن أن يدعو وإن من عبد من صالحي المؤمنين والملائكة ، لم يدع إلى عبادته . وإن كان الشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم ، كما كذب إبليس في قوله : ) إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ( والضمير في إلى الله فألقوا عائد على الذين أشركوا ، قاله الأكثرون . والسلم : الاستسلام والانقياد لحكم الله بعد الإباء والاستكبار في الدنيا ، فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع . وروى يعقوب عن أبي عمرو : السلم بإسكان اللام . وقرأ مجاهد : بضم السين واللام . وقيل : الضمير عائد على الذين أشركوا ، وشركائهم كلهم . قال الكلبي : استسلموا منقادين لحكمه ، والضمير في وضلوا عائد على الذين أشركوا خاصة أي : وبطل عنهم ما كانوا يفترون من أنّ لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم ، والظاهر أنّ الذين مبتدأ وزدناهم الخبر . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون قوله : الذين ، بدلاً من الضمير في يفترون . وزدناهم فعل مستأنف إخباره . وصدوا عن سبيل الله أي : غيرهم زدناهم عذاباً بسبب الصد فوق العذاب ، أي : الذي ترتب لهم على الكفر ضاعفوا كفرهم ، فضاعف الله عقابهم . وهذا المزيد عن ابن مسعود عقارب كأمثال النخل الطوال ، وعنه : حيات كأمثال الفيلة ، وعقارب كأمثال البغال . وعن ابن عباس : أنها من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، وعن الزجاج : يخرجون من حر النار إلى الزمهرير ، فيبادرون من شدة برده إلى النار ، وعلل تلك الزيادة بكونهم مفسدين غيرهم ، وحاملين على الكفر . وفي كل أمة فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا ، والمعنى في كليهما : أنه يبعث

" صفحة رقم 511 "
الله أنبياء الأمم فيهم منهم ، والخطاب في ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والإشارة بهؤلاء إلى أمته . وقال ابن عطية : ويجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الرسل . وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه ، فإنْ أطاعك وإلا كنت عليه شهيداً يوم القيامة انتهى . وكان الشهيد من أنفسهم ، لأنه كان كذلك حين أرسل إليهم في الدنيا من أنفسهم . وقال الأصم أبو بكر المراد الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان حتى تشهد عليه ، لأنه قال في صفة الشهيد من أنفسهم ، وهذا بعيد لمقابلته بقوله : وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ، فيقتضي المقابلة أنّ الشهداء على الأمم أنبياؤهم كرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ونزلنا استئناف إخبار ، وليس داخلاً مع ما قبله لاختلاف الزمانين . لما ذكر ما شرفه الله به من الشهادة على أمته ، ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شيء من أمور الدين ، ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا ، فلا حجة لهم ولا معذرة . والظاهر أنّ تبياناً مصدر جاء على تفعال ، وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف ، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء . وقد جوّز الزجاج فتحه في غير القرآن . وقال ابن عطية : تبياناً اسم وليس بمصدر ، وهو قول أكثر النحاة . وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين : أنه مصدر ولم يجيء على تفعال من المصادر إلا ضربان : تبيان وتلقاء .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف كان القرآن تبياناً لكل شيء ؟ ( قلت ) : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وطاعته . وقيل : ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( وحثاً على الإجماع في قوله ) وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ( وقد رضي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأمته اتباع أصحابه ، والاقتداء بآثارهم في قوله : ) يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( وقد اجتهدوا ، وقاسوا ، ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب ، فمن ثم كان تبياناً لكل شيء . وقوله : وقد رضي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى قوله : اهتديتم ، لم يقل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي ، والقياس ، والاستحسان ، والتعليل ، والقليد ما نصه : وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصلح قط ، وذكر إسناده إلى البزاز صاحب المسند قال : سألتم عما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مما في أيدي العامة ترويه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم ، بأيها اقتدوا اهتدوا . وهذا كلام لم يصح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمى ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم ، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه . والكلام أيضاً منكر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يثبت ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه ، هذا نص كلام البزار . قال ابن معين : عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشيء . وقال البخاري : هو متروك ، رواه أيضاً حمزة الجزري ، وحمزة

" صفحة رقم 512 "
هذا ساقط متروك . ونصبوا تبياناً على الحال . ويجوز أن يكون مفعولاً من جله . وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى هو متعلق بهدى ورحمة .
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُم

" صفحة رقم 513 "
ْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاٌّ يْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفوه ( : عن ابن عباس في حديث فيه طول منه : إن عثمان بن مظعون كان جليس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقتاً فقال له : عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة ؟ قال : ( وما رأيتني فعلت ؟ ) قال : شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك قال : ( أو فطنت لذلك ؟ أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس ) قال : فماذا قال لك : قال لي : ) ( : عن ابن عباس في حديث فيه طول منه : إن عثمان بن مظعون كان جليس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقتاً فقال له : عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة ؟ قال : ( وما رأيتني فعلت ؟ ) قال : شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك قال : ( أو فطنت لذلك ؟ أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس ) قال : فماذا قال لك : قال لي : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ( الآية . قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، فأحببت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما ذكر الله تعالى . ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضاً ونفلاً وأخلاقاً وآداباً . والعدل فعل كل مفروض من عقائد ، وشرائع ، وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم والإنصاف ، وإعطاء الحق والإحسان فعل كل مندوب إليه قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : العدل هو الواجب ، لأن الله عز وجل عدل فيه على عباده ، فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم . والإحسان الندب ، وإنما علق أمره بهم جميعاً ، لأنّ الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب انتهى . وفي قوله : تحت طاقتهم ، نزغة الاعتزال . وعن ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض . وعنه أيضاً أنّ العدل هو الحق . وعن سفيان بن عيينة : أنه أسوأ السريرة والعلانية في العمل . وذكر الماوردي أنه القضاء بالحق قال تعالى : ) وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ( وقال أبو سليمان : العدل في لسان العرب الانصاف . وقيل : خلع الأنداد . وقيل : العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال . وإيتاء ذي القربى : هو صلة الرحم ، وهو مندرج تحت الإحسان ، لكنه نبه عليه اهتمامه به وحضاً على الإحسان إليه . والفحشاء : الزنا ، أو ما شنعته ظاهرة من المعاصي . وفاعلها أبداً مستتر بها ، أو القبيح من فعل أو قول ، أو البخل ، أو موجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة ، أو مجاوزة حدود الله أقوال ، أولها لابن عباس . والمنكر : الشرك عن مقاتل ، أو ما وعد عليه بالنار عن ابن السائب ، أو مخالفة السريرة للعلانية عن ابن عيينة ، أو ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن العذاب في الآخرة . أو ما تنكره العقول أقوال ، ويظهر أنه أعم من الفحشاء لاشتماله على المعاصي والرذائل والبغي : التطاول بالظلم والسعاية فيه ، وهو داخل في المنكر ، ونبه عليه اهتماماً باجتنابه . وجمع في المأمور به والمنهى عنه بين ما يجب ويندب ، وما يحرم ويكره ، لاشتراك ذلك في قدر مشترك وهو الطلب في الأمر ، والترك في النهي .
وقال أبو عبد الله الرازي : أمر بثلاثة ، ونهى عن ثلاثة . فالعدل التوسط بين الإفراط والتفريط ، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة . فقال ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، وهو إثبات الإله الواحد ، فليس تعطيلاً محضاً ولا إثبات أكثر من إله . وإثبات كونه عالماً قادراً واجب الصفات فليس نفياً للصفات ، ولا إثبات صفة حادثة متغيرة . وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى ، والداعية التي جعلها فيه فليس جبراً محضاً ، ولا استقلالاً بالفعل . وكونه تعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد ، فليس إرجاء ولا تخليداً بالمعصية . وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم ، فليس قولاً بأنه لا تكليف ، ولا قولاً بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من : أكل الطيب ، والتزوج ، ورمى نفسه من شاهق ، والقصاص ، أو الدية ، أو العفو ، فليس تشديداً في تعيين القصاص كشريعة موسى عليه السلام ، ولا عفواً حتماً كشريعة عيسى عليه السلام ، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتناباً مطلقاً كشريعة موسى عليه السلام ، ولا حل وطئها حالة الحيض كشريعة عيسى عليه السلام ، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعاً للآلة كما ذهب إليه المانوية . وقال تعالى : ) وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ ( ولا تجعل الآيتين . ومن المشهور قولهم بالعدل : قامت السموات والأرض ، ومعناه : إن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة ، وكان بعضها أزيد ، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع . فالشمس لو

" صفحة رقم 514 "
قربت من العالم لعظمت السخونة واحترق ما فيه ، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد . وكذا مقادير حركات الكواكب ، ومراتب سرعتها ، وبطئها . والإحسان : الزيادة على الواجب من الطاعات بحسب الكمية والكيفية ، والدواعي ، والصوارف ، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية . ومن الإحسان الشفقة على الخلق ، وأصلها صلة الرحم ، والمنهى عنه ثلاثة . وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة : الشهوانية وهي تحصيل اللذات ، والغضبية وهي : إيصال الشر ، ووهمية : وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس . فالفحشاء ما نشأ عن القوّة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة ، والمنكر ما نشأ عن الغضبية ، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى . ما تخلص من كلامه عفا الله عنه . ولما أمر تعالى بتلك الثلاث ، ونهى عن تلك الثلاث قال : يعظكم به ، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي ، والمعنى : ينبهكم أحسن تنبيه لعلكم تذكرون أي : تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه ، وعقد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه مما يوافق الشريعة . وقال الزمخشري : هي البيعة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ). وكأنه لحظ ما قيل أنها نزلت في الذين بايعوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على الإسلام ، رواه عن بريدة . وقال قتادة ومجاهد : فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر . وقال ميمون بن مهران : الوفاء لمن عاهدته مسلماً كان أو كافراً ، فإنما العهد لله . وقال الأصم : الجهاد وما فرض في الأموال من حق . وقيل : اليمين بالله ، ولا تنقضوا العهود الموثقة بالإيمان ، نهى عن نقضها تهمماً بها بعد توكيدها أي : توثيقها باسم الله وكفالة الله وشهادته ، ومراقبته ، لأن الكفيل مراع لحال المكفول به . ولا تكونوا أي : في نقض العهد بعد توكيده بالله كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثاً ، وهو ما يحل فتله . والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به . وقال السدي ، وعبد الله بن كثير : هي امرأة حمقاء كانت بمكة . وعن الكلبي ومقاتل : هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم ، تلقب بجفراء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع ، وصنارة مثل أصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن . وعن مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه ، وتخلطه بالصوف فتغزله . وقال ابن الأنباري : ريطة بنت عمرو المرية ، ولقبها الجفراء من أهل مكة ، وكانت معروفة عند المخاطبين . والظاهر أنّ المراد بقوله : من بعد قوّة أي : شدة حدثت من تركيب قوى الغزل . ولو قدرناها واحدة القوى لم تكن تنتقض أنكاثاً . والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه . وقال مجاهد : المعنى من بعد إمرار قوة . والدخل : الفساد والدغل ، جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيمكن الحالف ضره بما يريده . قالوا : نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عدداً حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل . وقيل : أن تكونوا أنتم أزيد خبراً ، فأسند إلى أمة ، والمراد المخاطبون . وقال ابن بحر : الدخل والداخل في الشيء لم تكن منه ، ودخلاً مفعول ثان . وقيل : مفعول من أجله ، وأن تكون أي : بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر . وأجاز الكوفيون أن تكون هي عماداً يعنون فضلاً ، فيكون أربى في موضع نصب ، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة . والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي : بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك . قال الزمخشري : لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم وليبينن لكم : إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام انتهى . وقيل : يعود على الوفاء بالعهد . وقال ابن جبير ، وابن السائب ، ومقاتل : يعود على الكثرة . قال ابن الأنباري : لما كان تأنيثها غير حقيقي حمل على معنى التذكير ، كما حملت الصيحة على الصياح

" صفحة رقم 515 "
) وَلَوْ شَآء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْمَلُونَ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( : هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة ، ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له ، وذلك لحق الملك لا يسأل عما يفعل . ولو شاء لكانوا كلهم على طريق واحدة ، إما هدى ، وإما ضلالة ، ولكنه فرق ، فناس للسعادة ، وناس للشقاوة . فخلق الهدى والضلال ، وتوعد بالسؤال عن العمل ، وهو سؤال توبيخ لا سؤال تفهم ، وسؤال التفهم هو المنفى في آيات . ومذهب المعتزلة أن هذه المشيئة مشيئة قهر . قال العسكري : المراد أنه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهراً ، فلم يفعل ذلك ، وخلقكم ليعذب من يشاء على معصيته ، ويثيب من يشاء على طاعته ، ولا يشاء شيئاً من ذلك إلا أن يستحقه . ويجوز أن يكون المعنى : أنه لو شاء خلقكم في الجنة ، ولكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم ، ويعذب العصاة .
ثم قال : ولتسألن عما كنتم تعملون يعني : سؤال المحاسبة والمجازاة . وفيه دليل على أنّ الإضلال في الآية العقاب ، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى . وقال الزمخشري : أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك ، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء ، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه ، ويهدي من يشاء وهو أنْ يلطف بمن علم الله أنه يختار الإيمان ، يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار ، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ، ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : ولتسألن عما كنتم تعملون . ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملاً يسألون عنه انتهى . قالوا : كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً تهمماً بذلك ، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين . قال ابن عطية : وتردده في معاملات الناس . وقال الزمخشري : تأكيداً عليهم ، وإظهار العظم ما يرتكب منه انتهى . وقيل : إنما كرر لاختلاف المعنيين : لأن الأول نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة ، وهنا نهي عن الدخل في الإيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق ، فكأنه قال : دخلاً بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين ، وأقول : لم يتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً ، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلاً معللاً بشيء خاص وهو : أن تكون أمة هي أربى من أمة . وجاء النهي بقوله : ولا تتخذوا ، استئناف إنشاء عن اتخاذ الإيمان دخلاً على العموم ، فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة ، وقطع الحقوق المالية ، وغير ذلك . وانتصب فتزل على جواب النهي ، وهو استعارة لمن كان مستقيماً ووقع في أمر عظيم وسقط ، لأنّ القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر . وقال كثير : فلما توافينا ثبت وزلت . قال الزمخشري : فنزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها . فإن قلت : لم وجدت القدم ونكرت ؟ قلت : لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة انتهى ؟ ونقول : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبراً فيه الجمعية ، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقاً للفظ الجمع كثيراً ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابقاً لكل فرد فرد فيفرد كقوله : ) وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ ( أفرد متكأ لما كان لوحظ في قوله لهن معنى لكل واحدة ، ولو جاء مراداً به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر :

" صفحة رقم 516 "
فإني وجدت الضامرين متاعهم
يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي : رأيت كل ضامر . ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى . ولما كان المعنى هنا : لا يتخذ كل واحد منكم ، جاء فنزل قدم مراعاة لهذا المعنى ثم قال : وتذوقوا ، مراعاة للمجموع ، أو للفظ الجمع على الوجه الكثير . إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد فرد ، ودل على ذلك بإفراد قدم وبجمع الضمير في : وتذوقوا . وما مصدرية في بما صددتم ، أي : بصدودكم أو بصدكم غيركم ، لأنهم لو نقضوا الأيمان وارتدوا لاتخذ نقضها سنة لغيرهم فيسبون بها ، وذوق السوء في الدنيا . ولكم عذاب عظيم أي : في الآخرة . والسوء : ما يسوءهم من قتل ، ونهب ، وأسر ، وجلاء ، وغير ذلك مما يسوء .
قال ابن عطية : وقوله صددتم عن سبيل الله ، يدل على أنّ الآية فيمن بايع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعلى هذا فسر الزمخشري قال : لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة . ولا يدل على ذلك لخصوصه ، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم . ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً ، هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا . قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إنْ رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فثبتهم الله . ولا تشتروا : ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمناً قليلاً عرضاً من الدنيا يسيراً ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا أنّ ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم . وقال ابن عطية : هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله ، أو فعل ما يجب عليه تركه ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عبادة فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة ، بأنّ هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان ، وينقضي عنها ، والتي في الآخرة باقية دائمة . ودل قوله : وما عند الله باق ، على أن نعيم الجنة لا ينقطع ، وفي ذلك حجة على جهم بن صفوان إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع . وقرأ عاصم ، وابن كثير : ولنجزين بالنون ، وباقي السبعة بالياء . وصبروا : أي جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار ، وترك المعاصي ، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسن ما كانوا يعملون . قيل : من التنفل بالطاعات ، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها ، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختاراً غير ملزوم بها . وقيل : ذكر الأحسن ترغيباً في عمله ، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن . وقيل : الأحسن هنا بمعنى الحسن ، فليس أفعل التي للتفضيل . والذي يظهر أنّ المراد بالأحسن هنا الصبر أي : وليجزين الذين صبروا بصبرهم أي : بجزاء صبرهم ، وجعل الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه ، فالصبر هو رأسها ، فكان الأحسن لذلك . ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما . لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير ، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما . وهو مؤمن : جملة حالية ، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله : ) أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( أو يراد بمثقال ذرة من إيمان ، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين ، والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة ، أنّ ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور ؛ ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة ، وقال الحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن زيد : ذلك في الجنة . وقال شريك : في القبر . وقال عليّ ، ووهب بن منبه ، وابن عباس ، والحسن في رواية عنهما هي : القناعة ، وعن ابن عباس والضحاك : الرزق الحلال ، وعنه أيضاً : السعادة . وقال عكرمة : الطاعة . وقال قتادة : الرزق في يوم بيوم ، وقال إسماعيل بن إبي خالد : الرزق الطيب والعمل الصالح ، وقال أبو بكر الورّاق : حلاوة الطاعة ، وقيل :

" صفحة رقم 517 "
العافية والكفاية ، وقيل : الرضا بالقضاء ، ذكرهما الماوردي . وقال الزمخشري : المؤمن مع العمل الصالح إنْ كان موسراً فلا مقال فيه ، وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه ، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى . والفاجر إن كان معسراً فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وقال ابن عطية : طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب . وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظة من مفرداً ، وفي ولنجزينهم على معناها من الجمع ، فجمع . وروي عن نافع : وليجزينهم بالياء بدل النون ، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة . وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفاً على فلنحيينه ، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية ، وكلتاهما محذوفتان . ولا يكون من عطف جواب على جواب ، لتغاير الإسناد ، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب ، وذلك لا يجوز . فعلى هذا لا يجوز : زيد قلت والله لأضربن هنداً ولينفينها ، يريد ولينفيها زيد . فإنْ جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي : وقال زيد لينفينها لأن ، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه ، وأن تحكى على المعنى . فمن الأول : ) وَلَيَحْلِفَنَّ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ( ومن الثاني : ) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ ( ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا .
( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ ( : لما ذكر تعالى : ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء ( وذكر أشياء مما بين في الكتاب ، ثم ذكر قوله : ) مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً ( ذكر ما يصون به القارىء قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه ، فخاطب السامع بالاستعادة منه إذا أخذ في القراءة . فإن كان الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفظاً فالمراد أمته ، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث : ) ءانٍ ثَوَابَ فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( والظاهر بعقب الاستعاذة . وقد روى ذلك بعض الرواة عن حمزة ، وروي عن ابن سيرين أنه قال : كلما قرأت الفاتحة حين تقول : آمين ، فاستعذ . وروي عن أبي هريرة ، ومالك ، وداود . تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور : على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى : فإذا أردت القراءة . قال الزمخشري : لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله : ) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ( وكقوله : ( إذا أكلت فسم الله ) وقال ابن عطية : فإذا وصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ ، أمر بالاستعاذة . فالجمهور على الندب ، وعن عطاء الوجوب . والظاهر : طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقاً ، والظاهر : أنّ الشيطان المراد به إبليس وأعوانه . وقيل : عام في كل متمرد عاتٍ من جن وإنس ، كما قال شياطين الإنس والجن . واختلف في كيفية الاستعاذة ، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لما روى عبد الله بن مسعود ، وأبو هريرة ، وجبير بن مطعم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه ) ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين . والسلطان هنا التسليط والولاية ، والمعنى : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى : ) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( وكما أخبر تعالى عنه

" صفحة رقم 518 "
فقال في قصة أوليائه : ) وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( وقيل : المراد بالسلطان الحجة ، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقاً . وقيل : ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه . وقيل : ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب ، والضمير في به عائد على بهم ، وقيل : على الشيطان ، وهو الظاهر لاتفاق الضمائر والمعنى : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله ، أو تكون الباء للسبية ، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان ، كأنها متضمنة التوكل على الله والانقطاع إليه .
ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب نبييناً لكل شيء ، وأمر بالاستعاذة ند قراءته ، ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين ، وما يلقيه إليهم من الأباطيل ، فألقى أليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية . وتقدم الكلام في النسخ في البقرة . والظاهر أنّ هذا التبديل رفع آية لفظاً ومعنى ، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ . ووجد الكفار بذلك طعناً في الدين ، وما علموا أنّ المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص ، وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة . وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم ، وما ينزل مما يقره وما يرفعه ، فمرجع علم ذلك إليه ، وهو على حسب الحوادث والمصالح ، وهذه حكمة إنزاله شيئاً فشيئاً ، وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه . قيل : ويحتمل أن يكون حالاً . وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما ، وبمواجهة الخطاب ، وباسم الفاعل الدال على الثبوت ، وقال : بل أكثرهم ، لأن بعضهم يعلم ويكفر عناداً . ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي : لا يعلمون أنّ الشرائع حكم ومصالح . هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن . وروح القدس : هنا هو جبريل عليه السلام بلا خلاف ، وتقدم لم سمي روح القدس . وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفاً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) باختصاص الإضافة ، وإعراضاً عنهم ، إذ لم يضف إليهم . وبالحق حال أي : ملتبساً بالحق سواء كان ناسخاً أو منسوخاً ، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل . وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم ، لعلمهم أنه جميعه من عند الله ، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم ، وأنّ أفعاله كلها صادرة عن حكمة ، فهي صواب كلها . ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم . وقرىء : ليثبت مخففاً من أثبت . قال الزمخشري : وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى . وتقدم الرد عليه في نحو هذا ، وهو قوله : ) لِتُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( وهدى ورحمة في هذه السورة . ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل ، لأنه مجرور ، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول : جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد ، إذ التقدير : لإحسان إلى زيد . وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي : وهو هدى وبشرى . ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله ، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه ، فليس هو المختلق بل المختلق غيره ، وهو ناقل عنه . وظاهر قولهم : إنما أنت مفتر . إنّ معناه : مختلف الكذب ، وهو ينافي التعلم من البشر ، فيحتمل أن يكون قوله : مفتر ، في نسبة ذلك إلى الله ، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين : طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري ، وطائفة أنه يتعلم من البشر . ويعلم مضارع اللفظ ومعناه : المضي أي : ولقد علمنا ، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين . فقيل : هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل : عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله : الفراء ، والزجاج . وقيل : أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة . قيل : واسمه يسار وكان يهودياً قاله : مقاتل ، وابن جبير ، إلا أنه لم يقل كان يهودياً . وقال ابن زيد : كان رجلاً حداداً نصرانياً اسمه عنس . وقال حصين بن عبد الله بن مسلم : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر ، يسار وحبر ، كانا يقرآن كتباً لهما بلسانهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) يمر بهما فيسمع قراءتهما . قيل : وكانا حدادين يصنعان السيوف ، فقال المشركون : يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك

" صفحة رقم 519 "
فقال : بل هو يعلمني ، فقال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له : بلعام ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم . وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي ، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة ، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني . واللسان : هنا اللغة . وقرأ الحسن : اللسان الذي بتعريف اللسان بأل ، والذي صفته . وقرأ حمزة والكسائي : يلحدون من لحد ثلاثياً ، وهي قراءة عبد الله بن طلحة ، والسلمي ، والأعمش ، ومجاهد ، وقرأ باقي السبعة ، وابن القعقاع : بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً وهما بمعنى واحد . قال الزمخشري : يقال ألحد القبر ولحده ، فهو ملحد وملحوداً ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله : وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها ، لم يمله من دين إلى دين . والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة ، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم انتهى . وظاهر قول الزمخشري : إن اللسان في الموضعين اللغة . وقال ابنعطية : وهذا إشارة إلى القرآن ، والتقدير : وهذا سرد لسان أو نطق لسان ، فهو على حذف مضاف ، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارة . واللسان في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد في هذه الآية . وقال الكرماني : المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظماً ونثراً ، وقد عجزتم وعز جميع العرب ، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن ؟
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الجملة التي هي قوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ، ما محلها ؟ ( قلت ) : لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لقولهم ، ومثله قول الله : أعلم ، حيث يجعل رسالاته بعد قوله : ) وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ( انتهى . ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي : يقولون ذلك والحالة هذه أي : علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة ، كما تقول : تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي : علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه . وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال ، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ ، وهو مذهب مرجزوح جداً ، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب ، وهو مذهب تبع فيه الفراء ، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها ، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال ، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا ، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون ، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون ، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال .
( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ( سقط : من الله وله عذاب عظيم ، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ، لا جرم أنهم في

" صفحة رقم 520 "
الآخرة هم الخاسون ، ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) ( : لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر ، كان ذلك تسجيلاً عليهم بانتفاء الإيمان ، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبداً إذ كانوا جاحدين آيات الله ، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصاً القرآن ، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية . وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم ، ومعنى لا يهديهم : لا يخلق الإيمان في قلوبهم . وهذا عام مخصوص ، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى . وقال الزمخشري : لا يهديهم الله لا يلطف بهم ، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وقال ابن عطية : المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهمما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم ، وذلك كقوله : ) فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( والمراد ما ذكرناه ، فكأنه قال : إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى . وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة ، ولذلك قال بعده : ولهم عذاب أليم ، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار . وقال العسكري : يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا ، والمراد بقوله : لا يهديهم الله أي لا يهتدون ، وإنما يقال : هدى الله فلاناً على الإطلاق إذا اهتدى هو ، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال : إن الله هداه فلم يهتد ، كما قال : ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( ثم ردّ تعالى قولهم : ) إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ( بقوله : إنما يفتري الكذب ، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه يترقب عقاباً عليه . ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم ، جاء الرد عليهم بإنما أيبضاً ، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد ، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو : انتفاء الإيمان ، وختم بقوله : وأولئك هم الكاذبون . فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة ، والتأكيد بلفظ هم ، وإدخال أل على الكاذبون ، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام ، فجاء يفتري يقتضي التجدد ، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام . وقال الزمخشري : وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون ، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون . أو إلى الذين لا يؤمنون أي : وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب . أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين . أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر انتهى . والوجه الذي بدأ به بعيد ، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش . والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء ، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب . ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد ، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان ، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمناً ، وذلك مع الإكراه . والمعنى : إلا من أكره على الكفر ، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان . وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره : الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين ، فعليهم غضب . ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي : فعليهم غضب ، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب ، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطاً . وقال ابن عطية : وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء ، وقوله : من شرح تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه . ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله : فعليهم ، خبر عن مَن الأولى والثانية ، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله : من كفر ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى . وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان ، وقد فصل

" صفحة رقم 521 "
بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب . وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله : ) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( وقوله : ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ( جواب لأما ، ولأنّ هذا وهما أدانا شرط ، إحداهما تلي الأخرى ، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء ، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا ، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها ، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه ، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط . إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة ، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله :
ولكن متى يسترقد القوم أرقد
أي : ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد . وكذلك تقدر هنا ، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي : منهم . وأجاز الحوفي والزمخشري : أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون ، ومن الكاذبون . ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون ، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله . وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك ، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله : وأولئك هم الكاذبون ، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء . وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير : ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون .
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة . لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن ، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط ، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب . وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك ، إذ التقدير : وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون . وأما الثالث فكذلك . إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى . وهذا أيضاً بعيد ، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى . والمناسبة وفي قوله : إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء ، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه ، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى . وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك ، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها ، وذلك كله مذكور في كتب الفقه . والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وأبواه ياسر وسمية ، وسالم ، وحبر ، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما ، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية ، وهما أول قتيل في الإسلام ، وعذب بلال وهو يقول : ( أحد أحد ) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره . وجمع الضمير في فعليهم على معنى من ، وأفرد في شرح على لفظها . والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي : كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة . وقال الزمخشري : واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى . وهي نزغة اعتزالية . والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح : ولما فعلوا فعل من استحب ، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره ، لكن من حيث أعرضوا

" صفحة رقم 522 "
عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره . وقوله : استحبوا ، هو تكسب منهم علق به العقاب ، وأنّ الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم ، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع ، وهذا عقيدة أهل السنة . وقيل : ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر ، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة ، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان . وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها . وأولئك هم الغافلون : قال ابن عباس : عن ما يراد منهم في الآخرة . وقال الزمخشري : الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم ، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها . ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر ، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم : هم الخاسرون ولا غيرهم . ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم ، والعذاب الأليم ، واستحباب الدنيا ، وانتفاء هدايتهم ، والأخبار بالطبع وبغفلتهم . ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان ، وحال من أكره ، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن . قال ابن عطية : وهذه الآية مدنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً . وقال ابن عباس : نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام . وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا ، فنزلت حينئذ ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم . وقال ابن إسحاق : نزلت في عمار ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد . قال ابن عطية : وذكر عمار في هذا غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدراً أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية . وقال عكرمة والحسن : نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول : من بعد ما فتنهم الشيطان . وقال الزمخشري : ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه . وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال : ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم ، لا عدوهم وخادلهم كما يكون الملك للرجل : لا عليه ، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور انتهى . وقوله : منفوعاً اسم مفعول من نفع ، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي . وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول ، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني . وقال أبو البقاء : خبر أن الأولى قوله : إن ربك لغفور ، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى . وإذا كانت أنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر ، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر أنّ الأولى هو قوله : لغفور ، ويكون للذين متعلقاً بقوله : لغفور ، أو برحيم على الأعمال ، لأنّ إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب . كما أنك إذا قلت : قام قام زيد ، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى ، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى . وقيل : لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى . وهذا ليس بجيد ، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدم ، ولا يجوز . وقيل : للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل : أعني للذين ، أي الغفران للذين . وقرأ الجمهور : فتنوا مبنياً للمفعول أي : بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر . وقرأ ابن عامر : فتنوا مبنياً للفاعل ، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار . أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم ، ويجوز أن يكون عائداً على المشركين أي : من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه . والضمير في مَن بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي : من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر . وقال ابن عطية : والضمير في بعدها عائد على الفتنة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح .

" صفحة رقم 523 "
) يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يُظْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاس ( سقط : الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ، فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون ، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) ( : يوم منصوب على الظرف ، وناصبه رحيم ، أو على المفعول به ، وناصبه اذكر . والظاهر عموم كل نفس ، فيجادل المؤمن والكافر ، وجداله بالكذب والجحد ، فيشهد عليهم الرسل والجوارح ، فحينئذ لا ينطقون . وقالت فرقة : الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي . قال ابن عطية : وهذا ليس بجدال ولا احتجاج ، إنما هو مجرد رغبة . واختار الزمخشري هذا القول ، وركب معه ما قبله فقال : كأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم : ) هَؤُلاء أَضَلُّونَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ونحو ذلك . وقال : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها . وقال ابن عطية : أي كل ذي نفس ، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأثبت العلامة . ونفس الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول : نفس الشيء وعينه أي ذاته . وقال العسكري : الإنسان يسمي نفساً تقول العرب : ما جاءني إلا نفس واحدة أي : إنسان واحد . والنفس في الحقيقة لا تأتي ، لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى .
( فإن قلت ) : لم لم يتعد الفعل إلى الضمير ، لا إلى لفظ النفس ؟ ( قلت ) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن ، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله ، ولا مضمره إلى مضمره المتصل ، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها ، ولذلك لا يجوز : ضربتها هند ولا هند ضربتها ، وإنما تقول : ضربت نفسها هند ، وضربت هند نفسها ، ما عملت أي : جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة ، وأنث الفعل في تأتي ، والضمير في تجادل وفي عن نفسه ، وفي توفي ، وفي عملت ، حملاً على معنى كل ، ولو روعي اللفظ لذكر . وقال الشاعر : جادت عليها كل عين ثرة
فتركن كل حديقة كالدرهم
فأنث على المعنى . وما ذكر عن ابن عباس : أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح ، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ، فتقول الرّوح : أنت

" صفحة رقم 524 "
كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله عز وجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما . وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزي ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكفرت ، فأصابها السنون والخوف . وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها . وهذا وإن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب . ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين . وعن حفصة : أنها المدينة . وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى . ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، بل لا بد من وجودها لقوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون . كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن ، لأنه لا يقيم لخائف . والاطمئنان زيادة في الأمن ، فلا يزعجها خوف . يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها ، لا يتعذر منها جهة . وأنعم جمع نعمة ، كشدّة وأشد . وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم ، يقال : هذه أيام طعم ونعم انتهى . فيكون كبؤس وأبؤس . وقال الزمخشري : جمع نعمة على ترك التاء ، جمع نعمة على ترك التاء ، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع . وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن ، والصحة ، والكفاية . قال أبو عبد الله الرازي : أمنة إشارة إلى الأمن ، مطمئنة إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لا مزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا ، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام : ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( وقال : الأنعم جمع نعمة وجمع قلة ، ولم يأت بنعم الله ، وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب ، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه . قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى : إذا ما الضجيجع ثنى جيدها
تثنت فكانت عليه لباسا
ونحو قوله تعالى : ) هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ( ومنه قول الشاعر : وقد لبست بعد الزبير مجاشع
ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه . وقوله : فأذاقها الله ، نظير قوله : ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( ونظير قول الشاعر :
دونك ما جنيته فاحس وذق
وقال الزمخشري : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها ؟ ( قلت ) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها

" صفحة رقم 525 "
فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا ، ونحوه قول كثير : غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا
غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه ، صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله : ينازعني ردائي عبد عمرو
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني
ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لبس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى . وهو كلام حسن . ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف . وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( وأما قوله : ) فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ ( فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان . وقرأ الجمهور : والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع . وروي العباس عن أبي عمرو : والخوف بالنصب عطفاً على لباس . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله ولباس الخوف . وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع ، ولا يذكر لباس . والذي أقوله : إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة ، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف . وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع ، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة ، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً ، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله ، ومنها تكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي جاءهم . والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلاً قرية ، أي : قصة أهل قرية ، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية ، ثم على المضاف المحذوف كقوله : ) فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ). والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم ، عائد على ما عاد عليه في قوله : بما كانوا يصنعون . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الضمير في

" صفحة رقم 526 "
جاءهم لأهل تلك المدينة ، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره ، ويحتمل أن يكون لأهل مكة . وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر المثل قال : ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه ، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء ، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله . ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا : واشكروا نعمة الله . وفي البقرة جاء : ) يُرِيدُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ( لم يذكر من كفر نعمته فقال : ) وَاشْكُرُواْ اللَّهِ ( ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم ، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه . وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله : كلوا مما رزقناكم . وقوله : إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة .
( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ ( : لما بين تعالى ما حرم ، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة ، والسائبة ، وفيما أحل كالميتة والدم ، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام . وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر ، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله : ) أُحِلَّتْ لَكُمْ ( الآية وأجمعوا على أن المراد : ) مّمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( هو قوله : ) حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ( الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعاً ثانياً في أول مكة وآخرها ، وأول المدينة وآخرها . فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم ، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه . وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال ، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : للذي تصفه ألسنتكم . وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي : ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة ، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي . وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب ، أو على إضمار فعل أي : فتقولوا هذا حلال وهذا حرام . وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما ، كما تقول : جاءني الذي ضربت جخاك ، أي ضربته أخاك . وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني . وقال الكسائي والزجاج : ما مصدرية ، وانتصب الكذب على المفعول به أي : لوصف ألسنتكم الكذب . ومعمول : ولا تقولوا ، الجملة من قوله : هذا حلال وهذا حرام ، والمعنى : ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً ، لا بحجة وبينة . وهذا معنى بديع ، جعل قولهم : كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم : وجهه يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وابن عبيد ، ونعيم بن ميسرة : بكسر الباء ، وخرج على أن يكون بدلاً من ما ، والمعنى الذي : تصفه ألسنتكم الكذب . وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية . قال الزمخشري : كأنه قيل : لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى : ) بِدَمٍ كَذِبٍ ( والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى . وهذا عندي لا يجوز ، وذلك أنهم نصوا على أنّ

" صفحة رقم 527 "
أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل ، ولا يوجد من كلامهم : يعجبني أنْ قمت السريع ، يريد قيامك السريع ، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي : من خروجك السريع . وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا ، من ما ولا ، من كي ، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت ، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب .
وقرأ معاذ ، وابن أبي عبلة ، وبعض أهل الشام : الكذب بضم الثلاثة صفة للألسنة ، جمع كذوب . قال صاحب اللوامح : أو جمع كاذب أو كذاب انتهى . فيكون كشارف وشرف ، أو مثل كتاب وكتب ، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب . وقال ابن عطية : وقرأ مسلمة بن محارب الكذب بفتح الياء على أنه جمع كذاب ، ككتب في جمع كتاب . وقال صاحب اللوامح : وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب ، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر ، ومثله كتاب وكتب . وقال الزمخشري : بالنصب على الشتم ، أو بمعنى الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ذكره ابن جني انتهى . والخطاب على قول الجمهور بقوله : ولا تقولوا ، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية ، وعلى ذلك الزمخشري وابن عطية . وقال العسكري : الخطاب للمكلفين كلهم أي : لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالاً ولا حراماً ، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى . وهذا هو الظاهر ، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو : فكلوا إنما حرم عليكم ، فهو شامل لجميع المكلفين . واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ، قاله الزمخشري ، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة . قيل : ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم ، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا : ) وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا ( والله أمرنا بها ، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب ، لأنّ هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه ، وهو الله تعالى . وقال الواحدي : لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله : لما تصف ألسنتكم الكذب ، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله ، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى . وهو على تقدير ما مصدرية ، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل ، فيبدل منها ما يقتضي التعليل ، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك : لا تقولوا ، لما أحل الله هذا حرام أي : لا تسموا الحلال حراماً ، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم . والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة ، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه ، لأنّ من شرع أمراً فكأنه قال لتابعه : هذا هو الحق ، وهذا مراد الله . ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح . والفلاح : الظفر بما يؤمل ، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر :
والمسي والصبح لا فلاح معه
وتارة في نجح المساعي كما قال عبيد بن الأبرص : أفلح بما شئت فقد يب
لغ بالضعف وقد يخدع الأريب
وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم . وقال ابن عطية : عيشهم في الدنيا . وقال العسكري : يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى . وقال أبو البقاء : بقاؤهم متاع قليل . وقال الحوفي : متاع قليل ابتداء وخبر انتهى . ولا يصح إلا بتقدير الإضافة أي : متاعهم قليل . ولما بيّن تعالى ما يحل وما يحرم وهل الإسلام ، أتبعه بما كان خص به اليهود محالاً على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام ، وهذا يدل على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة ، إذ لا تصح الحوالة

" صفحة رقم 528 "
إلا بذلك . ويتعلق من قبل بقصصنا ، وهو الظاهر . وقيل : بحرمنا ، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك . والسوء هنا قال ابن عباس : الشرك قبل المعرفة بالله انتهى . ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره . والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله : ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ( فأغنى عن إعادته . وقال قوم : بجهالة تعمد . وقال ابن عطية : ليست هنا ضد العلم ، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه : أو أجهل أو يُجهل عليّ . وقول الشاعر : ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والتي هي ضد العلم ، تصحب هذه كثيراً ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر . وقلّ ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع انتهى . ملخصاً . وقال الزمخشري : بجهالة في موضع الحال أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم . وقال سفيان : جهالته أن يلتذ بهواه ، ولا يبالي بمعصية مولاه . وقال الضحاك : باغترار الحال عن المآل . وقال العسكري : ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة ، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله ، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة ، لأنّ أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة ، أو عند غلبة شهوة ، أو في جهالة شباب ، فذكر الأثر على عادة العرب في مثل ذلك . والإشارة بذلك إلى عمل السوء ، وأصلحوا : استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية . وقيل : أصلحوا آمنوا وأطاعوا ، والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي : من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح . وقيل : يعود على الجهالة . وقيل : على السوء على معنى المعصية .
( إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لاّنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( : لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله ، والطعن في نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتحليل ما حرّم ، وتحريم ما أحل ، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به ، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه ، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام ، ليكون ذلك حاملاً لهم على الاقتداء به . وأيضاً فلما جرى ذكر اليهوديين طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم ، وحال قريش . وقال مجاهد : سمى أمّة لانفراده بالإيمان في وقته مدّة ما . وفي البخاري أنه قال لسارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك . والأمة لفظ مشترك بين معان منها : الجمع الكثير من الناس ، ثم يشبه به الرجل الصائم ، أو الملك ، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة ، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة . وقال ابن عباس : كان عنده من الخير ما كان عنده أمة ، ومن هنا أخذ الحسن بن هانىء قوله

" صفحة رقم 529 "
وليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وعن ابن مسعود : إنه معلم الخير ، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذ فقال : كان أمة قانتاً . وقال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وعلامة ، ونسابة ، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به . وقيل : الأمة الإمام الذي يقتدي به من أم يؤم ، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت ، والحنيف : شاكراً الأنعمة . روي أنه كان لا يتعدى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام ، فخيلوا أنَّ بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم ، شكر الله على أنه عافاني وابتلاكم . ورتيناه في الدنيا حسنة ، قال قتادة : حببه الله تعالى إلى كل الخلق ، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون ، وخصوصاً كفار قريش ، فإنّ فخرهم إنما هو به ، وذلك بإجابة دعوته . ) وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( وقيل : الحسنة قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم . وقال ابن عباس : الذكر الحسن . وقال الحسن : النبوة . وقال مجاهد : لسان صدق . وقال قتادة : القبول ، وعنه تنويه الله بذكره . وقيل : الأولاد الأبرار على الكبر . وقيل : المال يصرفه في الخير والبر . ) وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُصْلِحِينَ ( ، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة ، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يتبع ملته ، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا . قال ابن فورك : وأمر الفاضل باتباع المفضول ، لما كان سابقاً إلى قول الصواب والعمل به . وقال الزمخشري : ثم أوحينا في ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإجلال محله ، والإيذان بأنّ أشرف ما أوت يخليل الله إبراهيم عليه السلام من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ملته ، من قبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها انتهى . وأنْ تفسيرية ، أو في موضع المفعول . واتباع ملته قال قتادة : في الإسلام ، وعنه أيضاً : جميع ملته إلا ما أمر بتركه . وعن عمرو بن العاص : مناسك الحج . وقال القرطبي : الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله : ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ( وقيل : في التبري من الأوثان . وقال قوم كان على شريعة إبراهيم ، وليس له شرع ينفرد به ، وإنما المقصود من بعثته إحياء شرع إبراهيم عليه السلام . قال أبو عبد الله الرازي : وهذا القول ضعيف ، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : اتبع ملة إبراهيم ، كان المراد ذلك . فإن قيل : النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية ، وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له ، فيمتنع حمل قوله : أن اتبع ، على هذا المعنى ، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها .
( قلت ) : يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد ، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة ، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن انتهى . ولا يحتاج إلى هذا ، لأنّ المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أنْ يوحي لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط ، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل . وكذلك هنا أخبر تعالى أنّ إبراهيم لم يكن مشركاً ، وأمر الرسول باتباعه في ذلك ، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي ، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافراً على ذلك . وقال ابن عطية : قال مكي : ولا يكون يعني حنيفاً حالاً من إبراهيم لأنه مضاف إليه ، وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك : مررت بزيد قائماً انتهى . أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه ، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف

" صفحة رقم 530 "
إليه في محل رفع أو نصب ، جازت الحال منه نحو : يعجبني قيام زيد مسرعاً ، وشرب السويق ملتوتاً . وقال بعض النحاة : ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله : ) وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا ( أو كالجزء منه كقوله : ) مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ( وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل ، وعلى الألفية لابن مالك . وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله : وليس كما قال ، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة ، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً ، وإنما العامل في الحال مررت ، والباء وإن عملت الجر في زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت ، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجروراً بالحرف . ولما أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) باتباع ملة إبراهيم عليه السلام ، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة ، فدل ذلك على أنه كان في شرع إبراهيم ، بين أنّ يوم السبت لم يكن تعظيمه ، واتخاذه للعبادة من شرع إبراهيم ولا دينه ، والسبت مصدر ، وبه سمي اليوم . وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف . قال الزمخشري : سبتت اليهود إذا عظمت سبتها والمعنى : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، واختلافهم فيه : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أنْ يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه ، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً ، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته .
( فإن قلت ) : فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرمين ؟ ( قلت ) : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى ، ووجه آخر وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أنْ يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة ، وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت ، لأنّ بعضهم اختاره ، وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت ، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك . وهو يحكم بينهم يوم القيامة ، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه . ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه ، وترك الاصطياد فيه انتهى . وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله . وقال الكرماني : عدي جعل بعلي ، لأن اليوم صار عليهم لا لهم ، لارتكابهم المعاصي فيه انتهى . ولهذا قدره الزمخشري : إنما جعل وبال السبت . وقال الحسن : جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة . وقال ابن عباس : إن الله سبحانه قال : ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي ، فقالوا : نريد السبت ، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض ، فهو أولى بالراحة . وقرأ أبو حيوة : جعل بفتح الجيم والعين مبنياً للفاعل ، وعن ابن مسعود والأعمش : أنهما قرآ إنما أنزلنا السبت ، وهي تفسير معنى لا قراءة ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهما قرآ كالجماعة .
( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ ( سقط : عَن سَبِيلِهِ وهو أعلم بالمهتدين ، وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون

" صفحة رقم 531 "
( : أمر الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ، وهو أن يسمع المدعو حكمة ، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع . وعن ابن عباس : أنّ الحكمة القرآن ، وعنه : الفقه . وقيل : النبوّة . وقيل : ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة . والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس ، وعنه أيضاً : الأدب الجميل الذي يعرفونه . وقال ابن جرير : هي العبر المعدودة في هذه السورة . وقال ابن عيسى : الحكمة المعروفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة ، والإنذار بالبشارة . وقال الزمخشري : إلى سبيل ربك الإسلام ، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة ، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها ، ويجوز أن يريد القرآن أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف . وقال ابن عطية : الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه ، وتجعله بصورة من قبل الفضائل ونحو هذا . وقالت فرقة : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة : هي محكمة .
وإن عاقبتم أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري ، وفي كتاب السير . وذهب النحاس إلى أنها مكية ، والمعنى متصل بما قبلها اتصالاً حسناً ، لأنها تتدرج الذنب من الذي يدعي ، وتوعظ إلى الذي يجادل ، إلى الذي يجازى على فعله ، ولكن ما روى الجمهور أثبت انتى . وذهبت فرقة منهم ابن سيرين ومجاهد : إلى أنها نزلت فيمن أصيب بظلامة أنْ لا ينال من ظالمه إذا تمكن الأمثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها ، وسمى المجازاة على الذنب معاقبة لأجل المقابلة ، والمعنى : قابلوا من صنع بكم صنيع سوء بمثله ، وهو عكس : ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ). المجاز في الثاني وفي : وإنْ عاقبتم في الأول . وقرأ ابن سيرين : وإنْ عقبتم فعقبوا بتشديد القافين أي : وإنْ قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم . والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي : لصبركم وللصابرين أي : لكم أيها المخاطبون ، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بصبرهم على الشدائد ، وبصبرهم على المعقابة . وقيل : يعود إلى جنس الصبر ، ويراد بالصابرين جنسهم ، فكأنه قيل : والصبر خير للصابرين ، فيندرج صبر المخاطبين في الصبر ، ويندرجون هم في الصابرين . ونحوه : ) فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ ( ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الذي هو خير وهو الصبر ، فأمر هو وحده بالصبر . ومعنى بالله : بتوفيقه وتيسيره وإرادته . والضمير في عليهم يعود على الكفار ، وكذلك في يمكرون كما قال : ) فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( وقيل : يعود على القتلى الممثل بهم حمزة ، ومن مثل به يوم أحد . وقرأ الجمهور : في ضيق بفتح الضاد . وقرأ ابن كثير : بكسرها ، ورويت عن نافع ، ولا يصح عنه ، وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين . وقال أبو عبيدة : بفتح الضاد مخفف من ضيق أي : ولا تك في أمر ضيق كلين في لين . وقال أبو علي : الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر ، لأنه إنْ كان مخففاً من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف ، وليس هذا موضع ذلك ، والصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول : رأيت ضاحكاً ، فإنما تخصص الإنسان . ولو قلت : رأيت بارداً لم يحسن ، وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف . وقال ابن عباس ، وابن زيد : إنّ ما في هذه الآيات من الأمر بالصبر منسوخ ، ومعنى المعية هنا بالنصرة والتأييد والإعانة

" صفحة رقم 3 "
17
( سورة الإسراء )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاٌّ قْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءْايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاٌّ رْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

" صفحة رقم 4 "
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الاٌّ خِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلاءِ وَهَاؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاٌّ خِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( )
الإسراء : ( 1 ) سبحان الذي أسرى . . . . .
جاسَ يَجُوسُ جوساً وَجَوَساناً تردد في الغارة قاله الليث . وقال أبو عبيدة : جاسوا فتشوا هل بقي ممن لم يقتل . وقال الفراء : قيلوا . قال حسان :
ومنا الذي لاقى لسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر .
وقال قطرب : نزلوا قال الشاعر : فجسنا ديارهم عنوة
وأبناء ساداتهم موثقينا
وقيل : داسوا ، ومنه :
إليك جسنا الليل بالمطي
وقال أبو زيد : الجوس والحوس والعوس والهوس الطواف بالليل . فالجوس والحوس طلب الشي باستقصاء . حظرت الشيء منعته .
( سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ ).
سبب نزول ) سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لقريش الإسراء به وتكذبيهم له ، فأنز الله ذلك تصديقاً له ، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع وقيل : إلا آيتين ) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ( ) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ( وقيل : إلا أربع هاتان وقوله : ) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( وقوله ) وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ ( ، وزاد مقاتل قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا

" صفحة رقم 5 "
ْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ( الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله : ) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ( إلى آخرهن . ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والسعر وغير ذلك مما رموه به ، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده ، وتقدّم الكلام على سبحان في البقرة . وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل . وقال ابن عطية : ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً انتهى . ويعنيان والله أعلم أنه إذا لم يضف كقوله :
سبحان من علقمة الفاخر
وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذ ذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية .
( وأسرى ( بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل ، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى ، فهو كقوله : ) اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ( أي لأذهب سمعهم ، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد ، ولذلك قال المفسرون معناه سرى بعبده . وقال ابن عطية : ويظهران ) أَسْرَى ( معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنه يقلق أن يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث : ( أتيته سعياً وأتيته هرولة ) حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و ) أَسْرَى ( في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى الله بنيانهم انتهى . وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد ، فإذا قلت : قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك ، التبست عنده باء التعدية بباء الحال ، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبساً بزيد وباء التعدية مرادفة للهمزة ، فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك أقمت زيداً ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت .
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى : ) ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ( يعني أن يكون التقدير أسرت ملائكته بعبده ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضاً فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد ، ألا ترى أن قوله : ) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ( ) وَأَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى ( قرىء بالقطع والوصل ، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع ، فيستدل بالمصرح على المحذوف . والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه ، وحين قص ذلك على أم هانىء قالت : لا تحدث الناس بها فيكذبوك ولو كان مناماً استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الذي ينبغي أن يعتقد . وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة . قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنه كان مناماً فلعله لا يصح عنهما ، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم

" صفحة رقم 6 "
يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفر معاوية إذ ذاك ، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا حدّثا به عنه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها وقوله : ) بِعَبْدِهِ ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري : لما وصل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله إليه : يا محمد أشرفك ؟ قال : يا رب بنسبتي إليك بالعبودية ، فأنزل فيه ) سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الآية انتهى . وعنه قالوا : عبد الله ورسوله ، وعنه إنما أنا عبد وهذه إضافة تشريف واختصاص . وقال الشاعر : لا تدعني إلا بيا عبدها
لأنه أشرف أسمائي
وقال العلماء : لو كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة .
وانتصب ) لَيْلاً ( على الظرف ، ومعلوم أن السُّرَى لا يكون في اللغة إلا بالليل ، ولكنه ذكر على سبيل التوكيد . وقيل : يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجاً ولا إدّلاجاً . وقال الزمخشري : أراد بقوله : ) لَيْلاً ( بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله : ) وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ( على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى . والظاهر أن قوله : ) مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه ، وهو قول أنس . وقيل من الحجر . وقيل من بين زمزم والمقام . وقيل من شعب أبي طالب . وقيل من بيت أم هانىء . وقيل من سقف بيته عليه السلام ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة . وقال قتادة ومقاتل : قبل الهجرة بعام . وقالت عائشة بعام ونصف في رجب . وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً . وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام . وعن الحربي ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة ، ووقع لشريك بن أبي نمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك . وحكى الزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث .
وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الرعيني في تاريخه : أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهراً ، ويروى أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء ، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال : ( مثل لي النبيون فصليت بهم ) . وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : ( مالك ) ؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال : ( وإن كذبوني ) فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بحديث الإسراء . فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي الصديق رضي الله تعالى عنه . ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه ، فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال : ( تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ) فخرجوا يشتدّون ذلك اليوم نحو الثنية . فقال قائل منهم : والله هذه الشمس قد شرقت . وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت بقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلاّ سحر بين ، وقد عرج به إلى السماء في تلك

" صفحة رقم 7 "
الليلة وكان العروج به من بيت المقدس ، وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب ، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى . وهذا على قول من قال أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة . وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراج هي غير ليلة الإسراء .
( وَالْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى . ولفظه ) إِلَى ( تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حدّ ذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله .
( وَالَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( صفة مدح لإزالة اشتراط عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه ، والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض . وفي الحديث ( أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس ) .
وقرأ الجمهور ) لِنُرِيَهُ ( بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذه رؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداً واحداً حسبما ثبت في الصحيح . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ليرى محمداً للناس آية ، أي يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب .
قال الزمخشري : ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ( لأقوال محمد ) البَصِيرُ ( بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك . وقال ابن عطية : وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى .
الإسراء : ( 2 ) وآتينا موسى الكتاب . . . . .
ولما ذكر تشريف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالإسراء وإراءته الآيات ذكر تشريف موسى بايتائه التوراة ) وَءاتَيْنَا ( معطوف على الجملة السابقة من تنزيه الله تعالى وبراءته من السوء ، ولا يلزم من عطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره . وقال ابن عطية : عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده من تقدير الخبر كأنه قال : أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا . وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى . وفيه بعد و ) الْكِتَابِ ( هنا التوراة ، والظاهر عود الضمير من وجعلناه على الكتاب ، ويحتمل أن يعود على موسى ، ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولا نهي وأن تكون مصدرية تعليلاً أي لأن لا يتخذوا ولا نفي ، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوا معمولاً لقول محذوف خلافاً لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة : يتخذوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب ، والوكيل فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه . وقال الزمخشري رباً تكلون إليه أموركم . وقال ابن جرير : حفيظاً لكم سواي . وقال أبو الفرج بن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده ، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل انتهى .
الإسراء : ( 3 ) ذرية من حملنا . . . . .
وانتصب ) ذُرّيَّةِ ( على النداء أي يا ذرّية أو على البدل من وكيلاً ، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلاً وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاء ذرية ، أو على إضمار أعني . وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلاً من الضمير في يتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة . وقال ابن عطية : ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيداً على البدل لم يجز انتهى . وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف ، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف ، نحو : مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد ، فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب ، وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح كتاب التسهيل ، وذكر من حملنا مع نوح تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق . وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن عليّ ومجاهد في رواية بكسر

" صفحة رقم 8 "
ذال ذرية . وقرأ مجاهد أيضاً بفتحها . وعن زيد بن ثابت ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعليه كمطيه . والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح . قال سلمان الفارسي : كان يحمد الله على طعامه . وقال إبراهيم شكره إذا أكلَّ قال : بسم الله ، فإذا فرغ قال : الحمد لله . وقال قتادة : كان إذا لبس ثوباً قال : بسم الله ، وإذا نزعه قال : الحمد لله . وقيل : الضمير في أنه عائد إلى موسى انتهى . ونبه على الشكر لأنه يستلزم التوحيد إذ النعم التي يجب الشكر عليها هي من عنده تعالى ، فكأنه قيل كونوا موحدين شاكرين لنعم الله مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه .
( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ).
الإسراء : ( 4 ) وقضينا إلى بني . . . . .
( قَضَى ( يتعدّى بنفسه إلى مفعول كقوله : ) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدّى بإلى أي وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت . وعن ابن عباس معناه أعلمناهم ، وعنه أيضاً قضينا عليهم ، وعنه أيضاً كتبنا . واللام في ) لَتُفْسِدُنَّ ( جواب قسم ، فإما أن يقدر محذوفاً ويكون متعلق القضاء محذوفاً تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم ، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة ، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف . ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدنّ جوابه ، كقولهم قضاء الله لأقومنّ . وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتب على الجمع والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس ، والظاهر أن يراد التوراة . وقرأ ابن عباس ونصر بن عليّ وجابر بن زيد لتفسدنّ بضم التاء وفتح السين مبنياً للمفعول أي يفسدكم غيركم . فقيل من الإضلال . وقيل من الغلبة . وقرأ عيسى لتفسدنّ أي فسدتم بأنفسكم بإرتكاب المعاصي مرتين أولاهما قتل زكرياء عليه السلام قاله السدّي عن أشياخه ، وقاله ابن مسعود وابن عباس ، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضاً ولا يسمعون من زكريا . فقال الله له : قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدواً عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها . وقيل : سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم قيل قالوا حين حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت ، فقطعوه بالمنشار في الشجرة . وقيل شعياء قاله ابن إسحاق وإن كان زكرياء مات موتاً ولم يقتل وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو شعياء ، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قبل يحيى بن زكرياء وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمّة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله ، قيل وكان بين آخر الأولى والثانية مائة سنة وعشر سنين ملكاً مؤيداً ثابتاً . وقيل سبعون سنة . وقال الكلبي لتعصنّ في الأرض المقدسة ولتعلنّ أي تطغون وتعظمون .
وقرأ زيد بن علي علياً كبيراً في الموضعين بكسر اللام والياء المشدّدة . وقراءة الجمهور ) عَلَوْاْ ( والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله : ) وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ( بخلاف الجمع ، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهوّ خلافاً فاللفراء إذ جعل

" صفحة رقم 9 "
ذلك قياساً
الإسراء : ( 5 ) فإذا جاء وعد . . . . .
( فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا ( أي موعد أولاهما لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب . وقال الزمخشري : معناه وعد عقاب أولاهما . وقيل : الوعد بمعنى الوعيد . وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، والضمير في أولاهما عائد على المرتين .
وقرأ الجمهور ) عِبَادًا ( وقرأ الحسن وزيد بن علي عبيداً . قال ابن غزاهم وقتادة جالوت من أهل الجزيرة . وقال ابن جبير وابن إسحاق غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل . وقيل بختنصر ، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو حامل يسير في مطبخ الملك ، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم أجلاهم ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك . وقيل هم العمالقة وكان كفاراً . وقيل كان المبعوثون قوماً مؤمنين بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل والبعث هنا الإرسال والتسليط . وقال الزمخشري : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوه ولم نمنعهم على أن الله عز وعلا أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله : ) وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( وكقول الداعي : وخالف بين كلمتهم وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجدة وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم انتهى . وفي قوله خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال .
وقال ابن عطية : ) بَعَثْنَا ( يحتمل أن يكون الله أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولاً بأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي غزاهم انتهى . ) أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ( أي قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم وكثرة عددهم وعُددهم . وقرأ الجمهور ) فَجَاسُواْ ( بالجيم . وقرأ أبو السمال وطلحة فحاسوا بالحاء المهملة . وقرىء فتجوسوا على وزن تكسروا بالجيم . وقرأ الحسن ) خِلَالَ الدّيَارِ ( واحداً ويجمع على خلل كجبل وجبال ، ويجوز أن يكون خلال مفرداً كالخلل وهو وسط الديار وما بينها ، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرّب بيت المقدس ووقع القتل فيهم والجلاء والأسر . وعن ابن عباس ومجاهد : أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ولم يكن قتل ولا قتال في بني إسرائيل ، وانصرفت عنهم الجيوش . والضمير في ) وَكَانَ ( عائداً على وعد أولاهما . قال الزمخشري : وكان وعد العقاب وعداً لا بد أن يفعل انتهى .
الإسراء : ( 6 ) ثم رددنا لكم . . . . .
وقيل يعود على الجيوش ) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ( هذا إخبار من الله لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل ) رَدَدْنَا ( موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، والكرة الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس قبل الكرة قبل بختنصر واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وذكر في سبب ذلك أن ملكاً غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وأبقى بقيته عندهم ببابل في الدل ، فلما غزاهم ذلك الملك وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا . وقيل : الكرة تقوية طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود على قتل جالوت . وقال قتادة : كانوا أكثر شراً في زمان داود عليه السلام . وانتصب ) نَفِيرًا ( على التمييز . فقيل : النفير والنافر واحد وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم . وقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد ، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء . وقيل : النفير مصدر أي أكثر خروجاً إلى الغزو كما في قول الشاعر : فأكرم بقحطان من والد
وحمير أكرم بقوم نفيراً

" صفحة رقم 10 "
ويروى بالحميريين أكرم نفيراً ، والمفضل عليه محذوف قدره الزمخشري وأكثر نفيراً مما كنتم وقدره غيره ، وأكثر نفيراً من الأعداء .
الإسراء : ( 7 ) إن أحسنتم أحسنتم . . . . .
( إِنْ أَحْسَنتُمْ ( أي أطعتم الله كان ثواب الطاعة لأنفسكم ، ( وَإِنْ أَسَأْتُمْ ( بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم لا يتعدّى الإحسان والإساءة إلى غيركم ، وجواب وإن أسأتم قوله : ) فَلَهَا ( على حذف مبتدأ محذوف ولها خبره تقديره فالإساءة لها . قال الكرماني : جاء فلها باللام ازدواجاً انتهى . يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها . وقال الطبري : اللام بمعنى إلى أي فإليها ترجع الإساءة . وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قوله :
فخر صريعاً لليدين وللقم
) فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ ( أي المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم ، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم عليكم وإفسادهم في ذلك بقتل يحيى بن زيد زكريا عليهما السلام . وسبب قتله فيما روي عن ابن عباس وغيره : أن ملكاً أراد أن يتزوج من لا يجوز له نكاحها ، فنهاه يحيى بن زكريا وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها ، فألقت أمها إليها أن تسأله عن ذبح يحيى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزويج ابنتها فسألته ذلك ، فدافعها فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فندرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر وألقي في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل عليه منهم سبعين ألفاً . وقال السهيلي : لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بختنصر لأن قتل بحيى بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمن طويل . وقيل : المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو ثلاثمائة سنة ، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعياء فكان بختنصر إذ ذاك حياً فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها . وروي عن عبد الله بن الزبير أن الذي غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد له فسكن الدم . وقيل قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لا حب . وقال الربيع بن أنس : كان يحيى قد أعطي حسناً وجمالاً فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى فأعطاها ما سألت .
وقرأ الجمهور ) ليسوؤا ( بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر ليسوء بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد والفاعل المضمر عائد على الله تعالى أو على الوعد أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة . وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي لنسوء بالنون التي للعظمة وفيها ضمير يعود على الله . وقرأ أبيّ لنسوءن بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخراً . وعن عليّ أيضاً لنسوءن وليسوءن بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة وهي لام القسم ، ودخلت لام الأمر في قراءة أبيّ على المتكلم كقوله : ) سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ( وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء . وفي مصحف أبيّ ليسيء بياء مضمومة بغير واو . وفي مصحف أنس ليسوء وجهكم على الإفراد ، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه ، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق ، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة ، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه فإنهم ساؤهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه ، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب .
واللام في ) وَلِيَدْخُلُواْ ( لام كي معطوفاً على ما قبلها من لام كي ، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمراً ، وجاز أن تكون لام كي أي وبعثناهم ليدخلوا . ) وَالْمَسْجِدِ ( مسجد بيت المقدس ومعنى كما دخلوه أول مرة أي بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ،

" صفحة رقم 11 "
وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب ، وتقدّم الكلام في أول مرة في سورة التوبة . ) وَلِيُتَبّرُواْ ( بهلكوا . وقال قطرب : يهدموا . قال الشاعر : فما الناس إلاّ عاملان فعامل
يتبر ما يبني وآخر رافع
والظاهر أن ) مَا ( مفعولة بيتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار ، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم
الإسراء : ( 8 ) عسى ربكم أن . . . . .
عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي ، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمداً عليهما السلام فلم يفعلوا . ) وَإِنْ عُدتُّمْ ( إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم . وعن الحسن عادوا فبعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) فهم يطعون الجزية عن يد وهم صاغرون . وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة انتهى . ومعنى ) عُدْنَا ( أي في الدنيا إلى العقوبة . وقال تعالى : ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ ( ثم ذكر ما أعدّ لهم في الآخرة وهو جعل جهنم لهم ) حَصِيرًا ( والحصير السجن . قال لبيد : ومقامه غلب الرجال كأنهم
جن لدى باب الحصير قيام
وقال الحسن : يعني فراشاً ، وعنه أيضاً هو مأخوذ من الحصر والذي يظهر أنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم ، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول : رحيمة وعليمة ، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي ذات انفطار .
الإسراء : ( 9 ) إن هذا القرآن . . . . .
( إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ).
لما ذكر تعالى من اختصه بالإسراء وهو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومن آتاه التوراة وهو موسى عليه السلام وأنها هدى لبني إسرائيل ، وذكر ما قضى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم ، كان ذلك رادعاً من عقل عن معاصي الله فذكر ما شرف الله به رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي ، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم . وقال الضحاك والكلبي والفراء ) الَّتِى هِىَ أَقْوَمُ ( هي شهادة التوحيد . وقال مقاتل : للأوامر والنواهي و ) أَقْوَمُ ( هنا أفعل التفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال ، والذي يظهر من حيث المعنى أن ) أَقْوَمُ ( هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها ، وفضلت هذه

" صفحة رقم 12 "
عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال : ) وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ ( ) وَفِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ ( أي مستقيمة الطريقة ، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين . وقال الزمخشري : ) الَّتِى هِىَ أَقْوَمُ ( للحالة التي هي أقوم الحالات وأشدّها أو للملة أو للطريقة ، وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف لحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه انتهى .
( وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ( قيد في الإيمان الكامل إذ العمل هو كمال الإيمان ، نبه على الحالة الكاملة ليتحلى بها المؤمن ، والمؤمن المفرط في علمه له بإيمانه حظ في عمل الصالحات والأجر الكبير الجنة . وقال الزمخشري : فإن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة ؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك انتهى . وهذا مكابرة بل وقع في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن ، وبعضها مذكور في الحديث الصحيح الثابت .
( وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ ( عطف على قوله : ) أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ( بشروا بفوزهم بالجنة وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار ، إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم ، فهما بشارتان وفيه وعيد للكفارة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ويخبر بأن الذين لا يؤمنون انتهى .
الإسراء : ( 10 ) وأن الذين لا . . . . .
فلا بكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارة . وفي قوله : ) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ ( دليل على أن من آمن بالآخرة لا يعدّ له عذاب أليم ، وأنه ليس عمل الصالحات شرطاً في نجاته من العذاب .
وقرأ الجمهور ) وَيُبَشّرُ ( مشدّداً مضارع بشر المشدّد . وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والأخوان ) وَيُبَشّرُ ( مضارع بشر المخفف ومعنى ) أَعْتَدْنَا ( أعددنا وهيأنا ، وهذه الآية جاءت عقب ذكر أحوال اليهود ، واندرجوا فيمن لا يؤمن بالآخرة لأن أكثرهم لا يقول بالثواب والعقاب الجسماني وبعضهم قال : ) لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ( فلم يؤمنوا بالآخرة حقيقة الإيمان بها .
الإسراء : ( 11 ) ويدع الإنسان بالشر . . . . .
( وَيَدْعُ الإِنْسَانُ ( قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : نزلت ذامّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر ، ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة ، كقول النضر : ) فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ( الآية . وكتب ) وَيَدْعُ ( بغير واو على حسب السمع والإنسان هنا ليس واحداً معيناً ، والمعنى أن في طباع الإنسان أنه إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه ، ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره . وعن سلمان الفارسي وابن عباس : أشار به إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر ، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلاً فلم يقدر ، أو المعنى ذو عجلة موروثة من أبيكم انتهى . وهذا القول تنبو عنه ألفاظ الآية . وقالت فرقة : هذه الآية ذم لقريش الذين قالوا : ) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الآية . وكان الأولى أن يقولوا : فاهدنا إليه وارحمنا . وقالت فرقة : هي معاتبة للناس على أنهم إذا نالهم شر وضر دعوا وألحوا في الدعاء واستعجلوا الفرج ، مثل الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير انتهى . والباء في ) بِالشَّرّ ( و ) بِالْخَيْرِ ( على هذا بمعنى في ، والمدعوّ به ليس الشر ولا الخير ، ويراد على هذا أن تكون حالتاه في الشر والخير متساويتين في الدعاء والتضرّع لله والرغبة والذكر ، ويبنو عن هذا المعنى قوله : ) دُعَاءهُ ( إذ هو مصدر تشبيهي يقتضي وجوده ، وفي هذا القول شبه ) دُعَاءهُ ( في حالة الشر بدعاء مقصود كان ينبغي أن يوجد في حالة الخير .
وقيل : المعنى ) وَيَدْعُ الإِنْسَانُ ( في طلب المحرم كما يدعو في طلب المباح
الإسراء : ( 12 ) وجعلنا الليل والنهار . . . . .
( وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ( لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلاّ به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي ، وأيضاً لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك

" صفحة رقم 13 "
في الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاض . والظاهر أن ) وَسَخَّر لَكُمُ ( مفعول أول لجعل بمعنى صير ، و ) ءايَتَيْنِ ( ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة ، وتكون الإضافة في ) وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَءايَةٌ النَّهَارَ ( للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود ، أي ) فَمَحَوْنَا ( الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة . وقيل : هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، وقدّره بعضهم و : جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار ، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر ، ويظهر أن ) ءايَتَيْنِ ( هو المفعول الأول ، و ) وَسَخَّر لَكُمُ ( ظرفان في موضع المفعول الثاني ، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين . وقال الكرماني : ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى ، ولا بمعنى سمى وحكم ، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم ، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر ، وضوء النهار وظلمة الليل ) فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ ( إذا قلنا أن الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه ، بل خلق أسود أول حاله ولا تقضي الفاء تعقيباً وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس . وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمس والقمر ، فقيل : محو القمر كونه لم يجعل له نوراً . وقيل : محوه طلوعه صغيراً ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر . وقيل : محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة ، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزأً ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد ، وجعل ما محى منه زائداً في نور الشمس ، وهذا مروي عن عليّ وابن عباس .
وقال ابن عيسى : جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب . قال : وهذا من البلاغة الحسنة جداً . وقال الزمخشري : ) فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ ( أي جعلنا الليل ممحواً لضوء مطموسه ، مظلماً لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ، وجعلنا النهار مبصراً أي يبصر فيه الأشياء وتستبان ، أو ) فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ ( التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء انتهى . ونسب الإبصار إلى ) النَّهَارِ مُبْصِرَةً ( على سبيل المجاز كما تقول : ليل قائم ونائم ، أي يقام فيه وينام فيه . فالمعنى يبصر فيها .
وقيل : معنى ) مُبْصِرَةً ( مضيئة . وقيل : هو من باب أفعل ، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقوله : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء ، وأضعف إذا كان دوابه ضعافاً فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء . وقرأ قتادة وعليّ ابن الحسين ) مُبْصِرَةً ( بفتح الميم ، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الأسم ، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم : أرض مسبعة ومكان مضبة ، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب ، وولى التعليل بالأبتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل . وجاء في قوله : ) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة ، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما .
ومعنى ) لّتَبْتَغُواْ ( لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم ) وَالْحِسَابَ ( للشهور والأيام والساعات ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار ) وَكُلَّ شىْء ( مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم ) فَصَّلْنَاهُ ( بيناه تبيينا غير ملتبس ، والظاهر أن نصب ) وَكُلَّ شىْء ( على الاشتغال ، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله : ) وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( وأبعد من ذهب إلى أن ) وَكُلَّ شىْء ( معطوف على قوله : ) وَالْحِسَابَ ( والطائر .
قال ابن عباس : ما قدّر له وعليه ،
الإسراء : ( 13 ) وكل إنسان ألزمناه . . . . .
وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة ، وسمي ذلك كله تطيراً . وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقي الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه ، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر ، ومنه ما طار في المحاصة والسهم ، ومنه

" صفحة رقم 14 "
فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي كان ذلك حظنا .
وعن ابن عباس : ) طائرة ( عمله ، وعن السدّي كتبه الذي يطير إليه . وعن أبي عبيدة : الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه البخت . وعن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك ، وخص العنق لأنه محل الزينة والشين فإن كان خيراً زانه كما يزين الطوق والحلي ، وإن كان شراً شأنه كالغل في الرقبة . وقرأ مجاهد والحسن وأبو جاء طيره . وقرىء : ) طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( بسكون النون . وقرأ الجمهور ومنهم أبن جعفر : ) وَنُخْرِجُ ( بنون مضارع أخرج . ) كِتَاباً ( بالنصب . وعن أبي جعفر أيضاً ويخرج بالياء مبنياً للمفعول ) كِتَاباً ( أي ويخرج الطائر كتاباً . وعنه أيضاً كتاب بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله . وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد : ويخرج بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتاباً إلا الحسن فقرأ : كتاب على أنه فاعل يخرج . وقرأت فرقة : ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي ويخرج الله . وقرأ الجمهور ) يَلْقَاهُ ( بفتح الياء وسكون اللام . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والحجدري والحسن بخلاف عنه ) يَلْقَاهُ ( بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف . ) مَنْشُوراً ( غير مطوي ليمكنه قراءته ، و ) يَلْقَاهُ ( و ) مَنْشُوراً ( صفتان لكتاب ، ويجوز أن يكون ) مَنْشُوراً ( حالاً من مفعول يلقاه
الإسراء : ( 14 ) اقرأ كتابك كفى . . . . .
( اقْرَأْ كَتَابَكَ ( معمول لقول محذوف أي يقال له : ) اقْرَأْ كَتَابَكَ ). وقال قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً . وقال الزمخشري وغيره . و ) بنفسيك ( فاعل ) قُلْ كَفَى ( انتهى . وهذا مذهب الجمهور والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم ، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى . قال الشاعر .
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
وقال الآخر : ويخبرني عن غائب المرء هديه
كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا وقيل : فاعل ) كَفَى ( ضمير يعود على الاكتفاء ، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك . وقيل : ) كَفَى ( اسم فعل بمعنى اكتف ، والفاعل مضمر يعود على المخاطب ، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة . وإذا فرعنا على قول الجمهور أن ) بِنَفْسِكَ ( هو فاعل ) كَفَى ( فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل ، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق مع زيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثاً ، كقوله تعالى : ) مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ( وقوله : ) وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ ( ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثاً مجروراً بالباء ، والظاهر أن المراد ) بِنَفْسِكَ ( ذاتك أي ) كَفَى ( بك . وقال مقاتل : يريد بنفسه جوارحه تشهد عليه إذا أنكر . وقال أبو عبيدة أي ما أشد كفاية ما علمت بما علمت . ) وَالْيَوْمِ ( منصوب بكفى و ) عَلَيْكَ ( متعلق بحسيباً . ومعنى ) حَسِيباً ( حاكماً عليك بعملك قاله الحسن . قال : يا ابن آدم لقد أنصفك الله وجعلك حسيب نفسك . وقال الكلبي : محاسباً يعني فعيلاً بمعنى مفاعل كجليس وخليط . وقيل : حاسباً كضريب القداح أي ضاربها ، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ ، وذكر ) حَسِيباً ( لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير ، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجل ، وكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً . وقال الأنباري : وإنما قال ) حَسِيباً ( والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص ، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس ، فشبهت بالسماء والأرض قال

" صفحة رقم 15 "
تعالى : ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ). وقال الشاعر :
ولا أرض أبقل ابقالها
الإسراء : ( 15 ) من اهتدى فإنما . . . . .
( مَّنِ اهْتَدَى ( الآية قالت فرقة : نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود ، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة . وقيل : نزلت في الوليد هذا قال : يا أهل مكة اكفروا بمحمد وإثمكم عليّ ، وتقدم تفسير ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( في آخر الأنعام ) وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً غَيّاً ( انتفاء التعذيب ببعثة الرسول عليه السلام ، والمعنى حتى يبعث رسولاً فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله ، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما ، ويدل على الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية ) وَإِذَا أَرَدْنَا ( وفي الآخرة ) فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ( وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من العذاب حين كذبت الرسل . وقوله في عذاب الآخرة كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير ؟ وقالوا : بلى قد جاءنا نذير ، وكلما تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين . وقوله : ) وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ مّن نَّذِيرٍ ( وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا ، أي أن الله لا يهلك أمّة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار .
قال الزمخشري : فإن قلت الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ركونهم لذلك الإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان . قلت : بعثة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا كنا غافلين ، فلو لا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا علي النظر في أدلة العقل انتهى . وقال مقاتل : المعنى وما كنا مستأصلين في الدنيا لما اقتضته الحكمة الإلهية حتى يبعث رسولاً إقامة للحجة عليهم وقطعاً للعذر عنهم ، كما فعلنا بعاد وثمود والمؤتفكات وغيرها .
الإسراء : ( 16 ) وإذا أردنا أن . . . . .
( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا تَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ).
لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والتمادي على الفساد . وقال الزمخشري : ) وَإِذَا أَرَدْنَا ( وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلاّ قليل انتهى . فتؤول ) أَرَدْنَا ( على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال . وقرأ الجمهور أمرنا ، وفي هذه القراءة قولان :
أحدهما : وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي ، واختلف في متعلقة فذهب الأكثرون منهم ابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا . وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال : أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي

" صفحة رقم 16 "
واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية ، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهي كلمة العذاب فدمرهم . فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه . وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض . يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به وكأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول . فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ) فَفَسَقُواْ ( ؟ قلت : لا يصح ذلك لأن قوله ) فَفَسَقُواْ ( يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه . ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى .
أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن ) أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ( صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً . وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال ، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثم ما يدلر على حذفه . وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب ، فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى : ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( قالوا : تقديره ما سكن وما تحرك . وقوله تعالى ) سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( قالوا : الحر والبرد . وقول الشاعر : وما أدري إذا يممت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
تقديره : أريد الخير وأجتنب الشر ، وتقول : أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن ، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن ، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه ، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير ، وكذلك أمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ . وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني . نقول : بل يلزم ، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن

" صفحة رقم 17 "
العصيان مناف وهو كلام صحيح . وقوله : فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا . وأما قوله : لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم . وقوله في جواب السؤال لأن قوله ) فَفَسَقُواْ ( يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه . قلنا : نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه . وقوله : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف . قلت : ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه ، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه . قال تعالى : ) قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( ) أَمْرٍ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( ) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا ( ) قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ( ) أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ( أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة . وقال الشاعر :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
وقال أبو عبد الله الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، أن كونه معصية ينافي كونها مأموهاً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق . هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى .
القول الثاني : أن معنى ) أَمْرُنَا ( كثرنا أي كثرنا ) مُتْرَفِيهَا ( يقال : أمر الله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد . وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم انتهى . وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : ( خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ) أي كثيرة النسل ، يقال : أمر الله المهرة أي كثر ولدها ، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة المختلفة ، إذ يقال : أمر القوم كثروا وأمرهم الله كثرهم ، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر الله عينه فشترت ، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت .
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة . ) أَمْرُنَا ( بكسر الميم ، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس ، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا . حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال : أمر الله ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها . وقرأ عليّ ابن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، وعبد الله بن أبي يزيد ، والكلبي : آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي العالية ، وابن هرمر ، وعاصم ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا . يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة . وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية : ) أَمْرُنَا ( بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف ، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون ) أَمْرُنَا ( بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء ، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر . وقال أبو عليّ الفارسي : لا وجه لكون ) أَمْرُنَا ( من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم ، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به ، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً . ولئن سلمنا أنه أريد به

" صفحة رقم 18 "
الملك فلا يلزم ما قاله لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالي الكفر ونزل بهم على الآخر من ملوكهم ، ورأيت في النوم أني قرأت وقرىء بحضرتي ) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ( الآية بتشديد الميم . فأقول في النوم : ما أفصح هذه القراءة ، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم . وقيل : ) الْقَوْلِ ( لأملان وهؤلاء في النار ولا أبالي .
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء .
الإسراء : ( 17 ) وكم أهلكنا من . . . . .
( وَكَمْ ( في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيراً من القرون ) أَهْلَكْنَا وَمِنْ الْقُرُونِ ( بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس ، والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب ، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال : ) مِن بَعْدِ نُوحٍ ( ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه ، وقومه أول من حلت بهم العقوبة بالعظمى وهي الاستئصال بالطوفان . وتقدّم القول في عمر القرن و ) مِنْ ( الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنا لاختلاف معنييهما . وقال الحوفي : ) مِن بَعْدِ نُوحٍ ( من الثانية بدل من الأولى انتهى . وهذا ليس بجيد . وقال ابن عطية : هذه الباء يعني في ) وَكَفَى بِرَبّكَ ( إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم انتهى . و ) بِذُنُوبِ عِبَادِهِ ( تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، و ) خَبِيرَا بَصِيرًا ( لتنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيراً أو ببصيراً . وقال الحوفي : تتعلق بكفى انتهى . وهذا وهم و
الإسراء : ( 18 ) من كان يريد . . . . .
( الْعَاجِلَةَ ( هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ، ولا بد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله : ) مَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( فالتقدير : من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر . وقيل : المراد ) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ( بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام : ( ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( من طلب الدنيا بعمل الآخرة فماله في الآخرة من نصيب ) .
وقيل : نزلت في المنافقين وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب ، و ) مِنْ ( شرط وجوابه ) عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا تَشَاء ( فقيد المعجل بمشيئته أي ما يشاء تعجيله . و ) لِمَن نُّرِيدُ ( بدل من قوله : ) لَهُ ( بدل بعض من كل لأن الضمير في ) لَهُ ( عائد على من الشرطية ، وهي في معنى الجمع ، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى ، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده ، ألا ترى أن كثيراً من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهم منها إلاّ ما قسمه الله لهم ، وكثيراً منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم ، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة . وقرأ الجمهور ) مَا نَشَاء ( بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء . فقيل الضمير في يشاء يعود على الله ، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء . وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في ) لَهُ ( وليس ذلك عاماً بل لا يكون له ما يشاء إلاّ آحاد أراد الله لهم ذلك ، والظاهر أن الضمير في ) لِمَن نُّرِيدُ ( يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله ، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء . وقال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية .
و ) جلعنا ( بمعنى صيرنا ، والمفعول الأول ) لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ( والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر ، فنقول : جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و ) يَصْلَاهَا ( حال من جهنم . وقال أبو البقاء : أو من الضمير الذي في ) لَهُ ). وقال صاحب الغنيان : مفعول ) جَعَلْنَا ( الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى . ) مَذْمُومًا ( إشارة إلى الإهانة . ) مَّدْحُورًا ( إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله
الإسراء : ( 19 ) ومن أراد الآخرة . . . . .
( وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ ( أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا ، ويعقد إرادته بها ) وَسَعَى ( فيما كلف من الأعمال والأقوال ) سَعْيَهَا ( أي السعي المعد للنجاة فيها . ) وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( هو الشرط الأعظم في النجاة فلا تنفع إرادة ولا سعي إلا بحصوله . وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب ، وعن

" صفحة رقم 19 "
بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب ، وتلا هذه الآية ) فَأُوْلَئِكَ ( إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع ، والله تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى المشكور على ما أعطى من العقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل ، وهو المستحق للشكر حقيقة ومعنى شكرة تعالى المطيع الإثناء عليه وثوابه على طاعته .
الإسراء : ( 20 ) كلا نمد هؤلاء . . . . .
وانتصب ) كَلاَّ ( بنمد والإمداد المواصلة بالشي ، والمعنى كل واحد من الفريقين ) نُّمِدُّ ( كذا قدره الزمخشري : وأعربوا ) هَؤُلاء ( بدلاً من ) كَلاَّ ( ولا يصح أن يكون بدلاً من كل على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدل كل من بعض ، فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل . والظاهر أن هذا الإمداد هو في الرزق في الدنيا وهو تأويل الحسن وقتادة ، أي أن الله يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ، ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق ، وإنما يقع التفاوت في الآخرة ويدل على هذا التأويل ) وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا ( أي إن رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر .
وعن ابن عباس أن معنى ) مِنْ عَطَاء رَبّكَ ( من الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة ، فيكون العطاء عبارة عما قسم الله للعبد من خير أو شر ، وينبوا لفظ العطاء على الإمداد بالمعاصي .
الإسراء : ( 21 ) انظر كيف فضلنا . . . . .
والظاهر أن ) أَنظُرْ ( بصريه لأن التفاوت في الدنيا مشاهد ) وَكَيْفَ ( في موضع نصب بعد حذف حرف الجر ، لأن نظر يتعدى به ، فانظر هنا معلقة . ولما كان النظر مفضياً وسبباً إلى العلم جاز أن يعلق ، ويجوز أن يكون ) أَنظُرْ ( من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو فعل قلبي . والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدّية إلى الجنة ، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل : انظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الأول كأنه قيل في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين ، والمفضول في قوله : ) أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ( محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا .
وروي أن قوماً من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمر : وإنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا ، يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر . وقرىء أكثر بالثاء المثلثة . وقال ابن عطية : وقوله : ) أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ ( ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ، ولا بد ) أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ ( من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض ، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين . وأسند الطبري في ذلك حديثاً ( أن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحداً ) .
الإسراء : ( 22 ) لا تجعل مع . . . . .
والخطاب في ) لاَّ تَجْعَل ( للسامع غير الرسول . وقال الطبري وغيره : الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد لجميع الخلق . ) فَتَقْعُدَ ( قال الزمخشري : من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، بمعنى صارت . يعني فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له انتهى . وما ذهب إليه من استعمال ) فَتَقْعُدَ ( بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا ، وقعد عندهم بمعنى صار مقصورة على المثل ، وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار ، وجعل من ذلك قول الراجز : لا يقنع الجارية الخضاب
ولا الوشاحان ولا الجلباب

" صفحة رقم 20 "
من دون أن تلتقي الأركاب
ويقعد الأير له لعاب
وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلاّ قضاها بمعنى صار ، فالزمخشري أخذ في الآية بقول الفراء ، والقعود هنا عبارة عن المكث أي فيمكث في الناس ) مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( كما تقول لمن سأل عن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال ، ومعناه ماكث ومقيم ، وسواء كان قائماً أم جالساً ، وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً ، وعبر بغالب حاله وهي القعود . وقيل : معنى ) فَتَقْعُدَ ( فتعجز ، والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم والذمّ هنا لا حق من الله تعالى ، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه ، والخذلان في هذا يكون بإسلام الله ولا يكفل له بنصر ، والمخذول الذي لا ينصره من يجب أن ينصره . وانتصب ) مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( على الحال ، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقاً مفرداً لفظاً عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر ، مثنى لفظاً عند الكوفيين ، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها ، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم ، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقاً في مشهور اللغات ، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر ، فالمشهور قلب ألفه ياء نصباً وجراً ، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه . وجاء التفريق في الشعر مضافاً فالظاهر وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاماً ويستعمل تابعاً توكيداً ومبتدأ ومنصوباً ومجروراً ، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحاً ، وربما وجب ، وإخبار المثنى قليلاً وربما وجب .
2 ( ) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاٌّ وَّابِينَ غَفُوراً وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآء

" صفحة رقم 21 "
وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِى الاٌّ رْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاٌّ رْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَالِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالاٌّ رْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاٌّ وَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ( )
الإسراء : ( 23 ) وقضى ربك ألا . . . . .
( أُفّ ( اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلاً نحو : أف وأوه بمعنى أتوجع ، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني . وذكر الزناتي في كتاب الحلل له : إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن

" صفحة رقم 22 "
نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي : أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّ أفا أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّه أفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفَ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْ فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفَ أفيّ . وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين . النهر الزجر بصياح وإغلاظ . قال العسكريّ : وأصله الظهور ، ومنه النهر والانتهار ، وأنهر الدم أظهره وأسأله ، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد . وقال ابن عطية : الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ . وقال الزمخشري : النهي والنهر والنهم أخوات . التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة ، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذراً لأنه يفرق في المزرعة . وقال الشاعر : ترائب يستضيء الحلي فيها
كجمر النار بذر بالظلام
ويروى بدد أي فرق . المحسور قال الفراء : تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها ، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى . قال الشاعر : بها جيف الحسرى فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد . قال مؤرج السدوسي : هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه . المرح شدّة الفرح ، يقال : مرح يمرح مرحاً . الطول ضد القصر ، ومنه الطول خلاف العرض . الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه . الرفات قال الفراء : التراب . وقيل : الذي بولغ في دقه حتى تفتت ، ويقال : رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر ، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والدقاق .
( وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً ).
قرأ الجمهور ) وَقُضِىَ ( فعلاً ماضياً من القضاء . وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك مصدر ) قَضَى ( مرفوعاً على

" صفحة رقم 23 "
الابتداء و ) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ( الخبر . وفي مصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية . وقرأ بعضهم : وأوصى من الإيصاء ، وينبغي أن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو ) وَقُضِىَ ( وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة . ) وَقُضِىَ ( هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر . وقال ابن مسعود وأصحابه : بمعنى وصى . وقيل : أوجب وألزم وحكم . وقيل : بمعنى أحكم . وقال ابن عطية : وأقول أن المعنى ) وَقَضَى رَبُّكَ ( أمره ) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( وليس في هذه الألفاظ إلاّ أمر بالاقتصار على عبادة الله ، فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، والمقضي هنا هو الأمر انتهى . كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر ، فجعل متعلقه الأمر بالعبادة لا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئاً بمعنى أن يقدر إلاّ ويقع ، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضى هو ) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ( وسواء كانت ) ءانٍ ( تفسيرية أم مصدرية . وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته و ) لا ( زائدة انتهى . وهذا وهم لدخول ) إِلا ( على مفعول ) تَعْبُدُواْ ( فلزم أن يكون منفياً أو منهياً والخطاب بقوله ) لاَّ تَعْبُدُواْ ( عامّ للخلق . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ) قَضَى ( على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في ) تَعْبُدُواْ ( للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى .
قال الحوفي : الباء متعلقة بقضى ، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( و ) إِحْسَاناً ( مصدر أي تحسنوا إحساناً . وقال ابن عطية : قوله ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( عطف على أن الأولى أي أمر الله ) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( وأن تحسنوا ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين . وقال الزمخشري : لا يجوز أن تتعلق الباء في ) بالوالدين ( بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته . وقال الواحدي في البسيط : الباء في قوله ) بالوالدين ( من صلة الإحسان ، وقدمت عليه كما تقول : بزيد فامرر ، انتهى . وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى : ) حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى ( وقال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
وكأنه تضمن أحسن معنى لطف ، فعدّي بالباء و ) إِحْسَاناً ( إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به ، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً ، فيجوز تقديم معموله عليه ، والذي نختاره أن تكون ) ءانٍ ( حرف تفسير و ) لاَّ تَعْبُدُواْ ( نهي و ) إِحْسَاناً ( مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في :
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله : ) لاَّ تَعْبُدُواْ ( وتقديمهما اعتناء بهما على قوله : ) إِحْسَاناً ( ومناسبة اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث أنه تعالى و الموجد حقيقة ، والوالدان وساطة في إنشائه ، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه ، وهما ساعيان في مصالحه . وقال الزمخشري : ) أَمَّا ( هي الشرطية زيدت عليها ما توكيداً لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنه

" صفحة رقم 24 "
انتهى . وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد ، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد ، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد . وقال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها ، وعندك ظرف معمول ليبلغن ، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما ، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل ) يَبْلُغَنَّ ( و ) أَوْ كِلاَهُمَا ( معطوف على ) أَحَدُهُمَا ).
وقرأ الجمهور ) يَبْلُغَنَّ ( بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى ) أَحَدُهُمَا ). وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة . وقرأ الأخوان : إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري . فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث ، وأحدهما فاعل و ) أَوْ كِلاَهُمَا ( عطف عليه ، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو ، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز ، والصحيح جوازه و ) أَحَدُهُمَا ( ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد . وقيل : الألف ضمير الوالدين و ) أَحَدُهُمَا ( بدل من الضمير و ) كِلاَهُمَا ( عطف على ) أَحَدُهُمَا ( والمعطوف على البدل بدل . وقال الزمخشري . فإن قلت : لو قيل إما يبلغان ) كِلاَهُمَا ( كان ) كِلاَهُمَا ( توكيداً لا بدلاً ، فمالك زعمت أنه بدل ؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله . فإن قلت : ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً وعطفت التوكيد على البدل ؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل ) كِلاَهُمَا ( فحسب فلما قيل ) أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ( علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول . وقال ابن عطية : وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله ) أَحَدُهُمَا ( بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
انتهى . ويلزم من قوله أن يكون ) كِلاَهُمَا ( معطوفاً على ) أَحَدُهُمَا ( وهو بدل ، والمعطوف على البدل بدل ، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً ، وإذا جعلت ) أَحَدُهُمَا ( بدلاً من الضمير فلا يكون إلاّ بدل بعض من كل ، وإذا عطفت عليه ) كِلاَهُمَا ( فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل ، لأن ) كِلاَهُمَا ( مرادف للضمير من حيث التثنية ، فلا يكون بدل بعض من كل ، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من ) كِلاَهُمَا ( فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه . وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر :
وكنت كذي رجلين البيت
فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو ، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على

" صفحة رقم 25 "
أحد قسميه ، و ) كِلاَهُمَا ( يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه ، فليس من المقسم . ونقل عن أبي علي أن ) كِلاَهُمَا ( توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب ) أَحَدُهُمَا ( بدل بعض من كل ، ويضمر بعده فعل رافع الضمير ، ويكون ) كِلاَهُمَا ( توكيداً لذلك الضمير ، والتقدير أو يبلغا ) كِلاَهُمَا ( وفيه حذف المؤكد . وقد أجازه سيبويه والخليل قال : مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب ، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما ، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما ، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه ، والذي نختاره أن يكون ) أَحَدُهُمَا ( بدلاً من الضمير و ) كِلاَهُمَا ( مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ ) كِلاَهُمَا ( فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات ، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ ) كِلاَهُمَا ( ) عِندَكَ الْكِبَرَ ). وجواب الشرط ) فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها ، وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشدّ كالشتم والضرب هو بجهة الأولى ، وليست دلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافاً لمن ذهب إلى ذلك .
وقال ابن عباس : ) أُفّ ( كلمة كراهة بالغ تعالى في الوصية بالوالدين ، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلاً عما يزيد عليها . قال القرطبي : قال علماؤنا : وإنما صار قول ) أُفّ ( للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة ، وجحد التربية ، وردّ وصية الله . و ) أُفّ ( كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام : ) أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى . وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافع وحفص ) أُفّ ( بالكسر والتشديد مع التنوين . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين . وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتحها مشدّدة من غير تنوين . وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين . وقرأ أبو السمال ) أُفّ ( بضم الفاء من غير تنوين . وقرأ زيد بن عليّ أفاً بالنصب والتشديد والتنوين . وقرأ ابن عباس ) أُفّ ( خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في ) أُفّ ).
وقال مجاهد : إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة الغائط والبول اللذين رأيا منك في حال الصغر فلا تقذرهما وتقول ) أُفّ ( انتهى . والآية أعم من ذلك . ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من ) أُفّ ( وهو نهرهما ، وإن كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول ) أُفّ ( لأنه إذا نهي عن الأدنى كان ذلك نهياً عن الأعلى بجهة الأولى ، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك ) وَقُل لَّهُمَا ( بدل قول أف ونهرهما ) قَوْلاً كَرِيمًا ( أي جامعاً للمحاسن من البر وجودة اللفظ . قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد اللفظ . وقيل : ) قَوْلاً كَرِيمًا ( أي جميلاً كما يقتضيه حسن الأدب . وقال عمر : أن تقول يا أبتاه يا أمّاه انتهى . كما خاطب إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره ، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة نحلني أبو بكر كذا . ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأن يقول لهما القول الطيب السار الحسن ، وأن يكون قوله دالاً على التعظيم لهما والتبجيل .
وقال عطاء : تتكلم معهما بشرط أن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك بنا في القول الكريم . وقال الزجاج قولاً سهلاً سلساً لا شراسة فيه ، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله : ) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ ).
الإسراء : ( 24 ) واخفض لهما جناح . . . . .
وقال القفال في تقريره وجهان . أحدهما : أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك . الثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه

" صفحة رقم 26 "
فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه . وقال ابن عطية : استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله : ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( وذلك بسبب عظم الحق انتهى . وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى ) جَنَاحَ الذُّلّ ( ؟ قلت : فيه وجهان . أحدهما : أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال : ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول . والثاني : أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً ، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى . والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه . وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله : لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائياً
جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئاً من ماء الملام ، فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل . وجناحاً الإنسان جانباه ، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما . وقال بعض المتأخرين فأحسن : أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى
فلم أستطع من أرضهم طيرانا
وقرأ الجمهور ) مَّنَ الذُّلّ ( بضم الذال . وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة ، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس ، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر . قال أبو البقاء : ) مِنَ الرَّحْمَةِ ( أي من أجل الرحمة ، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة ب ( اخفض ) ، ويجوز أن يكون حالاً من جناح . وقال ابن عطية : من الرحمة هنا لبيان الجنس أي أن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكمنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى . ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها . ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيراً ، وتلك الحالة مما تزيده اشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه . وقال قتادة : نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني ) وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا ( بقوله تعالى : ) مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( وقيل : هي مخصوصة في حق المشركين . وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان ، والظاهر أن الكاف في ) كَمَا ( للتعليل أي ) رَّبّ ارْحَمْهُمَا ( لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار . وقال الحوفي : الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل

" صفحة رقم 27 "
تربيتي صغيراً .
وقال أبو البقاء : ) كَمَا ( نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما . وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم . ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة ،
الإسراء : ( 25 ) ربكم أعلم بما . . . . .
أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين . ثم قال : ) إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ ( أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هناتكم . والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته . وقال ابن جبير : هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلاّ الخير .
الإسراء : ( 26 ) وآت ذا القربى . . . . .
( وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ).
لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة . قال الحسن : نزلت في قرابة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله ) إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ ( وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه . قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهما . وقال عليّ بن الحسين فيها : هم قرابة الرسول عليه السلام ، أمر بإعطائهم حقوقهم من بيت المال ، والظاهر أن الحق هنا مجمل وأن ) ذَا الْقُرْبَى ( عام في ذي القرابة فيرجع في تعيين الحق وفي تخصيص ذي القرابة إلى السنة . وعن أبي حنيفة : إن القرابة إذا كانوا محارم فقراء عاجزين عن التكسب وهو موسر حقهم أن ينفق عليهم . وعند الشافعي : ينفق على الولد والوالدين فحسب على ما تقرر في كتب الفقه . ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها ، فنهي الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقرب منه تعالى . وعن ابن مسعود وابن عباس : التبذير إنفاق المال في غير حق . وقال مجاهد : لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذراً . وذكر الماوردي أنه الإسراف المتلف للمال ، وقد احتج بهذه الآية على الحجر على المبذر ، فيجب على الإمام منعه منه بالحجر والحيلولة بينه وبين ماله إلاّ بمقدار نفقة مثله ، وأبو حنيفة لا يرى الحجر للتبذير وإن كان منهياً عنه .
وقال القرطبي : يحجر عليه إن بذله في الشهوات وخيف عليه النفاد ، فإن أنفق وحفظ الأصل فليس بمبذر
الإسراء : ( 27 ) إن المبذرين كانوا . . . . .
واخوة الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار في الآخرة ، وتدل هذه الأخوة على أن التبذير هو في معصية الله أو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا . وقرأ الحسن والضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذا ثبت في مصحف أنس ، وذكر كفر الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خيركما قال إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير .
الإسراء : ( 28 ) وإما تعرضن عنهم . . . . .
( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ ). قيل : نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) . فبكوا . وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب : سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم . وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال : ( يرزقنا الله وإياكم من فضله ) فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة . وقال ابن زيد : الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد ، فكان يعرض عنهم وعنه في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم : ) قَوْلاً مَّيْسُورًا ( يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية .
وقال الزمخشري : وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد ) فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ( ولا تتركهم غير مجابين إذا

" صفحة رقم 28 "
سألوك ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء ، ويجوز أن يكون معنى ) وَأَمَّا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ( وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة ، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى . والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير ، قال : وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم ، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله ، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار . وأجاز الزمخشري أن يكون ) ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ ( علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ، وقدم عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك ، أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى . وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالداً أن تقول : إن يقم خالداً فاضرب ، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز ، فتقول : إن يقم خالداً نضرب ، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل ، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت : إن تفعل يفعل زيد يفعل ، ومنع ذلك الكسائي والفراء . وقال ابن جبير : الضمير في ) عَنْهُمْ ( عائد على المشركين ، والمعنى ) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ( لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم ، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازماً ومتعدّياً فميسور من المتعدّي تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته . قال الزمخشري : يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى . ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله : ليكن لديك لسائل فرج
إن لم يكن فليحسن الردّ
وقال آخر إن لم يكن ورق يوماً أجود به
للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي
الإسراء : ( 29 ) ولا تجعل يدك . . . . .
( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ( الآية . قيل : نزلت في إعطائه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً . وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وعيينة مثل ذلك ، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت ، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول ، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد ، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء ، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها ، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام . فقال في المعتصم : تعوّد بسط الكف حتى لوانّه
ثناها لقبض لم تجبه أنامله

" صفحة رقم 29 "
وقال الزمخشري : هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والاقتار انتهى . والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإلاّ فهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان لا يدّخر شيئاً لغد ، وكذلك من كان واثقاً بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله . وقال ابن جريج وغيره : المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق ) وَلاَ تَبْسُطْهَا ( فيما نهيتك عنه وروي عن قالون : كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين ، فالملوم راجع لقوله : ) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ ). كما قال الشاعر : إن البخيل ملوم حيث كان
ولكن الجواد على علاتّه هرم
والمحسور راجع لنوله ) وَلاَ تَبْسُطْهَا ( وكأنه قيل فتلام وتحسر ،
الإسراء : ( 30 ) إن ربك يبسط . . . . .
ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ، ولكن لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده ، أو يكون المعنى القبض والبسط من مشيئة الله ، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله ) خَبِيراً ( وهو العلم بخفيات الأمور و ) بَصِيراً ( أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم .
الإسراء : ( 31 ) ولا تقتلوا أولادكم . . . . .
( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ).
لما بيَّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ( أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد ، وتقدم تفسير نظير هذه الآية ، والفرق بين ) خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ( ومن إملاق وبين قوله : ) نَرْزُقُهُمْ ( ونرزقكم . وقرأ الأعمش وابن وثاب : ) وَلاَ تَقْتُلُواْ ( بالتضعيف . وقرىء ) خَشْيَةَ ( بكسر الخاء ، وقرأ الجمهور ) خطأً ( بكسر الخاء وسكون الطاء . وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما . وقال النحاس : لا أعرف لهذه القراءة وجهاً ولذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . وقال الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر : تخاطأت النبل أخشاه
وأخر يومي فلم يعجل
وقول الآخر في كمأة
تخاطأه القناص حتى وجدته
وخرطومه في منقع الماء راسب
فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل . وقرأ ابن ذكوان ) خطأ ( على وزن نبأ . وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جنيّ . وقال أبو حاتم : هي غلط غير جائز ولا ؛ يعرف هذا في اللغة ، وعنه أيضاً خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفاً وذهبت لالتقائهما . وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلاّ أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىء في الدين وأخطأ في الرأي ، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر ) خطأ ( بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر .

" صفحة رقم 30 "
الإسراء : ( 32 ) ولا تقربوا الزنى . . . . .
( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( سقط : إنه كان منصورا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنزا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ) ( : لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة ، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا ، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة ، هكذا نقل اللغويون . ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق : أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه
ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا ويروي أبا خالد . وقال آخر :
كانت فريضة ما تقول كما
كان الزناء فريضة الرجم
وكان المعنى لم يزل أي لم يزل ) فَاحِشَةً ( أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح ) وَسَاء سَبِيلاً ( أي وبئس طريقاً طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار . وقال ابن عطية : و ) سَبِيلاً ( نصب على التمييز التقدير ، وساء سبيله انتهى . وإذا كان ) سَبِيلاً ( نصباً على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في ) سَاء ( ، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده ، والمخصوص بالذم محذوف ، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مفسراً بالتمييز ، ويبقى التقدير أيضاً عارياً عن المخصوص بالذم ، وتقدّم تفسير قوله تعالى :
الإسراء : ( 33 ) ولا تقتلوا النفس . . . . .
( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( في أواخر الأنعام قال الضحاك : هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى .
ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام ، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله : ) وَقَضَى رَبُّكَ ( كاندراج ) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ( وانتصب ) مَظْلُومًا ( على الحال من الضمير المستكن في ) قَتْلَ ( والمعنى أنه قتل بغير حق ، ( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ ( وهو الطالب بدمه شرعاً ، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم ، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا . وقال مالك : ليس للنساء شيء من القصاص ، وإنما القصاص للرجال . وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم : ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية . وقال ابن عباس : البينة في طلب القود . وقال الحسن القود . وقال مجاهد الحجة . وقال ابن زيد : الوالي أي والياً ينصفه في حقه ، والظاهر عود الضمير في ) فَلاَ يُسْرِف ( على الولي ، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن ، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير ، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد ، أو يمثل قاله قتادة ، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج .
وقال أبو عبد الله الرازي : السلطنة مجملة يفسرها ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح : ( من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ) . فمعنى ) فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( لا يقدم على استيفاء القتل ، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفا

" صفحة رقم 31 "
ً بسبب إقدامه على القتل ، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( انتهى ملخصاً . ولو سلم أن ) فِى ( بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى ، لأن من القتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقاً بقتله ، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد ، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله . وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤبشسع نعل كليب .
وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ) فَلاَ يُسْرِف ( ليس عائداً على الولي ، وإنما يعود على العامل الدال عليه ، ومن قتل أي ) لا يُسْرِف ( في القتل تعدياً وظلماً فيقتل من ليس له قتله . وقرأ الجمهور ) فَلاَ يُسْرِف ( بياء الغيبة . وقرأ الأخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة ، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له . وقال الطبري : الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى . قال ابن عطية : وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية . وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة . وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة : ) فَلاَ يُسْرِف ( بضم الفاء على الخبر ، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر . وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً انتهى . رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد ، ولأن المستفيض عنه ) إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( كقراءة الجماعة والضمير في ) أَنَّهُ ( عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق . وقيل : يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا ، ونصره بالثواب في الآخرة . قال ابن عطية : وهو أرجح لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام : ( ونصر المظلوم وإبرار القسم ) وكقوله : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) إلى كثير من الأمثلة . وقيل : على القتل . وقال أبو عبيد : على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد القصد . وقال الزمخشري : وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى . وهذا بعيد جداً .
الإسراء : ( 34 ) ولا تقربوا مال . . . . .
( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال : ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ) . لما كان اليتيم ضعيفاً عن أن يدفع عن ماله لصغره نص على النهي عن قربان ماله ، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام . ) وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( عام فيما عقده الإنسان بينه وبين ربه ، أو بينه وبين ربه ، أو بينه وبين آدمي في طاعة ) إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ ( ظاهره أن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفى به ولا ينكث ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل ، كأنه يقال : للعهد لم نكثت ، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه ، كما جاء ) وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب . وقيل : هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولاً عنه إن لم يف به .
الإسراء : ( 35 ) وأوفوا الكيل إذا . . . . .
ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم ، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال . وفي قوله ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ ( دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري . وقال الحسن : ) القسطاس ( القبان وهو الفلسطون ويقال القرسطون . وقال مجاهد : ) القسطاس ( العدل لا أنه آلة . وقرأ الأخوان وحفص بكسر القاف ، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان . وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صاداً . قال ابن عطية : واللفظية للمبالغة من القسط انتهى . ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط ، وذلك مادته ق س ط س إلاّ أن

" صفحة رقم 32 "
اعتقد زيادة السين آخراً كسين قدموس وضغبوس وعرفاس ، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله : ) الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ( أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد ، وأن لا يتأخر إلايفاء بأن يكيل به بنقصان مّا ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل .
( ذالِكَ خَيْرٌ ( أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق ) وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( أي عاقبة ، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهو من المآل وهو المرجع كما قال : خير مرداً ، خير عقباً ، خير أملاً وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالأحتراز عن التطفيف ، فعوِّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه .
الإسراء : ( 36 ) ولا تقف ما . . . . .
( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا ذالِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ).
لما أمر تعالى بثلاثة أشياء ، الإيفاء بالعهد ، والإيفاء بالكيل ، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه : ) وَلاَ تَقْفُ ( ) وَلاَ تَمْشِ ( ) ولاتجعل ). ومعنى ) تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ ( لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم ، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته . وقال ابن عباس : معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم . وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه . وقال محمد بن الحنيفة : لا تشهد بالزور . وقال ابن عطية : ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضه انتهى . وفي الحديث : ( من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج ) . وقال في الحديث أيضاً : ( نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا ) . ومنه قول النابغة الجعدي : ومثل الدمى شم العرانين ساكن
بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا
وقال الكميت فلا أرمي البريء بغير ذنب
ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع . قال الزمخشري : وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم ، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تَقْفُ ( بحذف الواو للجزم مضارع قفا . وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو . كما قال الشاعر : هجوت زبان ثم جئت معتذرا
من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

" صفحة رقم 33 "
وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم . وقرأ معاذ القارىء : ) وَلاَ تَقْفُ ( مثل تقل ، من قاف يقوف تقول العرب : قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب ، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها ، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح . وقرأ الجرّاح العقيلي : ) وَالْفُؤَادَ ( بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في ) الْفُؤَادُ ( وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه . قال الحوفي : يتعلق بما تعلق به ) لَكَ ( وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله : ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ( دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول ، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ، ثم يليه البصر ، ثم يليه الفؤاد . و ) أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى ) السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ( وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره . وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل . فقال : وعبر عن ) السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ( بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل ، ولذلك عبر عنها بأولئك . وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى : ) رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل . وحكى الزجاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى . وليس ما تخيله صحيحاً ، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي ، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه ، و ) كُلٌّ ( مبتدأ والجملة خبره ، واسم ) كَانَ ( عائد على ) كُلٌّ ( وكذا الضمير في ) مَسْؤُولاً ). والضمير في ) عَنْهُ ( عائد على ما من قوله ) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( فيكون المعنى أن كل واحد من ) السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ( يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به . وهذا الظاهر . وقال الزجاج : يستشهد بها كما قال ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ). وقال القرطبي في أحكامه : يسأل الفؤاد عما اعتقده ، والسمع عما سمع ، والبصر عما رأى . وقال ابن عطية : إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي . وقيل : الضمير في ) كَانَ ( و ) مَسْؤُولاً ( عائدان على القائف ما ليس له به علم ، والضمير في ) عَنْهُ ( عائد على ) كُلٌّ ( فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً .
وقال الزمخشري : و ) عَنْهُ ( في موضع الرفع بالفاعلية ، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ( يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه ؟ ولم عزمت على ما لم

" صفحة رقم 34 "
يحل لك العزم عليه ؟ انتهى . وهذا الذي ذهب إليه من أن ) عَنْهُ ( في موضع الرفع بالفاعلية ، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل ، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه ، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت . وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه ، فليس ) عَنْهُ مَسْؤُولاً ( كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في ) عَنْهُ مَسْؤُولاً ( وتأخيره في ) الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ( وقول الزمخشري : ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى ، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى .
الإسراء : ( 37 ) ولا تمش في . . . . .
وانتصب ) مَرَحاً ( على الحال أي ) مَرَحاً ( كما تقول : جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح ، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي ) وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ ( للمرح ولا يظهر ذلك ، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ، ولذلك بقوله علل ) إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ ). وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب : ) مَرَحاً ( بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً . قال مجاهد : لن تخرق بمشيك على عقبيك كبراً وتنعماً ، ( وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ ( بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و ) طُولاً ( والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال . وقال الزجاج : ) لا تَمْشِ فِى الاْرْضِ ( مختالاً فخوراً ، ونظيره : ) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( و ) تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). وقال الزمخشري : ) لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ ( لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك ، ( وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَال

" صفحة رقم 35 "
َ طُولاً ( بتطاولك وهوتهكم بالمختال . وقرأ الجراح الأعرابي : ) لَن تَخْرِقَ ( بضم الراء . قال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة . وقيل : أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر . وقال الشاعر : ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكم تحتها قوم هم منك أرفع والأجود انتصاب قوله ) طُولاً ( على التمييز ، أي لن يبلغ طولك الجبال . وقال الحوفي : ) طُولاً ( نصب على الحال ، والعامل في الحال ) تَبْلُغَ ( ويجوز أن يكون العامل تخرق ، و ) طُولاً ( بمعنى متطاول انتهى . وقال أبو البقاء : ) طُولاً ( مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى .
الإسراء : ( 38 ) كل ذلك كان . . . . .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث . وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق ) سَيّئَةٌ ( بضم الهمزة مضافاً . لهاء المذكر الغائب . وقرأ عبد الله سيئانه بالجمع مضافاً للهاء ، وعنه أيضاً سيئات بغيرها ، وعنه أيضاً كان خبيثه . فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين ، وهما قفو ما ليس له به علم ، والمشي في الأرض مرحاً . وقيل : إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة ، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر . قال الزمخشري : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب ، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا إعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئاً ، ألا تراك تقول : الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى . وهو تخريج حسن .
وقيل : ذكر ) مَكْرُوهًا ( على لفظ ) كُلٌّ ( وجوزوا في ) مَكْرُوهًا ( أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان ، وأن يكون بدلاً من سى ئة والبد بالمشتق ضعيف ، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة . قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر ، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم ، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح ، تقول : أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح ، وأما من قرأ ) سَيّئَةٌ ( بالتذكير والإضافة فسيئه اسم ) كَانَ ( و ) مَكْرُوهًا ( الخبر ، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه ، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات . وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله :
فإن الحوادث أو دى بها
لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله ) لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءاخَرَ إِلَى قَوْلُهُ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله ) لاَّ تَجْعَل ). واختتم الآيات بقوله ) وَلاَ تَجْعَلْ (
الإسراء : ( 39 ) ذلك مما أوحى . . . . .
وقال : مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر ، و ) مِمَّا أَوْحَى ( خبر عن ذلك ، و ) مِنَ الْحِكْمَةِ ( يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما ، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف

" صفحة رقم 36 "
حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ .
وعن ابن عباس : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام ، أولها ) لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءاخَرَ ( قال تعالى : ) وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء ( وكرر تعالى النهي عن الشرك ، ففي النهي الأول . ) فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( وفي الثاني ) فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ( والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر ، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك ، فأول الأمر الذم وآخره اللوم ، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه ، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به ، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً . وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ، ولذلك جاء ) فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ ( والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول . وقال الزمخشري : ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم .
الإسراء : ( 40 ) أفأصفاكم ربكم بالبنين . . . . .
( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ).
لما نبه تعالى على فساد من أثبت لله شريكاً ونظيراً أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولداً ، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى ) أَفَأَصْفَاكُمْ ( آثركم وخصكم وهذا كما قال : ) إِلَهٍ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات . ومعنى ) عَظِيماً ( مبالغاً في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون ، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة .
الإسراء : ( 41 ) ولقد صرفنا في . . . . .
ومعنى ) صَرَفْنَا ( نوعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال ، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين . وقرأ الجمهور ) وَصَرَّفْنَا ( بتشديد الراء . فقال : لم نجعله نوعاً واحداً بل وعداً ووعيداً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وأمراً ونهياً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وأخباراً وأمثالاً مثل تصريف الرياح من صباودبور وجنوب وشمال ، ومفعول ) صَرَفْنَا (

" صفحة رقم 37 "
على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي : صرّفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام . وقيل : المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوماً ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي ) صَرَفْنَا ( جبريل .
وقيل : ) فِى ( زائدة أي ) صَرَفْنَا ( ) هَاذَا الْقُرْءانُ ( كما قال ) وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى ( وهذا ضعيف لأن في لا تزاد . وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات لأنه مما صرفه وكرر ذكره ، والمعنى ولقد ) صَرَفْنَا ( القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يشير بهذا ) الْقُرْءانَ ( إلى التنزيل ، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل ، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى . فجعل التصريف خاصاً بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول ) صَرَفْنَا ( أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهو الضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عامّاً في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره . وقرأ الحسن بتخفيف الراء . فقال صاحب اللوامح : هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور ، قال ؛ لأن فعل وفعل ربما تعاقبا على معنى واحد . وقال ابن عطية : على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله .
وقرأ الجمهور ) لّيَذْكُرُواْ ( أي ليتذكروا من التذكير ، أدغمت التاء في الذال . وقرأ الأخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف من الذكر أو الذكر ، أي ليتعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه ) وَمَا يَزِيدُهُمْ ( أي التصريف ) إِلاَّ نُفُورًا ( أي بعداً وفراراً عن الحق كما قال : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( وقال : ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس ،
الإسراء : ( 42 ) قل لو كان . . . . .
ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم في ذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة وردَّ عليهم .
وقرأ ابن كثير وحفص ) كَمَا يَقُولُونَ ( بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء . ومعنى ) لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض . وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو عليّ الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره ، وعلى هذا تكون الآية بياناً للتمانع كما في قوله ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( ويأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى . وقال قتادة ما معناه : لابتغوا إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه ، وكانوا يقولون : إن الأصنام تقربهم إلى الله فإذا علموا أنها تحتاج إلى الله فقد بطل كونها آلهة ، ويكون كقوله ) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ ( أيهم أقرب ، والكاف من ) كَمَا ( في موضع نصب . وقال الحوفي : متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و ) مَعَهُ ( خبر كان . وقال أبو البقاء : كوناً لقولكم .
وقال الزمخشري : و ) إِذَا ( دالة على أن ما بعدها وهو ) لاَّبْتَغَوْاْ ( جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو انتهى .
الإسراء : ( 43 ) سبحانه وتعالى عما . . . . .
وعطف ) وَتَعَالَى ( على قوله ) سُبْحَانَهُ ( لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو في معنى الفعل ، أي براءة الله وقدر تنزه

" صفحة رقم 38 "
وتعالى يتعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن كما في قوله ) سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان . وقرأ الأخوان : عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء . وانتصب ) عَلَوْاْ ( على أنه مصدر على غير الصدر أي تعالياً ووصف تكبيراً مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة ،
الإسراء : ( 44 ) تسبح له السماوات . . . . .
ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة ، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقاً وهذا هو ظاهر اللفظ ، ولذلك جاء ) وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ). وقال بعضهم : ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة ، وبه قال عكرمة قال : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح .
وسئل الحسن عن الخوان أيسبح ؟ فقال : قد كان يسبح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرة كان يسبح ، وحين صار خواناً مدهوناً صار جماداً لا يسبح . وقيل : التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبح بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله ، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه الله عما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها . ويكون قوله : ) وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( خطاباً للمشركين ، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه الله لكنهم لما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه ، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السموات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدراً مشتركاً بين الجميع ، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا يحمل نسبته إلى السموات والأرض على المجاز ، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعاً بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد .
وقال ابن عطية ثم أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى . ويعنى بالضمير في قوله ) وَمَن فِيهِنَّ ( وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلاّ لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقاً . وقرأ النحويان وحمزة وحفص : تسبح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء ، وفي بعض المصاحف سبحت له السموات بلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد الله والأعمش وطلحة بن مصرف . ) إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا ( حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم ) غَفُوراً ( إن رجعتم ووحدتم الله تعالى .
الإسراء : ( 45 ) وإذا قرأت القرآن . . . . .
( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ).
نزلت ) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ ( في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب ، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن ، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي : وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب ، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عنده ، فقالت : هجاني صاحبك ، قال : ما هو بشاعر ، قالت : قال ) فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ ( وما يدريه ما في جيدي ؟ فقال لأبي بكر : ( سلها هل ترى غيرك فإن ملكاً لم يزل يسترني عنها ) فسألها فقالت : أتهزأ بي ما أرى غيرك فانصرفت ولم تر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : نزلت في قوم

" صفحة رقم 39 "
من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة ، فحال الله بينهم وبين أذاه .
ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد ، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم ، فإنك تقول لمن يقرأ شيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن ، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه . وقيل : ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل ) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ إِلَى الْغَافِلُونَ ( وفي الكهف ) وَمَنْ أَظْلَمُ إِلَى إِذًا أَبَدًا ( وفي الجاثية ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ إِلَى أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات ، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت ، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه . قال القرطبي : ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى ) فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( ففي السيرة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس ، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً . والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول .
وقال قتادة والزجاج وجماعة ما معناه : ) جَعَلْنَا بَيْنَكَ ( فهم ما تقرأ وبينهم ) حِجَاباً ( فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث ، فالمعنى قريب من الآية بعدها ، والظاهر إقرار ) مَّسْتُورًا ( على موضوعه من كونه اسم مفعول أي ) مَّسْتُورًا ( عن أعين الكفار فلا يرونه ، أو ) مَّسْتُورًا ( به الرسول عن رؤيتهم . ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد ، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر . وقالوا : رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته ، ومكان مهول أي ذو هول ، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية . وقال الأخفش وجماعة ) مَّسْتُورًا ( ساتراً واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن . وقيل : مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل
الإسراء : ( 46 ) وجعلنا على قلوبهم . . . . .
ومن لفظ الأول ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءاذَانِهِمْ وَقْراً ( تقدم تفسيره في أوائل الأنعام ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ). قيل : دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال : ( يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم ) فولوا ونفروا فنزلت هذه الآية . والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله ، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها .
وقال الزمخشري : وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و ) وَحْدَهُ ( من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال ، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى . وما ذهب إليه من أن ) وَحْدَهُ ( مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و ) وَحْدَهُ ( عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد ، وإيحاد موضوع موضع موحد . وذهب يونس إلى أن ) وَحْدَهُ ( منصوب على الظرف ، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له ، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة ، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو .

" صفحة رقم 40 "
وإذا ذكرت ) وَحْدَهُ ( بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي موحداً له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير ) وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ ( موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحداً بالذكر .
و ) نُفُورًا ( حال جمع نافر كقاعد وقعود ، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى ) وَلَّوْاْ ( نفروا ، والظاهر عود الضمير في ) وَلَّوْاْ ( على الكفار المتقدم ذكرهم . وقالت فرقة : هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر . وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله : ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلاّ الله ثم تلا ) وَإِذَا ذَكَرْتَ ( الآية . وقال علي بن الحسين : هو البسملة
الإسراء : ( 47 ) نحن أعلم بما . . . . .
( نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ( أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو ، كان إذا قرأ ( صلى الله عليه وسلم ) ) قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار . وبما متعلق بأعلم ، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب ، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول : ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا ، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه ، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام ، تقول : ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر . وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول : يستمعون بالهزء أي هازئين ) وَإِذَا يَسْتَمِعُونَ ( نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون ، إذ هم ذوو نجوى ) إِذْ يَقُولُ ( بدل من ) إِذْ هُمْ ( انتهى .
وقال الحوفي : لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط ، وكان مضمناً أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور ، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد ) إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا ) وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى . وقال أبو البقاء : يستمعون به . قيل : الباء بمعنى اللام ، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى ، والنجوى مصدر ، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى ، وإذ بدل من ) إِذْ ( الأولى . وقيل : التقدير إذ كر إذ تقول . وقال ابن عطية : الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي ، والمراد الاستخفاف والإ عراض فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم والعامل في ) إِذْ ( الأولى وفي المعطوف ) يَسْتَمِعُونَ ( الأولى انتهى . تناجوا فقال النضر : ما أفهم ما تقول ، وقال أبو سفيان : أرى بعضه حقاً ، وقال أبو جهل : مجنون ، وقال أبو لهب : كاهن ، وقال حويطب : شاعر ، وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وبعضهم إنما يعلمه بشر ، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله . فتناجوا يقولون ساحر مجنون ، والظاهر أن ) مَّسْحُورًا ( من السحر أي خبل عقله السحر . وقال مجاهد :

" صفحة رقم 41 "
مخدوعاً نحو ) فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ( أي تخدعون . وقال أبو عبيدة : ) مَّسْحُورًا ( معناه أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور . قال : أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام والشراب
أي نغذى ونعلل ونسحر . قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة . وقال ابن عطية : الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضرب مثل ، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له ،
الإسراء : ( 48 ) انظر كيف ضربوا . . . . .
و ) الاْمْثَالَ ( تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقر بها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، أو سبيلاً إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك .
الإسراء : ( 49 ) وقالوا أئذا كنا . . . . .
وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه ) وَقَالُواْ أَن كُنَّا ( هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه ، واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتاً يحييه الله ويعيده ، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا ، ومن قرأ من القراء إذاً وإنّا معاً أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقاً بالبعث والنشأة الآخرة ، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى . وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا تراباً وعظاماً نبعث أو نعاد ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه ، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقاً حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقاً . ( سقط : قل كونوا حجارة أو حديدا ، أو خلقا ما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك ويقولون متى قل هو عسى أن يكون قريبا )

" صفحة رقم 42 "
سورة الإسراء من آية رقم 52 إلى آية 69
الإسراء : ( 50 ) قل كونوا حجارة . . . . .
الحديد معروف . نغضت سنه : تحركت قال .

" صفحة رقم 43 "
ونغضت من هرم أسنانها . تنغض وتنغض نغضاً ونغوضاً ، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض . قال .
لما رأتني انغضت لي الرأسا
وقال الآخر : أنغض نحوي رأسه وأقنعا
كأنه يطلب شيئاً أطعما
وقال الفراء : أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل . وقال أبو الهيثم : إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له فقد أنغض رأسه . وقال ذو الرمّة : ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية
بسيف ولم ينغض بهن القناطر
حنك الدابة واحتنكها : جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به ، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها . قال : نشكوا إليك سنة قد أجحفت
جهداً إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وحنفت ، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم : أحنك الشاتين أي آكلهما . استفز الرجل : استخفه ، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع ، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده . وقيل لولد البقرة فز لخفته . قال الشاعر : كما استغاث بشيء فز غيطلة
خاف العيون فلم ينظرنه الحشك
الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء . وقال أبو عبيدة : جلب وأجلب . وقال الزجاج : أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل . وقال ابن السكيت : جلب عليه أعان عليه . وقال ابن الأعرابي : أجلب على الرجل إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع . الصوت معروف . الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء ، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار .

" صفحة رقم 44 "
وقال الفرزدق : مستقبلين شمال الشام نضربهم
بحاصب كنديف القطن منثور
والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة . تارة مرة وتجمع على تير وتارات . قال الشاعر : وإنسان عيني يحسر الماء تارة
فيبدوا وتارات يجم فيغرق
القاصف الذي يكسر كل ما يلقى ، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفاً كسره . وقال أبو تمام : إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم وقيل : القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر .
( قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ).
قال الزمخشري : لما قالوا ) أَءذَا كُنَّا عِظَاماً ( قيل لهم ) كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ( فردّ قوله ) كُونُواْ ( على قولهم ) كُنَّا ( كأنه قيل ) كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ( ولا تكونوا عظاماً فإنه يقدر على إحيائكم . والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة ، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره ، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر ، وهو أن تكونوا ) حِجَارَةً ( يابسة ) أَوْ حَدِيداً ( مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة ) أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ ( عندكم عن قبول الحياة ، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه .
وقال ابن عطية : كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم . وقوله ) كُونُواْ ( هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل ، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى : ) فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ ( ونحوه . وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا ) الَّذِى فَطَرَكُمْ ( كذلك هو يعيدكم انتهى . وقال مجاهد : المعنى ) كُونُواْ ( ما شئتم فستعادون . وقال النحاس : هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم ، فلو كنتم ) حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ( لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى .
الإسراء : ( 51 ) أو خلقا مما . . . . .
( أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ ( صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته ، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم

" صفحة رقم 45 "
وجولانها فيما هو أصلب من الحديد ، فبدأ أولاً بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد ، أي افرضوا ذواتكم شيئاً من هذه فإنه لا بد لكم من البعث على أي حال كنتم . وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت ، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم . وهذا التفسير لا يتم إلاّ إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر ، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضاً ولو فرض انقلابه عرضاً لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية . وقال مجاهد : الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكناً . قالوا : من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة ، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و ) الَّذِى ( مبتدأ وخبره محذوف التقدير ) الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( يعيدكم فيطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي معيدكم الذي فطركم و ) أَوَّلَ مَرَّةٍ ( ظرف العامل فيه ) فَطَرَكُمْ ( قاله الحوفي .
( فَسَيُنْغِضُونَ ( أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ، ويقولون : متى هو ؟ أي متى العود ؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود . ولكن حيدة وانتقالاً لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه ، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه ، واحتمل أن يكون في ) عَسَى ( إضمار أي ) عَسَى ( هو أي العود ، واحتمل أن يكون مرفوعها ) أَن يَكُونَ ( فتكون تامة . و ) قَرِيبًا ( يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفاً بالقرب ، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً .
وقال أبو البقاء : ) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ( ظرف ليكون ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى . أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف . وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين ، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو وقبيح ، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح .
الإسراء : ( 52 ) يوم يدعوكم فتستجيبون . . . . .
والظاهر أن الدعاء حقيقة أي ) يَدْعُوكُمْ ( بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال ) يَوْمٍ يُنَادِى وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( الآية ويقال : إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت . وروي في الحديث أنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فأحسنوا أسماءكم ) . ومعنى ) فَتَسْتَجِيبُونَ ( توافقون الداعي فيما دعاكم إليه . وقال الزمخشري : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى . والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و ) بِحَمْدِهِ ( حال منهم . قال الزمخشري : وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر ، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه . وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك انتهى . وذلك لما ظهر لهم من قدرته

" صفحة رقم 46 "
وقيل : معنى ) بِحَمْدِهِ ( أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالاً منهم فكأنه قال : عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم : قد أخطأت بحمد الله فبحمد الله ليس حالاً من فاعل أخطأت ، بل المعنى أخطأت والحمد لله . وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان ) بِحَمْدِهِ ( يكون اعتراضاً إذ معناه والحمد لله . ونظيره قول الشاعر : فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
لبست ولا من غدرة أتقنع أي فأني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها ، كما أن ) بِحَمْدِهِ ( اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله : عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز ، لا تقول عسى أن زيداً قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد ، وعلى أن يكون ) بِحَمْدِهِ ( حالاً من ضمير ) فَتَسْتَجِيبُونَ ). قال المفسرون : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد . وقال قتادة : معناه بمعرفته وطاعته ) وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ). قال ابن عباس : بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت ، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى ) لبثهم ( فيما بين النفختين . وقال الحسن : تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا . وقال الزمخشري : ) بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ ( وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم ، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى . وقيل : استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة . وقيل : تم الكلام عند قوله ) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ).
و ) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ( خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله ) بِحَمْدِهِ ( يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلاّ بهم . وقيل : يحمده المؤمن اختياراً والكافر اضطراراً ، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير ، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلاّ في زمانا قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين ، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم . والظاهر أن ) وَتَظُنُّونَ ( معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي . وقال أبو البقاء : أي وأنتم ) تظنون ( والجملة حال انتهى . وأن هنا نافية ، ( بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ ( معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب ، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية ، ويظهر أن انتصاب قليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً . كقوله ) قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية .
الإسراء : ( 53 ) وقل لعبادي يقولوا . . . . .
( وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزِعُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ

" صفحة رقم 47 "
إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ).
قيل : سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد ، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه ، وإيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونسبته إلى أنه مسحور ، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم بمثل أفعالهم وأقوالهم ، فعلى هذا يكون المعنى ) قُل لّعِبَادِىَ ( المؤمنين ) يَقُولُواْ ( للمشركين الكلم ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ). وقيل : المعنى ) يَقُولُواْ ( أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه ، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل ، فلا يكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري .
وقيل : عبادي هنا المشركون إذ المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام ، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل : قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان وسوسته وتحسينه . وقيل : عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله ) فَبَشّرْ عِبَادِى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ( ) فَادْخُلِى فِى عِبَادِى عَيْناً ( ) يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ).
و ) قُلْ ( خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو أمر ، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( وانجزم ) يَقُولُواْ ( على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش ، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ). وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف ، أي إن يقل لهم ) يَقُولُواْ ( فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي ) يَقُولُواْ ( جوابه . وقال المبرد : انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول ) قُلْ ( أي قولوا ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( ) يَقُولُواْ ). وقيل معمول ) قُلْ ( مذكور لا محذوف وهو ) يَقُولُواْ ( على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجاج . وقيل : ) يَقُولُواْ ( مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني ، والمعنى ) قُل لّعِبَادِىَ ( قولوا قاله المازني ، وهذه الأقوال جرت في قوله ) قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ( وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور

" صفحة رقم 48 "
في علم النحو .
و ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلاّ الله . قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن يكون قوله ) لّعِبَادِىَ ( يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله . ويجيء قوله بعد ذلك ) إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزِعُ بَيْنَهُمْ ( غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال . وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك ، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي . وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله . وقال الجمهور : وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى . وقال الزمخشري : فسر ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( بقوله : ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ ( يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر . وقوله : ) إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ( اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة .
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله ) ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( ) وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله ، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها ، ثم نبه على هذا الطريق بقوله : ) إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ( جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى . وقرأ طلحة ) يَنزَغُ ( بكسر الزاي . قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح . وقال صاحب اللوامح : هي لغة . وقال الزمخشري : هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى . ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله ) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ( الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له .
الإسراء : ( 54 ) ربكم أعلم بكم . . . . .
والخطاب بقوله ) رَبُّكُمْ ( إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم .
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ ( أي على الكفار حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى الله . وقيل : ) يَرْحَمْكُمْ ( بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة ، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر . وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا ) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ( فقال الله ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ( بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن ) إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ( فيكشف القحط عنكم ) أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ ( فيتركه عليكم . وقال ابن عطية : هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ، وذلك أن قوله ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ( مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوّفهم ، ومعنى ) يَرْحَمْكُمْ ( بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى . وتقدم من قول الزمخشري أن قوله ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ( هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ).
وقال ابن الأنباري : ) أَوْ ( دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يراد عنهما ، فكانت ملحقة بأو المبيحة

" صفحة رقم 49 "
في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر . وقال الكرماني : ) أَوْ ( للإضراب ولهذا كرر ) ءانٍ (
الإسراء : ( 55 ) وربك أعلم بمن . . . . .
ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله : ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ( انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض ، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم ، و ) بِمَنِ ( متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلمته تعالى بما تعلق به كقولك : زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم . وقال أبو عليّ : الباء تتعلق بفعل تقديره علم ) بِمَنِ ( قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم ، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو . ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته . وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على سائر الأنبياء وخص ) دَاوُودُ ( بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم . وقال تعالى ) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ ( وهم محمد وأمته ، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم ، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا : لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه ، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به . وتقدم تفسير ) وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها .
وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرف في ) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ ( قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل ، وأن يريد ) وَءاتَيْنَا دَاوُودُ ( بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الزبور ، فسُميِّ ذلك ) زَبُوراً ( لأنه بعض الزبور كما سُمي بعض القرآن قرآناً .
الإسراء : ( 56 ) قل ادعوا الذين . . . . .
( قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا وَإِن ).
قال ابن مسعود : نزلت في عبدة الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم . وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه ، وعنه أيضاً وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى . ويكون ) الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ ( عاماً غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل ، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم . الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه

" صفحة رقم 50 "
وقرأ الجمهور : ) يَدَّعُونَ ( بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب ، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنياً للمفعول ، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله ) قُلِ ادْعُواْ ( أي ادعوهم لكشف الضر .
وفي قوله : ) زَعَمْتُمْ ( ضمير محذوف عائد على ) الَّذِينَ ( وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله ، و
الإسراء : ( 57 ) أولئك الذين يدعون . . . . .
( أُوْلَائِكَ ( مبتدأ و ) الَّذِينَ ( صفته ، والخبر ) يَبْتَغُونَ ). و ) الْوَسِيلَةَ ( القرب إلى الله تعالى ، والظاهر أن ) أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى المعبودين والواو في ) يَدَّعُونَ ( للعابدين ، والعائد على ) الَّذِينَ ( منصوب محذوف أي يدعونهم .
وقال ابن فورك : الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم ، والضمير المرفوع في ) يَدَّعُونَ ( و ) يَبْتَغُونَ ( عائد عليهم ، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله ، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ الله ولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه ، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله .
وقرأ الجمهور : ) إِلَى رَبّهِمُ ( بضمير الجمع الغائب . وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول ، واختلفوا في إعراب ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( وتقديره . فقال الحوفي : ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( ابتداء وخبر ، والمعنى ينظرون ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( فيتوسلون به ويجوز أن يكون ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( بدلاً من الواو في ) يَبْتَغُونَ ( انتهى . ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق ، و ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي ، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى ، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله ) فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ( وفي إضمار الفعل المعلق نظر ، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال : وتكون أي موصولة ، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى . فعلى الوجه يكون ) أَقْرَبُ ( خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل ) أَيُّهُم ( أن يكون معرباً وهو الوجه ، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء . قال الزمخشري : أو ضمن ) يَبْتَغُونَ ( ) الْوَسِيلَةَ ( معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، فيكون قد ضمن ) يَبْتَغُونَ ( معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق ، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى ، كقوله ) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ ).
وقال ابن عطية : و ) أَيُّهُم ( ابتدأ و ) أَقْرَبُ ( خبره ، والتقدير نظرهم وودكهم ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها ، أي يتبارون في طلب القرب . فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر ، وإن جعلت ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( وإن جعلت التقدير نظرهم في ) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ( أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق .
وقال أبو البقاء : ) أَيُّهُم ( مبتدأ و ) أَقْرَبُ ( خبره ، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون ، ويجوز أن يكون ) أَيُّهُم ( بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في ) يَدَّعُونَ ( والتقدير الذي هو أقرب انتهى . ففي الوجه الأولى علق ) يَدَّعُونَ ( وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية ، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة ) وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ( كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم آلهة ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( يحذره كل أحد .
و
الإسراء : ( 58 ) وإن من قرية . . . . .
( إِنَّ مِنْ قَرْيَةٌ ( ) ءانٍ ( نافية و ) مِنْ ( زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس ، والجملة بعد ) إِلا ( خبر المبتدأ . وقيل : المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة . وقال ابن عطية : ومن لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي ) مِنْ ( لبيان ما

" صفحة رقم 51 "
أريد بذلك الذي فيه إبهام ما . كقوله ) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ( وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بياناً له ، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك . وقيل : المراد الخصوص انتهى .
والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها ، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئاً فشيئاً أو تعذب والمعنى هلاك أهلها بالقتل وأنواع العذاب . وقيل : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة . وقال مقاتل : وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها : أما مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق . والرواجف ، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلداً بلداً ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش . ) كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوباً أسطاراً
الإسراء : ( 59 ) وما منعنا أن . . . . .
( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ ( بالآيات عن ابن عباس : أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون ، اقترحوا ذلك على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأوحى الله إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال : ( بل تستأني بهم يا رب ) . فنزلت ، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلاّ لتكذيب الأولين بها ، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش ، فالمعنى إلاّ اتباعهم طريقة تكذيب الأولين بها ، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم .
وقال الزمخشري : فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلاّ أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها ، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى .
وقرأ الجمهور ) ثَمُودُ ( ممنوع الصرف . وقال هارون : أهل الكوفة ينونون ) ثَمُودُ ( في كل وجه . وقال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن ) ثَمُودُ ( في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرأها بغير ألف انتهى . وانتصب ) مُبْصِرَةً ( على الحال وهي قراءة الجمهور . وقرأ زيد بن عليّ ) مُبْصِرَةً ( بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة ، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس ، والتقدير آية مبصرة . وقرأ قوم : بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها . وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله .
والكفر مخبثة لنفس النعم
أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة ، وقالوا : الولد مبخلة مجبنة ) فَظَلَمُواْ بِهَا ( أي بعقرها

" صفحة رقم 52 "
بعد قوله ) فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ ( الآية . وقيل : المعنى أنهم حجدوا كونها من عند الله . وقيل : جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله ، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى ، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة . وقال الحسن : والموت الذريع ، وفي حديث الكسوف : ( فافزعوا إلى الصلاة ) . قال ابن عطية : وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية . وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهماً لما سلف منه انتهى . وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة .
وقال الزمخشري : إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها ) إِلا ( من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى ) الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ ( ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها ) إِلاَّ تَخْوِيفًا ( وإنذاراً بعذاب الآخرة . وقيل : الآيات التي جعلها الله تخويفاً لعباده سماوية كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والرجوم وما يجري مجرى ذلك . وأرضية زلازل ، وخسف ، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد ، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين ، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم .
الإسراء : ( 60 ) وإذ قلنا لك . . . . .
( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْءانِ ).
لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه ، وقالوا : لو كان رسولاً حقاً لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه ) أَحَاطَ بِالنَّاسِ ). فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه . وقيل : بقدرته فقدرته غالبة كل شيء . وقيل : الإحاطة هنا الإهلاك كقوله ) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( والظاهر أن الناس عام . وقيل : أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم ، و ) أَحَاطَ ( بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة ، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم . قيل يوم بدر . وقال العسكري : هذا خبر غيب قدمه قبل وقته ، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثارهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً . وقيل : يوم بدر ويوم الفتح . وقيل : الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم . وقال الطبري : ) أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم ، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحداً من المخلوقين . قال ابن عطية : وهذا تأويل بين جار مع اللفظ . وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلاّ أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده توطئة له .
فأقول : اختلف الناس في ) الرُّءيَا ). فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار : إن هذا لعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت هذه الآية ، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله ) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( أي في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤياً إذ هما مصدران من رأى . وقال النقاش : جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى . وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم : هو قصة الإسراء والمعراج عياناً آمن به الموفقون وكفر به المخذولون ، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام . وعن ابن عباس أيضاً هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في

" صفحة رقم 53 "
سنته الحديبية ورد فافتتن الناس ، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت . وعن سهل بن سعد : هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس . ويجيء قوله ) أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( أي بأقداره وإن كان ما قدّره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك .
وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين . وقالت عائشة : ) الرُّءيَا ( رؤيا منام . قال ابن عطية : وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى . ولبس كما قال ابن عطية : فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك . وقال صاحب التحرير : سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال : ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية ، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدراً أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس ، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ( هنا هي أبو جهل انتهى .
وقال الزمخشري : ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) وهو يرمىء إلى الأرض ويقول : ( هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان ) . فتسامعت قريش بما أُوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أمر بدر وما أُرِي في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء . وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى . والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها . فقال ابن عباس : هي الكشوث المذكورة في قوله ) كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ( وعنه أيضاً : هي ) الشَّجَرَةِ ( التي تلتوي على الشجرة فتفسدها . قال : والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن . وقال الجمهور : هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها . قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلاّ التمر بالزيد ، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : ( تزقموا ) فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء .
قال الزمخشري : وما أنكروا أن يجعل الله ) الشَّجَرَةِ ( من جنس لا تأكله النار ، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار ، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها . والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفاً للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلاّ فتنة لهم حيث اتخذوه سخرياً وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال ) وَنُخَوّفُهُمْ ( أي بمخاوف الدنيا والآخرة ) فَمَا يَزِيدُهُمْ ( التخويف ) إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ( فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى . وقوله بعد الوحي إليك هو قوله ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( وقوله ) قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ ( والظاهر إسناد اللعنة إلى ) الشَّجَرَةِ ( واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة . وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون .
قال الزمخشري : وسألت بعضهم فقال : نعم الطعام الملعون القشب الممحون . وقال ابن عباس : ) الْمَلْعُونَةَ ( يريد آكلها ، ونمقه الزمخشري فقال : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى . وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين ، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها . وقال قوم ) الشَّجَرَةِ ( هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل . وقيل هو الشيطان . وقيل مجاز عن جماعة وهو اليهود الذين تظاهروا على

" صفحة رقم 54 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثه الرسول عليه السلام ، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيراً من الناس بمقالتهم عن الإسلام . وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام ، ولعنها في القرآن ) أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة .
وقرأ الجمهور : ) الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةَ ( عطفاً على ) الرُّءيَا ( فهي مندرجة في الحصر ، أي ) وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ ( ) وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ( في القرآن ) إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ ). وقرأ زيد بن عليّ برفع ) وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ( على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة ، والضمير في ) وَنُخَوّفُهُمْ ( لكفار مكة . وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً ) والأول أصوب . وقرأ الأعمش : ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة .
الإسراء : ( 61 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ).
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين . أحدهما أنه لما نازعوا الرسول علي السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة ، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود . والثاني أنه لما قال ) فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ( بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس ) لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( وانتصب ) طِينًا ( على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي ، فقال : من الهاء في خلقته المحذوفة ، والعامل ) خُلِقَتْ ( والزمخشري فقال ) طِينًا ( أما من الموصول والعامل فيه ) أَءسْجُدُ ( على آسجد له وهو طين أي أصله طين ، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه ) طِينًا ( انتهى . وهذا تفسير معنى . وقال أبو البقاء : والعامل فيه ) خُلِقَتْ ( يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله ) وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( وأجاز الزجّاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله ) أَءسْجُدُ ( استفهام إنكار وتعجب . وبين قوله ) أَءسْجُدُ ( وما قبله كلام محذوف ، وكأن تقديره قال : لم لم تسجد لأدم قال : ) أَءسْجُدُ (
الإسراء : ( 62 ) قال أرأيتك هذا . . . . .
وبين قوله ) أَرَءيْتَكَ ( للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني ، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج .
قال الحوفي : و ) أَرَءيْتَكَ ( بمعنى عرفني وأخبرني ، وهذا منصوب بأرأيتك ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه . وقال الزمخشري : الكاف للخطاب و ) هَاذَا ( مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه ، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال : ) لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ). وقال ابن عطية : والكاف في ) أَرَءيْتَكَ ( حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة ، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد . وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله ) أَرَءيْتَكَ ( زيداً أيؤمن هو . وقاله الزجاج ولم يمثل ، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله انتهى . وما ذهب إليه

" صفحة رقم 55 "
الحوفي والزمخشري في ) أَرَءيْتَكَ ( هنا هو الصحيح ، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله ) هَاذَا الَّذِى اللَّهُ عَلَىَّ ( لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر ، وصار مثل : زيد أيؤمن هو دخلت عليه ) أَرَءيْتَكَ ( فعملت في الأول ، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً ، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر . وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل .
وقال الفراء : هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال : وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك . فإني صانع فيه كذا ، ثم ابتدأ ) هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ ( انتهى . والرد عليه مذكور في علم النحو ، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله : ) أَرَءيْتَكَ ( بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لا نعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول ) أَرَءيْتَكَ ( لذلك مذهباً حسناً ، إذ لا يكون في الكلام إضمار ، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف ، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية ، ومعنى ) لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ( أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً .
وقال ابن عباس : ) لاحْتَنِكَنَّ ( لأستولين عليهم وقاله الفراء . وقال ابن زيد لأضلنهم . وقال الطبري : لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر ، وظهر ذلك في قوله ) قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ ( إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه ، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة ، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم : ) أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه ، وأرى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء ، وقال الحسن : ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عز ما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة ، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال ) لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (
الإسراء : ( 63 ) قال اذهب فمن . . . . .
والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته ، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم ، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال : ) جَزَاؤُكُمْ ( ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله : ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً ، وانتصب ) جَزَاء ( على المصدر والعامل فيه ) جَزَاؤُكُمْ ( أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة . وقيل : تمييز ولا يتعقل
الإسراء : ( 64 ) واستفزز من استطعت . . . . .
( وَاسْتَفْزِزْ ( معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( ومن في ) مَنِ اسْتَطَعْتَ ( موصولة مفعولة باستفزز . وقال أبو البقاء : ) مِمَّنْ اسْتَطَعْتَ ( من استفهام في موضع نصب باستطعت ، وهذا ليس بظاهر لأن ) استفزز ( ومفعول ) فَإِن اسْتَطَعْتَ ( محذوف تقديره ) مَنِ اسْتَطَعْتَ ( أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله . وقال مجاهد : الغناء والمزامير واللهو . وقال الضحاك : صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله . وفيهم بنات حسان ، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا . وقيل : الصوت هنا الوسوسة .
وقرأ الحسن ) وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم ( بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً ، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة ، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، والباء في ) بِخَيْلِكَ ( قيل زائدة . وقيل : من الآدميين

" صفحة رقم 56 "
أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد .
وقال ابن عطية : وقوله ) بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ). وقيل : هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى . وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى . وقرأ الجمهور : ) وَرَجِلِكَ ( بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحد راجل كركب وراكب ، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم . قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال . وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر : رجلاً إلاّ بأصحاب وقال الزمخشري : وقرىء ) وَرَجِلِكَ ( على أن فعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهما انتهى . وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك . وقرىء : ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال . قال الضحاك : ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة . وقيل : ما أصيب من مال وحرام . وقيل : ما جعلوه من أموالهم لغير الله . وقيل : ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد . قال ابن عباس : تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث ، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية . وعنه أيضاً إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة . وما مجسّوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام . وقال مجاهد : عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه . وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش ، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح ، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس .
وقال الزمخشري : ) وَعَدَّهُمْ ( المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً ، وإيثار العاجل على الآجل انتهى . وهو جاء على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة ، وبأنه لا شفاعة في الكبائر ، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن . وانتصب ) غُرُوراً ( وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم ، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي ) وَمَا يَعِدُكُمُ ( ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم ،
الإسراء : ( 65 ) إن عبادي ليس . . . . .
والإضافة إليه تعالى في ) إِنَّ عِبَادِى ( إضافة تشريف ، والمعنى المختصين بكونهم ) عِبَادِى ( لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان .
وقيل : ثم صفة محذوفة أي ) إِنَّ عِبَادِى ( الصالحين ، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله ) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ). وقال الجبائي : ) عِبَادِى ( عام في المكلفين ، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله ) إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة ، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم ، ومعنى ) وَكِيلاً ( حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو ) وَكِيلاً ( يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه .
الإسراء : ( 66 ) ربكم الذي يزجي . . . . .
( رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن

" صفحة رقم 57 "
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ ).
لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع ، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم ، وتمكينه من وسوسة ذريته وستويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته ، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء ، فذكر إحسانه إليهم بحراً وبراً ، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده . وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف ، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو .
الإسراء : ( 67 ) وإذا مسكم الضر . . . . .
والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح ، ومعنى ) ضَلَّ ( ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهاً فيشفع أو ينفع ، أو ) ضَلَّ ( من تعبدونه إلاّ الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره . ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق ، وجاءت صفة ) كَفُورًا ( دلالة على المبالغة ، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفاً بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله .
وقال الزجاج : المراد بالإنسان الكفار ، والظاهر أن ) إِلاَّ إِيَّاهُ ( استثناء منقطع لأنه لم يندرج من قوله ) مَن تَدْعُونَ ( إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله . وقيل : هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم ، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى الله
الإسراء : ( 68 ) أفأمنتم أن يخسف . . . . .
والهمزة في ) أَفَأَمِنتُمْ ( للإنكار . قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى . وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف ، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك ، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير ، وأن التقدير فأمنتم . وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي ) أَفَأَمِنتُمْ ( أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم ، وانتصب ) جَانِبٍ ( على المفعول به بنخسف كقوله ) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( والمعنى أن تغيره بكم فتهلكون بذلك . وقال الزمخشري : أن نقلبه وأنتم عليه .
وقال الحوفي : ) جَانِبَ الْبَرّ ( منصوب على الظرف ، ولما كان الخسف تغييباً في التراب قال : ) جَانِبَ الْبَرّ ( و ) بِكُمْ ( حال أي نخسف ) جَانِبَ الْبَرّ ( مصحوباً بكم . وقيل : الباء للسبب أي بسببكم ، ويكون المعنى ) جَانِبَ الْبَرّ ( الذي أنتم فيه ، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف ) جَانِبَ الْبَرّ ( بسببهم إهلاكهم .
قال قتادة : الحاصب الحجارة . وقال السدّي : رام يرميكم بحجارة من سجيل ، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر ، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم ، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم ، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم ) لاَ تَجِدُواْ ( عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم .
الإسراء : ( 69 ) أم أمنتم أن . . . . .
و ) أَمْ ( في ) أَمْ أَمِنتُمْ ( منقطعة تقدر بيل ، والهمزة أي بل ) أَمِنتُمْ ( والضمير في ) فِيهِ ( عائد على البحر ، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غير الوقت الأول ، والباء في ) بِمَا كَفَرْتُمْ ( سببية وما مصدرية ، أي بسبب كفركم السابق منكم ، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائماً . والضمير في ) بِهِ ( عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم ، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال . وقيل عائد على الإرسال . وقيل : عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق . والتبيع قال ابن عباس : النصير ، وقال الفراء : طالب الثأر . وقال أبو عبيدة : المطالب . وقال الزجّاج : من يتبع بالإنكار ما نزل بكم ، ونظيره قوله تعالى ) فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( وفي الحديث : ( إذا اتّبع أحدكم على

" صفحة رقم 58 "
ملىء فليتبع ) . وقال الشماخ : كما لاذ الغريم من التبيع ويقال : فلان على فلان تبيع ، أي مسيطر بحقه مطالب به . وأنشد ابن عطية :
غدوا وغدت غزلانهم فأنها
ضوامن غرم لدهن تبيع
أي مطالب بحقه . وقرأ ابن كثير وأبو عمر : ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون ، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسنداً إلى الريح والحسن وأبو رجاء ) فَيُغْرِقَكُم ( بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء ، عدّاه بالتضعيف ، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاء الخطاب ، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن . وقرأ الجمهور : ) مّنَ الرّيحِ ( بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعاً .
2 ( ) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاٌّ خِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاٌّ رْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ( ) ) 2
) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِيهِ هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ).
الإسراء : ( 70 ) ولقد كرمنا بني . . . . .
لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق ، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم ، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى ، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة ، كما تقول : ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن . وليس من كرم المال . وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق . وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم . وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له . وقيل : بالخط . وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة . وعن ابن عباس : بأكله بيده وغيره بفمه . وقيل : بتدبير المعاش والمعاد . وقيل : بخلق الله آدم بيده . قال ابن عطية : وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد ، وكرم الديك . قال : وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه

" صفحة رقم 59 "
يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى .
( وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( وهذا أيضاً من تكريمهم . قال ابن عباس : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن . وقال غيره : على أكباد رطبة وأعواد يابسة . ) وَالطَّيّبَاتُ ( كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان ، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماً نيئاً وطعاماً غير مركب ، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته ، فقالت طائفة : فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس . وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج . وقال ابن عطية : والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول . وقالت فرقة : الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى ) وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ( وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي ، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى .
وقال الزمخشري : ) عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا ( هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وحسب بني آدم ) تَفْضِيلاً ( أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم ، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه . وقيل : ) وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ( بالغلبة والاستيلاء . وقيل : بالثواب والجزاء يوم القيامة ، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة . وقيل : المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع ، والعرب تفعل ذلك وهو القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير ، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة ، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه ، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها .
الإسراء : ( 71 ) يوم ندعوا كل . . . . .
ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال : ) يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( واختلفوا في العامل في ) يَوْمٍ ). فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو . وقيل : فتستجيبون . وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف . وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول . وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله ) وَلاَ يُظْلَمُونَ ( ، وحكاه أبو البقاء وقدره ) وَلاَ يُظْلَمُونَ ( يوم ندعو . وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يعمل فيه ) وَفَضَّلْنَاهُمْ ( وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً . وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يكون ) يَوْمٍ ( منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله ) فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ ( إلى قوله ) وَمَن كَانَ ( انتهى . وقوله منصوباً على البناء كل ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين . وأما قوله : والخبر في التقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً ، فقد يمكن أي ممن ) أُوتِىَ كِتَابَهُ ( فيه ) بِيَمِينِهِ ( وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف .
وقال بعض النحاة : العامل فيه ) وَفَضَّلْنَاهُمْ ( على تقدير ) وَفَضَّلْنَاهُمْ ( بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل . وقال الزجاج : هو ظرف لقوله ثم لا تجد . وقال الفراء : هو معمول لقوله نعيدكم

" صفحة رقم 60 "
مضمرة أي نعيدكم ) يَوْمَ نَدْعُواْ ( والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة . وقرأ الجمهور : ) ندعو ( بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله ، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول ) وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ( مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله : أبيت أسرى وتبيتى تدلكي
وجهك بالعنبر والمسك الزكي
أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير . ) وأناس ( اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في ) أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي باسم إمامهم . وقيل : هي باء الحال أي مصحوبين ) بِإِمَامِهِمْ ). والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم . وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم . وقال مجاهد وقتادة : نبيهم . قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به . وقال الزمخشري : إمامهم من ائتموا به نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر . وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين . وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى . وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها ) فَأُوْلَئِكَ ( جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله ) أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالإطّلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر : ) هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( ولم يأت هنا قسيم من ) أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( وهو من يؤتي كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله .
( وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى ( وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من ) أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( هم أهل السعادة ) وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى ( هم أهل الشقاوة ) وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( أي لا ينقصون أدنى شيء
الإسراء : ( 72 ) ومن كان في . . . . .
وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء . والظاهر أن الاشارة بقوله : ) فِى هَاذِهِ ( إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح . وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه . وقال ابن عباس أيضاً : ) وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ ( النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين ) أَعْمَى ). وقيل : ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى ) وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة . وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة . وقيل : أعمى البصر كما قال ) وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا ( وقوله

" صفحة رقم 61 "
) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ). وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .
وقال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا ) أَىَّ مُنقَلَبٍ كَانَ ( في دنياه ) هَاذِهِ ( وقت إدراكه وفهمه ) أَعْمَى ( عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه . وإذا جعلنا قوله ) فِى الاْخِرَةِ ( بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة الآيتين . وقال الزمخشري : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل . ومن ثم قرأ أبو عمر والأول مما لا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله ) أَعْمَالَكُمْ ( وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى . وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و ) أَعْمَى ( ليس كذلك لأن تقديره ) أَعْمَى ( من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف ) وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو ) أَضَلُّ سَبِيلاً ( وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب ، و ) أَعْمَى ( هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا .
( وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لاَ انفِصَامَ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ).
الإسراء : ( 73 ) وإن كادوا ليفتنونك . . . . .
الضمير في ) وَإِن كَادُواْ ( قيل لقريش . وقيل لثقيف ، وذكروا أسباب نزول مختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والزمخشري والتحرير وغير ذلك ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة ، ومعنى ) لَيَفْتِنُونَكَ ( ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه ، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيداً أو الوعيد وعداً ، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و ) ءانٍ ( هذه هي المخففة من الثقيلة ، وليتها الجملة الفعلية وهي ) كَادُواْ ( لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو ، واللام في ) لَيَفْتِنُونَكَ ( هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية ) وَإِذَا ( حرف جواب وجزاء ، ويقدر قسم هنا تكون

" صفحة رقم 62 "
) لآَّتَّخَذُوكَ ( جواباً له ، والتقدير والله ) إِذَا ( أي إن افتتنت وافتريت ) لآَّتَّخَذُوكَ ( ولا اتخذوك فى معنى ليتخذونك كقوله ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ ( أي ليظلنّ لأن ) إِذَا ( تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنى جزاء فيقدر موضعها بأداة الشرط .
الإسراء : ( 74 ) ولولا أن ثبتناك . . . . .
وقال الزمخشري : ) وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ ( أي ولو اتبعت مرادهم ) لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ( ولكنت لهم ولياً ، ولخرجت من ولايتي انتهى . وهو تفسير معنى لا إن ) لآَّتَّخَذُوكَ ( جواب لو محذوفة . قال الزمخشري : ) وَلَوْ لاَ انفِصَامَ ثَبَّتْنَاكَ ( ولولا تثبيتناً لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم ، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت ،
الإسراء : ( 75 ) إذا لأذقناك ضعف . . . . .
وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة ) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ ( أي ) لأَذَقْنَاكَ ( عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين . فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام ؟ قلت : أصله ) لأَذَقْنَاكَ ( عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان ، عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : ) قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ ( يعني مضاعفاً ، فكان أصل الكلام ) لأَذَقْنَاكَ ( عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ، ثم حذف الموصوف واقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل ) ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( كما قيل ) لأَذَقْنَاكَ ( أليم الحياة وأليم الممات ، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا . وما نؤخره لما بعد الموت انتهى .
وجواب ) لَوْ لا ( يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله ، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله . وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف : ) تَرْكَنُ ( بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب ) شَيْئاً ( على المصدر . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه . وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرّجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت .
وقال ابن عباس : كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) معصوماً ، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه انتهى . واللام في ) لأَذَقْنَاكَ ( جواب قسم محذوف قبل ) إِذَا ( أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا ، والقول في ) لأَذَقْنَاكَ ( كالقول في ) لآَّتَّخَذُوكَ ( من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون ، وممن نص على أن اللام في ) لآَّتَّخَذُوكَ ( و ) لأَذَقْنَاكَ ( هي لام القسم الحوفي . وقال الزمخشري : وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيِّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى . ومن ذلك ) عَظِيماً يانِسَاء النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ ( الآية . قال الزمخشري : وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى .
الإسراء : ( 76 ) وإن كادوا ليستفزونك . . . . .
وروي أنه لما نزلت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) . قال حضرمي : الضمير في ) وَإِن كَادُواْ ( ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبياً فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت ، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد ) إِلاَّ قَلِيلاً ). وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع . قال ابن عطية : وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى .
وقالت فرقة : الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة ، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم

" صفحة رقم 63 "
هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا ) إِلاَّ قَلِيلاً ( يوم بدر . وقال الزجاج حاكياً أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا . وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا . ذهب مجاهد إلى أن الضمير في ) يَلْبَثُونَ ( لجميعهم . وقال الحسن : ) لَيَسْتَفِزُّونَكَ ( ليفتنونك عن رأيك . وقال ابن عيسى : ليزعجونك ويستخفونك . وأنشد : يطيع سفيه القوم إذ يستفزه
ويعصى حليماً شيبته الهزاهز
والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه ، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز ، ثم جاء في القرآن ) وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ ( أي أخرجك أهلها . وفي الحديث : ( يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك قال : أو مخرجي هم ) الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه . لكن الإخراج الذي هو علة للأستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث . وقال أبو عبد الله الرازي : ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى .
( وَلاَ يَلْبَثُونَ ( جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت ) لاَّ يَلْبَثُونَ ( ولذلك لم تعمل ) إِذَا ( لأنها توسطت بين قسم مقدر ، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب ، ويحتمل أن تكون ) لاَّ يَلْبَثُونَ ( خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره ، وهم ) إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ يَلْبَثُونَ ( فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت . وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور ، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه القراءتين ؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم . وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لا يلبثوا عطف على جملة قوله ) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ( انتهى . وقرأ عطاء ) لاَّ يَلْبَثُونَ ( بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة . وقرأ يعقوب كذلك إلاّ أنه كسر الباء . وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص ) خِلَافَكَ ( وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد . قال الشاعر : عفت الديار خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وهذا كقوله ) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ ( خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات . وقرأ عطاء بن أبي رباح : بعدك مكان خلفك ، والأحسن أن يجعل تفسيراً لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف ، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك . وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله ، في نحو خلفك أي خلف إخراجك ، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو ، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد .
الإسراء : ( 77 ) سنة من قد . . . . .
وانتصب ) سَنَةٍ ( على

" صفحة رقم 64 "
المصدر المؤكد أي سنّ الله سنة ، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلاّ قليلاً . وقال الفراء : انتصب ) سَنَةٍ ( على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف ، وعلى هذا لا يقف على قوله ) إِلاَّ قَلِيلاً ).
وقال أبو البقاء : ) سَنَةٍ ( منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي اتبع ) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا ( كما قال تعالى : ) فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( انتهى . وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها ) وَلَن تَجِدَ ( لما أجرينا به العادة ) تَحْوِيلاً ( منه إلى غيره إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود .
2 ( ) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاٌّ رْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاٌّ نْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِى الاٌّ رْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى

" صفحة رقم 65 "
بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الاٌّ رْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُواْ الاٌّ رْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاٌّ ذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلاٌّ ذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاٌّ سْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } )
الإسراء : ( 78 ) أقم الصلاة لدلوك . . . . .
الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة ، واستدل الفراء بقول الشاعر : هذا مقام قدمي رباح
غدوة حتى دلكت براح
أي حتى غابت الشمس ، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة :

" صفحة رقم 66 "
مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم ولا بالآفلات الدوالك
وقيل : الدلوك زوال الشمس نصف النهار . قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها . وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب . الغسق سواد الليل وظلمته . قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين . وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله . قال الشاعر : إن هذا الليل قد غسقا
واشتكيت الهم والأرقا
وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل ، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم . قال الشاعر : ظلت تجوديداها وهي لاهية
حتى إذا جنح الاظلام والغسق
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق ؟ قال : الليل بظلمته ، ويقال غسقت العين امتلأت دماً . وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش ، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي . وقال ابن الإعرابي : هجد الرجل صلى من الليل ، وهجد نام بالليل . وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة . وقال ابن برزح هجدته أيقظته ، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد ، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجوداً نام . قال الشاعر : ألازارت وأهل مني هجود
وليت خيالنا منا يعود
وقال آخر :
ألا طرقتنا والرفاق هجود
وقال الآخر :
وبرك هجود قد أثارت مخافتي

" صفحة رقم 67 "
زهقت نفسه تزهق زهوقاً ذهبت ، وزهق الباطل زال واضمحل ، ولم يثبت . قال الشاعر : ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
إقدامه مزالة لم تزهق
ناء ينوء : نهض . الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء ، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي ، والشكل المثل والنضير ، والشِكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل . الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء . الكسف القطع واحدها كسفة ، تقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة . الرُقِّي والرقى الصعود يقال : رقيت في السلم أرقى قال الشاعر : أنت الذي كلفتني رقي الدرج
على الكلال والمشيب والعرج
خبت النار تخبو : سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة . قال الشاعر : أمن زينب ذي النار قبيل الصبح
ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب وقال الآخر
وسطه كاليراع أو سرج المجدل
طوراً يخبو وطوراً ينير
الثبور : الهلاك يقال : ثبر الله العدوّ ثبوراً أهلكه . وقال ابن الزبعري :
إذا جارى الشيطان في سنن الغي
ومن مال مثله مثبور اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض . وقال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه . وقال الطبري : هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً ولفيفاً . المكث : التطاول في المدّة ، يقال : مكث ومكث أطال الإقامة . الذقن مجتمع اللحيين . قال الشاعر :
فخروّا لأذقان الوجوه تنوشهم
سباع من الطير العوادي وتنتف

" صفحة رقم 68 "
خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس .
( أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ).
ومناسبة ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به ، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم ، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات ، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام . واللام في ) لِدُلُوكِ ( قالوا : بمعنى بعد أي بعد دلوك ) الشَّمْسَ ( كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً : فلما تفرّقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا . وقال الواحدي : اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس ، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس . قال ابن عطية : ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة . فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : دلوك الشمس زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات . وروي ابن مسعود أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ) . وروي جابر أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال : ( أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس ) . وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب ) قُمِ الَّيْلَ ( ظلمته فالإشارة إلى العتمة ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى . وعن عليّ أنه الغروب ، وتتعلق اللام وإلى بأقم ، فتكون إلى غاية للإقامة . وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال : أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح ، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، وانتصب ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( عطفاً على ) الصَّلَواةِ ).
وقال الأخفش : انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( أو عليك ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( انتهى . وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها . وقال الزمخشري : سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ ابن أبي علية . والأضم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى . وقيل : إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل ، ويكون الغسق وقتاً مشتركاً بين الغرب والعشاء ، ويكون المذكور ثلاثة أوقات : أول وقت الزوال ، وأول وقت المغرب ، وأول وقت الفجر انتهى ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق ، وبقرآن الفجر ، وإما من الغروب إلى

" صفحة رقم 69 "
الغسق وبقرآن الفجر ، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه .
وقال أبو عبد الله الرازي في قوله ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب ، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل ، ولأن في نسق التلاوة ) وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ( ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلاً . والهاء في ) بِهِ ( كناية عن ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( المذكور قبله ، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر ، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى . وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر ، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر ، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية ، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( في قوله ) أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ ( ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى ) مَشْهُودًا ( تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث : ( إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ) . وهذا قول الجمهور . وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة . وقيل : من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى . ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ( أو والزم .
وقال محمد بن سهل بن عسكر : ) مَشْهُودًا ( يشهده الله وملائكته ، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله ) مَشْهُودًا ( على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب ، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من قوله فيه : ( يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ) . وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح .
ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع . فقال :
الإسراء : ( 79 ) ومن الليل فتهجد . . . . .
( وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ( أي بالقرآن في الصلاة ) نَافِلَةً ( زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك ، كقولهم : تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث ، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث ، وشرح بلازمه وهو التعبد ) وَمِنْ ( للتبعيض . وقال الحوفي : ) مِنْ ( متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن ، قال : ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل . وقال ابن عطية ) وَمِنْ ( للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاً من الليل . وقال الزمخشري : ) وَمِنَ الَّيْلِ ( وعليك بعض الليل ) فَتَهَجَّدْ بِهِ ( والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى . فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب ، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفاً ، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة ، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائل بذلك ، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع ، والظاهر أن الضمير في ) بِهِ ( يعود على القرآن لتقدّمه في الذكر ، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير ) فَتَهَجَّدْ ( بالقرآن في الصلاة . وقال ابن عطية : والضمير في ) بِهِ ( عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى . فتكون الباء ظرفية أي ) فَتَهَجَّدْ ( فيه

" صفحة رقم 70 "
وانتصب ) نَافِلَةً ). قال الحوفي : على المصدر أي نفلناك نافلة قال : ويجوز أن ينتصب ) نَافِلَةً ( بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك .
وقال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلاً و ) نَافِلَةً ( هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى . وهو حال من الضمير في ) بِهِ ( ويكون عائداً على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية . وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو : التهجد بعد نومة . وقال الحسن : ما كان بعد العشاء الآخرة . وقال ابن عباس : ) نَافِلَةً ( زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضاً عليه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد هو وأمته كخطابه في ) أَقِمِ الصَّلَواةَ ). وقال مجاهد السدّي : إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية ، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم ، وإما أن يحط بها خطيئاتهم . وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد الله الرازي . وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك . وقيل : كانت فرضاً ثم رخص في تركها . ومن حديث زيد بن خالد الجهني : رمق صلاته على ه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة . وعن عائشة : أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة .
و ) عَسَى ( مدلولها في المحبوبات الترجي . فقيل : هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من ) أَن يَبْعَثَكَ ). وقيل هي بمعنى كي ، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى ، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله : ) فَتَهَجَّدْ ( ) وَعَسَى ( هنا تامة وفاعلها ) أَن يَبْعَثَكَ ( ، و ) رَبَّكَ ( فاعل بيبعثك و ) مَقَاماً ( الظاهر أنه معموله ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره . وقال ابن عطية : منصوب على الظرف أي في مقام محمود . وقيل : منصوب على الحال أي ذا مقام . وقيل : هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم ) مَقَاماً ( ولا يجوز أن تكون ) عَسَى ( هنا ناقصة ، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون ) رَبَّكَ ( مرفوعاً اسم ) عَسَى ( و ) أَن يَبْعَثَكَ ( الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير . وأما في قبله فلا يجوز لأن ) مَقَاماً ( منصوب بيبعثك و ) رَبَّكَ ( مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معمول . وهو لا يجوز .
وفي تفسير المقام المحمود أقوال .
أحدهما : أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والحديث في الصحيح وهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور : ( وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ) واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة .
الثاني : أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار ، وهذه الشفاعة لا تكون إلاّ بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار ، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء . وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره : ( حتى لا يبقى في النار إلاّ من حبسه القرآن ) أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية ) عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ). وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال : ( المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته ، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود .
الثالث : عن حذيفة : يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيقول : لبيك وسعديك والشر

" صفحة رقم 71 "
ليس إليك ) والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا منجى إلا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت . قال : فهذا قوله ) عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ).
الرابع قال الزمخشري : معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه ، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى . وهذا قول حسن ولذلك نكر ) مَقَاماً مَّحْمُودًا ( فلم يتناول مقاماً مخصوصاً بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ .
الخامس : ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه الله معه على العرش . وذكر الطبري في ذلك حديثاً وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا . قال ابن عطية : يعني من أنكر جوازه على تأويله . وقال أبو عمرو ومجاهد : إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل ) إِلَى بِهَا نَاظِرَةٌ ( قال : تنتظر الثواب ليس من النظر ، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله ) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( وقوله ) ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً ( و ) إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان .
وقال الواحدي : هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه .
الأول : أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد .
الثاني : لو كان جالساً تعالى على العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً .
الثالث : أنه قال ) مَقَاماً ( ولم يقل مقعداً ) مَّحْمُودًا ( ، والمقام موضع القيام لا موضع القعود .
الرابع : أن الحمقى والجهال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه .
الخامس : أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى . وفيه بعض تلخيص .
ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه ) مَقَاماً مَّحْمُودًا ( وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية ،
الإسراء : ( 80 ) وقل رب أدخلني . . . . .
فقال ) وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية ، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول : رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء . وقال ابن عباس والحسن وقتادة : هو إدخال خاص وهو في المدينة ، وإخراج خاص وهو من مكة . فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع ، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به . وقال مجاهد وأبو صالح : ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّياً لما كلفه من غير تفريط . وقال الزمخشري : أدخلني القبر ) مُدْخَلَ صِدْقٍ ( إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات ، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من السخط ، يدل عليه ذكره على ذكر البعث . وقيل : إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح ، وإخراجه منها آمناً من المشركين . وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً . وقيل : الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح . وقيل : الإدخال في الصلاة والإخراج في الجنة والإخراج من مكة . وقيل : الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه . وقيل : ) أَدْخِلْنِى ( في بحار دلائل التوحيد والتنزيه ، ( وَأَخْرِجْنِى ( من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد . وقال أبو سهل : حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون : ) لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة ، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر .
وقرأ الجمهور : ) مُدْخَلَ ( و ) مُخْرَجَ ( بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر ، نحو أكرمته

" صفحة رقم 72 "
مكرماً أي إكراماً . وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما . وقال صاحب اللوامح : وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى ) أَدْخِلْنِى ( ) وَأَخْرِجْنِى ( المتقدمين دون لفظهما ومثلهما ) أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف ، وقال غيره : منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي ) أَدْخِلْنِى ( فأدخل ) مُدْخَلَ صِدْقٍ ( ) وَأَخْرِجْنِى ( فأخرج ) مُخْرَجَ صِدْقٍ ).
والسلطان هنا قال الحسن : التسليط على الكافرين بالسيف ، وعلى المنافقين بإقامة الحدود . وقال قتادة : ملكاً عزيزاً تنصرني به على كل من ناواني . وقال مجاهد : حجة بينة . وقيل : كتاباً يحوي الحدود والأحكام . وقيل : فتح مكة . وقيل : في كل عصر ) سُلْطَاناً ( ينصرك دينك و ) نَصِيراً ( مبالغة في ناصر . وقيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي منصوراً ، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله ) سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته .
الإسراء : ( 81 ) وقل جاء الحق . . . . .
قال قتادة : و ) الْحَقّ ( القرآن و ) الْبَاطِلُ ( الشيطان . وقال ابن جريج : الجهاد و ) الْبَاطِلُ ( الشرك . وقيل : الإيمان والكفر . وقال مقاتل : جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان ، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير . و ) زَهُوقًا ( صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت مّا .
الإسراء : ( 82 ) وننزل من القرآن . . . . .
و ) مِنْ ( في ) مِن ثُلُثَىِ ( لابتداء الغاية . وقيل للتبعيض قاله الحوفي : وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض . وقيل : لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه . وقرأ الجمهور : و ) نُنَزّلُ ( بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص . وقرأ زيد بن عليّ : ) شِفَاء وَرَحْمَةٌ ( بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله ) لِلْمُؤْمِنِينَ ( والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل ، ونظيره قراءة من قرأ ) وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( بنصب مطويات . وقول الشاعر : رهط ابن كوز محقي أدراعهم
فيهم ورهط ربيعة بن حذار
وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش ، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلاً للريب كاشفاً عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه ، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام . وقيل : شفاء بالرقى والعوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب . واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه ، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد . وعن عائشة : كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض . وقال أبو عبد الله المازني : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم ، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبهما أي تحل ، ومنعها الحسن والنخعي . وروي أبو داود من حديث جابر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال وقد سئل عن النشرة : ( هي من عمل الشيطان ) . ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول ، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل .

" صفحة رقم 73 "
وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين ، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها . وقال ابن المسيب : يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان .
وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيماناً .
الإسراء : ( 83 ) وإذا أنعمنا على . . . . .
( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ).
لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسارة للظالم ، وعرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان ، ومع ذلك ) أَعْرَضَ ( عنه وبعد بجانبه اشمئزازاً له وتكبراً عن قرب سماعه وتبديلاً مكان شكر الإنعام كفره . وقرأ الجمهور : ) وَنَأَى ( من النأي وهو البعد ، وقرأ ابن عامر وناء . وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد . وقيل : معناه نهض بجانبه . وقال الشاعر : حتى إذا ما التأمت مفاصله
وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئاً على شماله . ومعنى ) يؤوساً ( قنوطاً من أن ينعم الله عليه . والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحداً بعينه بل المراد به الجنس كقوله ) جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( ) إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( الآية وهو راجع لمعنى الكافر ، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين .
الإسراء : ( 84 ) قل كل يعمل . . . . .
والشاكلة قال ابن عباس : ناحيته . وقال مجاهد : طبيعته . وقال الضحاك : حدّته . وقال قتادة والحسن : نيته . وقال ابن زيد : دينه . وقال مقاتل : خلقه وهذه أقوال متقاربة . وقال الزمخشري : على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه ، والدليل عليه قوله ) فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ( أي أشد مذهباً وطريقة .
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها ) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ( قدم الغفران قبل قبول التوبة . وعن عثمان رضي الله عنه لم أر آية أرجى من ) نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). وعن عليّ كرّم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من ) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ( الآية . قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن . وعن القرطبي : لم أر آية أرجى من ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الآية .
وقال أبو عبد الله الرازي :
الإسراء : ( 85 ) ويسألونك عن الروح . . . . .
الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور ، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى . وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال : إني مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب ، فمر بنا ناس من اليهود فقال : سلوه عن الروح فقال بعضهم : لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في الروح ؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي

" صفحة رقم 74 "
على جبهته ، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( الآية . وروي أن يهود قالوا لقريش : سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان ، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب ، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي . وفي بعض طرق هذا : إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية ) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ( ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب ) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( ونزل في الروح ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية ، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر . وقال قتادة : هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه . وقيل : عيسى ابن مريم عليه السلام وعن عليّ أنه ملك ، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن عليّ .
وقيل : الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده . وقيل : خلق عظيم روحاني أعظم من الملك . وقيل : الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي . وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل ، ولا ينزل ملك من السماء إلاّ ومعه واحد منهم ، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول ، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له ، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلاّ الله . وقد رأيت كتاباً يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله ) قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( إنما هو للعوام ، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح ، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة ، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولاً ، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها ، ومعنى ) مِنْ أَمْرِ رَبّى ( أي فعل ربي كونها بأمره ، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى ) وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( أي فعله ، ويحتمل أن يكون أمراً واحداً الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها . وقيل : من وحي ربي ، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن . وقيل : من علم ربي والظاهر أن الخطاب في ) وَمَا أُوتِيتُم ( هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود . وقيل اليهود بجملتهم . وقيل الناس كلهم .
قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله ) قُلِ الرُّوحُ ( إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى . وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش : وما أوتوا بضمير الغيبة عائداً على السائلين ،
الإسراء : ( 86 ) ولئن شئنا لنذهبن . . . . .
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) شفاء ورحمة وقدرته على ذلك ، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه . وقال أبو سهل : هذا تهديد لغير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة . وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب ، ثم قرأ عبد الله ) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ). وقال صاحب التحرير : ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما أبطأ عليه الوحي لما سُئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية ، فأنزل الله تعالى تهذيباً له هذه الآية . ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما ) أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( جميعه فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى . والباء في ) لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى ( للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله ) لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ( في أوائل سورة البقرة . والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا

" صفحة رقم 75 "
إليك . وقيل كفيلاً بإعادته إلى الصدور . وقيل كفيلاً يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك . وقال الزمخشري : والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً
الإسراء : ( 87 ) إلا رحمة من . . . . .
( إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ ( إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى . وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية .
قال ابن الأنباري : لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن ، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك . وقال ابن عطية : لكن ) رَحْمَةً مّن رَّبّكَ ( تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلاً جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى ) وَكِيلاً ).
الإسراء : ( 88 ) قل لئن اجتمعت . . . . .
( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ).
لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن ، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر ، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله ، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع له قدراً به في الدنيا والآخرة ، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن ) أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ ( جميعه ، ولو تعاون الثقلان عليه ) لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ ( الجنّ تفعل أفعالاً مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز ، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله ) وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ( وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس ، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك .
وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت ) وَلاَ يَأْتُونَ ( جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في ) لَئِنْ ( وهي الداخلة على الشرط كقوله ) لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ( فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط ، ولذلك جاء مرفوعاً . فأما قول الأعشى : لئن منيت بنا عن غب معركة
لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل فاللام في ) لَئِنْ ( زائدة وليست موطئة لقسم قبلها . فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط ، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة . وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته . قال : وفهمت

" صفحة رقم 76 "
العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأعماله ومشاهده علم ضرورة ، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق :
علام تلفتين وأنت تحتي
وفي قول جرير :
تلفت إنها تحت ابن قين
وألا ترى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله ) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ( فقال : إن الزيارة تقتضي الإنصراف ، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
ومنه قول الأعرابي للأصمعي .
من أحوج الكريم أن يقسم
فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم . وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى . ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا .
وقال الزمخشري : ) وَلاَ يَأْتُونَ ( جواب قسم محذوف ، ولو لا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط . كقوله .
يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن الشرط وقع ماضياً انتهى . يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت
وإن أتاه خليل يوم مسألة

" صفحة رقم 77 "
فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال ، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول : وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه ، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد ، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف ، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء ، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو .
وقال الزمخشري : والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال : الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه ، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا : هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى . وتكرر لفظ مثل في قوله : ) لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ( على سبيل التأكيد والتوضيح ، وأن المراد منهم ) أَن يَأْتُواْ ( بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه ، فبين بتكرار ) بِمِثْلِهِ ( ولم يكن التركيب ) لاَ يَأْتُونَ ( به رفعاً لهذا الاحتمال ، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن .
الإسراء : ( 89 ) ولقد صرفنا للناس . . . . .
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى ، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه . وقرأ الجمهور : ) صَرَفْنَا ( بتشديد الراء والحسن بتخفيفها ، والظاهر أن مفعول ) صَرَفْنَا ( محذوف تقديره البينات والعبر و ) مِنْ ( لابتداء الغاية . وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد ) صَرَفْنَا ( ) كُلّ مَثَلٍ ( انتهى . يعني فيكون مفعول ) صَرَفْنَا ( ) كُلّ مَثَلٍ ( وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين ، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق ، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى .
وقال الزمخشري : ) مِن كُلّ مَثَلٍ ( من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه . وقال أبو عبد الله الرازي : ) مِن كُلّ مَثَلٍ ( إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا ، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( ومع ظهور عجزهم أبو ) إِلاَّ كُفُورًا ( انتهى ملخصاً . وقيل : ) مِن كُلّ مَثَلٍ ( من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس . قيل : من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب . وقيل : أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ( وتقدم القول في دخول ) إِلا ( بعد ) أَبَى ( في سورة براءة . وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى ، فقال : ( لست أطلب ذلك ) . فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا ،
الإسراء : ( 90 ) وقالوا لن نؤمن . . . . .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن ) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ ( فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه ، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج ، فقالوا ما حكاه الله عنهم .
وقرأ الكوفيون : ) تفجره ( من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً ، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية ، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم ، روي عنهم أنهم قالوا له : أزل جبال مكة وفجر لنا ) الاْرْضِ يَنْبُوعًا

" صفحة رقم 78 "
حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك
الإسراء : ( 91 ) أو تكون لك . . . . .
اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن ) تَكُونُ ( له ) جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ ( وهما كنا الغالب على بلادهم ، ومن أعظم ما يقتنون ، ومعنى ) خِلاَلَهَا ( أي وسط تلك الجنة وأثناءها . فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب ) خِلاَلَهَا ( على الظرف .
الإسراء : ( 92 ) أو تسقط السماء . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تُسْقِطَ ( بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً ، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ) كِسَفًا ( بسكون السين وباقي السبعة بفتحها . وقولهم ) كَمَا زَعَمْتَ ( إشارة إلى قوله تعالى ) إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء ). وقيل : ) كَمَا زَعَمْتَ ( إن ربك إن شاء فعل . وقيل : هو ما في هذه السورة من قوله ) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ نُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ). قال بو عليّ ) قَبِيلاً ( معاينة كقوله ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ). وقال غيره : ) قَبِيلاً ( كفيلاً بما تقول شاهداً لصحته ، والمعنى أو تأتي بالله ) قَبِيلاً ( والملائكة ) قَبِيلاً ( كقوله : كنت منه ووالدي بريا
وإني وقيار بها لغريب
أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( أو جماعة حالاً من الملائكة . وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة .
الإسراء : ( 93 ) أو يكون لك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مّن زُخْرُفٍ ( وعبد الله من ذهب ، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير . وقال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب . وقال الزجّاج : الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف . ) وَفِى السَّمَاء ( على حذف مضاف ، أي في معارج السماء . والظاهر أن ) السَّمَاء ( هنا هي المظلة . وقيل : المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء . وقال الشاعر : وقد يسمى سماء كل مرتفع
وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
قيل : وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال : ابن نؤمن حتى تضع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات ، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون ) أَوْ ( فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها ، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي ) فِى السَّمَاء ( حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم ) كِتَاباً ( يقرؤونه ، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي ) بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً ( أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال ) سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات .
وقال الزمخشري : وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج ، ولو جاءتهم كل أية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا ) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ( وحين أذكروا . الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات ، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق

" صفحة رقم 79 "
القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر . وقرأ ابن كثير وابن عامر قال ) سُبْحَانَ رَبّى ( على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه ، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل ) هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا ( مثلهم ) رَسُولاً ( ، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله .
الإسراء : ( 94 - 95 ) وما منع الناس . . . . .
( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ ).
الظاهر أن قوله : ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ( إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان ، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً ، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم : لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد ، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ( هو من قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان ) مَا مَنَعَكَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ ( هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى .
و ) أَن يُؤْمِنُواْ ( في موضع نصب و ) أَن قَالُواْ ( : في موضع رفع ، و ) إِذْ ( ظرف العامل فيه منع الناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و ) الْهُدَى ( هو القرآن ومن جاء به ، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقاد والهمزة في ) أَبَعَثَ ( للإنكار و ) رَسُولاً ( ظاهره أن نعت ، ويجوز أن يكون ) رَسُولاً ( مفعول بعث ، و ) بَشَرًا ( حال متقدمة عليه أي ) أَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( في حال كونه ) بَشَرًا ( ، وكذلك يجوز في قوله ) مَلَكًا رَّسُولاً ( أي ) لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء ( ) رَسُولاً ( في حال كونه ) مَلَكًا ). وقوله ) يَمْشُونَ ( يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه ، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل ، ( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم ( من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم .
الإسراء : ( 96 ) قل كفى بالله . . . . .
ولما دعاهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه ، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم ، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد ، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله ) إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا ( بخفيات أسرارهم ) بَصِيراً ( مطلقاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم .
الإسراء : ( 97 ) ومن يهد الله . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ ( إخبار من الله تعالى وليس مندرجاً تحت ) قُلْ ( لقوله ) وَنَحْشُرُهُمْ ( ويحتمل أن يكون مندرجاً لمجيء ) وَمِنْ ( بالواو ، ويكون ) وَنَحْشُرُهُمْ ( إخباراً من الله تعالى . وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذ خرج من الغيبة للتكلم ، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله ، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل ، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة .
وقال الزمخشري : ) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ ( ومن يوفقه ويلطف به ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه

" صفحة رقم 80 "
) وَمَن يُضْلِلِ ( ومن يخذل ) فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء ( أنصاراً انتهى . وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل ، وحمل على اللفظ في قوله ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهو واحدة فناسرب التوحيد التوحيد ، وحمل على المعنى في قوله ) فَلَنْ نَجِدْ لَهُمْ أَوْلِيَاء ( لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع ، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن ، والظاهر أن قوله ) عَلَى وُجُوهِهِمْ ( حقيقة كما قال تعالى ) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( الذي يحشرون على وجوههم إلى جهنم . وفي هذا حديث قيل : يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : ( أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه ) . قال قتادة : بلى وعزة ربنا . وقيل : ) عَلَى وُجُوهِهِمْ ( مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه ، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه . وقيل : هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا .
والظاهر أن قوله ) عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ( هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم . وقيل : هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة . وقال الزمخشري : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى . وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى ) عُمْيًا ( عما يسرهم ، ( بكماً ( عن التكلم بحجة ) عَلَيْهَا صُمّاً ( عما ينفعهم . وقيل : ) عُمْيًا ( عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه ، ( بكماً ( عن مخاطبة الله ، ( عَلَيْهَا صُمّاً ( عما مدح الله به أولياءه ، وانتصب ) عُمْيًا ( وما بعد على الحال والعامل فيها ) نَحْشُرُهُمْ ). وقيل : يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله ) قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر .
( كُلَّمَا خَبَتْ ( قال ابن عباس : كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور ، فعلى هذا يكون ) خَبَتْ ( مجازاً عن سكون لهم مقدار ما تكون إعادتهم
الإسراء : ( 98 ) ذلك جزاؤهم بأنهم . . . . .
كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها ، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد ، وقد دل على ذلك بقوله ) ذَلِكَ جَزَاؤُهُم ( والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها ، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه ، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته .
وتقدم الكلام على قوله ) وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ( في هذه السورة فأغنى عن إعادته ،
الإسراء : ( 99 ) أولم يروا أن . . . . .
ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ ( وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة ، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما خلق وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه ، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم ، ومعنى ) مّثْلُهُمْ ( من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقاً منهن كما قال ) أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ( وإذا كان قادراً على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال ) وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( وهو أهون عليه . وعطف قوله ) وَجَعَلَ لَهُمْ ( على قوله

" صفحة رقم 81 "
) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ ( لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت ) وَجَعَلَ لَهُمْ ( أي للعالمين ذلك ) أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( وهو الموت أو القيامة ، وليس هذا الجعل واحداً في الاستفهام المتضمن التقرير ، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال : ) فَأَبَى الظَّالِمُونَ ( وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء ) إِلاَّ كُفُورًا ( حجوداً لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة ، وبعثهم يوم القيامة للجزاء .
الإسراء : ( 100 ) قل لو أنتم . . . . .
( قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْراءيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى مُوسَى مَّسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الاْرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْراءيلَ اسْكُنُواْ الاْرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ).
مناسبة قوله ) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ ( الآية أن المشركين قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً . فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم ، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في إرتباط هذه الآية . وقاله العسكري : والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن ، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله ، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه ، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى ، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله ، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال : لو ملكوا التصرف في ) خَزَائِنُ رَحْمَةِ ( الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة ، هذا مع ما أوتوه من الخزائن ، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ، والمستقرأ في ) لَوْ ( التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً . كقوله ) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( أو منفياً بلم أو ان وهنا في قوله ) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ ( وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه ، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده ، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله : .
وإن هو لم يحمل على النفس ضميها . التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو ، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار ) أَنتُمْ ( ، وهذا التخريج بناء على أن ) لَوْ ( يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام ، وهذا ليس بمذهب البصريين .
قال الاستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهرا و لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل : ما جاء في المثل من قولهم :
لو ذات سوار لطمتني
وقال شيخنا الاستاذ أبو الحسن بن الصائغ :

" صفحة رقم 82 "
البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ، ويجيزونه شاذاً كقولهم .
لو ذات سوار لطمتني وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى ) وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ( فهو من باب الاشتغال انتهى . وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان ، والتقدير ) قُل لَّوْ ( كنتم ) أَنتُمْ ( تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي ) أَنتُمْ ( توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل ، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها ، والتقدير ) قُل لَّوْ ( كنتم ) تَمْلِكُونَ ( فلما حذف الفعل انفصل المرفوع ، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد ) لَوْ ( معهود في لسان العرب ، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه .
والكلام على ) إِذًا لأمْسَكْتُمْ ( تقدم نظيره في قوله ) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ( و ) خَشْيَةَ ( مفعول من أجله ، والظاهر أن ) الإِنفَاقِ ( على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف ، أي ) خَشْيَةَ ( عاقبة ) الإِنفَاقِ ( وهو النفاد . وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، فيكون المعنى خشية الافتقار . والقتور الممسك البخيل ) والإنسان ( هنا للجنس .
الإسراء : ( 101 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم ) فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً ( إذ قالت قريش ) أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ ( وقالت ) أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه . و ) تِسْعِ ءايَاتٍ ( قال ابن عباس وجماعة من الصحابة : هي اليد البيضاء ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم هذه سبع باتفاق ، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقدة فحلها الله ، والبحر الذي فلق له . وعنه أيضاً البحر والجبل الذي نتق عليهم . وعنه أيضاً السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة . وقال الحسن : السنون ونقص الثمرات آية واحدة ، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم . وعن ابن جبير الحجر والبحر . وعن محمد بن كعب : البحر والسنون . وقيل : ) تِسْعِ ءايَاتٍ ( هي من الكتاب ، وذلك أن يهودياً قال لصاحبه : تعالى حتى نسأل هذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين ، فأتياه وسألاه عن ) تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( فقال : لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسخروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت ، قال : فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبيّ فقال : ما منعكما أن تسلماً ؟ قالا : إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
الإسراء : ( 102 ) قال لقد علمت . . . . .
وقرأ الجمهور : فسل ) بَنِى إِسْراءيلَ ( وبنو إسرائيل معاصروه ، وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل ، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة . ثم قال : ) إِذْ جَاءهُمُ ( يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم . وقال الزمخشري : سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم ، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك . ويدل عليه قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فسأل ) بَنِى إِسْراءيلَ ( على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش . وقيل : فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقيناً وطمأنينة قلب ، لأن الدلالة إذا

" صفحة رقم 83 "
تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام ) وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( انتهى . وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة . ولما كان متعلق السؤال محذوفاً احتمل هذه التقديرات ، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة . وقال ابن عطية ما معناه : يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم . نحو قوله ) وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ( جعل النظر والتطلب معبراً عنه بالسؤال ، ولذلك قال الحسن : سؤالك إياهم نظرك في القرآن ، والظاهر أن ) إِذْ ( معمولة لآتينا أي ) ءاتَيْنَا ( حين جاء أتاهم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم نعلق ) إِذْ جَاءهُمُ ( ؟ قلت : أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم ، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أويخبرونك انتهى . ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض . وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس . قال ابن عباس : كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى . وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل ) بَنِى إِسْراءيلَ ( أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل . وقال أبو عبد الله الرازي : فسل ) بَنِى إِسْراءيلَ ( اعتراض في الكلام والتقدير ، ( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( إذ جاء ) بَنِى إِسْراءيلَ ( فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام ، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى . وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون ) بَنِى إِسْراءيلَ ( يكون المفعول الأول السأل محذوفاً ، والثاني هو ) بَنِى إِسْراءيلَ ( وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل ، الثاني على ما هو أرجح .
والظاهر أن قوله ) مَّسْحُورًا ( اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض . وقال الفراء والطبري : مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً ، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر ، وقالوا : مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن . وقرأ الجمهور : ) لَقَدْ عَلِمْتَ ( بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر ، ولا أني خدعت في عقلي ، بل علمت أنه ما أنزلها إلاّ الله ، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ ) رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له : وما رب العالمين قال : ) رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة ، فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابه معاند كقوله ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه . وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي ) عَلِمَتِ ( بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون ، بل هو يعلم أن ) مَا أَنزَلَ هَؤُلاء ( الآيات إلاّ الله .
وروي عن عليّ أنه قال : ما علم عدوّ الله قط وإنما علم موسى ، وهذا القول عن عليّ لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول ، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون .
و ) أَنزَلَ اللَّهُ ( جملة في موضع نصب علق عنها ) عَلِمَتِ ). ومعنى ) بَصَائِرَ ( دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع . وانتصب ) بَصَائِرَ ( على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء ، وقالا : حال من ) هَؤُلاء ( وهذا لا يصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة . ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة ، وكذلك يقدرون هنا أنزلها ) بَصَائِرَ ( وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له .
وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال : ) وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (

" صفحة رقم 84 "
وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل ، وظن موسى ظن صدق ، ولذلك آل أمر فوعون إلى الهلاك كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال ) إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ( فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال له الله : لا تخف وثق بحماية الله ، فصال على فرعون صولة المحمي . وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك . ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد ، وملعون في قول ابن عباس ، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران ، ومسحور في قول الضحاك قال : رد عليه مثل ما قال له فرعون ما ختلاف اللفظ ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم : ما ثبرك عن هذا ؟ أي ما منعك وصرفك . وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبوراً وهي أن الخفيفة ، واللام الفارقة
الإسراء : ( 103 ) فأراد أن يستفزهم . . . . .
واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء ، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه . ومن قومه
الإسراء : ( 104 ) وقلنا من بعده . . . . .
والضمير في ) مِن بَعْدِهِ ( عائد على فرعون أي من بعد إغراقه ، و ) الاْرْضِ ( المأمور بسكناها أرض الشام ، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة .
( وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ ).
الإسراء : ( 105 ) وبالحق أنزلناه وبالحق . . . . .
وبالحق أنزلناه ( هو مردود على قوله ) ( هو مردود على قوله ) لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ ( الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ) أَنزَلْنَاهُ ( عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلاً كما قال ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( أو عائد على الآيات التسع ، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله . وقال أبو سليمان الدمشقي ) وَبِالْحَقّ ( أي بالتوحيد ، ( أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي . وقال الزهراوي : بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس ، ( وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره . وقال الزمخشري : وما أنزلنا القرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وما أنزلناه من السماء إلاّ بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين انتهى . وقد يكون ) وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( توكيداً من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل ، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله وجاء ، ( وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( مزيلاً لهذا الاحتمال ومؤكداً حقيقة ، ( وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ ( وإلى معنى التأكيد نحا الطبري . وانتصب ) مُبَشّرًا وَنَذِيرًا ( على الحال أي ) مُبَشّرًا ( لهم بالجنة ومنذراً من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين .
الإسراء : ( 106 ) وقرآنا فرقناه لتقرأه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَرَقْنَاهُ ( بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس ، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل . وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كقوله ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ). وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي ) أَنزَلْنَاهُ ( نجماً بعد نجم . وفصلناه في النجوم . وقال بعض من اختار ذلك : لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين . قال ابن عباس : كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس . وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة . وقيل : في خمس وعشرين ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام ، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة . قال ابن عطية : وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن .
وقيل معنى : ) فَرَقْنَاهُ ( بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي ، وحكم وأحكام ، ومواعظ وأمثال ، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي . وانتصب ) قُرْءاناً ( على إضمار فعل يفسره ) فَرَقْنَاهُ ( أي وفرقنا ) قُرْءاناً فَرَقْنَاهُ ( فهو من باب الاشتغال وحسن النصب ، ورجحه على الرفع كونه عطفاً على جملة فعلية وهي قوله ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ). ولا بد من تقدير صفة لقوله ) وَقُرْءانًا ( حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها ، والتقدير ) وَقُرْءانًا ( أي قرآن أي عظيماً جليلاً ، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل بفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي

" صفحة رقم 85 "
والزمخشري . وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه . وقال الفراء : هو منصوب بإرسلناك أي ) مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا ( كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفاً منه قول ابن عطية ، ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في ) أَرْسَلْنَاكَ ( من حيث كان إيال هذا وإنزال هذا المعنى واحد .
وقرأ أبيّ وعبد الله ) فَرَقْنَاهُ ( عليك بزيادة عليك و ) لِتَقْرَأَهُ ( متعلق بفرقناه ، والظاهر تعلق على مكث بقوله ) لِتَقْرَأَهُ ( ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به صرفاً جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً .
قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج : ) عَلَى مُكْثٍ ( على ترسل في التلاوة . وقيل : ) عَلَى مُكْثٍ ( أي تطاول في المدة شيئاً بعد شيء . وقال الحوفي : ) عَلَى مُكْثٍ ( بدل من ) عَلَى النَّاسِ ( وهذا لا يصح لأن قوله ) عَلَى مُكْثٍ ( هو من صفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو القارىء ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلاً منهم . وقيل يتعلق ) عَلَى مُكْثٍ ( بقوله ) فَرَقْنَاهُ ( ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها . وقال ابن عطية : وأجمع القراء على ضم الميم من ) مُكْثٍ ). وقال الحوفي : والمكث بالضم والفتح لغتان ، وقد قرىء بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم .
( وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ( على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال .
الإسراء : ( 107 ) قل آمنوا به . . . . .
( قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ( يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والإزدراء بهم وعدم الأكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه ، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيراً منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم ، فإذا تُلي عليهم خروا ) سُجَّدًا ( وسبحواً الله تعظيماً لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في قوله ) إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً ).
و ) إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ( يجوز أن يكون تعليلاً لقوله ) بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ ( أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم ، وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل ) قُلْ ( عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري ، وفيه بعض تلخيص . وقال غيره : ) قُلْ ءامِنُواْ ( الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أآمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم انتهى . والظاهر أن الضمير في ) قُلْ ءامِنُواْ بِهِ ( عائد على القرآن ، و ) الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( هم مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : ورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جري مجراهما ، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعاً على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام . وقيل : هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم ، فتذكروا أمر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما أنزل عليه . وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا : هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة ، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم .
وقيل : المراد بالذين ) أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والظاهر أن الضمير في ) بِهِ ( وفي ) مِن قَبْلِهِ ( عائد على الرسول عليه الصلاة والسلام .
واستأنف ذكر القرآن في قوله ) إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( والظاهر في قوله ) إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( أن الضمير في ) يُتْلَى ( عائد على القرآن . وقيل : هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليه الصلاة والسلام ، والخرور هو السقوط بسرعة ، ومنه ) فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ( وانتصب ) سُجَّدًا ( على الحال ، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع ، وأول ما يلقى الأرض حالة السجود الذقن ، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه . وقال الشاعر :

" صفحة رقم 86 "
فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم
سباع من الطير العوادي وتنتف
وقيل : أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك . وقال ابن عباس : المعنى للوجوه .
وقال الزمخشري : فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه ؟ قال :
فخر صريعاً لليدين وللفم
قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور ، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى . وقيل : اللام بمعنى على
الإسراء : ( 108 ) ويقولون سبحان ربنا . . . . .
و ) سُبْحَانَ رَبّنَا ( نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلاً وأنه لا يعيدهم للجزاء ، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه ،
الإسراء : ( 109 ) ويخرون للأذقان يبكون . . . . .
ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء ، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد ، وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائماً في فكرة وتذكر ، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد ، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم .
( وَيَزِيدُهُمْ ( أي ما تُلي عليهم ) خُشُوعًا ( أي تواضعاً . وقال عبد الأعلى التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال : ) إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( الآية . وقال ابن عطية : ويتوجه في هذه الآية معنى آخر ، وهو أن يكون قوله ) قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ( مخلصاً للوعيد دون التحقير ، المعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتُلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى . وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا .
الإسراء : ( 110 ) قل ادعوا الله . . . . .
( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل وكبره تكبيراً .
قال ابن عباس : تهجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده : ( يا رحمان يا رحيم ) . فقال المشركون : كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير . ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول . وقال عن ابن عباس : سمعه المشركون يدعو يا ألله يا رحمن ، فقالوا : كان يدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت . وقال ميمون بن مهران : كان عليه السلام يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن ؟ فنزلت . وقال الضحاك : قال أهل الكتاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته ، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله ) قل ادعوا الله ( الآية . والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن فهو من الدعاء بمعنى النداء ، والمعنى إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته . قال الزمخشري : والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه ، فتقول : دعوت زيداً انتهى . ودعوت هذه من الأفعال التي

" صفحة رقم 87 "
تتعدّي إلى اثنين ثانيهما بحرف جر ، تقول : دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء . وقال الشاعر في دعا هذه : دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
أخاها ولم أرضع لها بلبان وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر ، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله ) ادْعُواْ ( لفظ الجلالة ، ولفظ ) الرَّحْمَنُ ( وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير ) ادْعُواْ ( معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري : المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير ، فمعنى ) ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى . وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية . والتنوين قيل عوض من المضاف و ) مَا ( زائدة مؤكدة . وقيل : ) مَا ( شرط ودخل شرط على شرط . وقرأ طلحة بن مصروف . ) أَيّا ( من ) تَدْعُواْ ( فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعي زيادتها في قوله :
واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
وذلك لاختلاف اللفظ . والضمير في ) فَلَهُ ( عائد على مسمى الأسمين وهو واحد ، أي فلمسماهما ) الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( ، وتقدم الكلام على قوله ) الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( في الأعراف .
وقوله : ) فَلَهُ ( هو جواب الشرط . قيل : ومن وقف على ) أَيّا ( جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز ، ثم استأنف فقال ما تدعوه ) فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم ، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصح هنا ، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة . وعن ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة ، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين ، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين .
( وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ ( أي بين الجهر والمخافتة ) سَبِيلاً ( وسطاً وتقدم الكلام على ) بَيْنَ ذالِكَ ( في قوله ) عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ). وقال ابن عباس أيضاً والحسن : لا تحسن علانيتها وتسيء سرّبتها . وعن عائشة : الصلاة يراد بها هنا التشهد . وقال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها . فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي . وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً . وقيل لعمر : اخفض أنت قليلاً . وعن ابن عباس أيضاً : المعنى ) وَلاَ تَجْهَرْ ( بصلاة النهار ) وَلاَ تُخَافِتْ ( بصلاة الليل . وقال ابن زيد : معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت الناس خلفه انتهى . كما يفعل أهل زمانناً من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النعم المتخذة للغناء .
الإسراء : ( 111 ) وقل الحمد لله . . . . .
ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء ، ووصف نفسه بأنه ) لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ( فيعتقد فيه تكثر بالنوع ،

" صفحة رقم 88 "
وكان ذلك ردّاً على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله ، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله . ونفي أولاً الولد خصوصاً ثم نفي الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره ، ولما نفي الولد ونفي الشريك نفي الولي وهو الناصر ، وهو أعم من أن يكون ولداً أو شريكاً أو غير شريك . ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذلَّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن وإلى من صالحي عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة ، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفي الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفياً على الإطلاق . وجاء الوصف الأول بقوله ) الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ( والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعد أحداً ولداً ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بدائه العقول ، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد ما يتخذ صاحبة ولا ولداً .
وقال مجاهد : في قوله ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلّ ( المعنى لم يخالف أحداً ولا ابتغى تصر أحد . وقال الزمخشري : ) وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلّ ( ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحداً من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى . وقيل : ولم يكن له ) وَلِيُّ ( من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون ) مَّنَ الذُّلّ ( صفة لولي انتهى . أي ) وَلِىٌّ مَّنَ ( أهل ) الذُّلّ ( ، فعلى هذا وما تقدّم يكون ) مِنْ ( في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد ؟ قلت : لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد ، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه ، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان .
( وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا ( التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه ، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية ) وَقُلِ الْحَمْدُ اللَّهِ ( إلى آخرها والله أعلم .

" صفحة رقم 89 "
18
( سورة الكهف )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لأبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاٌّ رْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَىءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَاؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِل

" صفحة رقم 90 "
ْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّىأَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاًّقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا } )
( سقط : إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ، أولئك لهم جنات عدن تجري من

" صفحة رقم 91 "
تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا )
الكهف : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . .
بخع يبخع بخعاً وبخوعاً أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد قاله الأخفش والفراء . وفي حديث عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك . وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة . وقال الليث : بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده . وأنشد قول الفرزدق : ألا أيهذا الباخغ الوجد نفسه
لشيء نحته عن يديه المقادير
أي نحّته بشد الحاء فخفف . قال أبو عبيدة : كان ذو الرمّة ينشد الوجد بالرفع . وقال الأصمعي : إنما هو الوجد بالفتح انتهى . فيكون نصبه على أنه مفعول من أجله . جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه : ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها وأرضون أجراز ، ويقال : سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها ، وجرز الأرض الجراد أكل ما فيها ، وامرأة جروز أي أكول . قال الشاعر : إن العجوز خبة جروزا
تأكل كل ليلة قفيزاً
الكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يك واسعاً فهو غار . وقال ابن الأنباري . حكي اللغويون أنه بمنزلة الغار في الجبل . الرقيم : فعيل من رقم إما بمعنى مفعول وإما بمعنى فاعل ، ويأتي إن شاء الله الاختلاف في المراد به عن المفسرين . فأما قول أمية بن أبي الصلت : وليس بها إلاّ الرقيم مجاورا
وصيدهم والقوم في الكهف همد
فعني به كلبهم . أحصي الشيء حفظه وضبطه . الشطط : الجور وتعدّي الحد والغلو . وقال الفراء : اشتط في الشؤم جاوز القدر ، وشط المنزل بعد شطوطاً ، وشط الرجل وأشط جار ، وشطت الجارية شطاطاً وشطاطة طالت . تزورّ : تروع وتميل . وقال الأخف 5 : تزور تنقبض انتهى . والزور الميل والأزور المائل بعينه إلى ناحية ، ويكون في غير العين . قال ابن أبي ربيعة :
وجبني خيفة القوم أزوره
وقال عنترة :

" صفحة رقم 92 "
فازور من وقع القنا بلبانه
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم
وقال بشر بن أبي حازم تؤمّ بها الحداة مياه نخل
وفيها عن أبانين ازورار
ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور الميل عن الصدق . قرض الشيء قطعه ، تقول العرب : قرضت موضع . كذا أي قطعته . وقال ذو الرمّة : إلى ظعن يقوضن أجواز مشرف
شمالاً وعن أيمانهنّ الفوارس
وقال الكوفيون : قرضت موضع كذا جاذبته ، وحكوا عن العرب قرضته قبلاً ودبراً . الفجوة : المتسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين ، رجل أفجأ وامرأة فجواء وجمع الفجوة فجآء . اليقظ المتنبه وجمعه أيقاظ كعضد وأعضاد ، ويقاظ كرجل ورجال ورجل يقظان وامرأة يقظى . الرقاد معروف وسمي به علماً . الوصيد الفناء . وقيل : العتبة . وقيل : الباب . قال الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها
عليّ ومعروفي بها غير منكر
الورق الفضة مضروبة وغير مضروبة . السرادق قال أبو منصور الجواليقي : هو فارسي معرب وأصله سرادار وهو الدهليز . قال الفرزدق : تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم
تركت لهم قبل الضراب السرادقاً
وبيت مسردق أي ذو وسرادق . المهل : ما أذيب من جواهر الأرض . وقيل دردي الزيت . شوى اللحم : أنضجه من غير مرق . السوار : ما جعل في الذراع من ذهب أو فضة أو نحاس أو رصاص ويجمع على أسورة في القلة كخمار وأخمرة ، وعلى خمر وفي الكثرة كخمار وخمر إلاّ أنه تسكن عينه إلاّ في الشعر فتحرك ، وأساور جمع أسورة . وقال أبو عبيدة : جمع أسوار ويقال لكل ما في الذراع من الحليّ وعنه وعن قطرب : هو على حذف الزيادة وأصله أساوير . وأنشد ابن الأنباري : والله لولا صبية صغار
كأنما وجوههم أقمار
تضمهم من الفنيك دار
أخاف أن يصيبهم إقتار

" صفحة رقم 93 "
أو لاطم ليس له أسوار
لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار
السندس رقيق الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، والإستبرق رومي عرب وأصله استبره أبدلوا الهاء قافاً قاله ابن قتيبة . وقيل : مسمى بالفعل وهو إستبرق من البريق فقطعت بهمزة وصله . وقيل : الإستبرق اسم الحرير . وقال المرقش : تراهنّ يلبسن المشاعر مرة
وإستبرق الديباج طور إلباسها
وقال ابن بحر : الإستبراق المنسوج بالذهب . الأريكة السرير في حجلة ، فإن كان وحده فلا يسمى أريكة . وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال .
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ).
هي مكية كلها إلا في قوله . وعن ابن عباس وقتادة إلاّ قوله ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ( الآية فمدنية . وقال مقاتل : إلاّ من أولها إلى ) جُرُزاً ( ومن قوله ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( الآيتين فمدني . وسبب نزولها أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصِفالهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت : سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنه كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه ، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال : ( غداً أخبركم ) ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوماً فأرجف كفار قريش ، وقالوا : إن محمداً قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن . وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه ، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها .
وروي في هذا السبب أن اليهود قالت : إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنيّ ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ . فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ). ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أن لما قال ) وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعاً ، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولداً ، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولداً ، المبشر المؤمنين بالإجر الحسن . ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله ) وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا ( إلى الغيبة في قوله ) عَلَى عَبْدِهِ ( لما في ) عَبْدِهِ ( من الإضافة المقتضية تشريفه ، ولم يجيء التركيب أنزل عليك .
( وَالْكِتَابِ ( القرآن ، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر

" صفحة رقم 94 "
) عِوَجَا ( ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي ، والمعنى أنه في غاية الإستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه ، لا حوشية ولا عيّ في تراكيبه ومبانيه .
الكهف : ( 2 ) قيما لينذر بأسا . . . . .
و ) قَيِّماً ( تأكيد لإثبات الإستقامة إن كان مدلوله مستقيماً وهو قول ابن عباس والضحاك . وقيل : ) قَيِّماً ( بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم . وقيل : ) قَيِّماً ( على سائر الكتب بتصديقها . واختلفوا في هذه الجملة المنفية ، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على ) أَنَزلَ ( فهي داخلة في الصلة ، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب ) قَيِّماً ( أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من ) الْكِتَابِ ( لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقدره جعله ) قَيِّماً ). وقال ابن عطية : ) قَيِّماً ( نصب على الحال من ) الْكِتَابِ ( فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ ، أي أنزل الكتاب ) قَيِّماً ( واعترض بين الحال وذي الحال قوله ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ( ذكره الطبري عن ابن عباس ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله ) قَيِّماً ). أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز ، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها .
وقال العسكري : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال : احمدوا الله على إنزال القرآن ) قَيِّماً ( لا عوج فيه ، ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم . وقال أبو عبد الله الرازي : ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ( يدل على كونه مكملاً في ذاته . وقوله قيماً يدل على كونه مكملاً بغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله ، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه . وقال الكرماني : إذ جعلته حالاً وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير ، والصحيح أنهما حالان من ) الْكِتَابِ ( الأولى جملة والثانية مفرد انتهى . وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف ، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى . واختاره الأصبهاني وقال : هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له ) عِوَجَا قَيِّماً ( وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قوله قيماً بدلاً من قوله ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ( أي جعله مستقيماً ) قَيِّماً ( انتهى . ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف . وقيل : ) قَيِّماً ( حال من الهاء المجرورة في ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ ( مؤكدة . وقيل : منتقلة ، والظاهر أن الضمير في ) لَهُ ( عائد على ) الْكِتَابِ ( وعليه التخاريج الإعرابية السابقة . وزعم قوم أن الضمير في ) لَهُ ( عائد على ) عَبْدِهِ ( والتقدير ) عَلَى عَبْدِهِ ( وجعله ) قَيِّماً ). وحفص يسكت على قوله ) عِوَجَا ( سكتة خفيفة ثم يقول ) قَيِّماً ). وفي بعض مصاحف الصحابة ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ( لكن جعله قيماً ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة .
وأنذر يتعدى لمفعولين قال ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه ، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال : ) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ( فحذف المنذر أولاً لدلالة الثاني عليه ، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه ، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة ، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به ، والظاهر أن ) لّيُنذِرَ ( متعلقة بأنزل . وقال الحوفي : تتعلق بقيماً ، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية ) لّيُنذِرَ ( العالم ، وأبو البقاء ) لّيُنذِرَ (

" صفحة رقم 95 "
العباد أو لينذركم . والزمخشري قدره خاصاً قال : وأصله ) لّيُنذِرَ ( الذين كفروا ) بَأْسًا شَدِيدًا ( ، والبأس من قوله ) بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبأسة انتهى . وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابلة وهو ) وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ( والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا .
ومعنى من ) لَّدُنْهُ ( صادر من عنده . وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، وتقدّم الكلام عليها في أول هود . وقرىء ) وَيُبَشّرُ ( بالرفع والجمهور بالنصب عطفاً على ) لّيُنذِرَ ( والأجر الحسن الجنة ،
الكهف : ( 3 ) ماكثين فيه أبدا
ولما كنى عن الجنة بقوله ) أَجْرًا حَسَنًا ( قال : ) مَّاكِثِينَ فِيهِ ( أي مقيمين فيه ، فجعله ظرفاً لإقامتهم ، ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال ) أَبَدًا ( وهو ظرف دال على زمن غير متناه ، وانتصب ) مَّاكِثِينَ ( على الحال وذو الحال هو الضمير في ) لَهُمْ (
الكهف : ( 4 - 5 ) وينذر الذين قالوا . . . . .
والذين نسبوا الولد إلى الله تعالى بعض اليهود في عزير ، وبعض النصارى في المسيح ، وبعض العرب في الملائكة ، والضمير في ) بِهِ ( الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادّعوه . قال المهدوي : فتكون الجملة صفة للولد . قال ابن عطية : وهذا معترض لأنه لا يصفه إلاّ القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه ، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر الله تعالى به بجهلهم في ذلك ، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على الله تعالى ، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى .
قيل : والمعنى ) مَّا لَهُم ( بالله ) مِنْ عِلْمٍ ( فينزهوه عما لا يجوز عليه ، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من ) قَالُواْ ( أي ) مَّا لَهُم ).
بقولهم هذا ) مِنْ عِلْمٍ ( فالجملة في موضع الحال أي ) قَالُواْ ( جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع . وقيل : يعود على الاتخاذ المفهوم من ) اتخذه ( أي ) عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم ( بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلاّ من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده . وهذا مستحيل على الله .
قال الزمخشري : اتخاذ الله ولداً في نفسه محال ، فيكف ) قِيلَ مَّا لَهُمْ مّنَ عِلْمٍ ( ؟ قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى .
( وَلاَ لائَبَائِهِمْ ( معطوف على ) لَهُمْ ( وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة ، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد . وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم .
وقرأ الجمهور : ) كَلِمَةَ ( بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز ، وفاعل ) كَبُرَتْ ( مضمود يعود على المقالة المفهومة من قوله ) قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ( ، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة ، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيراً مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر ، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت ) كَلِمَةَ ( كما يسمون القصيدة كلمة . وقال ابن عطية : وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحداً فيحسن أن تسمى ) كَلِمَةَ ( وقال أيضاً : وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلاً زيد ، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم : نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى ) وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ). وقالت فرقة : نصبها على الحال أي ) كَبُرَتْ ( فريتهم ونحو هذا انتهى . فعلى قوله كما تقول نعم رجلاً زيد يكون المخصوص بالذم محذوفاً لأنه جعل ) تُخْرِجُ ( صفة لكلمة ، والتقدير ) كَبُرَتْ كَلِمَةً ( خارجة ) مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ( تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم ) اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ). والضمير في ) كَبُرَتْ ( ليس عائداً على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده ، وهو التمييز على مذهب البصريين ، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً وتخرج صفة له أي ) كَبُرَتْ كَلِمَةً ( كلمة ) تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ). وقال أبو عبيدة : نصب على التعجب أي أكبر بها ) كَلِمَةَ ( أي من ) كَلِمَةَ ). وقرىء ) كَبُرَتْ ( بسكون الباء وهي في لغة تميم . وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن

" صفحة رقم 96 "
والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى ، و ) ءانٍ ( نافية أي ما ) يَقُولُونَ ( و ) كَذِبًا ( نعت لمصدر محذوف أي قولاً ) كَذِبًا ).
الكهف : ( 6 ) فلعلك باخع نفسك . . . . .
( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ ( لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور . وقال العسكري : فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك . وقيل : وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت ) بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( ؟ وقال ابن عطية : تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك . وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته ، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم انتهى . وتكون لعل للإستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) نفسه لكونهم لم يؤمنوا .
وقوله ) عَلَىءاثَارِهِمْ ( استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع ، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم ، ومعنى ) عَلَىءاثَارِهِمْ ( من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر . ويقال : مات فلان على أثر فلان أي بعده ، وقرىء ) بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( بالإضافة . وقرأ الجمهور : ) بَاخِعٌ ( بالتنوين ) نَّفْسَكَ ( بالنصب . قال الزمخشري : على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل ، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه . وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو . وقرىء : ) إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ( بكسر الميم وفتحها فمن كسر . فقال الزمخشري : هو يعني اسم الفاعل للإستقبال ، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة ، أي لأن ) لَمْ يُؤْمِنُواْ ( والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن . قال تعالى ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ).
و ) أَسَفاً ( قال مجاهد : جزعاً . وقال قتادة : غضباً وعنه أيضاً حزناً . وقال السدّي : ندماً وتحسراً . وقال الزجاج : الأسف المبالغة في الحزن والغضب . وقال منذر بن سعيد : الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضباً كقوله تعالى ) فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( أي أغضبونا . قال ابن عطية : وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى . وانتصاب ) أَسَفاً ( على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال ،
الكهف : ( 7 ) إنا جعلنا ما . . . . .
وارتباط قوله ) إِنَّا جَعَلْنَا ( الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس ) أَحْسَنُ عَمَلاً ( فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل ، بل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملاً ومن هو أسوأ عملاً ، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملاً ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم موادّ هذه النعم التي خلقتها .
و ) جَعَلْنَا ( هنا بمعنى خلقنا ، والظاهر أن ما يراد بها غير العامل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل . و ) زِينَةُ ( كل شيء بحسبه . وقيل : لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه ، ومن قال بالعموم قال فيه ) زِينَةُ ( من جهة خلقه وصنعته وإحكامه . وقيل : المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل . فقيل : الأشجار والأنهار . وقيل : النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار . وقيل : الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال . وقيل : الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نقائس الأحجار .
وقال الزمخشري : ) مَا عَلَى الاْرْضِ ( يعني ما يصلح أن يكون ) زِينَةً لَّهَا ( ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها . وقالت : فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه . وقيل : ) مَا ( هنا لمن يعقل ، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء . وانتصب ) زِينَةُ ( على الحال أو على المفعول من أجله إن كان ) جَعَلْنَا ( بمعنى خلقنا ، وأوجدنا ، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان .
واللام من ) لِنَبْلُوَهُمْ ( تتعلق بجعلنا ، والابتلاء الاختبار وهو متأوّل بالنسبة إلى الله

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...