مجلد 15.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
" صفحة رقم 282 "
مثل ذلك الاجتباء ، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره ، وشريف
منصبه ، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك . ويجتبيك : يختارك ربك للنبوة والملك .
قال الحسن : للنبوة ، وقال مقاتل : للسجود لك ، وقال الزمخشري : لأمور عظام .
ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه ، كأنه قال : وهو
يعلمك . قال مجاهد والسدي : تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا . وقال الحسن : عواقب
الأمور ، وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات ، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا ، وقال
ابن زيد : العلم والحكمة .
وقال الزمخشري : الأحاديث الرؤى ، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان ،
وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم
عبارة . ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء ، وما غمض
واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات
حكمها . وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال : قال الله : وقال
الرسول : كذا وكذا . ألا ترى إلى قوله : ) فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
( ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( كتاباً وهي اسم جمع للحديث ، وليس بجمع
أحدوثة انتهى . وليس باسم جمع كما ذكر ، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس ، كما
قالوا : أباطل وأباطيل ، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن . وإذا كانوا يقولون في
عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد ، فكيف لا يكون أحاديث
وأباطيل جمعي تكسير ؟ .
ويتم نعمته عليك ، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء
وملوكاً ، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة . وقال مقاتل :
بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك ، وقال الحسن : هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي
يوسف النبوّة . وقيل : بأن يحوج إخوتك إليك ، فتقابل الذنب بالغفران ، والإساءة
بالإحسان . وقيل : بإنجائك من كل مكروه ، . وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي
: نجعل النبوة فيهم . وقال الزمخشري : هن نسلهم وغيرهم . وقيل أهل دينه وأتباعهم ،
كما جاء في الحديث : من آلك ؟ فقال : ) كُلٌّ ( وقيل : امرأته وأولاده الأحد عشر .
وقيل : المراد يعقوب نفسه خاصة . وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من
النار ، وإهلاك عدوه نمروذ . وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . وسمي
الجدو أبا الجد أبوين ، لأنهما في عمود النسب كما قال : ) إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ
آبَائِكَ ( ولهذا يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب . إن ربك
عليم بمن يستحق الاجتباء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها . وهذان الوصفان مناسبان لهذا
الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله : وكذلك يجتبيك ربك
قيل : وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو .
( لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ
أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( :
آيات أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل
عنهم وعرف قصتهم . وقيل : آيات على نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) للذين
سألوه من اليهود عنها ، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ، ولا قراءة كتاب .
والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من
عواقب البغي عليه ، وصدق رؤياه ، وصحة تأويله ، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق
الأمانة ، وحدوث السرور بعد اليأس . وقيل : المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله : )
سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل . وحسن الحذف لدلالة قوة
الكلام عليه لقوله : ) سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( أي والبرد . وقال ابن عطية
: وقوله للسائلين ، يقتضي تحضيضاً للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد
آيات للناس ، فوصفهم بالسؤال ، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي
مقر العبر والاتعاظ . وتقدم لنا ذكر أسماء أخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد
بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البياسني ، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى
البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة
"
صفحة رقم 283 "
بالنقط ، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة ، وكان روبيل أكبرهم ، وهو ويهوذا ،
وشمعون ، ولاوي ، وزبولون ، ويساخا ، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي
: بنت خال يعقوب ، وذان ونفتالي ، وكاذوياشير ، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها
راحيل ، فوهبتا هما ليعقوب ، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده .
وأسماء السريتين فيما قيل : ليا ، وتلتا ، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب
أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وماتت من نفاسه .
وقرأ مجاهد ، وشبل وأهل مكة ، وابن كثير : آية على الإفراد . والجمهور آيات ، وفي
مصحف أبي عُبرة للسائلين مكان آية . والضمير في قالوا عائد على أخوة يوسف وأخوه هو
بنيامين ، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف . واللام في ليوسف لام الابتداء ،
وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي : كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه . وأحب
أفعل تفضيل ، وهي مبني من المفعول شذوذاً ، ولذلك عدى بإلى ، لأنه إذا كان ما تعلق
به فاعلاً من حيث المعنى عدى إليه بإلى ، وإذا كان مفعولاً عدى إليه بفي ، تقول :
زيد أحب إلى عمرو من خالد ، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى ، وعمرو هو المحب
. وإذا قلت : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب .
ومن خالد في المثال الأول محبوب ، وفي الثاني فاعل ، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن .
وكان بنيامين أصغر من يوسف ، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما ، وحب
الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر . وقيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب إليك ؟
قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يدم ، والمريض حتى يفيق . وقد نظم الشعراء
في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً ، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد
الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن وصغيركم
عبد العزيز فإنني
أطوي لفرقته جوي لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا
كفؤالكم في المنتمي والعنصر
إن البنات الخمس أكفاء معا
والحلى دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى بعد الشباب سما له
حب البنين ولا كحب الأصغر
ونحن عصبة جملة حالية أي : تفضلهما علينا في المحبة ، وهما ابنان صغيران لا كفاية
فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة ، فنحن أحق بزيادة
المحبة منهما . وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ونحن عصبة
. وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة ، فيكون الخبر محذوفاً وهو عامل في عصبة ، وانتصب
عصبة على الحال ، وهذا كقول العرب : حكمك مسمطاً حذف الخبر . قال المبرد : قال
الفرزدق :
يا لهذم حكمك مسمطا
أراد لك حكمك مسمطاً ، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا ، فالعلم السامع ما يريد
القائل كقولك : الهلال والله أي : هذا الهلال ، والمسمط المرسل غير المردود . وقال
ابن الأنباري : هذا كما تقول العرب : إنما العامري عمته ، أي يتعمم عمته انتهى .
وليس مثله ، لأنّ عصبة ليس مصدراً ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطاً
. وقدره بعضهم : حكمك ثبت مسمطاً .
وعن ابن عباس : العصبة ما زاد على العشرة ، وعنه : ما بين العشرة إلى
"
صفحة رقم 284 "
الأربعين ، وعن قتادة : ما فوق العشرة إلى الأربعين ، وعن مجاهد : من عشرة إلى
خمسة عشر ، وعن مقاتل : عشرة ، وعن ابن جبير : ستة أو سبعة ، وقيل : ما بين الواحد
إلى العشرة ، وقيل : إلى خمسة عشر ، وعن الفراء : عشرة فما زاد ، وعن ابن زيد ،
والزجاج ، وابن قتيبة : العصبة ثلاثة نفر ، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة ، فإذا
زادوا فهم عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة . والضلال هنا هو الهوى قاله ابن
عباس ، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد ، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل ، أو الغلط
في أمر الدنيا . روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره ،
وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه ، والظاهر أنّ اقتلوا يوسف من جملة
قولهم ، وقيل : هو من قول قوم استشارهم أخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك .
والظاهر أن اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين ، ويجوز أن تكون أو
للتنويع أي : قال بعض : اقتلوا يوسف ، وبعض اطرحوه ، وانتصب أرضاً على إسقاط حرف
الجر قاله الحوفي وابن عطية ، أي : في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها ، قريب من
أرض يعقوب . وقيل : مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه ، كما تقول : أنزلت
زيداً الدار . وقالت فرقة : ظرف ، واختاره الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء . قال
الزمخشري : أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من
الناس ، ولا يهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة . وقال ابن عطية : وذلك
خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال : لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً ، وهذه
ليست كذلك ، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك ، فزال بذلك إبهامها .
ومعلوم أنّ يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غير التي
هو فيها قريب من أبيه انتهى . وهذا الردّ صحيح ، لو قلت : جلست داراً بعيدة ، أو
قعدت مكاناً بعيد لم يصح إلا بوساطة في ، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر ، أو مع
دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية . والوجه هنا قيل : الذات ، أي يخل
لكم أبوكم . وقيل : هو استعارة عن شغله بهم ، وصرف مودته إليهم ، لأنّ من أقبل
عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل أخوته وكانت قبل لا
تحبه . قال : الثكل أرامها أي : عطفها ، والضمير في بعده عائد على يوسف ، أو قتله
، أو طرحه . وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل ، أو صلاحهم بالتوبة
والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر ، وهو قول الجمهور منهم الكلبي . واحتمل تكونوا أن
. يكون مجزوماً عطفاً على مجزوم ، أو منصوباً على إضمار أنْ . والقائل : لا تقتلوا
يوسف ، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق ، أو شمعون قاله مجاهد ، أو يهوذا وكان أحلمهم
وأحسنهم فيه رأياً وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض قال لهم : القتل عظيم ، قاله
السدي ، أوذان : أربعة أقوال ، وهذا عطف منهم على أخيه . لما أراد الله من إنفاذ
قضائه وإبقاء على نفسه ، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس
بالقتل . قال الهروي : الغيابة في الجب شبه لحف ، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب
ما فيه عن العيون . وقال الكلبي : الغيابة كمون في قعر الجب ، لأن أسفله واسع
ورأيه ضيق ، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه . وقال الزمخشري : غوره وهو ما غاب
منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى . منه قيل للقبر : غيابة ، قال المنحل
السعدي :
"
صفحة رقم 285 "
فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي
فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
. وقرأ الجمهور : غيابة على الإفراد ، ونافع : غيابات على الجمع ، جعل كل جزء مما
يغيب فيه غيابة . وقرأ ابن هرمز : غيابات بالتشديد والجمع ، والذي يظهر أنه سمى
باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على
فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد . قال أبو الفتح : ووجدت من ذلك المبار المبرح
والفخار الخزف . وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون على فعالات كحمامات ، ويجوز أن
يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة ، وكل للمبالغة . وقرأ الحسن : في غيبة ،
فاحتمل أن يكون في الأصل مصدراً كالغلبة ، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة .
وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء ، وهي ظلمة الركية . وقال قتادة في جماعة : الجب
بئر بيت المقدس ، وقال وهب : بأرض الأردن ، وقال مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل
يعقوب ، وقيل : بين مدين ومصر . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء :
تلتقطه بتاء التأنيث ، أنث على المعنى كما قال : إذا بعض السنين تعرفتنا
كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
والسيارة جمع سيار ، وهو الكثير السير في الأرض . والظاهر أن الجب كان فيه ماء ،
ولذلك قالوا : يلتقطه بعض السيارة . وقيل : كان فيه ماء كثير يغرق يوسف ، فنشرز
حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه . وقيل : لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده
الناس . وروي : أنهم رموه بحبل في الجب ، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا
قميصه ورموه ، حينئذ وهموا بعد برضحه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك .
ومفعول فاعلين محذوف أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه .
( قَالُواْ يأَبَانَا أَبَا مَالِكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ قَالَ إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن
يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ
الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ ( : لما تقرر في أذهانهم
التفريق بين يوسف وأبيه ، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم ،
وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب ، إذ هو مما
يشرح الصبيان ، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه . وفي قولهم : ما لك لا تأمنا ، دليل
على أنهم تقدم منهم سؤال في أنْ يخرج معهم ، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي : لم
لا تأمنا عليه وحالتنا هذا ؟ والنصح دليل على الأمانة ، ولهذا قرنا في قوله : ناصح
أمين ، وكان قد أحسن منهم قبل ما أوجب أنْ لا يأمنهم عليه . ولا تأمنا جملة حالية
، وهذا الاستفهام صحبة التعجب .
وقرأ زيد بن علي ، وأبو جعفر ، والزهري ، وعمرو بن عبيد : بإدغام نون تأمن في نون
الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك ، والمعنى : يرشد إلى أنه نفي لا نهي ، وليس
كقولهم : ما أحسننا في التعجب ، لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي . وقرأ الجمهور :
بالإدغام والإشمام للضم ، وعنهم إخفاء الحركة ، فلا يكون إدغاماً محضاً . وقرأ ابن
هرمز : بضم الميم ، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد
"
صفحة رقم 286 "
سلب الميم حركتها ، وإدغام النون في النون . وقرأ أبي ، والحسن ، وطلحة بن مصرف ،
والأعمش : لا تأمننا بالإظهار ، وضم النون على الأصل ، وخط المصحف بنون واحدة .
وقرأ ابن وثاب ، وأبو رزين : لا يتمنا على لغة تميم ، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن
وثاب . وفي لفظه : أرسله ، دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائماً . وانتصب غداً
على الظرف ، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك ، وعلى الزمن المستقبل
من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك . وأصله : غدو ، فحذفت لامه وقد جاء تاماً .
وقرأ الجمهور : يرتع ويلعب بالياء والجزم ، والإبنان وأبو عمر وبالنون والجزم وكسر
العين الحرميان ، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها . وروي عن ابن كثي : ويلعب
بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد . وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بالياء وكسر العين
مجزوماً محذوف اللام ، ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي : وهو يلعب .
وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن : بنون مضمومة من ارتعنا ونلعب بالنون ، وكذلك
أبو رجاء ، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب ، والقراءتان على حذف المفعول أي :
يرتع المواشي أو غيرها . وقرأ النخعي : نرتع بنون ، ويلعب بياء ، بإسناد اللعب إلى
يوسف وحده لصباه ، وجاء كذلك عن أبي إسحاق ، ويعقوب . ولك هذه القراآت الفعلان
فيها مبنيان للفاعل . وقرأ زيد بن علي : يرتع ويلعب بضم الياءين مبنياً للمفعول ،
ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد ، وكان أصله يرتع فيه
ويلعب فيه ، ثم حذف واتسع ، فعدى الفعل للضمير ، فكان التقدير : يرتعه ويلعبه ، ثم
بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوباً لكونه ناب عن الفاعل . واللعب هنا هو
الاستباق والانتضال ، فيدربون بذلك لقتال العدو ، سموه لعباً لأنه بصورة اللعب ،
ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم : إننا ذهبنا نستبق ، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه
يعقوب . ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل . قال مجاهد : هي من المراعاة أي : يراعي
بعضنا بعضاً ويحرسه . وقال ابن زيد : من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي ، وحفظ المال
، أو من رعى النبات والكلأ ، أي : يرتفع على حذف مضاف أي : مواشينا . ومن أثبت
الياء . فقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر : ألم
يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبون بني زياد
انتهى . وقيل : تقدير حذف الحركة في الياء لغة ، فعلى هذا لا يكون ضرورة . ومن قرأ
بسكون العين فالمعنى : نقم في خصب وسعة ، ويعنون من الأكل والشرب . وإنا له
لحافظون جملة حالية ، والعامل فيه الأمر أو الجواب ، ولا يكون ذلك من باب الإعمال
، لأن الحال لا تضمر ، وبأنّ الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول ، ثم
اعتذر لهم يعقوب بشيئين : أحدهما : عاجل في الحال ، وهو ما يلحقه من الحزن
لمفارقته وكان لا يصبر عنه . والثاني : خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم
ولعبهم ، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم ، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد . وخص
الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره ، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير
، وكان تنبيهاً على خوفه عليه ما هو أعظم افتراساً . ولحقارة الذئب خصه الربيع بن
ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله : والذئب أخشاه إن مررت به
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وكان يعقوب بقوله : وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس
معهم يوسف ، فلقنوا ذلك
"
صفحة رقم 287 "
وجعلوه عدة للجواب ، وتقدّم خلاف القراء في يحزن . وقرأ زيد بن علي ، وابن هرمز ،
وابن محيصن : ليحزني بتشديد النون ، والجمهور بالفك . وليحزنني مضارع مستقبل لا
حال ، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال ، لأنّ ذلك المتوقع مستقبل
وهو المسبب لأثره ، فمحال أنْ يتقدم الأثر عليه ، فالذهاب لم يقع ، فالحزن لم يقع
. كما قال : يهولك أن تموت وأنت ملغ
لما فيه النجاة من العذاب
وقرأ زيد بن علي : تذهبوا به من أذهب رباعياً ، ويخرج على زيادة الباء في به ، كما
خرج بعضهم تنبت بالدهن . في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي : تنبت الدهن وتذهبوه
. وقرأ الجمهور : والذئب بالهمز ، وهي لغة الحجز . وقرأ الكسائي ، وورش ، وحمزة :
إذا وقف بغير همز . وقال نصر : سمعت أبا عمر ولا يهمز . وعدل إخوة يوسف عن أحد
الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن ، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن
قريب ، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به ، فحلفوا له
لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم ، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم
تعصب الأمور وتكفي الخطوب . إنهم إذاً لقوم خاسرون أي : هالكون ضعفاء وجوراً
وعجزاً ، أو مستحقون أن يهلكوا ، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم ، أو
مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار ، وأن يقال : خسرهم الله ودمرهم حين أكل
الذئب بعضهم وهم حاضرون . وقيل : إن لم نقدر على حفظه بعضنا فقد هلكت مواشينا ،
إذاً وخسرنا . وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروة جبل ، وكان يوسف في بطن
الوادي ، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله ، فدرأ عنه واحد ، ثم انشقت
الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام .
( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبّ
وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ لاَ يَشْعُرُونَ وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ قَالُواْ
يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا
فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ
وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ
أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ وَجَاءتْ
سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا
غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( : حكي أنهم
قالوا ليوسف : اطلب من أبيك أن يبعثك معنا ، فأقبل على يوسف فقال : أتحب ذلك ؟ قال
: نعم . قال يعقوب : إذا كان غداً أذنت لك ، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه
منطقته ، وخرج مع أخوته فشيعهم يعقوب وقال : يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي
يوسف ، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال : استودعتك الله رب
العالمين ، وانصرف . فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم ، ثم لما غابوا
عن عينه طرحوه ليعدا معهم إضراراً به . وذكر المسفرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية
إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر ، وهم لا يزدادون إلا قساوة .
ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها ، فيوقف عليها في كتب التفسير .
وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره : فأجابهم إلى ما
سألوه وأرسل معهم يوسف ، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي : عزموا واتفقوا على إلقائه في
الجب ، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا ، يقال : أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه ،
واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء ، وبمعنى التصيير . واختلفوا في جواب لمّا
أهو مثبت ؟ أو محذوف ؟ فمن قال : مثبت ، قال : هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا
نستبق أي : لما كان كيت وكيت ، قالوا وهو تخريج حسن . وقيل : هو أوحينا ، والواو
زائدة ، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما ، وحتى إذا . وعلى ذلك خرجوا
قوله : فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي : ناديناه وقوله : حتى إذا جاؤوها
وفتحت أي : فتحت . وقول امرىء القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
"
صفحة رقم 288 "
أي : انتحى . ومن قال : هو محذوف ، وهو رأي البصريين ، فقدره الزمخشري : فعلوا به
ما فعلوا من الأذى ، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به ، وما حاوروه وحاورهم به
. قدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أنْ يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم ،
وقدّره بعضهم جعلوه فيها ، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله : وأجمعوا أن يجعلوه
والظاهر أنّ الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف ، وهو وحي إلهام قاله مجاهد .
وروي عن ابن عباس : أو منام . وقال الضحاك وقتادة : نزل عليه جبريل في البئر .
وقال الحسن : أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيراً ، كما أوحى إلي يحيى وعيسى
عليهما السلام ، وهو ظاهر أوحينا ، ويدل على أنّ الضمير عائد على يوسف قوله لهم
قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون . وقيل : الضمير في إليه عائد
على يعقوب ، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة ، وليبشر بما يؤول إليه
أمره ، ومعناه : للتخلص مما أنت فيه ، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك . وهم لا يشعرون
جملة حالية من قوله : لتنبئنهم بهذا أي : غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله
ابن جريج ، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك ، وبعد حالك عن أذهانهم ، ولطول العمر
المبدل للهيئات والأشكال . وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون
، دعا بالصواغ فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان
لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه
في غيابة الجب وقلتم لأبيكم : أكله الذئب . وبيع بثمن بخس ، ويجوز أن يكون وهم لا
يشعرون حالاً من قوله : وأوحينا أي : وهم لا يشعرون ، قاله قتادة . أي : بإيحائنا
إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك ، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك . وقرأ
الجمهور لتنبئنهم بتاء الخطاب ، وابن عمر بياء الغيبة ، وكذا في بعض مصاحف البصرة
. وقرأ سلام بالنون .
والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيراً ، فقيل : كان عمره إذ ذاك
سبع سنين . وقيل : ست ، قاله الضحاك . وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة ، وثمان
عشرة سنة ، وكلاهما عن الحسن ، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب . ويدل على أنه
كان صغيراً بحيث لا يدفع نفسه قوله : وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له
لحافظون ، وأخذ السيارة له ، وقول الوارد : هذا غلام ، وقول العزيز : عسى أن
ينفعنا أو نتخذه ولداً ، وما حكى من حملهم إياه واحداً بعد واحد ، ومن كلامه لأخيه
يهوذا : ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني ، وارحم قلب أبيك يعقوب . ومن هو ابن ثمان
عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة ، ولا يقال فيه : وإنا له
لحافظون ، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه ، ولا يسمى غلاماً إلا بمجاز
، ولا يقال فيه : أو نتخذه ولداً . وعشاء نصب على الظرف ، أو من العشوة والعشوة :
الظلام ، فجمع على فعال مثل راع ورعاء ، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا
على وزن دجى ، جمع عاش ، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك ، وأصله مالكة . وعن
الحسن عشياً على التصغير . قيل : وإنما جاؤوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في
الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة
"
صفحة رقم 289 "
بالليل فإنّ الحياء في العينين ، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار
. وفي الكلام حذف تقديره : وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون ، فقال : أين يوسف ؟
قالوا : إنا ذهبنا . وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما لكم ، أجرى في الغنم
شيء ؟ قالوا : لا . قال : فأين يوسف ؟ قالوا : إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب ، فبكى
، وصاح ، وخر مغشياً عليه ، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ، ونادوه فلم يجب ، ووضع
يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال : ويل لنا من ديان
يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا ، فلم يفق لا ببرد السحر . قال الأعمش :
لا يصدق باك بعد أخوة يوسف . ونستبق . أي : نترامى بالسهام ، أو نتجارى على
الأقدام أينا أشد عدواً ، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب ، أو
نتصيد . أربعة أقوال . عند متاعنا أي : عند ثيابنا ، وما تجردنا له حالة الاستباق
، وهذا أيضاً يدل على صغر يوسف ، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان
يستبق معهم ، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم ، وأخاف
أن يأكله الذئب ، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه . وما أنت بمؤمن
لنا أي : بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين . أو لست مصدقاً لنا على كل حال حتى في
حالة الصدق ، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف ، وإنا نرتاد له الغوائل ،
ونكيد له المكائد ، وأوهموا بقولهم : ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب
يوسف ، فيكون صدقهم مقيداً بهذه النازلة . أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل
هذه النازلة ، لشدّة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيىء الظن بنا في هذه النازلة ، غير
واثق بقولنا فيه ؟ .
روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ، ولطخوا قميص يوسف بدمه ، وقالوا : ليعقوب
هذا قميص يوسف فأخذه ، ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب ،
فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا
يخرق قميصه ؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات ، كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف
لم يأكله الذئب ، وألقاه عل وجهه فارتد بصيراً ، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ
من دبر . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : على قميصه ما محله ؟ ( قلت ) : محله النصب
على الظرف ، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال . (
فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة ؟ ( قلت ) : لا ، لأن حال المجرور لا
يتقدم عليه انتهى . ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق ، لأن
العامل فيه إذ ذاك جاؤوا ، وليس الفوق ظرفاً لهم ، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم .
وقال الحوفي : على متعلق بجاؤوا ، ولا يصح أيضاً . وأما المثال الذي ذكره الزمخشري
وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي ، لأنه تمكن الظرفية فيه
باعتبار تبدله من جمل على جمل ، ويكون بأحمال في موضع الحال أي : مصحوباً بأحمال .
وقال أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم ، لأن التقدير : جاؤوا بدم
كذب على قميصه انتهى . وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف
، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب ، وأنشد على ذلك شواهد هي
مذكورة في علم النحو ، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء .
وقرأ الجمهور : كذب وصف لدم على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف أي : ذي كذب ،
لما كان دالاً على الكذب وصف به ، وإن كان الكذب صادراً من غيره . وقرأ زيد بن علي
: كذباً بالنصب ، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال ، وأن يكون مفعولاً من أجله
. وقرأت عائشة ، والحسن : كدب بالدال غير معجمة ، وفسر بالكدر ، وقيل : الطري ،
وقيل : اليابس ، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب أي : أثر لأن الكذب هو بياض
يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها ، كالنقش ، ويسمى ذلك البياض الفوف ، فيكون هذا
استعارة لتأثيره
"
صفحة رقم 290 "
في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافير . قال : بل سولت هنا محذوف تقديره : لم يأكله
الذئب ، بل سولت . قال ابن عباس : أمرتكم أمراً ، وقال قتادة : زينت ، وقيل : رضيت
أمراً أي : صينعاً قبيحاً . وقيل : سهلت . فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل ، أو
فصبر جميل أمثل . وقرأ أبي ، والأشهب ، وعيسى بن عمر : فصبراً جميلاً بنصبهما ،
وكذا هي في مصحف أبيّ ، ومصحف أنس بن مالك . وروي كذلك عن الكسائي . ونصبه على
المصدر الخبري أي : فاصبر صبراً جميلاً . قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ، ولا
يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله : شكا إلي جملي
طول السرى
صبراً جميلاً فكلانا مبتلي
ويروى صبر جميل في البيت . وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى
مخاطبة نفسه فكأنه قال : فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً . وفي الحديث : ( أن الصبر
الجميل أنه الذي لا شكوى فيه ) أي : إلى الخلق . ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّمَا
أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( وقيل : أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم
على كآبة الوجه ، وعبوس الجبين ، بل على ما كنت عليه معكم . وقال الثوري : من
الصبر أنْ لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك . والله المستعان أي :
المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزية . وجاءت
سيارة قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر ، وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام
يوسف في الجب ثلاثة أيام ، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته . وقيل :
جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب . وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب
. قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض ، وقيل : سيارة في الطريق أخطئه
فنزلوا قريباً من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة ، وفيهم
مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء . والوارد الذي يرد الماء ليستقي
للقوم ، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم . ليست إضافة إلى
المفعول ، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم . والظاهر أن الوارد واحد .
وقال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى . وحمل على
معنى السيارة في قوله : فأرسلوا ، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها .
فأدلى دلوه أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي . في الكلام حذف تقديره :
فتعلق يوسف بحبل الدلو ، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي . وتلقه بالحبل يدل
على صغره ، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً ، ولفظه
غلام ترجح ذلك ، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد يطلق على
الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف :
غلام إذا هز القناة سقاها
"
صفحة رقم 291 "
وقوله : يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف ، هذ رأى أحسن ما خلق . وأبعد
السدّي في زعمه أنّ بشرى اسم رجل ، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى : فهذا
من آونتك . وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون ، وروى ورش عن نافع : يا بشراي :
بسكون ياء الإضافة ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في )
وَمَحْيَاىَ ( وقرأ أبو الطفيل ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري : يا بشرى
بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة لهذيل . ولناس غيرهم تقدم الكلام
عليها في البقرة ، في ) فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( قيل : ذهب به الوارد ، فلما دنا من
أصحابه صاح بذلك ، فبشرهم به وأسروه . الظاهر أنّ الضمير للسيارة التي الوارد منهم
أي : أخفوه من الرفقة ، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا : دفعه إلينا
أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقال ابن عباس : الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف ،
وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن
يقتلوه ، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على
الحقيقة من فقده ، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه ، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة .
وانتصب بضاعة على الحال أي : متجراً لهم ومكسباً . والله عليم بما يعملون أي : لم
تخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضغوا ما ليس لهم ، أو والله عليم بعمل
أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع ، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف . قيل
: أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله ، لحكمة أراد مضاءها
، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض ، وإحواج أخواته إليه ، ورفع
أبويه على العرش ، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنوناً في القدر .
( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ
الزهِدِينَ وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى
مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ ( : شرى بمعنى باع ، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع
الحميري : وشريت برداً ليتني
من بعد برد كنت هامه
أي بعت برداً ، وبرد غلامه . وقال الآخر : ولو أن هذا الموت يقبل فدية
شريت أبا زيد بما ملكت يدي
أي اشتريت أبا زيد . والظاهر أن الضمير في وشروه عائد على السيارة ، أي : وباعوا
يوسف . ومن قال : إن الضمير في وأسروه عائد على إخوة يوسف جعله عائداً عليهم أي :
باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس . وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس . وقال مقاتل : زيف
ناقص العيار . وقال عكرمة : والشعبي : قليل . وهو معنى
"
صفحة رقم 292 "
الزمخشري : ناقص عن القيمة نقصاً ظاهراً . وقال ابن قتيبة : البخس الخسيس الذي بخس
به البائع . وقال قتادة : بخس ظلم ، لأنهم ظلموه في بيعه . وقال ابن عباس وقتادة
أيضاً في آخرين : بخس حرام . وقال ابن عطاء : إنما جعله بخساً لأنه عوض نفس شريفة
لا تقابل بعوض وإن جل انتهى . وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم
يعطوا به ثمناً ، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته ، فالمقصود خلو وجه أبيهم
منه لا ثمنه . ودراهم بدل من ثمن ، فلم يبيعوه بدنانير . ومعدودة إشارة إلى القلة
، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهماً ، لأنّ الكثيرة
يعسر فيها العد ، بخلاف القليلة . قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق :
أربعون درهماً . وقيل : ثلاثون درهماً ، ونعلام وحلة . وقال السدي : كانت اثنين
وعشرين درهماً ، كذا نقله الزمخشري عنه ، ونقله ابن عطية عن مجاهد : أخذها أخوته
درهمين درهمين ، وصاحب التحرير عنه ، وعن ابن عباس . وقال ابن مسعود وابن عباس في
رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ، ووهب ، والشعبي ، وعطية ، والسدي ،
ومقاتل في آخرين : عشرون درهماً . وعن ابن عباس أيضاً : عشرون ، وحلة ، ونعلان .
وقيل : ثمانية عشر درهماً اشتروا بها أخفافاً ونعالاً . وقيل : عشرة دراهم ،
والظاهر عود الضمير في فيه إلى يوسف أي : لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله :
الضحاك ، وابن جريج . وقيل : يعود على الثمن ، وزهدهم فيه لرداءة الثمن ، أو لقصد
إبعاد يوسف لا الثمن . وهذا إذا كان الضمير في وشروه وكانوا عائداً على أخوة يوسف
، فأما إذا كان عائداً على السيارة فزهدهم فيه لكونهم ارتابوا فيه ، أو لوصف أخوته
بالخيانة والاباف ، أو لعلمهم أنه حر . وقال الزمخشري : من الزاهدين ، ممن يرغب
عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن ، لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا
يبالي بما باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم
بأوكس الثمن . ويجوز أن يكون معنى وشروه اشتروه ، يعني الرفقة من أخوته . وكانوا
فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق ، فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه .
ويروى أنّ أخوته اتبعوهم يقولون : استوثقوا منه لا يابق انتهى . وفيه تقدم نظيره
في ) إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمره ،
أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين . أي : وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين ، أو
بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف . فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما .
وقال الذي اشتراه من مصر : ذكروا أقوالاً متعارضة فيمن اشتراه ، وفي الثمن الذي
اشتراه به ، ولا يتوقف تفسير كتاب الله على تلك الأقوال المتعارضة . فقيل : اشتراه
رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ، ومات في حياة يوسف . قيل : وهو إذ ذاك الملك بمصر
، واسمه الريان بن الوليد بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن
سام بن نوح ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور
في نسب الريان ، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى ، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة
سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين
سنة ، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة
وعشرين سنة . وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة ، بدليل قوله
: ) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ ( وقيل : فرعون موسى من
أولاد فرعون يوسف ، وقيل : عرض في السوق وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة حتى
بلغ ثمناً عظيماً . فقيل : وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير ، فاشتراه العزيز وهو كان
صاحب الملك وخازنه ، واسم الملك الريان بن الوليد . وقيل : مصعب بن الريان ، وهو
أحد الفراعنة ، واسم العزيز قطفير ، قاله ابن عباس ، وقيل : اطفير ، وقيل : قنطور
، واسم امرأته راعيل ، وقيل : زليخا .
"
صفحة رقم 293 "
قال ابن عطية : وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً ، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته
حسبما يذكر . وقال مجاهد : كان مسلماً ، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل .
وقال السدي : العزيز هو الملك ، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا ، ومثواه مكان
إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس . ولام لامرأته تتعلق بقال
فهي للتبليغ ، نحو قلت لك : لا باشتراه عسى أن ينفعنا ، لعله إذا تدرب وراض الأمور
وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده ، فينفعنا بكفايته ، أو نتبناه
ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيماً لا يولد له ، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك .
وكذلك أي : مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه ، وأمر امرأته بإكرام
مثواه . مكنا ليوسف في الأرض أي : أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه ، أي : حكمناه
فيها . ولام ولنعلمه متعلقة بمحذوف ، إما قبله لتملكه ولنعلمه ، وإما بعده أي
ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين ، أو الواو مقحمة أي : مكنا
ليوسف في الأرض لنعلمه وكل مقول . والأحاديث : الرّؤيا ، قاله مجاهد . وقيل :
أحاديث الأنبياء والأمم . والضمير في على أمره الظاهر عوده على الله قاله ابن جبير
، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، ويقضي . أو على يوسف قاله الطبري ، أي :
يديره ولا يكله إلى غيره . قد أراد أخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد الله
ودبره ، وأكثر الناس المنفى عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية . وقال الزمخشري :
لا يعملون أن الأمر بيد الله ، وقيل : المراد بالأكثر الجميع أي : لا يطلعون على
غيبه . وقيل : المراد بأكثر الناس أهل مصر ، وقيل : أهل مكة . والأشد عند سيبويه جمع
واحد شدة ، وأشد كنعمة وأنعم . وقال الكسائي : شد وأشد نحو صك وأصك ، وقال الشاعر
: عهدي به شد النهار كأنما
خضب البنان ورأسه بالعظلم
وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله : الشعبي
، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، أو سبعة عشر عاماً إلى نحو الأربعين قاله الزجاج ، أو
ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو
عشرون قاله الضحاك ، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد
وقتادة . ورواه ابن جبير عن ابن عباس ، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة ، أو
أربعون قاله الحسن . وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي
طالب رضي الله تعالى عنه الخيمي عن الأشد فقال : هو خمس وثلاثون ، وتمامه أربعون .
وقيل : أقصاه اثنان وستون . والحلم الحكم ، والعلم النبوّة . وقيل : الحكم بين
الناس ، والعلم : الفقه في الدين . وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة بعد هذه القصة ،
وكذلك أي : مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين . وفيه تنبيه على
أن يوسف كان محسناً في عنفوان شبابه فآتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه .
وعن الحسن : من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله . وقال ابن
عباس : المحسنين المهتدين ، وقال الضحاك : الصابرين على النوائب .
( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ
الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ
مَثْوَاىَّ ( : المراودة : المطالبة برفق ، من راد يرود إذا ذهب وجاء ، وهي مفاعلة
من واحد نحو : داويت المريض ، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله . كان المعنى
"
صفحة رقم 294 "
وخادعته عن نفسه ، ولذلك عداه بعن . وقال التي هو في بيتها ، ولم يصرح باسمها ، ولا
بامرأة العزيز ، ستراً على الحرم . والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول : ربة
البيت ، وصاحبة البيت قال الشاعر :
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب . قيل : وكانت
سبعة أبواب هيت اسم فعل بمعنى أسرع . ولك للتبيين أي : لك أقول ، أمرته بأن يسرع
إليها . وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها
ومعناها : تعال ، وقاله عكرمة . وقال أبو زيد : هي عبرانية . هيتلخ أي تعاله
فأعربه القرآن ، وقال ابن عباس والحسن : بالسريانية ، وقال السدي : بالقبطية هلمّ
لك ، وقال مجاهد وغيره : عربية تدعوه بها إلى نفسها ، وهي كلمة حث وإقبال انتهى .
ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم . وقال
الجوهري : هوت وهيت به صاح به فدعاه ، ولا يبعد أن يكون مشتقاً من اسم الفعل ، كما
اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك . ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير ، بل يدل
على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو : هيت لك ، وهيت لك ، وهيت لكما ،
وهيت لكم ، وهيت لكن . وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر :
هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء ، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز
وعلى ، وأبو وائل ، وأبو رجاء ، ويحيى ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وطلحة ،
والمقري ، وابن عباس ، وأبو عامر في رواية عنهما ، وأبو عمرو في رواية وهشام في
رواية كذلك ، إلا أنهم ضموا التاء . وزيد بن عليّ وابن أبي إسحاق كذلك ، إلا أنهما
سهلا الهمزة . وذكر النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة ، وكسر التاء .
وقرأ ابن كثير وأهل مكة : بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء ، وباقي السبعة أبو
عمرو ، والكوفيون ، وابن مسعود ، والحسن ، والبصريون ، كذلك ، إلا أنهم فتحوا
التاء . وابن عباس وأبو الأسود ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى البصرة كذلك
. وعن ابن عباس : هييت مثل حييت ، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل ، إلا قراءة
ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء ، وإلا من ضم
التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز ، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند
فتح التاء أو كسرها ، ويحتمل أن يكون فعلاً واقعاً ضمير المتكلم من هاء الرجل
يهيىء إذا أحسن هيئته على مثال : جاء يجيء ، أو بمعنى تهيأت . يقال : هيت وتهيأت
بمعنى واحد . فإذا كان فعلاً تعلقت اللام به ، وفي هذه الكلمة لغات أخر . وانتصب
معاد الله على المصدر أي : عياذاً بالله من فعل السوء ، والضمير في أنه الأصح أنه
يعود على الله تعالى أي : إن الله ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب ، وأقامني في
أحسن مقام . وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه
، وقد أكرم مثواي وائتمني قاله : مجاهد ، والسدي ، وابن إسحاق . ويبعد جداً ، إذ
لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ، ولا بمعنى السيد ، لأنه لم يكن في الحقيقة
مملوكاً له . إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء . وقيل : الزناة ،
وقيل : الخائنون . وقرأ أبو الطفيل والجحدري مثويّ ، كما قرأ يا بشرى ، وما أحسن
هذا التنصل من الوقوع في السوء . استعاذ أولاً بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل
شيء ، ثم نبه على أنّ إحسان الله أو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى
بالإساءة ، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون
ظالماً أضع الشيء غير موضعه ، وأتعدى ما حده الله تعالى لي .
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه طول المفسرون في تفسير هذين الهمين ،
ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق .
"
صفحة رقم 295 "
والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود
رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله ، ولا تقول : إنّ جواب لولا
متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشرط العاملة
مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام
البصريين أبو زيد الأنصاري ، وأبو العباس المبرد . بل نقول : إن جواب لولا محذوف
لدلالة ما قبله عليه ، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت ،
فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله : أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو
مثبت على تقدير وجود الفعل . وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ،
فكان موجداً لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي
الهم . ولا التفات إلى قول الزجاج . ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيداً فكيف مع
سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله : وهمّ بها هو جواب لولا ، ونحن لم نقل بذلك ،
وإنما هو دليل الجواب . وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز
أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام ، وبغير لام تقول : لولا زيد
لأكرمتك ، ولولا زيد أكرمتك . فمن ذهب إلى أن قوله : وهم بها هو نفس الجواب لم
يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد
همت به ، وإن جواب لولا في قوله وهم بها ، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهمّ
بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى
. أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك
بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى : ) إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن
رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( فقوله : إنْ كادت
لتبدي به ، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن
يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها
لكادت تبدى به . وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ،
لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ،
فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة . والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ،
لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً ، ولا يدل عليه دليل ، لأنهم لم يقدروا لهم بها .
ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ، لأنّ ما قبل
الشرط دليل عليه ، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه . وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل
ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ، ومساق
الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة ، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما
يشين . ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير
الزمخشري ، وابن عطية ، وغيرهما .
والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه
الله ، والله لا يمكن الهم به فضلاً عن الوقوع فيه . كذلك لنصرف عنه السوء
والفحشاء . قال الزمخشري : الكاف منصوب المحل أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو
مرفوعة أي : الأمر مثل ذلك . وقال ابن عطية : والكاف من قوله : كذلك ، متعلة بمضمر
تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف . ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع
بتقدير عصمته ، كذلك لنصرف . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : همت به وهم
بها كذلك ، ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، لنصرف عنه ما هم به انتهى . وقال
الحوفي : كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : أريناه البراهين كذلك . وقيل : في
موضع رفع أي : أمر البراهين كذلك ، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو
معانيها . وقال أبو البقاء : كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك . وقيل : في موضع نصب
أي : نراعيه كذلك ، انتهى . وأقول : إن التقدير مثل تلك الرؤية ، أو مثل ذلك الرأي
، نرى براهيننا لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية ، والناصب للكاف ما
دل عليه قوله : لولا أن رأى برهان ربه . ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف .
ومصدر رأى رؤية ورأي قال :
"
صفحة رقم 296 "
ورأى عيني الفتى أباكا
يعطي الجزيل فعليك ذاكا
وقرأ الأعمش : ليصرف ، بياء الغيبة عائداً على ربه . وقرأ العربيان ، وابن كثير :
المخلصين إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام ، وباقي السبعة بفتحها . وفي صرف
السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته .
( وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن
يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ
مِنَ الكَاذِبِينَ ( : أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب
منها ، وهذه لمنعه ومراودته . وأصل استبق أن يتعدى بإلى ، فحذف اتساعاً . وتقدم
أنّ الأبواب سبعة ، فكان تنفتح له الأبواب باباً باباً من غير مفتاح ، على ما نقل
عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط ، حتى خرج من الأبواب . ويحتمل أن تكون
الأبواب المغلقة ليست على الترتيب باباً فباباً ، بل تكون في جهات مختلفة كلها
منافذ للمكان الذي كانا فيه ، فاستبقا إلى باب يخرج منه . ولا يكون السابع على
الترتيب ، بل أحدها . وقدت يحتمل أن يكون معطوفاً على واستبقا ، ويحتمل أن يكون
حالاً أي : وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه ، فانخرق إلى أسفله .
والقدّ : القطع والشق ، وأكثر استعماله فيما كان طولاً قال : تقدّ السلوقي المضاعف
نسجه
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط : يستعمل فيما كان عرضاً ، وقال المفضل بن حرب : رأيت في مصحف قط من دبر أي
شق . قال يعقوب : الشق في الجلد في الصحيح ، والثوب الصحيح . وقال ابن عطية :
وقرأت فرقة قط . وألفيا سيدها أي : وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير . والمرأة تقول
لبعلها : سيدي ، ولم يضف إليهما ، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة . ويقال :
ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه ، كله بمعنى واحد . قيل : ألفياه مقبلاً يريد أن
يدخل ،
"
صفحة رقم 297 "
وقيل : مع ابن عم المرأة . وفي الكلام حذف تقديره : فرابه أمرهما وقال : ما لكما ؟
فلما سأل وقد خافت لومه ، أو سبق يوسف بالقول ، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين
تبرئة ساحتها من الريبة ، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعاً في مواقعتها خيفة من
مكرها ، كرهاً لما آيست أن يواقعها طوعاً ألا ترى إلى قولها : ولئن لم يفعل ما
آمره ليسجن ؟ ولم تصرح باسم يوسف ، بل أتت بلفظ عام وهو قولها : ما جزاء من أراد ،
وهو أبلغ في التخويف . وما الظاهر أنها نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية أي : أيّ
شيء جزاؤه إلا السجن ؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها ، ثم ترقت إلى العذاب
الأليم ، قيل : وهو الضرب بالسوط . وقولها : ما جزاء أي : إن الذنب ثابت متقرر في
حقه ، وأتت بلفظ بسوء أي : بما يسوء ، وليس نصاً في معصية كبرى ، إذ يحتمل خطابه
لها بما يسوؤها ، أو ضربه إياها . وقوله : إلا أن يسجن أو عذاب ، يدل على عظم موقع
السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم .
وقرأ زيد بن علي : أو عذاباً أليماً ، وقدره الكسائي أو يعذب عذاباً أليماً . ولما
أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال : هي راودتني عن
نفسي ، ولم يسبق إلى القول أولاً ستراً عليها ، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه
الطاهر قال : هي ، وأتى بضمير الغيبة ، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها
ويعينها بالإشارة فيقول : هذه راودتني ، أو تلك راودتني ، لأكن في المواجهة بالقبيح
ما ليس في الغيبة . ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلاً فيه إناءة ونصفة ،
طلب الشاهد من كل منهما ، فشهد شاهد من أهلها . فقال أبو هريرة ، وابن عباس ،
والحسن ، وابن جبير ، وهلال بن يساف ، والضحاك : كان ابن خالتها طفلاً في المهد
أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة . وروي في الحديث : ) إِنَّهُ مِنَ نُكَلّمُ
مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ ( وأسنده الطبري . وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم : ( لم
يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى بن مريم ، وصاحب جريج ، وابن السوداء ) وقيل :
كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب ، ولا ينافي هذا قول قتادة ، كان رجلاً
حليماً من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره . وقيل : كان حكماً حكمه زوجها
فحكم بينهما ، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ،
وأنفى للتهمة . ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به ، فبصر بما جرى
بينهما ، فأغضبه الله ليوسف ، وشهد بالحق . ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أنّ الشاهد
هو القميص المقدود لقوله : شاهد من أهلها ، ولا يوصف القميص بكونه شاهداً من أهل
المرأة . وسمى الرجل شاهداً من حيث دل على الشاهد ، وهو تخريق القميص . وقال
الزمخشري : سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها ، وإن كان
قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين ، وإما بشهد ، لأنّ الشهادة قول من
الأقوال على مذهب الكوفيين . وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط ، وتقدم خلاف المبرد
والجمهور فيها ، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط ؟ أو المعنى : أن
يتبين كونه . فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر . وجواب الشرط
فصدقت وفكذبت ، وهو على إضمار قد أي : فقد صدقت ، وفقد كذبت . ولو كان فعلاً
جامداً أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد .
وقرأ الجمهور : من قبل ، ومن دبر ، بضم الباء فيهما والتنوين . وقرأ الحسن وأبو
عمر ، وفي رواية : بتسكينها وبالتنوين ، وهي لغة الحجاز وأسد . وقرأ ابن يعمر ،
وابن أبي إسحاق ، والعطاردي ، وأبو الزناد ، ونوح القارىء ، والجار ودبن أبي سبرة
بخلاف عنه : من قبل ، ومن دبر ، بثلاث سمات . وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ،
والجارود أيضاً في رواية عنهم : بإسكان الباء مع بنائهما على الضم ، جعلوها غاية
نحو : من قبل . ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه
غايته ، والأصل إعرابهما لأنهما اسمان
"
صفحة رقم 298 "
متمكنان ، وليسا بظرفين . وقال أبو حاتم : وهذا رديء في العربية ، وإنما يقع هذا
البناء في الظروف . وقال الزمخشري : والمعنى من قبل القميص ومن دبره ، وأما
التنكير فمعناه من جهة يقال لها : قبل ، ومن جهة يقال لها : دبر . وعن ابن أبي
إسحاق : أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح ، كان جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما
الصرف للعلمية والتأنيث . وقال أيضاً : ( فإن قلت ) : إن دل قد قميصه من دبر على
أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدّته ، فمن أين دل قدّه من
قبل على أنها صادقة ، وأنه كان تابعها ؟ ( قلت ) : من وجهين : أحدهما : أنه إذا
كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع . والثاني : أن يسرع
خلفها ليلحقها ، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى . وقوله : وهو من الكاذبين ،
وهو من الصادقين ، جملتان مؤكدتان لأنّ من قوله : فصدقت ، يعلم كذبه . ومن قوله :
فكذبت ، يعلم صدقه . وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده ، ولما كان الشاهد من
أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل ، ولما
كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز إسم كان بلفظ المظهر ، ولم يضمر ليدل على
الاستقلال ، ولكون التصريح به أوضح . وهو نظير قوله : ) مَّنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( فلما رأى
العزيز ، وقيل : الشاهد قميصه قد من دبر قال : إنه أي إن قولك : ما جزاء إلى آخره
قاله الزجاج ، أو أن هذا الأمر وهو طمعها في يوسف ذكره الماوردي والزمخشري ، أو
إلى تمزيق القميص قاله : مقاتل والخطاب في من كيدكن لها ولجواريها ، أولها وللنساء
. ووصف كيد النساء بالعظم ، وإن كان قد يوجد في الرجال ، لأنهن ألطف كيداً بما
جبلن عليه وبما تفرغن له ، واكتسب بعضهن من بعض ، وهن أنفذ حيلة . وقال تعالى : )
وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ ( وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك
ما لا يوجد لغيرهن ، لكونهن أكثر تفرغاً من غيرهن ، وأكثر تأنساً بأمثالهن .
يوسف أعرض عن هذا أي : عن هذا الأمر واكتمه ، ولا تتحدث به . وفي ندائه باسمه
تقريب له وتلطيف ، ثم أقبل عليها وقال : واستغفري لذنبك ، والظاهر أنّ المتكلم
بهذا هو العزيز . وقال ابن عباس : ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وقال
: استغفري لذنبك ، أي لزوجك وسيدك انتهى . ثم ذكر سبب الاستغفار وهو قوله : لذنبك
، ثم أكد ذلك بقوله : إنك كنت من الخاطئين ، ولم يقل من الخاطئات ، لأن الخاطئين
أعم ، لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب . يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً .
قال الزمخشري : وما كان العزيز إلا حليماً ، روي أنه كان قليل الغيرة انتهى .
وتربة إقليم قطفير اقتضت هذا ، وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه
المختصين به في مجلس أنه وجارية تغنيهم من وراء ستر ، فاستعاد بعض خلصائه بيتين من
الجارية كانت قد غنت بهما ، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعاً في طست وقال له
الملك : استعد البيتين من هذا الرأس ، فسقط في يد ذلك المستعيد ، ومرض مدة حياة
ذلك الملك .
2 ( ) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا
عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ
حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ
فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن
الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىإِلَيْهِ
وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ
الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّه
"
صفحة رقم 299 "
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ
لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ
أَحَدُهُمَآ إِنِّىأَرَانِىأَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ
إِنِّىأَرَانِىأَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ
يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ
أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىإِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ
قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ
لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا
وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَىِ
السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ
وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ
للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّآ
أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاٌّ خَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاٌّ مْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ
لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ
الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَقَالَ
الْمَلِكُ إِنِّىأَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ
وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى
فِى رُؤْيَاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ
وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاٌّ حْلَامِ بِعَالِمِينَ } )
يوسف : ( 30 ) وقال نسوة في . . . . .
النسوة بكسر النون فعلة ، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه . وزعم ابن
السراج أنه اسم جمع . وقال الزمخشري : النسوة اسم مفرد لجمع المرأة ، وتأنيثه غير
حقيقي ، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث انتهى . وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء
لأنه يجوز : قامت الهنود ، وقام الهنود . وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع ،
وتكسيره للكثرة على نسوان ، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضاً ، ولا واحد له من لفظه
.
شغف : خرق الشغاف ، وهو حجاب القلب . وقيل : سويداؤه ، وقيل : داء يصل إلى القلب
فينفذ إلى القلب . وكسر الغين لغة تميم . وقيل : الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان
القلب ، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه
بالقطران ، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه . ومنه قول الأعشى : يعصي الوشاة وكان
الحب آونة
مما يزين للمشفوف ما صنعا
"
صفحة رقم 300 "
وقد تكسر غينه . المتكأ : الوسادة ، والنمرقة . المتك : الأترج ، والواحد متكة قال
الشاعر :
فاهدت متكة لهي أبيها
وقيل : اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه . قال : يشرب الإثم
بالصواع جهارا
ونرى المتك بيننا مستعارا
وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه . وقال صاحب اللوامح : المتك بالضم عند الخليل
، العسل ، وعند الأصمعي الأترج . وقال أبو عمر : والشراب الخالص . وقال أبو عمر :
وفيه ثلاث لغات ، المتك بالحركات الثلاث ، وقيل : بالكسر الخلال ، وقيل : بل المسك
. وقال الكسائي أيضاً : فيه اللغات الثلاث ، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة .
وقال أيضاً : قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد . وقال الفضل : في اللغات
الثلاث هو المبزماورد ، وكل ملفوف بلحم ورقاق . وقال أيضاً : المتك بالضم المائدة
، أو الخمر في لغة كندة . السكين : تذكر وتؤنث ، قاله الفراء والكسائي . ولم يعرف
الأصمعي فيه إلا التذكير . حاش : قال الفراء من السرب من يتمها ، وفي لغة الحجاز :
حاش لك ، وبعض العرب : حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد ، وهي في أهل الحجاز انتهى . وقال
الزمخشري : حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء ، تقول : أساء القوم حاشى
زيد . قال : حاشى أبي ثوبان أن لنا
ضنا عن الملحاة والشتم
وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاش الله : براءة الله
، وتنزيه الله انتهى . وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف
عند النحويين ، لا فرق بين قولك : قام القوم إلا زيداً ، وقام القوم حاشى زيد .
ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة ،
جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع . وأما ما أنشده من قوله : حاشى أبي ثوبان ،
فكذا ينشده ابن عطية ، وأكثر النحاة . وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر ،
وهما من بيتين وهما :
حاشى أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببُكْمَة فدْمِ عمرو بن عبد الله إن به
ضنًّا عن الملحاة والشتَم
عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة . الخبر : معروف ، وجمعه اخباز ،
ومعانيه خباز . البضع : ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة . وقال مجاهد : من
الثلاثة إلى السبعة ، وقال أبو عبيدة : البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما
هو من الواحد إلى العشرة . وقال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، ولا
يذكر مع مائة ولا
"
صفحة رقم 301 "
ألف . السمن : معروف وهو مصدر سمن يسمن ، واسم الفاعل سمين ، والمصدر واسم الفاعل
على غير قياس . العجفاء : المهذولة جداً قال :
ورجال مكة مستنون عجاف
الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو ، من أخلاط
النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله : ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب
بّهِ ( إنه أخذ عثكالاً من النخل . وروي أنّ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فعل
نحو هذا في إقامة حد على رجل . وقال ابن مقبل : خود كأن راشها وضعت به
أضغاث ريحان غداة شمال
ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها : ضغث على إمالة .
( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن
نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( : لم
تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث ، ويجوز فيه الوجهان . ونسوة كما ذكرنا
جمع قلة . وكن على ما نقل خمساً : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ،
وامرأة سجانة ، وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر . ومعنى في المدينة : أنهم
أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف ، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة
في التشنيع ، لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم . وعبرت بتراود وهو
المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها ، تخادعه دائماً عن نفسه كما تقول : زيد
يعطي ويمنع . ولم يقلن : راودت فتاها ، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه
قد شغفها حباً أي : بلغ حبه شغاف قلبها . وانتصب حباً على التمييز المنقول من
الفاعل كقوله : ملأت الإناء ماء ، أصله ملأ الماء الإناء . وأصل هذا شغفها حبه ،
والفتى الغلام وعرفه في المملوك . وفي الحديث : ( لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل
فتاي وفتاتي ) ، وقد قيل في غير المملوك . وأصل الفتى في اللغة الشاب ، ولكنه لما
كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى . وقرأ ثابت البناتي : شغفها بكسر
الغين المعجمة ، والجمهور بالفتح . وقرأ علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، وابنه
محمد بن علي ، وابنه جعفر بن محمد ، والشعبي ، وعوف الأعرابي : بفتح العين المهملة
، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم ، وروي عن ثابت البناني
وابن رجاء كسر العين المهملة . قال ابن زيد : الشغف ف يالحب ، والشغف في البغض .
وقال الشعبي : الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب ، والشغف الجنون ، والمشعوف
المجنون . وأدغم النحويان ، وحمزة ، وهشام ، وابن محيصن دال قد في شين شغفها . ثم
نقمن عليها ذلك فقلن : إنا لنراها في ضلال مبين أي : في تحير واضح للناس .
( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَئًا وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ( : روي أن تلك المقالة الصادرة عن
النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين
عذرها ، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها ، وسوّء مقالتهن فيها أنها عشقت
يوسف . وسمي الاغتياب مكراً ، لأنه في خفية وحال غيبة ، كما يخفي الماكر مكره .
وقيل : كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها ، أرسلت إليهن ليحضرن . قيل : دعت
أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات . والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة
ما قلن عنها .
وأعتدت لهن متكئاً أي : يسرت
"
صفحة رقم 302 "
وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد ، وغير ذلك مما يكون في
مجلس أعد للكرامة . ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب ،
وهنا محذوف تقديره : فجئن واتكأن . ومتكئاً إما أن يراد به الجنس ، وإما أن يكون
المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً ، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً . قال
ابن عباس متكئاً مجلساً ، ذكره الزهراوي ، ويكون متكئاً ظرف مكان أي : مكاناً
يتكئن فيه . وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها . وقال مجاهد : المتكأ
الطعام يحز حزاً . قال القتبي : يقال اتكأ عند فلان أي أكلنا ، ويكون هذا من
المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين ، ألا
ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) أَمَّا أَنَاْ فَلا أَكَلَ مُتَّكَئًا
( أو كما قال : وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل ، فمعلوم أنّ مثل هذا
المجلس لا بد فيه من طعام وشراب ، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين . فقيل
: كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم ، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين . وقيل :
كان أترجاً ، وقيل : كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد . وقيل :
هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط ، ومضمونه : أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين ، وعادة
من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه ، فيكون متكئاً عليه . قيل : وكان قصدها في بروزهن
على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين : أحدهما : دهشن عند
رؤيته وشغلهن بأنفسهن ، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن ، ويكون ذلك
مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن ، وما أحسسن به مع الألم الشديد
لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن . والثاني : التهويل على يوسف
بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر ، توهمه أنهن يثبن عليه ،
فيكون يحذر مكرها دائماً . ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك ، ويوسف قد عصمه
الله من كل ما تريده به من السوء .
وقرأ الزهري ، وأبو جعفر ، وشيبة : متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي ، فاحتمل
ذلك وجهين : أحدهما : أن يكون من الاتكاء ، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت
توضئة . والثاني : يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي : ما يشتددن عليه ،
إما بالاتكاء ، وإما بالقطع بالسكين . وقرأ الأعرج : متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ
إذا اتكأ . وقرأ الحسن : وابن هرمز : متكأ بالمد والهمز ، وهو مفتعل من الاتكاء ،
إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا : ومن ذم الرجال بمنتزاح .
وقالوا : أعوذ بالله من العقراب
الشائلات عقد الاذناب
وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والجحدري ، والكلبي ، وإبان
بن تغلب : متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وجاء كذلك عن ابن هرمز .
وقرأ عبد الله ومعاذ ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم ، وتقدم تفسير متك ، ومتك في
المفردات . وقالت : اخرج عليهن ، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام . وخروجه يدل على
طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه ، وفي الكلام حذف تقديره : فخرج عليهن . ومعنى
أكبرنه : أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع . قيل : كان فضل يوسف على
الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء . وفي حديث الإسراء أن
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما أخبر بلقيا يوسف قيل : يا رسول الله كيف
رأيته ؟ قال : ( كالقمر ليلة البدر ) وقيل : كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ
وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس . وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه . وقيل
: ورث الجمال عن جدته سارة . وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده :
معناه حضن ، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل :
"
صفحة رقم 303 "
تأتي النساء على أطهارهن ولا
تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ، والبيت مصنوع مختلق ، كذلك قال الطبري وغيره من
المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة الله . وقال الزمخشري : وقيل أكبرن
بمعنى حضن ، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته من الكبر لأنها
بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر ، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
فإن لحت حاضت في الخدور العواتق انتهى . وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل
على أنها ليست هاء السكت ، إذ لو كانت هاء السكت ، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف
، لم يضم الهاء . والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى
حاض ، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي : أكبرن الإكبار . وقطعن أيديهن أي جرحنها
، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي . والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة
القاطعات ، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن . فالجرح كأنه وقع
مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهبت بما راعها من جمال يوسف ،
فكأنها غابت عن حسها . والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم .
وقال عكرمة : الأيدي هنا الأكمام ، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن ،
وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن : حاش لله . قرأ الجمهور : حاش لله بغير ألف
بعد الشين ، ولله بلام الجر . وقرأ أبو عمرو : حاشا لله بغير ألف ، ولام الجر .
وقرأت فرقة منهم الأعمش : حشى على وزن رمى لله بلام الجر . وقرأ الحسن : حاش بسكون
الشين وصلاً ، ووقفاً بلام الجر . وقرأ أبيّ وعبد الله : حاشى الله بالإضافة ،
وعنهما كقراءة أبي عمرو ، قاله صاحب اللوامح . وقرأ الحسن : حاش الإله . قال ابن
عطية : محذوفاً من حاشى . وقال صاحب اللوامح : بحذف الألف ، وهذه تدل على كونه حرف
جر يجر ما بعده . فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام ، وهو مصدر أقيم مقام المفعول ،
ومعناه المألوه بمعنى المعبود . قال : وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى . وهذا الذي
قاله ابن عطية وصاحب اللوامح : من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا
تتعين ، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، فإن لم ينقل عنه في
ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين ، إذ الأصل حاشى الإله ، ثم
نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها ، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض ، كما
تنحذف في يخشى الإله . ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف . وقرأ أبو السمأل : حاشا
لله بالتنوين كرعياً لله ، فأما القرءات لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمأل
فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى ، أو حاش ، أو حشى ، أو حاش حرف جر ، لأنّ حرف
الجر لا يدخل على حرف الجر ، ولأنه تصرف فيهما بالحذف ، وأصل التصرف بالحذف أن لا
يكون في الحروف . وزعم المبرد وغيره كابن عطية : أنه يتعين فعليتها ، ويكون الفاعل
ضمير يوسف أي : حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به . ومعنى لله : لطاعة الله ، أو
لمكانة من الله ، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به ، أو يذعن إلى مثله ، لأنّ
ذلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم ، إنما هو ملك . وعلى هذا تكون اللام في لله
للتعليل أي : جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله ، أو لما ذهب قبل . وذهب غير
المبرد إلى أنها اسم ، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه
قال : تنزيهاً لله . ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا
"
صفحة رقم 304 "
منوناً ، وعلى هذا القول يتعلق لله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا ، ولم ينون في
القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف . ألا تراهم قالوا : من عن
يمينه ، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا : من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر ،
بل أبقوا عن على بنائه ، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها ، وأما قراءة
الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا : سبحان الله ، وهذا
اختيار الزمخشري . وقال ابن عطية : وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي
: إن حاشى حرف استثناء ، كما قال الشاعر :
حاشى أبي ثوبان
وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين ، وقد ضعفوا ذلك . قال
الزمخشري : والمعنى تنزيه الله من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل
مثله . وأما قوله : حاشى لله ، ما علمنا عليه من سوء ، فالتعجب من قدرته على خلق
عفيف مثله . ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور
الإنسان ، نفين عنه البشرية ، وأثبتن له الملكية ، لما كان مركوزاً في الطباع حسن
الملك ، وإن كان لا يرى . وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب :
فلست لأنسى ولكن لملاك
تنزل من جو السماء يصوب
وقال بعض المحدثين : قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة
حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وانتصاب بشراً على لغة الحجاز ، ولذا جاء ) مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهَاتُهُمْ ( وما منكم من أحد عنه حاجزين ، ولغة تميم الرفع . قال ابن عطية :
ولم يقرأ به . وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع ،
وهي قراءة ابن مسعود انتهى . وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي : ما هذا بشرى ، قال
صاحب اللوامح : فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي : ليس هذا مما يشترى ويباع
. ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال : هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء
، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به . وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك
، وزاد عليهما : إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك ، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك
وجعلوه في حيز الملوك ، والله أعلم انتهى . ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي
الحويرث اللذين قرآ بشرى قال : لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون
عبداً بشرى ، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً . وقال الزمخشري : وقرىء ما
هذا بشرى أي : بعبد مملوك لئيم ، إنْ هذا إلا ملك كريم . تقول : هذا بشرى أي حاصل
بشرى ، بمعنى هذا مشتري . وتقول : هذا لك بشرى ، أي بكراً . وقال : وإعمال ما عمل
ليس هي اللغة القدمى الحجازية ، وبها ورد القرآن انتهى . وإنما قال القدمي ، لأنّ
الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء ، فتقول : ما زيد بقائم ، وعليه
أكثر ما جاء في القرآن . وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة ، حتى أنّ
النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر :
"
صفحة رقم 305 "
وأنا النذير بحرة مسودة
تصل الجيوش إليكم أقوادها
أبناؤها متكنفون أباهم
حنقو الصدور وما هم أولادها
وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة : لا يكاد أهل الحجاز ، ينطقون إلا بالباء ،
فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري : اللغة القدمى الحجازية ،
فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها .
( قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن
نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ ( : ذا اسم الإشارة ، واللام لبعد المشار ، وكن
خطاب لتلك النسوة . واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن
: ما هذا بشراً ، بعد عنهن إبقاء عليهن في أنْ لا تزداد فتنتهن ، وفي أنْ يرجعن
إلى حسنهن ، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد ، ويحتمل أن تكون أشارت إليه
وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعاً لمنزلته في الحسن ، واستبعاد المحله فيه ، وأنه
لغرابته بعيد أن يوجد منه . واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل :
الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات
الملكية له ، هو الذي لمتنني فيه أي : في محبته وشغفي به ، قال الزمخشري : ويجوز
أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن : عشقت عبدها الكنعاني تقول : هذا ذلك العبد
الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ، يعني : إنكن لو تصورنه بحق صورته ،
ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى . والضمير في فيه عائد على
يوسف . وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف ، والضمير عائد على
الحب ، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى . ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة
بالمراودة ، واستنامت إليهن في ذلك ، إذ علمت أنهن قد عذرنها .
فاستعصم قال ابن عطية : معناه طلب العصمة ، وتمسك بها وعصاني . وقال الزمخشري :
والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة
وهو يجتهد في الاستزادة منها ، ونحو : استمسك ، واستوسع ، ، واستجمع الرأي ،
واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه ، وبرهان لا
شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان
انتهى . والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم ، فاستفعل فيه موافق
لافتعل ، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب ، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه ،
وطلب العصمة لا يدل على حصولها . وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في
الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل . وأما استمسك
واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل ، والمعنى : امتسك واتسع واجتمع
الرأي ، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي : تفحل الخطب نحو : استكبر
وتكبر . ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها : ولئن لم يفعل ما
آمره . والضمير في آمره عائد على الموصول أي : ما آمر به ، فحذف الجار ، كما حذف
في أمرتك الخير . ومفعول آمر الأول محذوف ، وكان التقدير ما آمره به . وإن جعلت ما
مصدرية جاز ، فيعود الضمير على يوسف أي : أمري إياه ، ومعناه : موجب أمري . وقرأت
فرقة : وليكونن بالنون المشددة ، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور
بالنون الخفيفة ، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى :
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
"
صفحة رقم 306 "
ومن الصاغرين : من الأذلاء ، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من
أراد بأهلك سوءا ، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي
راودته ، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة . وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وأقامت
عذرها عند النسوة ، فرقت عليه ، فتوعدته بالسجن . وقال له النسوة : أطع وافعل ما
أمرتك به ، فقال : رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه . فأسند الفعل إليهن لما
ينصحن له وزين له مطاوعتها ، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار ، فالتجأ إلى
الله تعالى . والتقدير : دخول السجن . وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي ،
والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : السجن بفتح السين وهو مصدر سجن
أي : حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل ، لأنه لم
يحب ما يدعونه إليه قط ، وإنما هذان شران ، فآثر أحد الشرّين على الآخر ، وإن كان
في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة ، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء
العاقبة ، ولم يخطر له ببال . ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله ،
والصبر على النوائب ، وانتظار الفرج ، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعياً له
في تخليصه . آثره ثم ناط العصمة بالله ، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين ،
وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو ، فقال : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي : أمل
إلى ما يدعونني إليه . وجعل جواب الشرط قوله : أصب ، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط ،
لا بمباشرة المعصية . وقرىء أصب إليهن من صببت صباة فأنا صب ، والصبابة إفراط
الشوق ، كأنه ينصب فيما يهوي . وقراءة الجمهور : أصب من صبا إلى اللهو يصبو صباً
وصبوا ، ويقال : صبا يصبا صباً ، والصبا بالكسر اللهو واللعب . وأكن من الجاهلين
من الذين لا يعلمون ، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء
لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة . قال الشاعر : إحدى بليلي وما
هام الفؤاد بها
إلا السفاه وإلا ذكرة حلما وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله :
وإلا تصرف عني ، فيه معنى طلب الصرف والدعاء ، وكأنه قال : رب اصرف عني كيدهن ،
فصرف عنه كيدهن أي : حال بينه وبين المعصية . إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه
، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم . ثم بدا لهم أي : ظهر لهم ، والفاعل
لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي : بدا لهم هو أي رأى أو بدا . كما قال :
بدا لك من تلك القلوص بداء
هكذا قاله النحاة والمفسرون ، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة ، فإنه زعم أن
قوله : ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي : سجنه حتى حين ، والرد على هذا المذهب
مذكور في علم النحو . والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من
قوله : ليسجنن ، أو من قوله : السجن على قراءة الجمهور ، أو
"
صفحة رقم 307 "
على السجن على قراءة من فتح السين . والضمير في لهم للعزيز وأهله ، والآيات هي :
الشواهد الدالة على براءة يوسف . قال مجاهد وغيره : قد القميص ، فإن كان الشاهد
طفلاً فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة . والذي يظهر أنّ
الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي ، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على
براءته ، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن ، بل رأوا قول
الشاهد . وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره . وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش
وجهها ، والسدي من حز أيديهن ، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية
وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين . وقرأ
الحسن : لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه ، أو العزيز وحده على وجه
التعظيم . وقرأ ابن مسعود : عتى بإبدال حاء حتى عيتا ، وهي لغة هذيل . وأقرأ بذلك
فكتب إليه يأمره أن يقرىء بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل ، والمعنى : إلى زمان .
والحبن يدل على مطلق الوقت ، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن
يوسف ، لا أنه موضوع في اللغة كذلك ، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه .
وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء ، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها ،
وعشقه لها ، وجعله زمام أمره بيدها ، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف . روي أنه لما
امتنع يوسف من المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها : إن هذا الغلام
العبراني قد فضحني في الناس ، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا
محبوسة محجوبة ، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإلا حبسته كما
أنا محبوسة ، فحينئذ بدا لهم سجنه ، قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب
بالطبل ، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته ، فهذا جزاؤه أن
يسجن . قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي .
( وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا أَرَانِى أَعْصِرُ
خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ( : في الكلام حذف
تقديره : فسجنوه ، فدخل معه السجن غلامان . وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد
بن الريان ، أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه . وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز
منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما قاله : السدي . ومع تدل على
الصحبة واستحداثها ، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة . ولما دخل يوسف
السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ،
ويسال لفقيرهم ، ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزمان ، وأحبه صاحب السجن
والقيم عيه وقال له : كن في أي البيوت شيئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ،
فلقد أدخلت على المحبة مضرات ، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت
بمحبته ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى . وكان يوسف عليه السلام
قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد . وروي أن الفيتين قالا له إنا لنحبك
من حين رأيناك فقال : أنشدكما الله أنْ لا تحباني ، وذكر ما تقدم . وعن قتادة :
كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا
أن لهذا لأجراً فقالوا : بارك الله عليك ، ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك لقد بورك
لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله
إسحاق بن خليل الله إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك .
وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد : رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله . وقال ابن
مسعود والشعبي : استعملاها ليجرباه . والذي رأى عصر لخمر اسمه بنو قال : رأيت حبلة
من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك .
والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال : كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث
سلال فيها
"
صفحة رقم 308 "
خبز ، والطير تأكل من أعلاه ، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون
فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن ، وقد تعدى
الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل ، وكلاهما لمدلول واحد . ولا يجوز
أن يقول : اضربني ولا أكرمني . وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه . وقيل :
الخمر بلغة غسان اسم العنب . وقيل : في لغة ازدعمان . وقال المعتمر : لقيت
أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب . وقرأ
أبي وعبد الله : أعصر عنباً ، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد
المصحف ، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً . قال ابن عطية : ويجوز أن
يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها . وفي مصحف عبد الله : فوق
رأسي ثريداً تأكل الطير منه ، وهو أيضاً تفسير لا قراءة . والضمير في تأويله
عائداً إلى ما قصا عليه ، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : بتأويل ذلك . وقال
الجمهور : من المحسنين أي في العلم ، لأنهما رأيا سنة ما علما به أنه عالم . وقال
الضحاك وقتادة : من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم . وقال ابن إسحاق
: أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً ، إذا تأول لهما ما رأياه .
( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ
قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى إِنّى تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ ( : قال الزمخشري : لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك ، فوصف
يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل
إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ، ويصفه لهما ويقول : اليوم يأتيكما
طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، ويجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر
لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح لهما الشرك بالله ، وهذه
طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم
الإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما
استفتى فيه ، ثم يفتيه بعد ذلك . وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف
نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه ، وينتفع به في الدين ، لم يكن من باب
التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته ، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن
معاينة انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة ،
وهو قول ابن جريج قال : أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه
بعلم ، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما ، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم
مغيبات لا تتعلق بالرؤيا ، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن . وقال السدي وابن
إسحاق ، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله ، أخذ في غير ذلك
الحديث تنسية لهما أمر المنام ، وطماعية في أيمانهما ، ليأخذ المقتول بحظه من
الإيمان ، وتسلم له آخرته فقال لهما معلناً بعظيم علمه للتعبير : إنه لا يجيئكما
طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي : بما يؤول
إليه أمره في اليقظة ، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به . فروى أنهما قالا
له : ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم ؟ فقال لهما : ذلك مما
علمني ربي . والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره ، أنه في اليقظة ، وأن قوله :
مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبياً يوحى إليه . والظاهر أن قوله : إني تركت
، استئناف إخبار بما هو عليه ، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه ،
ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه . وفي الحديث : ( لأن يهدي الله بك
رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط ،
إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة ، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي
كانا فيها . ويجوز أن يكون إني تركت تعليلاً لما قبله أي : علمني ذلك ، وأوحي إلي
لأني رفضت ملة أولئك ، واتبعت ملة الأنبياء ، وهي الملة الحنيفية . وهؤلاء الذين
لا يؤمنون هم أهل مصر ، ومن كان الفتيان على دينهم . ونبه على أصلين عظيمين وهما :
الإيمان بالله ، والإيمان بدار الجزاء ، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل .
وقال الزمخشري : وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة ، وأن
"
صفحة رقم 309 "
غيرهم مؤمنون بها . ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم
والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى . وليست عندنا هم تدل
على الخصوص ، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة . ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر
اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة ، بعد أن عرفهما أنه نبي ، بما ذكر من
أخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله . وقرأ الأشهب العقيلي
والكوفيون : آبائي بإسكان الياء ، وهي مروية عن أبي عمرو . ما كان لنا ما صح ولا
استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء عموم في الملك والجني والإنسيّ ،
فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر ؟ فشيء يراد به المشرك . ويجوز أن يراد به
المصدر أي : من شيء من الإشراك ، فيعم الإشراك ، ويلزم عموم متعلقاته . ومن زائدة
لأنها في حيز النفي ، إذ المعنى : ما نشرك بالله شيئاً ، والإشارة بذلك إلى شركهم
وملتهم أي : ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك بالله ، ومن فضل
الله علينا أي : على الرسل ، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين الله وعباده . وعلى
الناس أي : على المرسل إليهم ، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه . وقوله
: لا يشكرون أي : لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا ينتبهون . وقيل : ذلك من فضل
الله علينا ، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها ، وقد نصب مثل ذلك
لسائر الناس من غير تفاوت ، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعاً
لأهوائهم ، فيبقون كافرين غير شاكرين .
( يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَىِ السّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( : لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في
حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام ، فناداهما باسم
الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة . واحتمل قوله :
يا صاحبي السجن ، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف ، والمعنى : يا صاحبيّ في
السجن ، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل : يا ساكني السجن ،
كقوله ) أَصْحَابِ النَّارِ ( ) وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ( ثم أورد الدليل على
بطلان ملة قومهما بقوله : أأرباب ، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر
طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام . وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن
يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها ، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ،
ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق . وقابل تفرق أربابهم بالواحد ، وجاء بصفة
القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة ،
وإعلاماً بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به ، وهم
عالمون بأن تلك الأصنام جماد . والمعنى : أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم
عبادة واحد قهار وهو الله ؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته ، ثم استطرد بعد
الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون . والخطاب بقوله : ما تعبدون ، لهما
ولقومهما من أهل . ومعنى إلا أسماء : أي ألفاظاً أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة
لا مسميات تحتها ، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف . إنْ الحكم إلا لله أي
: ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به
فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه . ومعنى القيم : الثابت الذي دلت عليه البراهين .
لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم .
( يَعْلَمُونَ ياصَاحِبَىِ السّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا
وَأَمَّا الاْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاْمْرُ
الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا
اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِى
السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ( : لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في
إيمانهما ، ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب ، فروي أنه قال : لبنوّ :
أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك ، وما رأيت من الكرامة وحسنها هو الملك وحسن
حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود
إلى ما كنت عليه . وقال لملحب : أما أنت فما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج
فتصلب ، فروي أنهما قالا : ما رأينا شيئاً ، وإنما تحالمنا لنجرّبك . وروي أنه لم
يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب . وروي أنهما رأيا ثم أنكرا . وقرأ الجمهور : فيسقي
ربه من سقى ، وفرقة : فيسقي من أسقى ، وهما
"
صفحة رقم 310 "
لغتان بمعنى واحد . وقرىء في السبعة : نسقيكم ونسقيكم . وقال صاحب اللوامح : سقى
وأسقى بمعنى واحد في اللغة ، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب ، وأسقاه جعل له سقياً
. ونسب ضم الفاء لعكرمة والجحدري ، ومعنى ربه . سيده . وقال ابن عطية : وقرأ عكرمة
والجحدري : فيسقي ربه خمراً بضم الياء وفتح القاف ، أي ما يرويه . وقال الزمخشري :
وقرأ عكرمة فيسقى ربه ، فيسقى ما يروى به على البناء للمفعول ، ثم أخبرهما يوسف
عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله أنّ الأمر قد قضى ووافق القدر ، وسواء كان
ذلك منكما حلم ، أو تحالم . وأفرد الأمر وإن كان أمر هذا ، لأنّ المقصود إنما هو
عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن ، هو اتهام الملك إياهما بسمه ، فرأيا ما رأيا ،
أو تحالما بذلك ، فقضيت وأمضيت تلك العاقبة من نجاة أحدهما ، وهلاك الآخر . وقال
أي : يوسف للذي ظن : أي أيقن هو أي يوسف : إنه ناج وهو الساقي . ويحتمل أن يكون ظن
على بابه ، والضمير عائد على الذي وهو الساقي أي : لما أخبره يوسف بما أخبره ،
ترجح عنده أنه ينجو ، ويبعد أن يكون الظن على بابه ، ويكون مسنداً إلى يوسف على ما
ذهب إليه قتادة والزمخشري . قال قتادة : الظن هنا على بابه ، لأن عبارة الرؤيا ظن
. وقال الزمخشري : الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد فيبعد
، لأنه قوله : قضي الأمر ، فيه تحتم ما جرى به القدر وإمضاؤه ، فيظهر أن ذلك بطريق
الوحي ، إلا أن حمل قضي الأمر على قضى كلامي ، وقلت ما عندي ، فيجوز أن يعود على
يوسف . فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته
الأولى مع الملك : اذكرني عند الملك أي : بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني
الله ، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق . وهذا من يوسف على سبيل
الاستعانة والتعاون في تفريج كربه ، وجعله بإذن الله وتقديره سبباً للخلاص كما جاء
عن عيسى عليه السلام : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( وكما كان الرسول يطلب من
يحرسه . والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ليتوصل إلى
هدايته وإيمانه بالله ، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه . والضمير في
فأنساه عائد على الساقي ، ومعنى ذكر ربه : ذكر يوسف لربه ، والإضافة تكون بأدنى
ملابسة . وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف ،
لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن . ويضع سنين مجمل ، فقيل :
سبع ، وقيل : اثنا عشر . والظاهر أن قوله : فلبث في السجن ، إخبار عن مدّة مقامه
في السجن ، منذ سجن إلى أن أخرج . وقيل : هذا اللبث هو ما بعد خروج الفتيين وذلك
سبع . وقيل : سنتان . وقيل : الضمير في أنساه عائد على يوسف . ورتبوا على ذلك أخباراً
لا تليق نسبتها إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّى أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يأَيُّهَا أَيُّهَا
الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ
أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاْحْلَامِ بِعَالِمِينَ ( : لما
دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته ، فرأى
سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ، وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان .
ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ،
فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها .
أرى : يعني في منامه ، ودل على ذلك : أفتوني في رؤياي . وأرى حكاية حال ، فلذلك
جاء بالمضارع دون رأيت . وسمان صفة لقوله : بقرات ، ميز العدد بنوع من البقرات وهي
السمان منهن لا يحسنهن . ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع ، ويلزم
من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به ، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به ،
لأنه يصير المعنى سبعاً من البقرات سماناً . وفرق بين قولك : عندي ثلاث رجال كرام
، وثلاث رجال كرام ، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام ، فيلزم كرم
الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام . والمعنى في الثاني : ثلاثة من الرجال كرام ،
فلا يدل على وصف الرجال بالكرم . ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا
"
صفحة رقم 311 "
يضاف إلى الصفة إلا في الشعر ، إنما تتبعه الصفة . وثلاثة فرسان ، وخمسة أصحاب من
الصفات التي أجريت مجرى الأسماء . ودل قوله : سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات
، كأنه قيل : سبع بقرات عجاف ، أو بقرات سبع عجاف . وجاء جمع عجفاء على عجاف ،
وقياسه عجف كخضراء أو خضر ، حملاً على سمان لأنه نقيضه . وقد يحمل النقيض على
النقيض ، كما يحمل النظر على النظير . والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في
السنبلات ، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله : وأخر يابسات ، لدلالة قسمية وما قبله
عليه ، فيكون التقدير : وسبعاً أخر يابسات . ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً
على سنبلات خضر ، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع ، ومن جهة كونه أخر
كان مبايناً لسبع ، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات ،
فإنه كان يصح العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات . والملأ : أشراف
دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك . وقرأ أبو جعفر : بالإدغام في الرؤيا ،
وبابه بعد قلب الهمزة واواً ، ثم قلبها ياء ، لاجتماع الواو والياء ، وقد سبقت
إحداهما بالسكون . ونصوا على شذوذه ، لأن الواو هي بدل غير لازم ، واللام في
الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه ، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف
اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول : زيد ضارب لعمر وفصيحاً . والظاهر أن
خبر كنتم هو قوله : تعبرون . وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة أحدها : أن تكون
الرؤيا للبيان قال : كقوله : وكانوا فيه من الزاهدين ، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني
فيه ، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون ، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً
تقديره تعبرونها . والثاني : أن تكون الرؤيا خبر كان قال : كما تقول : كان فلان
لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه ، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً .
والثالث : أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام ، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون
لعبارة الرّؤيا ، وعبارة الرّؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط ،
فكان عابر الرّؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها . وعبر الرّؤيا بتخفيف الباء ثلاثياً وهو
المشهور ، وأنكر بعضهم التشديد ، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر : رأيت رؤياً
ثم عبرتها
وكنت للأحلام عباراً
وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام ، وهي ما يكون من حديث النفس ، أو وسوسة الشيطان ،
أو مزاج الإنسان . وأصله أخلاط النبات ، استعير للأحلام ، وجمعوا الأحلام . وأن
رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء ، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول
: فلان يركب الخيل وإن مل يركب إلا فرساً واحداً ، تعليقاً بالجنس . وإما بكونه قص
عليهم مع هذه الرّؤيا غيرها . والأحلام جمع حلم ، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي : هي
أضغاث أحلام . والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي : لسنا من أهل
تعبيير الرؤيا . ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط
والأباطيل أي : وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي : لا يتعلق علم
لنا بتأويل تلك ، لأنه تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح ، فلا يكون في ذلك
نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح ، ولا تصور علمهم . والباء في بتأويل متعلقة بقوله
بعالمين .
2 ( ) وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ
أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيق
"
صفحة رقم 312 "
ُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ
سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّىأَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا
حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ
يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ
يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا
جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ
النِّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ
للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ اأنَ
حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِىإِنَّ النَّفْسَ
لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى
خَزَآئِنِ الاٌّ رْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى
الاٌّ رْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن
نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَةِ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم
بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ
أَنِّىأُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى
بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ
أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ
فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا
مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى
أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ } )
يوسف : ( 45 ) وقال الذي نجا . . . . .
أمة يأمه أمها وأمها نسي . يغاث : يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج ، يقال :
أغاثهم الله فرج عنهم ، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول : غيثت البلاد إذا أمطرت ،
ومنه قول الأعرابية : غثنا ما شئنا . الخطب : الشان والأمر الذي فيه خطر ، ويجمع
على خطوب قال : وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
"
صفحة رقم 313 "
حصحص تبين بعد الخفاء ، قاله الخليل . وقيل : مأخود من الحصة حصحص الحق بانت حصته
من حصة الباطل . وقيل : ثبت واستقر ، ويكون متعدياً من حصحص البعير ألقى ثفناته
للإناخة قال : حصحص في صم الصفا ثفناته . الجهاز : ما يحتاج إليه المسافر من زاد
ومتاع ، وكل ما يحمل ، وجهاز العروس ما يكون معها من الأثاث والشورة ، وجهاز الميت
ما يحتاج إليه في دفنه . الرحل : ما على ظهر المركوب من متاع الراكب أو غيره ،
وجمعه رحال في الكثرة ، وأرحل في القلة . مار يمير ، وأمار يمير ، إذا جلب الخير
وهي الميرة قال : بعثتك مائراً فمكثت حولا
متى يأتي غياثك من تغيث
البعير في الأشهر الجمل مقابل الناقة ، وقد يطلق على الناقة ، كما يطلق على الجمل
فيقول : على هذا نعم البعير ، الجمل لعمومه ، ويمتنع على الأشهر لترادفه . وفي لغة
تكسر باؤه ، ويجمع في القلة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران .
( وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ
بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى ( : لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل
على الملأ تأويلها ، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف ، وتأويل رؤياه
ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه ليذكره عند الملك . وادكر أي تذكر ما سبق له مع يوسف بعد
أمة أي : مدة طويلة . والجملة من قوله وادكر حاليه ، وأصله : واذتكر أبدلت التاء
دالاً وأدغمت الذال فيها فصار ادّكر ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ الحسن : واذكر
بإبدال التاء ذالاً ، وإدغام الذال فيها . وقرأ الأشهب العقيلي : بعد إمّة بكسر
الهمزة أي : بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل . وقال ابن عطية : بعد نعمة نعم
الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه ، والأمة النعمة قال : ألا لا أرى ذا إمة أصبحت
به
فتتركه الأيام وهي كما هيا
قال الأعلم : الأمة النعمة ، والحال الحسنة . وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ،
والضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وشبيل بن عزرة الضبعي ، وربيعة بن عمرو : بعد أمه
بفتح الهمزة ، والميم مخففة ، وهاء ، وكذلك قرأ ابن عمر ، ومجاهد ، وعكرمة ،
واختلف عنهم . وقرأ عكرمة وأيضاً مجاهد ، وشبيل بن عزرة : بعد أمه بسكون الميم ،
مصدر أمه على غير قياس ، وقال
"
صفحة رقم 314 "
الزمخشري : ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى . وهذا على عادته في نسبته الخطأ
إلى الفراء . أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي . وقرأ
الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان ، وكذا في الإمام . وفي مصحف أبي : فأرسلون
، أي ابعثوني إليه لأسأله ، ومروني باستعباره ، استأذن في المضي إلى يوسف . فقال
ابن عباس : كان في السجن في غير مدينة الملك ، وقيل : كان فيها ، ويرسم الناس
اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال . وفي الكلام
حذف التقدير : فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال : والصديق بناء مبالغة كالشريب والكبر
، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، وقوله
: لعلي أرجع إلى الناس أي : بتفسير هذه الرؤيا . واحترز بلفظة لعلي ، لأنه ليس على
يقين من الرجوع إليهم ، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم . وقوله : لعلهم
يعلمون ، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا . وقيل : لعلهم يعلمون فضلك ومكانك
من العلم ، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك ، فتكون لعل كالتعليل لقوله : أفتنا . قال
: تزرعون إلى آخره ، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول : أحدها :
تعبير بالمعنى لا باللفظ . والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : فذروه في سنبله
. والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة . قال ابن عطية :
ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً ، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع ، ومعلوم
أنه الأخصب انتهى . والظاهر أن قوله : تزرعون سبع سنين دأباً خبراً ، أخبر أنهم
تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد . وقال الزمخشري : تزرعون
خبر في معنى الأمر كقوله : ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ (
وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به ، فيجعل كأنه
وجد فهو يخبر عنه . والدليل على كونه في معنى الأمن قوله : فذروه في سنبله انتهى .
ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا ، بل تزرعون إخبار
غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين . وأما قوله : فذروه فهو أمر إشارة بما
ينبغي أن يفعلوه . ومعنى دأباً : ملازمة ، كعادتكم في المزارعة . وقرأ حفص : دأباً
بفتح الهمزة ، والجمهور بإسكانها ، وهما مصدران لدأب ، وانتصابه بفعل محذوف من
لفظه أي : تدابون داباً ، فهو منصوب على المصدر . وعند المبرد بتزرعون بمعنى
تدأبون ، وهي عنده مثل قعد القرفصاء . وقيل : مصدر في موضع الحال أي : دائبين ، أو
ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون . وما في قوله : فما حصدتم شرطية أو موصولة ، بذروه
في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا
بحيلة إبقائها في السنبل ، فإذا بقيت فيها انحفظت ، والمعنى : اتركوا الزرع في
السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم ،
فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر . وقرأ السلمي : مما
يأكلون بالياء على الغيبة أي : يأكل الناس ، وحذف المميز في قوله : سبع شداد أي :
سبع سنين شداد ، لدلالة قوله : سبع سنين عليه . وأسند الأكل الذي في قوله : أكلن
على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال : ) وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ).
ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون ، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ . وقال ابن عباس
ومجاهد والجمهور : يغاث من الغيث ، وقيل : من الغوث ، وهو الفرج . ففي الأول بني
من ثلاثي ، وفي الثاني من رباعي ، تقول : غاثنا الله من الغيث ، وأغاثنا من الغوث
. وقرأ الأخوان : تعصرون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالياء على الغيبة ،
والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما
يعصر ، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه ، لأنه عصر للضروع . وروي أنهم لم
يعصروا شيئاً مدة الجدب . وقال أبو عبيدة وغيره : مأخوذ من العصرة ، والعصر وهو
المنجي ، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : صادياً يستغيث غير مغاث
ولقد كان عصرة المنجود
"
صفحة رقم 315 "
فالمعنى : ينجون بالعصرة . وقرأ جعفر بن محمد ، والأعرج ، وعيسى البصرة يعصرون بضم
الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول ، وعن عيسى أيضاً : تعصرون بالتاء على الخطاب
مبنياً للمفعول ، ومعناه : ينجون من عصره إذا أنجاه ، وهو مناسب لقوله : يغاث
الناس . وقال ابن المستنير : معناه يمطرون ، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا
معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم ، وهو للماء الذي يمطرون به . وقرى زيد ابن علي :
وفيه تعصرون ، بكسر التاء والعين والصاد وشدها ، وأصله تعتصرون ، فأدغم التاء في
الصاد ونقل حركتها إلى العين ، واتبع حركة التاء لحركة العين . واحتمل أن يكون من
اعتصر العنب ونحوه . ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر : لو بغير الماء حلقي شرق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
أي نجاتي . تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة ،
والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام
الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي . وعن قتادة :
زاده الله علم سنة ، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث
الناس ، وفيه يعصرون ، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب .
( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ
إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
إِنَّ ( : في الكلام حذف تقديره : فحفظ الرسول ما أول به يوسف الرؤيا ، وجاء إلى
الملك ومن أرسله وأخبرهم بذلك ، وقال الملك : وقال ابن عطية : في تضاعيف هذه الآيات
محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدلّ عليها ، والمعنى : فرجع الرسول إلى الملك ومن مع
الملك فنص عليهم مقالة يوسف ، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير ، وحسن الرأي ،
وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنام المتقدم
، فعظم يوسف في نفس الملك وقال : ائتوني به ، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه وقال
: إنّ الملك قد أمر بأن تخرج إليه ، قال له : ارجع إلى ربك أي : إلى الملك وقل له
: ما بال النسوة ؟ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان وقل له يستقصي عن ذنبي ، وينظر
في أمري ، هل صجنت بحق أو بظلم ؟ وكان هذا الفعل من يوسف إناءة وصبراً وطلباً
لبراءة الساحة ، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن
أمر دينه صفحاً ، فيراه الناس بتلك العين أبداً ويقولون : هذا الذي راود امرأة
مولاه ، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويتحقق منزلته من العفة والخير ،
وحينئذ يخرج للأحظاء والمنزلة .
وقال الزمخشري : إنما تأتي وتثبت في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة لتظهر براءة
ساحته عما فرق به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ،
ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن سبع سنين إلا
أمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ، ويكشف سره ، وفيه دليل على أنّ الاجتهاد
في نفي التهم واجبة وجوب ابقاء الوقوف في مواقفها . قال عليه السلام : ( من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ) انتهى ولأجل هذا كان الزمخشري ، وكان
مقطوع الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في خيانة ولا فساد ، وكان يظهر
ذلك المكتوب في كل بلد دخله خوفاً من تهمة السوء . وإنما قال : سل الملك عن شأن
النسوة ، ولم يقل سله أن يفتش عنهن ، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبعث
عنما سئل عنه ، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجري التفتيش عن حقيقة
"
صفحة رقم 316 "
القصة ، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل
. ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من
السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي . وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم
في رواية النسوة بضم النون ، وقرأت فرقة اللاي بالياء ، وكلاهما جمع التي . إن ربي
أي : إن الله بكيدهنّ عليم . أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد عوده ،
واستشهد بعلم الله على أنهن كدنه ، وأنه بريء مما قذف به . أو أراد الوعيد لهن ،
أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالرب العزيز
مولاه ، ففي ذلك استشهاد به وتقريع . وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ ،
والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس ، لأنها حالة توقيف على ذنب
. قال : ما خطبكن في الكلام حذف تقديره : فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف ، فجمع
الملك النسوة وامرأة اعزيز وقال لهن : ما خطبكن ؟ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه
بالقصة ، ونزه جانب يوسف بقوله : إذ راودتن يوسف عن نفسه ، ومراودتهن له قولهن
ليوسف : أطع مولاتك . وقال الزمخشري : هل وجدتن منه ميلاً لكن قلن : حاش لله
تعجباً من عفته ، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ، ومن نزاهته عنها . وقال ابن
عطية : أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة ، وأعطين يوسف بعض براءة
، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جواباً عن ذلك : حاش لله . ويحتمل أن
يكون قولهن : حاش لله ، في جهة يوسف عليه السلام . وقولهن ما علمنا عليه من سوء
ليس بإبراء تام ، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في
جهتهن ، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت : الآن
حصحص الحق . وقرىء حصحص على البناء للمفعول ، أقرت على نفسها بالمراودة ، والتزمت
الذنب ، وأبرأت يوسف البراءة التامة .
( ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى
كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ
بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( : الظاهر أن
هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله : قالت . والمعنى : ذلك الإقرار
والاعتراف بالحق ، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه ، وأرميه بذنب هو
منه بريء . ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها : وما
أبرىء نفسي ، والنفوس مائلة إلى الشهوات إمارة بالسوء . وقال الزمخشري : وما أبرىء
نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت : ما جزاء من أراد بأهلك
سوءاً إلا أن يسجن ، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة
بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعمصة إن ربي غفور رحيم ، استغفرت ربها واسترحمته
مما ارتكبت . ومن ذهب إلى أن قوله : ذلك ليعلم إلى آخره ، من كلام يوسف يحتاج إلى
تكلف ربط بينه وبين ما قبله ، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف . فقال ابن جريج
: في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا الكلام متصل بقول يوسف : إن ربي بكيدهن عليم ،
وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي : هذا العلم
سيدي أني لم أخنه . وقال بعضهم : إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز
كلامها إلى قولها : وإنه لمن الصادقين ، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع الله فيه
، وهذا يضعف ، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك . فكيف يقول الملك بعد ذلك :
ائتوني به ؟ وفسر الزمخشري الآية أولاً على أنها من كلام يوسف فقال : أي ذلك
التنبت والتشمر لظهور البراءة ، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته ،
وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده ، وكأنه تعريض بامرأته في
خيانتها في أمانة زوجها ، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات
على حبسه . ويجوز أن يكون توكيداً لأمانته ، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده
، ولا سدّده ، ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً ، ولحالها
في الأمانة معجباً كما قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنا سيد ولد آدم
ولا فخر ) وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه
وعصمته . فقال : وما أبرىء نفسي من الزلل ، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ، ولا
أزكيها ، إن النفس لأمارة بالسوء . أراد
"
صفحة رقم 317 "
الجنس أي : هذا الجنس يأمر بالسوء ، ويحمل على ما فه من الشهوات انتهى . وفيه
تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه ، ويزيد على عادته في خطابته . ولما أحسّ الزمخشري
بأشكال قول من قال : إنه من كلام يوسف قال : ( فإن قلت ) : كيف صح أن يجعل من كلام
يوسف ولا دليل على ذلك ؟ ( قلت ) : كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من
كلامه ، ونحوه قوله : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من
أرضكم بسحره فماذا تأمرون ؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى . وهذا ليس
كما ذكر ، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون ، بل هو من كلام
الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة ، فقالوا ذلك بعض لبعض ، فيكون في قول فرعون :
يريد أن يخرجكم خطاباً للملأ من فرعون ، ويكون في هذا التركيب خطاباً من بعضهم
لبعض ، ولا يتنافى اجتماع المقالتين . وبالغيب يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي :
غائباً عنه ، أو من المفعول أي : غائباً عني ، أو ظرفاً أي بمكان الغيب . والظاهر
أنّ إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله : لأمارة بالسوء ، لأنه أراد الجنس بقوله
: إن النفس ، فكأنه قال : إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء ، فكون
استثناء من الضمير المستكن في أمارة . ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة
المحذوف إذ التقدير : لأمارة بالسوء صاحبها ، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء
. وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء ، وما
ظرفية إذ التقدير : لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها
عن اشتهاء المعاصي . وجوزوا أن يكون استثناء منقطعاً ، وما مصدرية . وذكر ابن عطية
أنه قول الجمهور أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة .
( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى
خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى
الاْرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء
وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَجْرُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ
ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( : روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج
من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم
أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور
الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس
ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك يخيرك من خيره ، وأعوذ
بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟
فقال : لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ،
فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان
فوصف لونهن وأحوالهن ، وما كان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة
التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في
الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع
لأحد قبلك . وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ،
فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا ، فلذلك قال : ائتوني به فقط ،
فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه
بأول طلب عظمت منزلته عنده ، فطلبه ثانياً ومقصوده : استخلاصه لنفسه . ومعنى
أستخلصه : أجعله خالصاً لنفسي وحاصاً بي ، وسمى الله فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية
اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير
، ولهذا كتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً
ولا أميراً ، لأن ذلك حكم . والجواب مسلم وتسلموا . وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا
تفارقه كيف ما
"
صفحة رقم 318 "
تقلب . وفي الكلام حذف التقدير : فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به ،
فأراد رؤيته وقال : ائتنوني به ، فلما كلمه . والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير
الملك أي : فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته . ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير
يوسف أي : فلما كلم يوسف الملك ، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر ،
والمرء مخبوء تحت لسانه ، قال : إنك اليوم لدينا مكين أي : ذو مكانة ومنزلة ، أمين
مؤتمن على كل شيء . وقيل : أمين آمين ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ،
وبالأمن يحط من إكرام يوسف . ولما وصفه الملك بالتمكن عنده ، والأمانة ، طلب من
الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال : اجعلني على خزائن الأرض أي : ولني خزائن
أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه ، عليم بوجوه التصرف . وصف نفسه بالأمانة والكفاءة
وهما مقصود الملوك ممن يولونه ، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ، ولا خلل
معهما لقائل . وقيل : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن . وقيل : حفيظ لما استودعتني ،
عليم بسني الجوع . وهذا التخصيص لا وجه له ، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز
للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره ، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها
. وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل ، لا بما
يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع ، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء
حكم الله ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى
العباد ، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك . فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى
مجاهد فلا كلام ، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا
بتمكينه ، فللمتولي أن يستظهر به . وقيل : كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض
عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع . وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من
جهة من ليس بصالح ، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع ، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا .
وكذلك أي : مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر ، يتبوأ منها حيث
يشاء أي : يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد ، فاستولى على جميعها ، ودخلت تحت
سلطانه . روي أن الملك توجه بتاجه ، وختمه بخاتمه ، ورداه بسيفه ، ووضع له سريراً
من ذهب مكللاً بالدر والياقوت ، فجلس على السرير ، ودانت له الملوك ، وفوض الملك
إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد ، فزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال :
أليس هذا خيراً مما طلبت ؟ فوجدها عذراء ، لأنّ العزيز كان لا يطأ ، فولدت له
ولدين : افراثيم ، ومنشا . وأقام العدل بمصر ، وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على
يده الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير
والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ، ثم
بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم ، ثم استرقهم جميعاً فقالوا : والله ما
رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما
خولني ، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل
مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم . وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من
حمل بعير تقسيطاً بين الناس ، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر ،
فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا ، واحتبس بنيامين . وقرأ الحسن وابن كثير : بخلاف عنهم
أبو جعفر وشيبه ونافع : حيث نشاء بالنون ، والجمهور بالياء . والظاهر أنّ قراءة
الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف ، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله ، إذ هو
نبيه ورسوله . وإما أن يكون الضمير عائداً على الله أي : حيث يشاء الله ، فيكون
التفاتاً . نصيب برحمتنا أي : بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما ، ولا نضيع في
الدنيا أجر من أسن . ثم ذكر أن أجر الآخرة خير ، لأنه الدائم الذي لا يفنى . وقال
سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له
الخير في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية . وفي الحديث ما
يوافق ما قال سفيان ، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته
العظيمة في الدنيا .
( وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ
مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُم
"
صفحة رقم 319 "
ْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُراوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا
لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ } : أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام . وقيل : من
الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها ، فتوصلوا إلى يوسف للميرة ، فعرفهم
لأنه فارقهم وهم رجال ، ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك ، ولأنّ همته كانت معمورة
بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمل ويتفطن . وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم
، وأمر بإنزالهم . ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا له ، وإنكارهم إياه كان
. قال الزمخشري : لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ، ولاعتقادهم أنه قد
هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك
والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشريّاً بدراهم معدودة ، حتى
لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم . ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من
التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف . وقيل : رأوه على زي فرعون عليه ثياب
الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فما خطر لهم أنه هو
. وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف
طلاب الحوائج .
ولما جهزهم بجهازهم ، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه . وفي الكلام
حذف تقديره : وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم . روي أنه لما عرفهم
أراد أن يخبروه بجميع أمرهم ، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه : أظنكم جواسيس ،
فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا : نحن أبناء رجل صديق ، وكنا اثنى عشر ، ذهب
منا واحد في البرية ، وبقي أصغرنا عند أبينا ، وجئنا نحن للميرة ، وسقنا بعير
الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيراً . فقال لهم يوسف : ولم تخلف أحدكم ؟
قالوا : المحبة أبينا فيه قال : فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم ، وأرى لم
أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ؟ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب
هذه في المعنى ، وفي آخره قال : فمن يشهد لكم ؟ إنكم لستم بعيون ، وإن الذي تقولون
حق . قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا . قال : فدعوا بعضكم عندي
رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو حمل سالة من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصاب
القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يوسف ، فخلفوه عنده ، وكان قد أحسن إنزالهم
وضيافتهم . وقيل : لم يرتهن أحداً ، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم . قيل :
كان يوسف ملثماً أبداً ستراً لجماله ، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق
الحديث أو كذبه ، فسئلوا عن أخبارهم ، فكلما صدقوا قال لهم : صدقتم ، فلما قالوا :
وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال : كذبتم ، ثم تغير لهم وقال : أراكم
جواسيس ، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم . وقرىء : بجهازهم بكسر الجيم ،
وتنكر أخ ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن
يتعرف لهم ، ولا أنه يدري من هو . ألا ترى فرقاً بين مررت بغلامك ، ومررت بغلام لك
؟ إنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام ، وفي التنكير أنت جال به . فالتعريف يفيد
فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب ، والتنكير لا عهد فيه البتة . وجائز أن نخبر
عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول : قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على
المعرفة ، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله : ألا ترون إني أوف الكيل
وأنا خير المنزلين أي المضيفين ؟ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ،
ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل . واحتمل قوله :
ولا تقربون ، أن يكون نهياً ، وأن يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي . وحذفت النون
وهو مرفوع ، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل
فلا كيل لكم عندي ، فيكون مجزوماً والمعنى : أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة .
وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي ، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن
يبادر إلى أبيه ويستدعيه ، لكن الله تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته : ولتتفسر
الرؤيا الأولى قالوا : سنراود عنه أباه أي :
"
صفحة رقم 320 "
سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك ، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم
فاعلو ذلك لا محالة ، لا نفرط فيه ولا نتوانى . وقرأ الأخوان وحفص : لفتيانه ،
وباقي السبعة لفتيته ، فالكثرة على مراعاة المأمورين ، والقلة على مراعاة
المتأوّلين . فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في
رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي : يعرفون حق ردها ، وحق التكرم
بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وفرغوا ظروفهم . ولعلهم
يعرفونها تعليق بالجعل ، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف
. قيل : وكانت بضاعتهم النعال والأدم . وقيل : يرجعون متعد ، فالمعنى لعلهم يردون
البضاعة . وقيل : تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به . وقيل : علم
أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة ، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها . وقيل :
جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل
القصة . قال ابن عطية : ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان
واجباً عليه ، هذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة .
( فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ هَلْ
امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ
خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ ( : أي : رجعوا من مصر ممتارين ،
بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم ، وذلك قبل فتح
متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم . وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز
الذي على إهراء مصر ، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم
أنهم ليسوا جواسيس ، وقولهم : منع منا الكيل ، إشارة إلى قول يوسف : فإن لم تأتوني
به فلا كيل لكم عندي . ويكون منع يراد به في المستأنف ، وإلا فقد كيل لهم . وجاؤوا
أباهم بالميرة ، لكنْ لما أنذروا بمنع الكيل قالوا : منع . وقيل : أشاروا إلى بعير
بنيامين الذي منع من الميرة ، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة ، ولقولهم :
فأرسل معنا أخانا نكتل ، ويقويه قراءة يكتل بالياء أي : يكتل أخونا ، فإنما منع
كيل بعيره لغيبته ، أو يكن سببلاً للاكتيال . فإن امتناعه في المستقبل تشبيه ، وهي
قراءة الأخوين . وقرأ باقي السبعة بالنون أي : نرفع المانع من الكيل ، أو نكتل من
الطعام ما نحتاج إليه ، وضمنوا له حفظه وحياطته . قال : هل آمنكم ، هذا توقيف
وتقرير . وتألم من فراقه بنيامين ، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من
المصلحة . وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف . قلتم فيه :
وإنا له لحافظون ، كما قلتم في هذا ، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك ، لكن
يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف ، واستسلم لله وقال : فالله خير حفظاً ، وقرأ
الأخوان وحفص : حافظاً اسم فاعل ، وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز ، والمنسوب له
الخير هو حفظ الله ، والحافظ الذي من جهة الله . وأجاز الزمخشري أن يكون حافظاً
حالاً ، وليس بجيد ، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال . وقرأ الأعمش : خير حافظ على
الإضافة ، فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ . وقرأ أبو هريرة : خير
الحافظين ، كذا نقل الزمخشري . وقال ابن عطية : وقرأ ابن مسعود ، فالله خير حافظاً
وهو خير الحافظين . وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيراً لقوله : فالله خير حافظاً ،
لا أنها قرآن . وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن الله هو ذو الرحمة الواسعة ، فأرجو
منه حفظه ، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه .
2 ( ) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ
قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا
"
صفحة رقم 321 "
رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ
بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ
مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ
ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَقَالَ
يابَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ
مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ
مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ
لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (
)
) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ
يأَبَانَا أَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بِغَيْرِ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ اللَّهِ
لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ
قَالَ ).
قرأ علقمة ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، ردت بكسر الراء ، نقل حركة الدال المدغمة
إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة ، وهي لغة لبني ضبة ، كما نقلت العرب في قيل
وبيع . وحكى قطرب : النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو : ضرب زيد ، سموا
المشدود المربوط بجملته متاعاً ، فلذلك حسن الفتح فيه وما نبغي ، ما فيه استفهامية
أي : أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا قاله قتادة . وكانوا
قالوا لأبيهم : قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلاً من آل
يعقوب ما أكرمنا كرامته . وقال الزجاج : يحتمل أن تكون ما نافية أي : ما بقي لنا
ما نطلب . ويحتمل أيضاً أن تكون نافية من البغي أي : ما افترينا فكذبنا على هذا
الملك ، ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة ، وهذا معنى قول الزمخشري
ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة . وقيل : معناه
ما نريد منك بضاعة أخرى . وقرأ عبد الله وأبو حيوة : ما تبغي بالتاء على خطاب
يعقوب ، وروتها عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويحتمل ما في هذه
القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : ونميز بضم
النون ، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم : ما نبغي ، والجمل
بعدها معطوفة عليها على تقدير : فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا
إلى الملك ، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه . وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما
نكذب ، جاز أن يكون ونمير معطوفاً على ما نبغي أي : لا نبغي فيما نقول ، ونمير
أهلنا ونفعل كيت وكيت . وجاز أن يكون كلاماً مبتدأ ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في
الحض على إرساله ، ونزداد باستصحاب أخينا . وسق بعير على أوساق بعيرنا ، لأنه إنما
كان حمل لهم عشرة أبعرة ، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه . والظاهر أنّ البعير
هو من الإبل . وقال مجاهد : كيل حمار ، قال : وبعض العرب تقول للحمار : بعير ،
وهذا شاذ . والظاهر أنّ قوله : ذلك كيل يسير ، من كلامهم لا من كلام يعقوب ،
والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى كيل بعير أي : يسير ، بمعنى قليل ، يحببنا إليه
الملك ولا يضايقنا فيه ، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه . وقيل : يسير عليه
أن يعطيه . وقال الحسن : وقد كان يوسف عليه السلام وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير
ثمن . قال الزمخشري : أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني : ما يكال لهم ، فازدادوا
إليه ما يكال لأخيه . ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي : حمل بعير واحد شيء يسير لا
يخاطر لمثله بالولد ، كقوله : ذلك ليعلم انتهى . ويعني أن ظاهر الكلام أنه من
كلامهم ، وهو من كلام يعقوب ، كما أن قوله : ذلك ليعلم ، ظاهره أنه من كلام امرأة
العزيز ، وهو من كلام يوسف . وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله ، وفيه
مخالفة الظاهر لغير دليل . ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه ، وألحوا عليه في
ذلك ، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله ، إذ به تؤكد العهود وتشدد
"
صفحة رقم 322 "
ولتأتني به جواب للحلف ، لأن معنى حتى تؤتون موثقاً : حتى تحلفوا لي لتأتنني به .
وقوله : إلا أن يحاط بكم ، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة ، والمعنى : نعمكم الغلبة من
جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص . وقال مجاهد : إلا أن تهلكوا .
وعنه أيضاً : إلا أن تطيقوا ذلك . وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في
قوله : لتأتنني ، وإن كان مثبتاً معنى النفي ، لأن المعنى : لا تمتنعون من الإتيان
به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم . ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي
قولهم : أنشدك الله إلا فعلت أي : ما أنشدك إلا الفعل . ولا يجوز أن يكون مستثنى
من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً ، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً ،
فيكون التقدير : لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي : محاطاً بكم ، لأنهم نصوا
على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه
حالاً . فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ، ويكون التقدير :
لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي : إلا وقت إحاطة بكم . قلت : منع ذلك ابن
الأنباري فقال : ما معناه : يجوز خروجنا صياح الديك أي : وقت صياح الديك ، ولا
يجوز خروجنا أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك . وإن كانت أنْ وما مصدريتين ،
وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه . وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً ، كما يقع
صريح المصدر ، فأجاز في قول تأبط شراً : وقالوا لها لا تنكحيه فإنه
لأول فصل أن يلاقي مجمعا
وقول أبي ذؤيب الهذلي : وتالله ما أن شهلة أم واحد
بأوجد مني أن يهان صغيرها
أنْ يكون أنْ تلاقي تقديره : وقت لقائه الجمع ، وأن يكون أنْ يهان تقديره : وقت
إهانة صغيرها . فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على
ظاهره من الإثبات ، ولا يقدر فيه معنى النفي . وفي الكلام حذف تقديره : فأجابوه
إلى ما طلبه ، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب : الله على ما نقول من طلب الموثق
وإعطائه وكيل رقيب مطلع .
ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين ، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل
جمال وبسطة قاله : ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، والعين ، حق . وفي
الحديث : ( إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة )
وخطب الزمخشري فقال : لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، وقد أشهرهم أهل مصر
بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فكانوا مظنة لطموح الأبصار
إليهم من الوفود ، وأن يشار إليهم بالأصابع ، ويقال : هؤلاء أضياف الملك انظروا
إليهم ما أحسنهم من فتيان ، وما أحقهم بالإكرام ، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم
وفضلهم على الوافدين عليه . فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم
وجلالة أمرهم في الصدور ، ويصيبهم ما يسوءهم ، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة
الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين معمورين بين الناس انتهى . ويظهر أنّ خوفه عليهم من
العين في هذه الكرة بحسب أنّ محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه
يوسف ، ولم يكن فيهم
"
صفحة رقم 323 "
في الكرة الأولى ، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف . وقيل : نهاهم
خشية أن يستراب بهم لقول يوسف : أنتم جواسيس . وقيل : طمع فافتراقهم أن يتسمعوا
خبر يوسف ، ثم نفى عن نفسه أنْ يغني عنهم شيئاً يعني : بوصاته ، إنْ الحكم إلا لله
أي : هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد ، فعليه وحده توكلت . ومن حيث أمرهم أبوهم
أي : من أبواب متفرقة . روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي
وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا . وفي كتاب أبي
منصور المهراني : أنه خاطبة بكتاب قرىء على يوسف فبكى . وجواب لما قوله : ما كان
يغني عنهم من الله من شيء ، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ، ظرف زمان
بمعنى حين ، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية . لا
يجوز حين قام زيد ما قام عمرو ، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو ، فدل ذلك على أنّ
لما حرف يترتب جوابه على ما بعده . وقال ابن عطية : ويجوز أنْ يكون جواب لما
محذوفاً مقدراً ، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني . ومعنى الجملة : لم يكن في
دخولهم متفرقين دفع قدر الله الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ
أخيهم بوجدان الصاع في رحله ، وتزايد مصيبته على أبيهم ، بل كان إرباً ليعقوب قضاه
وتطييباً لنفسه . وقيل : معنى ما كان يغني عنهم من الله من شيء ، ما يرد عنهم
قدراً لأنه لو قضى أنْ يصيبهم عين لإصابتهم متفرقين أو مجتمعين ، وإنما طمع يعقوب
أن تصادف وصيته قدر السلامة ، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن
يصادف وصيته القدر في سلامتهم . وإنه لذو علم يعني لقوله : إن الحكم إلا لله ، وما
بعده وعلمه بأنّ القدر لا يدفعه الحذر . وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السلام
. وقال قتادة : لعامل بما علمناه . وقال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالماً ،
ولفظة ذو وعلم لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه . وقرأ الأعمش :
مما علمناه .
2 ( ) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَىإِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّىأَنَاْ
أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ
مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا
جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا
جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ
قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ
كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن
يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ
فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ
أَعْلَمْ بِمَا
"
صفحة رقم 324 "
تَصِفُونَ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا
فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا
لَّظَالِمُونَ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ
أَبْرَحَ الاٌّ رْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِىأَبِىأَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ
حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ
الَّتِىأَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ
ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ
مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يابَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ
مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ
مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } )
يوسف : ( 69 ) ولما دخلوا على . . . . .
العير الإبل التي عليها الأحمال ، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء . وقيل : هي
قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير ، كأنها جمع عير . وأصلها فعل كسقف ،
وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد ، والعير مؤنث . وقالوا في الجمع : غيرات ، فشذوا في
جمعه بالألف والتاء ، وفي فتح يائه وقال الشاعر : غشيت ديار الحي بالبكرات
فعارمة فبرقة العيرات
قال الأعلم : هنا مواضع الأعيار ، وهي الحمير . الصواع الصاع ، وفيه لغات تأتي في
القرآن ، ويؤنث ويذكر . الوعاء : الظرف الذي يحفظ فيه الشيء ، وتضم واوه ، ويجوز
أن تبدل واوه همزة . فتىء من أخوات كان الناقصة قال أوس بن حجر : فما فتئت حي كان
غبارها
سرادق بوم ذي رياح يرفع
وقال أيضاً : فما فتئت خيل تثوب وتدعي
ويلحق منها لاحق وتقطع
ويقال فيها : فتأ على وزن ضرب ، وأفتأ على وزن أكرم . وزعم ابن مالك أنها تكون
بمعنى سكن وأطفأ ، فتكون تامة . ورددنا عليه ذلك في شرح التسهيل ، وبينا أن ذلك
تصحيف منه . صحف الثاء بثلاث ، بالتاء بثنتين من فوق ، وشرحها بسكن وأطفأ . الحرض
: المشفي على الهلاك يقال : حرض فهو حرض بكسر الراء ، حرضاً بفتحها وهو
"
صفحة رقم 325 "
المصدر ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع . وأحرضه المرض فهو محرض
قال : أرى المرء كالأزواد يصبح محرضا
كأحراض بكر في الديار مريض
وقال الآخر : إني امرؤ لج بي حب فأحرضني
حتى بليت وحتى شفني السقم وقال : رجل حرض بضمتين كجنب وشلل .
( وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّى أَنَاْ
أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ
مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا
جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الاْرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا
جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( : روى أنهم قالوا له : هذا
أخونا قد جئناك به ، فقال : أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي ، فأنزلهم وأكرمهم ،
ثم أضافهم ، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو
كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه . فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً ، فأجلسه معه على
مائدته ، وجعل يؤاكلهم وقال : أنتم عشرة ، فلينزل كل اثنين منكم بيتاً ، وهذا لا ثاني
له فيكون معي ، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح ، وسأله عن ولده فقال :
لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك ، فقال له : أتحب أنْ أكون أخاك بدل
أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف
وقام إليه وعانقه وقال له : أنا أخوك يوسف فلا تبتئس ، فلا تحزن بما كانوا يعملون
بنا فيما مضى ، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ، ولا تعلمهم بما أعلمتك .
وعن ابن عباس : تعرف إليه أنه أخوه ، وهو الظاهر . وهو قول ابن إسحاق وغيره ،
أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه ، وقال له : لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في
تحيلي في أخذك منهم . قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله : بما
كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى . ولا يحتمل
ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا ، لأمكن على بعده ، لأن الكلام
إنما هو مع أخوة يوسف . وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً ، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا
في قوله : وقال لفتيانه ، وقد حال بينهما قصص . واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا
ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم ، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديماً من
الأذى ، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف . وقال وهب : إنما أخبر أنه أخوه في
الود مقام أخيه الذاهب ، ولم يكشف إليه الأمر ، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر
إخوته .
والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف ، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه
لم يباشر ذلك بنفسه ، بل جعل غيره من فتيانه ، أو غيرهم أن يجعلها . وتقدم قول وهب
: إنه لم يكشف له أنه أخوه ، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة . وروي أنه قال ليوسف :
أنا لا أفارقك قال : قد علمت اغتمام والدي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، ولا سبيل إلى
ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل . قال ؛ لا أبالي ، فافعل ما بدا لك . قال : فإني
أدس صاعي في رحلك ، ثم أنادي
"
صفحة رقم 326 "
عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم ، قال : فافعل . وقرأ عبد الله
فيما نقل الزمخشري : وجعل السقاية في رحل أخيه ، أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أذن .
وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري
بعد قوله : في رحل أخيه ، فاحتمل أن تكون الواود زائدة على مذهب الكوفيين ، واحتمل
أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنما أوحى إلى يوسف أن
يجعل السقاية فقط ، ثم إن حافظها فقدها ، فنادى برأيه على ما ظهر له ، ورجحه
الطبري . وتفتيش الأوعية يرد هذا القول ، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر
يوسف . وقال السدي : كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين ، وما تقدم يدل على أنه
كان يعلم منه .
وقال الجمهور : وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد :
السقاية إناء يشرب به الملك ، وبه كان يكال الطعام للناس . وقيل : كان يسقي بها
الملك ثم جعلت صاعاً يكال به ، وقيل : كانت الدواب تسقي بها ويكال بها . وقال ابن
جبير : الصواع هو مثل المكوك الفارسي ، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه ، وكان إلى
الطول ماهر . قال : وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب في الجاهلية . وقال
ابن جبير أيضاً : الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه . كانت تشرب به الأعاجم
. والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب ، أو نحاس ، أو مسك ، أو كانت مرصع
بالجواهر أقوال أولها للجمهور ، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك
الإناء .
ثم أذن مؤذن أي : نادى مناد ، أذن : أعلم . وآذن أكثر الإعلام ، ومنه المؤذن لكثرة
ذلك منه . وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين ، فروي أنه لما فصلت العير
بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك . وقيل : قبل الخروج من مصر أمر بهم
فحبسوا ، وأذن مؤذن . والظاهر وقول الجمهور : إن العير رالإبل . وقال مجاهد : كانت
دوابهم حميراً ، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله : يا خيل الله اركبي ، ولذلك
جاء الخطاب : إنكم لسارقون ، فروعي المحذوف ، ولم يراع العير كما روعي في اركبي .
وفي قوله : والعير التي أقبلنا فيها . ويجوز أن تطلق العير على القافلة ، أو
الرفقة ، فلا يكون من مجاز الحذف : والذي يظهر أن هذا التحيل ، ورمى أبرياء السرقة
، وإدخال الهم على يعقوب ، بوحي من الله . لما علم تعالى في ذلك من الصلاح ، ولما
أراد من محنتهم بذلك . ويقويه قوله : كذلك كدنا ليوسف . وقيل : لما كانوا باعوا
يوسف استجيز أن يقال لهم هذا ، ونسبة السرقة إليهم جميعاً : وإن كان الصواع إنما
وجد في رحل واحد منهم كما تقول : بنو فلان فتلوا فلاناً ، والقاتل واحد منهم .
قالوا : أي أخوة يوسف ، وأقبلوا جملة حالية أي : وقد أقبلوا عليهم ، أي : على
طالبي السقاية ، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع . كأنه جعل مؤذنين ينادون ،
وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا : ماذا تفقدون ؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم
، ولم يلوذوا بالإنكار من أول ، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل
به فلا يحتاج إلى خصام . واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون ،
ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما ،
وتفقدون صلة لذا ، والعائذ محذوف أي : تفقدونه . وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من
أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو : أحمدته إذا أصبته محموداً . وضعف هذه القراءة أبو
حاتم ، وجهها ما ذكرناه .
وصواع الملك هو المكيال ، وهو السقاية سماه أولاً بإحدى جهتيه ، وآخراً بالثانية .
وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد ، بعدها واو مفتوحة ، بعدها ألف ، بعدها عين مهملة .
وقرأ أبو حيوة ، والحسن ، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك ، إلا أنه كسر الصاد .
وقرأ أبو هريرة ، ومجاهد : صاع بغير واو على وزن فعل ، فالألف فيها بدل من الواو
المفتوحة . وقرأ أبو رجاء : صوع على وزن قوس . وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان
: صوع بضم الصاد ، وكلها لغات في الصاع . وقرأ الحسن ، وابن جبير فيما نقل عنهما
صاحب اللوامح : صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب . وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ، إلا
أنه يحذف الألف ويسكن الواو . وقرأ زيد بن علي : صوغ مصدر صاغ ، وصواغ صوغ مشتقان من
الصوغ مصدر صاغ يصوغ ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك . ولمن جاء به أي :
ولمن دل على
"
صفحة رقم 327 "
سارقه وفضحه ، وهذا جعل وأنابه زعيم من كلام المؤذن . وأنا بحملالبعير كفيل أؤديه
إلى ما جاء به ، وأراد به وسق بعير من طعام جعلاً لمن حصله . قالوا : تالله أقسموا
بالتاء من حروف القسم ، لأنها تكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا
الأمر . وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا
ثمن ، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح ، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا
تنال زروع الناس ، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم ، وهو أنكم قد علمتم أن
مجيئنا لم يكن لفساد ، ثم استأنفوا الأخبار عن نفي صفة السرقة عنهم ، وأن ذلك لم
يوجد منهم قط . ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم ، فيكون معطوفاً على قوله : لقد
علمتم . قال ابن عطية : والتاء في تالله بدل من واو ، كما أبدلت في تراث ، وفي
التوراة ، والتخمة ، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله
تعالى وغير ذلك لا تقول : تالرحمن ، ولا تالرحيم انتهى . أما قوله : والتاء في
تالله بدل من واو ، فهو قول أكثر النحويين . وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها
وليست بدلاً من واو ، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو . وأما قوله : وفي
التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل . ووراه من ورى الزند . ومن
النحويين من زعم أن التاء زائدة ، وذلك مذكور في النحو . وأما قوله : ولا تدخل إلى
آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب ، وعلى الرحمن ، وعلى حياتك ، قالوا : ترب
الكعبة ، وتالرحمن ، وتحياتك . والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع ، والضمير في
جزاؤه عائد على السارق . فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم : وما كنا
سارقين له ؟ قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : فما جزاؤه الضمير للصواع أي : فما
جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى . وقوله : هو
الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله : قالوا جزاؤه من وجد في رحله ، إذ التقدير إذ ذاك
قال : جزاء الصاع ، أي : سرقته من وجد الصاع في رحله . وقولهم : جزاؤه من وجد في
رحله ، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به ، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم
على وجدان الصاع لا على سرقته ، فكأنهم يقولون : لا يمكن أن نسرق ، ألا يمكن أن
يوجد الصاع في رحالنا . وكان في دين يعقوب استعباد السارق . قال الزمخشري : سنة ،
وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم ، ولذلك أجابوا على شريعتهم ، وجوزوا في
إعراب هذا الكلام وجوه : أحدها : أن يكون جزاؤه مبتدأ ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ
ثان ، فهو جزاؤه جواب الشرط ، أو خبر ما الموصولة ، والجملة من قوله : من وجد إلى
آخره خبر المبتدأ الأول ، والضمير في قالوا : جزاؤه للسارق قاله ابن عطية : وهذا
لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط . الثاني : أنّ المعنى قالوا : جزاء
سرقته ، ويكون جزاؤه مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها
مقام المضمر . والأصل جزاؤه من وجد في رحله ، فهو هو . فموضع الجزاؤ موضع هو ، كما
تقول لصاحبك : من أخو زيد ؟ فتقول : أخوه من يقعد إلى جنبه ، فهو هو يرجع الضمير
الأول إلى من ، والثاني إلى الأخ . ثم تقول : فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر
قاله الزمخشري . ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم
والتهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو : زيد قام زيد . وينزه القرآن عنه . قال
سيبويه : لو قلت كان زيد منطلقاً زيد ، لم يكن ضد الكلام ، وكان ههنا ضعيفاً ، ولم
يكن كقولك : ما زيد منطلقاً هو ، لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمر
. الثالث : أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي لنسؤل عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من
وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول : من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم ،
ثم تقول : ) وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ ( قاله الزمخشري . وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله : المسؤول عنه
جزائه ، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة ، إذ قد علم من قوله : فما جزاؤه أنّ
الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته ، فأي فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال
الذي مثل به من قول المستفتي . الرابع : أن يكون جزاؤه مبتدأ أي : جزاء سرقة الصاع
، والخبر من وجد في رحله أي : أخذ من وجد في رحله . وقولهم :
"
صفحة رقم 328 "
فهو جزاؤه ، تقرير لحكم أي : فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك : حق زيد أن
يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤوه ، أو فهو حقه ، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه
قاله الزمخشري ، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال : ويصح
أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من
، ويكون قوله : فهو جزاؤه ، زيادة بيان وتأكيد . ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه
استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد بقوله : فهو جزاؤه . وهذا القول هذا الذي قبله ،
غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بد
من تقديره ، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله جزائه
أخذ من وجد في رحله ، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب . وهذا الوجه هو
أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف . كذلك أي : مثل الجزاء ، وهو الاسترقاق . نجزي
الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة ) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ
قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا
لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ( قيل : قال لهم : من وكل بهم
لا بد من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء
بنيامين لنفي التهمة ، وتمكين الحيلة ، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه ، فقال : ما
أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا : والله ما تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك
وأنفسنا ، فاستخرجوه منه .
وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو ، وجاء كذلك عن نافع . وقرأ ابن جبير : من إعاء
بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا : إشاح وإسادة في وشاح ووسادة ، وذلك مطرد
في لغة هذيل ، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة ، وأنث في قوله ثم
استخرجها على معنى السقاية ، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث . وقال أبو عبيد : يؤنث
الصواع من حيث سمى سقاية ، ويذكر من حيث هو صاع ، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث
الصواع . وقيل : الضمير في قوله : ثم استخرجها عائد على السرقة ، كذلك أي مثل ذلك
الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني : علمناه إياه ، وأوحينا به إليه . وقال الضحاك ،
والسدي : كدنا صنعنا . قال ابن عطية : وأضاف الله تعالى الكيد إلى ضميره ، لما
أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد . وفسر ابن
عباس في دين الملك بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى . وقال الزمخشري :
ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ،
وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد ، إلا أن يشاء
الله ، إلا بمشيئته وإذنه . وقال ابن عطية : والاستثناء حكاية حال التقدير : إلا
أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى . والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي : لكن
بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك ، وهو دين آل يعقوب : أنّ الاسترقاق جزاء
السارق .
وقرأ الكوفيون ، وابن محيصن : نرفع بنون درجات منوناً من نشاء بالنون ، وباقي
السبعة كذلك ، إلا أنهم أضافوا درجات . وقرأ يعقوب بالياء في يرفع ، ويشاء أي :
يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته . وقرأ عيسى البصرة : نرفع بالنون درجات
منوناً من يشاء بالياء . قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة ،
وإن لم يمكن إنكارها . وقال ابن عطية : وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك
نشاء . وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب : بالياء أي : الله تعالى انتهى . ومعناه في العلم
كما رفعنا درجة يوسف فيه . وعليم صفة مبالغة . وقوله : ذي علم أي : عالم . فالمعنى
أن فوقه أرفع منه درجة في علمه ، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس . وعن أن
العليم هو الله عز وجل . قيل : روى عنه أنه حدث بحديث عجيب ، فتعجب منه رجل ممن
حضر فقال : الحمد لله ، وفوق كل ذي علم عليم ، فقال له ابن عباس : بئس ما قلت ،
إنما العليم الله ، وهو فوق كل ذي علم . وقرأ عبد الله : وفوق كل ذي عالم ، فخرجت
على زيادة ذي ، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل ، أو على أن التقدير :
"
صفحة رقم 329 "
وفوق كل ذي شخص عالم .
روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا :
يا بنيامين ابن راحيل قبحك الله ، ولدت أمك أخوين لصين ، كيف سرقت هذه السقاية ؟
فرفع يديه إلى السماء وقال : والله ما فعلت ، فقالوا : فمن وضعها في رحلك ؟ قال :
الذي وضع البضاعة في رحالكم . وقال الزمخشري ما معناه : رموا بالسرقة تورية عما
جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف . وإن كنتم كاذبين ، فرض لانتفاء براءتهم ، وفرض
التكذيب لا يكون تكذيباً على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه ، لأنهم
قالوا : ) وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ ( والكيد حكم
الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله : وخذ بيدك ضغثاً
فيتخلص من جلدها ولا يحنث . وقول إبراهيم عليه السلام : هي أختي لتسلم من يد
الكافر . وعلم الله في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة ، فجعلهاسلماً
وذريعة إليها ، فكانت حسننة جميلة انتهى . وقولهم : إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل
، لا يدل على الجزم بأنه سرق ، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي : إن كان وقعت منه
سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله ، فقد سرق أخ له من قبل . والتعليق على الشرط على أنّ
السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها ، كأنهم قالوا : إنْ كان هذا الذي رمى
به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق ، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف
بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين ، ولذلك قالوا : إن ابنك سرق . وقيل : حققوا
السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر ، فكأنهم قالوا : إن كان قد سرق
فغير بدع من ابني راحيل ، لأن أخاه يوسف قد كان سرق ، فعلى هذا القول يكون قولهم
أنحاء على يوسف وبنيامين . وقيل : التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق ، وقولهم هذا
هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم ، وتختص بالشقيقين . وتنكير
أخ في قوله : فقد سرق أخ له من قبل ، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له :
لأنه كان شقيقه . والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب ، وأراد
يعقوب أخذه ، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق ، وكانت متوارثة عندهم ، فنطقته
بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت : فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف ، فاسترقته
حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت ، فصار عند أبيه . وقال قتادة وابن جبير :
أمرت أمه أن يسرق صنماً . وفي كتاب الزجاج : من ذهب لأبيها فسرقه وكسره ، وكان ذلك
منها تغييراً للمنكر . وقال ابن إدريس عن أبيه : إنما أكل بنو يعقوب طعاماً ، فأخذ
يوسف عرقاً فنحاه . وقيل : كان في البيت غاق أو دجاجة ، فأعطاها السائل . وقرأ
أحمد بن جبير الأنطاكي ، وابن أبي شريح عن الكسائي ، والوليد بن حسان عن يعقوب
وغيرهم : فقد سرق بالتشديد مبنياً للفعول بمعنى نسب إلى السرقة ، بمعنى جعل سارقاً
ولم يكن كذلك حقيقة . والضمير في قوله : فأسرها يفسره سياق لاكلام أي : الحزازة
التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر . وقيل : أسر المجازاة ، وقيل : الحجة . وقال
الزمخشري : اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً ، وإنما أنث لأن قوله :
أنتم شر مكاناً جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل :
فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله . وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : فأسره
بضمير تذكير . قال الزمخشري : يريد القول أو الكلام انتهى .
"
صفحة رقم 330 "
والظاهر من قوله : أنتم شر مكاناً ، خطابهم بهذا القول في الوجه ، فكأنه أسر
كراهية مقالتهم ، ثم وبخهم بقوله : أنتم شر مكاناً ، وفيه إشارة إلى تكذيبهم
وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم ، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه
السلام . وقال قوم : لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة ، إنما قاله في نفسه ، وهو
تفسير قوله : الذي أسر في نفسه ، وهو قول الزمخشري المتقدم . ومعنى شر مكاناً أي
منزلة في السرق ، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم . ومعنى أعلم بما
تصفون يعني : هو أعلم بما تصفون منكم ، لأنه عالم بحقائق الأمور ، وكيف كانت سرقة
أخيه التي أحلتم سرقته عليه . وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه ،
فأمر يوسف ابناً له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل : لقد مسني أحد من ولد يعقوب ، ثم
أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك ، فلما أحس يوسف
بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه ، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك .
( قَالُواْ يأَبَانَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا
فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا
لَّظَالِمُونَ ( : استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق . ومعنى كبيراً في
السن ، أو القدر . وكانوا قد أعلموا يوسف بأنه كان له ابن قد هلك ، وهذا شقيقه
يستأنس به ، وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير ، أو موته على ما سبق
. ومعنى مكانه أي : بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد ، قاله الزمخشري . وقال
ابن عطية : يحتمل قولهم أن يكون مجازاً ، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل
من قد أحكمت السنة رقة ، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا
وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، وعلى هذا يتجه قول يوسف :
معاذ الله لأنه تعود من غير جائز . ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة ، وبعيد عليهم وهم
أنبياء أن يريدوا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الجمالة ، أي : خذ
أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك . ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب
جلية الأمر . وقوله : من المحسنين ، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم ، أو
من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا ، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ
الله تقدم الكلام فيه في قوله : معاذ الله إنه ربي ، والمعنى : وجب على قضية
فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده . فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في
مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ
بنيامين واحتباسه لمصلحة ، أو مصالح جمة علمها في ذلك . فلو أخذت غير من أمرني
بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . وأن نأخذ تقديره : من أن نأخذ ، وإذا
جواب وجزاء أي : إن أخذنا بدله ظلمنا . وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم :
إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت
حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله .
( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ اللَّهِ
وَمِن قَبْلُ ( : استفعل هنا بمعنى المجرد ، يئس واستيأس بمعنى واحد نحو : سخر
واستسخر ، وعجب واستعجب . وزعم الزمخشري أن زيادة السين والتاء في المبالغة قال :
نحو ما مر في استعصم انتهى . وقرأ ابن كثير : استيأسوا استفعلوا ، من أيس مقلوباً
من يئس ، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها .
ومعنى خلصوا نجياً : انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضاً . والنجي فعيل بمعنى
مفاعل ، كالخليط والعشير . ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل : النجوى بمعنى
التناجي ، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحداً كان أو جماعة ، مؤنثاً أو مذكراً ،
فهو كعدل ، ويجمع على أنجية قال لبيد :
"
صفحة رقم 331 "
وشهدت أنجية الأفاقة عاليا
كعبي وأرداف الملوك شهود
وقال آخر :
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
ويقول قوم : نجى وهم نجوى تنزيلاً للمصدر منزلة الأوصاف . ويجوز أن يكون هم نجى من
باب هم صديق ، لأنه بزنة المصادر محصواً للتناجي ، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في
شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه ، فاحتاجوا إلى التشاور . وكبيرهم أي :
رأياً وتدبيراً وعلماً ، وهو شمعون قاله : مجاهد . أو كبيرهم في السن وهو روبيل
قاله : قتادة . وقيل : في العقل والرأي ، وهو يهوذا . ذكرهم الميثاق في قول يعقوب
: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ، وما زائدة أي : ومن قبل هذا فرطتم في يوسف . ومن
قبل متعلق بفرطتم ، وقد جوزوا في إعرابه وجوهاً : أحدها : أن تكون ما مصدرية أي :
ومن قبل تفريطكم . قال الزمخشري : على أن محل المصدر الرفع على الابتداء ، وخبره
الظرف ، وهو ومن قبل ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف . وقال ابن عطية : ولا
يجوز أن يكون قوله : من قبل ، متعلقاً بما فرطتم ، وإنما تكون على هذا مصدرية ،
التقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر . وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل
انتهى . وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو : إن ما فرطتم يقدر بمصدر
مرفوع بالابتداء ، ومن قبل في موضع الخبر ، وذهلاً عن قاعدة عربية ، وحق لهما أن
يذهلا وهو أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا ثببتت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرت أو
لم تجر ، تقول : يوم السبت مبارك والسفر بعده ، ولا يجوز والسفر بعد وعمر وزيد
خلفه . ولا يقال : عمر وزيد خلف . وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ ، ومن قبل خبر
، وهو مبني ، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية . ولهذا ذهب أبو علي إلى أنّ
المصدر مرفوع بالابتداء ، وفي يوسف هو الخبر أي : كائن أو مستقر في يوسف . والظاهر
أنّ في يوسف معمول لقوله : فرطتم ، لا أنه في موضع خبر . وأجاز الزمخشري وابن عطية
: أن تكون ما مصدرية ، والمصدر المسبوك في موضع نصب ، والتقدير : ألم تعلموا أخذ
أبيكم عليكم موثقاً من قبل وتفريطكم في يوسف . وقدره الزمخشري : وتفريطكم من قبل
في يوسف ، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ، لأكن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف
العطف الذي هو على حرف واحد ، وبين المعطوف ، فصار نظير : ضربت زيداً وبسيف عمراً
. وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر . وأما تقدير
الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل
لحرف مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز . وأجاز أيضاً أن تكون موصولة بمعنى الذي .
قال الزمخشري : ومحله الرفع أو النصب على الوجهين انتهى . يعني بالرفع أن يرتفع
على الابتداء ومن قبل الخبر ، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز . ويعني بالنصب أن يكون
عطفاً على المصدر . المنسبك من قوله : إن أباكم قد أخذ ، وفيه الفصل بين حرف العطف
الذي هو الواو ، وبين المعطوف . وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة ،
وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر ، ومنه برح الخفاء أي ظهر . وذهب لا ينتصب
الظرف المكاني المختص بها ، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح
بمعنى فارق ، فانتصب الأرض على أنه مفعول به . ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا
ينعقد من اسمها ، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر ، لأنه لا يصل إلا بحرف في
. لو قلت : زيد الأرض لم يجز ، وعني بالأرض
"
صفحة رقم 332 "
أرض مصر التي فيها الواقعة ، ثم غيا ذلك بغايتين : إحداهما : خاصة وهي قوله : حتى
يأذن لي أبي ، يعني في الانصراف إليه . والثانية : عامة وهي قوله : أو يحكم الله
لي ، لأنّ إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر ، وكأنه لما علق الأمر
بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضاً لحكم الله تعالى ، ورجوعاً
لي من له الحكم حقيقة ، ومقصوده التضييق على نفسه ، كأنه سجنها في القطر الذي أداه
إلى سخط أبيه إبلاء لعذره . وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت ، وخلاص
أخيه ، أو انتصافه من أخذ أخيه . وقال أبو صالح : أو يحكم الله لي بالسيف ، أو غير
ذلك . والظاهر أن ويحكم معطوف على يأذن . وجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن بعد أو
في جواب النفي ، وهو : فلن أبرح الأرض أي : إلا أن يحكم الله لي ، كقولك : لألزمنك
أو تقضيني حقي ، أي : إلا أن تقضيني ، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان .
روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال : يا بني ما تذهبون عني مرة
إلا نقصتم ، ذهبتم فنقصت مشمعون حيث ارتهن ، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل .
والظاهر أنّ الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم . وقيل : من قول يوسف لهم . وقرأ
الجمهور : سرق ثلاثياً مبنياً للفاعل ، إخباراً بظاهر الحال . وقرأ ابن عباس ،
وأبو رزين ، والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنياً للمفعول ، لم يقطعوا عليه
بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة . ويكون معنى : وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق
. وما كنا للغيب أي : للأمر الخفي حافظين ، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم
يشعر ؟ وقرأ الضحاك : سارق اسم فاعل ، وعلى قراءة سرق وسارق اختلف التأويل في قوله
: إلا بما علمنا . قال الزمخشري : بما علمنا من سرقته ، وتيقناً لأنّ الصواع أخرج
من وعائه ، ولا شيء أبين من هذا . وقال ابن عطية : أي ، وقولنا لك إن ابنك سرق
إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى ، والعلم في الغيب إلى الله تعالى
ليس ذلك في حفظنا ، هذا قول ابن إسحاق : وقال ابن زيد : أرادوا وما شهدنا به عند
يوسف أن السارق يسترق في شرعك ، إلا بما علمنا من ذلك ، وما كنا للغيب حافظين أنّ
السرقة تخرج من رحل أحدنا ، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة ، فشهدنا عنده حين
سألنا بعلمنا . ويحتمل قوله : وما كنا للغيب حافظين أي : حين واثقناك ، إنما قصدنا
أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه ، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب
رقه . وقال الزمخشري : وما كنا للغيب حافظين ، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك
الموثق ، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف . ومن غريب التفسير أن المعنى
قولهم : للغيب ، لليل والغيب الليل بلغة حمير ، وكأنهم قالوا : وما شهدنا إلا بما
علمنا من ظاهر حاله ، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو ، أو التدليس
عليه . وفي الكلام حذف تقديره : رجعوا إلى أبيهم وأخبر بالقصة . وقول من قال :
ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله : ابن عباس أي :
أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة . والعير كانوا قوماً من كنعان من جران يعقوب
. وقيل : من أهل صنعاء . فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل : وسل أهل القرية
وأهل العير ، إلا أن أريد بالعير القافلة ، فلا إضمار في قوله والعير . وأحالوا في
توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا ، وعلى ناس غيب يرسل إليهم
فيسألون . وقالت فرقة : بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة ، ومن حيث هو
نبي ، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة ، وحذف المضاف هو قول الجمهور . قال ابن عطية :
وهذا مجاز . وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال : هذا من الحذف وليس من
المجاز قال : وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال : وحذف المضاف هو عين
المجاز ، وعظمة هذا مذهب سيبويه وغيره . وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى .
وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي ، وفي مختصر أنه إن الإضمار والمجاز
متباينان ليس أحدهما قسماً من الآخر . وبل للإضراب ، فيقتضي كلاماً محذوفاً قبلها
حتى يصح الإضراب فيها وتقديره : ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم ، بل سولت . قال ابن
عطية : والظاهر أنّ قوله بل سولت لكم أنفسكم أمراً ، إنما هو ظن سوء بهم كما كان
في قصة يوسف
"
صفحة رقم 333 "
قبل ، فاتفق أنّ صدق ظنه هناك ، ولم يتحقق هنا . وقال الزمخشري : بل سولت لكم
أنفسكم أمراً أردتموه ، وإلا فما أدري ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا
فتواكم وتعليمكم . وتقدم شرح سولت ، وإعراب فصبر جميل . ثم ترجى أن الله يجمعهم
عليه وهم : يوسف ، وبنيامين ، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه . وترجى يعقوب للرؤيا
التي رآها يوسف ، فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله في كل حال . ولما أخبر به عن ملك
مصر أنه يدعو له برؤية ابنه ، ووصفه الله بهاتين الصفتين لأئق بما يؤخره تعالى من
لقاء بنيه ، وتسليم لحكمة الله فيما جرى عليه .
( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ
وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ
تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ
إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ يبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ
تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ
إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( : وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به ،
وأنه ساء ظنه بهم ، ولم يصدق قولهم ، وجعل يتفجع ويتأسف . قال الحسن : خصت هذه
الأمة بالاسترجاع . ألا ترى إلى قول يعقوب : يا أسفي ، ونادى الأسف على سبيل
المجاز على معنى : هذا زمانك فاحضر . والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفاً
، كما قالوا : في يا غلامي يا غلاماً . وقيل : هو على الندبة ، وحذف الهاء التي
للسكت . قال الزمخشري : والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير
مستعمل فيملح ويبدع ، ونحوه : اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ، وهم ينهون عنه وينأون
عنه يحسبون أنهم يحسنون صنعاً من سبأ بنبأ انتهى . ويسمى هذا تجنيس التصريف ، وهو
أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف . وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين
، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يوسف ، فتأسف عليه وحده ، ولم يتأسف عليهما ، لأنه
هو الذي لا يعلم أحيّ هو أم ميت ؟ بخلاف أخوته . ولأنه كان أصل الرزايا عنده ، إذ
ترتبت عليه ، وكان أحب أولاده إليه ، وكان دائماً يذكره ولا ينساه . وابيضاض عينيه
من توالي العبرة ، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر . والظاهر أنه كان عمي لقوله :
فارتد بصيراً . وقال : ) وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( فقابل البصير بالأعمى
. وقيل : كان يدرك ادراكاً ضعيفاً ، وعلل الابيضاض بالحزن ، وإنما هو من البكاء
المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن . وقرأ
ابن عباس ومجاهد : من الحزن بفتح الحاء والزاي ، وقتادة : بضمها ، والجمهور : بضم
الحاء وإسكان الزاي . والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي :
شديد الكظم كما قال : ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ( ولم يشك يعقوب إلى أحد ،
وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، فكان يكظمه أي : يرده إلى قلبه ولا
يرسله بالشكوى والغضب والضجر . وإما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، وهو لا ينقاس ،
وقاله قوم كما قال في يونس : ) إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ). قال ابن عطية :
وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم حزنه في صدره . وفسر ناس الكظيم
بالمكروب وبالمكمود . وروي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى
"
صفحة رقم 334 "
لقائه ثمانين عاماً ، وأنّ وجده عليه وجد سبعين ثكلى ، وأجره أجر مائة شهيد . وقال
الزمخشري : فهو كظيم ، فهو مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم انتهى
. وقد ذكرنا أنّ فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس ، وجواب القسم تفتؤ حذفت منه ، لا لأنّ
حذفها جائز ، والمعنى : لا تزال . وقال مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء
والفتور أخوين ، والحرض الذي قدرنا موته . قال مجاهد : ما دون الموت . وقال قتادة
: البالي الهرم ، وقال نحوه : الضحاك والحسن . وقال ابن إسحاق : الفاسد الذي لا
عقل له . وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي : لا تزال تذكر يوسف إلى حال
القرب من الهلاك ، أو إلى أنْ تهلك فقال هو : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله أي :
لا أشكو إلى أحد منكم ، ولا غيركم . وقال أبو عبيدة وغيره : البث أشدّ الحزن ، سمي
بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله ، فيبثه أي ينشره . وقرأ الحسن وعيسى : وحزني
بفتحتين . وقرأ قتادة : بضمتين . وأعلم من الله ما لا تعلمون أي : أعلم من صنعه
ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، قاله الزمخشري . وقال ابن
عطية : ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة ، أو إلى ما وقع في نفسه منن قول ملك
مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت . وقيل : رأى ملك الموت في منامه فسأله :
هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، هو حي فاطلبه . اذهبوا : أمر بالذهاب إلى الأرض
التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها ، وأمرهم بالتحسس وهو
الاستقصاء ، والطلب بالحواس ، ويستعمل في الخير والشر . وقرىء : بالجيم ، كالذي في
الحجرات : ) وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( والمعنى : فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه ،
وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال : فلن أبرح الأرض ، إنما أقام مختاراً . وقرأ
الجمهور : تيأسوا ، وفرقة : تأيسوا . وقرأ الأعرج : تئسوا بكسر التاء . وروح الله
رحمته ، وفرجه ، وتنفيسه . وقرأ عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة : من روح
الله بضم الراء . قال ابن عطية : وكان معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح
الله الذي وهبه ، فإنّ من بقي روحه يرجى . ومن هذا قول الشاعر :
وفي غير من قدورات الأرض فاطمع
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : وكل ذي غيبة يؤوب
وغائب الموت لا يؤوب
وقال الزمخشري : من روح الله بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى . وقرأ
أبيّ من رحمة الله من صفات الكافر ، إذ فيه التكذيب بالربوبية ، أو الجهل بصفات
الله .
2 ( ) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا
"
صفحة رقم 335 "
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ
هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
قَالُواْ أَءِنَّكَ لاّنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ
عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى
هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ
أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ
يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ
الْقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ
بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّىأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا
خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّىإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَاىمِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَىإِذْ
أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ
الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىإِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ
أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنُيَا وَالاٌّ خِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى
بِالصَّالِحِينَ ( )
يوسف : ( 88 ) فلما دخلوا عليه . . . . .
المزجاة : المدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً من أزجيته إذا دفعته
وطردته ، والريح تزجي السحاب . وقال حاتم الطائي : لبيك على ملحان ضيف مدفع
وأرملة تزجي مع الليل أرملا
الإيثار : لفظ يعم جميع التفضل وأنواع العطايا . التثريب : التأنيب والعتب ، وعبر
بعضهم عنه بالتعبير . ومنه ) إِذَا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ .
يَثْرِبَ ( أي لا يعبر . وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غائشة الكرش ، ومعناه :
إزالة الثرب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع ، لأنه إذا ذهب كان ذلك
غاية الهزال ، فضرب مثلاً للتقريع الذي يمزق الأعراض ، ويذهب بهاء الوجه . الفند :
الفساد ، قال : ألا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفندوفندت الرجل أفسدت رأيه ورددته قال :
يا عاذليّ دعا لومي وتفيدي فليس ما قلت من أمر بمردود
وأفند الدهر فلاناً أفسده . قال ابن مقبل :
"
صفحة رقم 336 "
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه
إذا كلف الإفناد بالناس أفندا القديم : الذي مرت عليه إعصار ، وهو أمر نسبي .
البدو البادية وهي خلاف الحاضرة .
( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ قَالَ هَلْ
عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ( : في
الكلام حذف تقديره : فذهبوا من الشام إلى مصر ودخلوها ، فلما دخلوا عليه ، والضمير
في عليه عائد على يوسف ، وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما
وصاهم به من تحسس نبأ يوسف وأخيه . والضر : الهزال من الشدة والجوع ، والبضاعة
كانت زيوفاً قاله ابن عباس . وقال الحسن : قليلة . وقال ابن جبير : ناقصة . وقيل :
كانت عروضاً . قيل : كانت ضوفاً وسمناً . وقيل : صنوبراً وحبة الخضراء وهي الفستق
قاله : أبو صالح ، وزيد بن أسلم ، وقيل : سويق المقل والأقط ، وقيل : قديد وحش .
وقيل : حبالاً وإعدالاً وهقتاباً ، ثم التمسوا منه إيفاء الكيل . وقد استدل بهذا
على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه . وتصدق علينا أي : بالمسامحة والإغماض عن
رداءة البضاعة ، أو زدنا على حقنا ، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة . قيل :
لأن الصدقات محرمة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقيل : كانت تحل لغير
نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع وتصدق
علينا ، أراد أنها كانت حلالاً لهم . وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تمسكنوا له
وطلبوا أن يتصدق عليهم ، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرفهم
نفسه . وقوله إنّ الله يجزي المتصدقين شاهد ، لذلك لذكر الله وجزائه انتهى . وقيل
: كانت الصدقة محرمة ، ولكن قالوها تجوز استعطافاً منهم له في المبايعة كما تقول
لمن ساومته في سلعة : هبني من ثمنها كذا ، فلم يقصد أن يهبك ، وإنما حسنت معه
الأفعال حتى يرجع منك إلى سومك . وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم : وتصدق علينا
أمر أخيهم بنيامين أي : أوف لنا الكيل في المبايعة ، وتصدق علينا برد أخينا على
أبيه . وقال النقاش في قوله : إن الله يجزي المتصدقين ، هي من المعاريض التي هي
مندوحة عن الكذب ، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم . ولو
قالوا : إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة كذبوا ، فقالوا له لفظاً يوهم أنهم أرادوه
، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل . وروي أنهم لما قالوا له : مسناً وأهلنا الضر
واستعطفوه ، رق لهم ورحمهم . قال ابن إسحاق : وارفض دمعه باكياً ، فشرع في كشف
أمره إليهم . فيروي أنه حسر قناعة وقال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي :
من التفريق بينهما في الصغر ، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف ؟ وكانوا يذلونه
ويشتمونه . قال ابن عطية : ونسبهم إما إلى جهل المعصية ، وإما إلى جهل السيآت وقلة
الحنكة . وقال الزمخشري : أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً ، فكلمهم
مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال : هل علمتم قبح ما
فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه يعني : هل
علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ؟ لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح
يجر التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين ، وإيثاراً لحق الله على
حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق
ويدرك ثأره الموتور ، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها ، ولله حصى عقولهم ما
أرزنها وأرجحها انتهى وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ، ولكنهم
لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم ، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين . وفي التحرير
ما لخص منه وهو أن قول الجمهور : هل علمتم استفهام معناه التقريع
"
صفحة رقم 337 "
والتوبيخ ، ومراده تعظيم الواقعة أي : ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف . كما يقال : هل
تدري من عصيت ؟ وقيل : هل بمعنى قد ، لأنهم كانوا عالمين ، وفعلتم بيوسف إفراده من
أبيهم ، وقولهم : بأن الذئب أكله ، وإلقاؤه في الجب وبيعه بثمن بخس إن كانوا هم
الذين باعوه ، وقولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، والذي فعلوا بأخيه أذاهم
له وجفاؤهم له ، واتهامه بسرقة الصاع ، وتصريحهم بأنه سرق ، ولم يذكر لهم ما إذ
واجه أباهم تعظيماً لقدره وتفخيماً لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه . قال ابن عباس ،
والحسن : جاهلون صبيان . وقال مقاتل : مذنبون . وقيل : جاهلون بما يجب من بر الأب
، وصلة الرحم ، وترك الهوى . وقيل : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف . وقيل :
جاهلون بالفكر في العاقبة ، وعدم النظر إلى المصلحة . وقال المفسرون : وغرض يوسف
توبيخ أخوته وتأنيبهم على ما فعلوا في حق أبيهم وفي حق أخويهم ، قال : والصحيح أنه
قال ذلك تأنيساً لقلوبهم ، وبسط عذر كأنه قال : إنما أقدمكم على ذلك الفعل القبيح
جهالة الصبا أو الغرور ، وكأنه لقنهم الحجة كقوله : ) مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ
الْكَرِيمِ ( وما حكاه ابن الهيصم في قصة من أنه صلبهم ، والثعلبي في حكايته أنه
غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا ، فرق لهم وقال : هل علمتم الآية : لا يصح
البتة ، وكان يوسف من أرق خلق الله وأشفقهم على الأجانب ، فكيف مع إخوته ولما اعترفوا
بالخطأ قال : لا تثريب عليكم الآية .
( قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ ( : لما خاطبهم بقوله : هل علمتم ؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ
عندهم ، ولا تتبع أحوالهم ، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال : إنه
كان يكلمهم من وراء حجاب ، فرفعه ووضع التاج وتبسم ، وكان يضيء ما حوله من نور
تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده
وسارة ، فتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار . وقيل : استفهام تقرير ،
لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف عرفوه ؟ ( قلت ) : رأوا في روائه وشمائله حين
كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف
مسلم من نسل إبراهيم عليه السلام ، لا عن بعض أعزاء مصر . وقرأ الجمهور : أئنك على
الاستفهام ، والخلاف في تحقيق الهمزتين ، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التلين ،
أو التحقيق مذكور في القراءات السبع . وقرأ قتادة ، وابن محيصن ، وابن كثير : إنك بغير
همزة استفهام ، والظاهر أنها مرادة . ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم
لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر ، فإن قدر أنّ
بعضاً استفهم وبعضاً أخبر ، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم : أمكن
، وهو مع ذلك بعيد . وقرأ أبي : أئنك أو أنت يوسف . وخرجه ابن جني على حذف خبر إن
وقدره : أئنك لأنت يوسف ، أو أنت يوسف . وقدره الزمخشري : أئنك يوسف ، أو أنت يوسف
، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال : وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع ، فهو
يكرر الاتسثبات انتهى . وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا : أو أنت
يوسف ؟ وفي قراءة الجمهور : أئنك لأنت ، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت ، وهو
فصل : وخبر إنّ يوسف كما تقول : إنْ كان زيد لهو الفاضل . ويجوز أن تكون دخلت على
أنت وهو مبتدأ ، ويوسف خبره ، والجملة في موضع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت
توكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما . ولما استفهموه أجابهم فقال
: أنا يوسف كاشفاً لهم أمره ، وزادهم في الجواب قوله : وهذا أخي ، لأنه سبق قوله :
هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ؟ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه ، وإن كان معلوماً
عندهم وتوطئه لما ذكر بعد من هو بالتقوى والصبر ، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة
ولا الصبر .
"
صفحة رقم 338 "
وقال مجاهد : من يتقي في تركه المعصية ويصبر في السجن . وقال النخعي : من يتقي
الزنا ويصبر على العزوبة . وقيل : ومن يتق الله ويصبر على المصائب . وقال الزمخشري
: من يتق ، من يخف الله . وعقابه ويصبر عن المعاصي ، وعلى الطاعات . وقيل : من
يتقي معاصي الله ، ويصبر على أذى الناس ، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف
ونوازله .
وقرأ قنبل : من يتقي ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة ، وهذه
الياء إشباع . وقيل : جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول : لم يرمي زيد ، وقد حكوا
ذلك لغة . وقيل : هو مرفوع ، ومن موصول بمعنى الذي ، وعطف عليه مجزوم وهو : ويصبر
، وذلك على التوهم . كأنه توهم أن من شرطية ، ويتقي مجزوم . وقيل : ويصبر مرفوع
عطفاً على مرفوع ، وسكنت الراء لا للجزم ، بل لتوالي الحركات ، وإن كان ذلك من
كلمتين ، كما سكنت في يأمركم ، ويشعركم ، وبعولتهن ، أو مسكناً للوقف ، وأجرى
الوصل مجرى الوقف . والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوماً على لغة ، وإن
كانت قليلة ، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال : وهذا مما لا يحمل عليه ، لأنه إنما
يجيء في الشعر لا في الكلام ، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة .
والمحسنين : عام يندرج فيه من تقدم ، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين
والصابرين كأنه قيل : لا يضيع أجرهم . وآثرك : فضلك بالملك ، أو بالصبر ، والعلم
قالهما ابن عباس ، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي ، أو بحسن الخلق
والخلق ، والعلم ، والحلم ، والإحسان ، والملك ، والسلطان ، وبصبرك على أذاناً
قاله : صاحب الغنيان . أو بالتقوى ، والصبر وسيرة المحسنين قاله : الزمخشري ، وهو
مناسب لقوله : ) إِنَّهُ مَن يَتَّقِ ( الآية وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه ،
واعتراف بما صدر منهم في حقه . وخاطئين : من خطىء إذا تعمد . وأما أخطأ فقد الصواب
ولم يوفق له . ولا تثريب : لا لوم ولا عقوبة . وتثريب اسم لا ، وعليكم الخبر ،
واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي : لا تثريب مستقر عليكم اليوم . وقال الزمخشري :
( فإن قلت ) : بم تعلق اليوم ؟ ( قلت ) : بالتثريب ، أو بالمقدر في عليكم من معنى
الاستقرار ، أو بيغفر . والمعنى : لا أثربكم اليوم ، وهذا اليوم الذي هو مظنة
التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام . ثم ابتدأ فقال : يغفر الله لكم ، قد عالهم
بمغفرة ما فرط منهم . يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع
جميعاً ، ومنه قول المشمت : يهديكم الله ويصلح بالكم . أو اليوم يغفر الله لكم
بشارة بعاجل الغفران ، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى . أما
قوله : إن اليوم يتعلق بالتثريب ، فهذا لا يجوز ، لأنّ التثريب مصدر ، وقد فصل
بينه وبين معموله بقوله : عليكم . إما أن يكون خبراً ، أو صفة لتثريب ، ولا يجوز
الفصل بينهما ، لأنّ معمول المصدر من تمامه . وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب
لم يجز بناؤه ، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف ، وهو الذي يسمى المطول ، ويسمى
الممطول ، فكان يكون معرباً منوناً . وأما تقديره الثاني فتقدير حسن ، ولذلك وقف
على قوله اليوم أكثر القراء . وابتدأوا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء ، وهو تأويل
ابن إسحاق والطبري . وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فمقبول ،
وقد وقف بعض القراء على عليكم ، وابتدأ اليوم يغفر الله لكم . قال ابن عطية :
والوقف على اليوم أرجح في المعنى ، لأنّ الآخر فيه حكم على مغفرة الله اللهم ، إلا
أن يكون ذلك بوحي . وأما قوله : فبشارة إلى آخره ، فعلى طريقة المعتزلة ، فإنّ الغفران
لا يكون إلا لمن تاب . قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات
العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة ، . وأجاز الحوفي أن يكون عليكم
في موضع الضفة لتثريب ، ويكون الخبر اليوم ، وهو وجه حسن . وقيل : عليكم بيان كذلك
في قولهم : سقياً لك ، فيتعلق بمحذوف . ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم
بتثريب ، لأنه كان يعرب ، فيكون منوناً لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف . ولو قيل
: إن الخبر محذوف ، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب ،
"
صفحة رقم 339 "
وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره : لا تثريب عليكم اليوم ، كما قدروا في )
لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( أي : يعصم اليوم ، لكان وجهاً قوياً
، لأنّ خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ، ولم يلفظ به بنو تميم . ولما دعا
لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران ، وهو أنه تعالى أرحم
الرحماء ، فهو يرجو منه قبول دعائه لعم بالمغفرة .
والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي : مصحوبين أو ملتبسين به . وقيل : للتعدية
أي : اذهبوا قميصي ، أي احملوا قميصي . قيل : هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في
عنقه ، وكان من الجنة ، أمره جبريل عليه السلام أنْ يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة
، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي . وقيل : كان لابراهيم كساه الله إياه من
الجنة حين خرج من النار ، ثم لإسحاق ، ثم ليعقوب ، ثم ليوسف . وقيل : هو القميص
الذي قدّ من دبر ، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة . والظهر أنه قميص من
ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد ، قال ذلك : ابن عطية . وهكذا تتبين الغرابة في
أنْوجد يعقوب ريحه من بعد ، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل
أحد . وقوله : فألقوه على وجه أبيّ يأت بصيراً ، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن
، إما بإعلامهم ، وإما بوحي . وقوله : يأت بصيراً ، يظهر أنه بوحي . وأهلوه الذين
أمر بأن يؤتي بهم سبعون ، أو ثمانون ، أو ثلاثة وتسعون ، أو ستة وتسعون ، أقوال
أولها للكلبي وثالثها المسروق . وفي واحد من هذا العدد حلواً بمصر ونمواً حتى خرج
من ذريتهم مع موسى عليه السلام ستمائة ألف . ومعنى : يأت ، يأتيني ، وانتصب بصيراً
على الحال .
( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ
أَن تُفَنّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا
أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ ( : فصل من البلد يفصل فضولاً
انفصل منه وجاوز حيطانه ، وهو لازم . وفصل الشيء فصلاً فرق ، وهو متعد . ومعنى
فصلت العير : انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب ، وكان قريباً من بيت المقدس .
وقيل : بالجزيرة ، وبيت المقدس هو الصحيح ، لأنّ آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن .
وقرأ ابن عباس : ولما انفصل العير ، قال ابن عباس : وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام
، هاجت ريح فحملت عرفه . وقال الحسن وابن جريج : من ثمانين فرسخاً ، وكان مدة
فراقه منه سبعاً وسبعين سنة . وعن الحسن أيضاً : وجده من مسيرة ثلاثين يوماً ،
وعنه : مسيرة عشر ليال . وعن أبي أيوب المهروي : أن الريح استأذنت في إيصال عرف
يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك . وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح
الجنة في الدنيا ، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح
الجنة إلا ما كان من ذلك القميص . ومعنى لأجد : لأشم فهو وجود حاسة الشم . وقال
الشاعر : وإني لأستشفي بكل غمامة
يهب بها من نحو أرضك ريح
ومعنى تفندون قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : تسفهون . وعن ابن عباس أيضاً :
تجهلون ، وعنه أيضاً : تضعفون . وقال عطاء وابن جبير : تكذبون . وقال الحسن :
تهرمون . وقال ابن زيد ، والضحاك ومجاهد أيضاً : تقولون ذهب عقلك وخرفت . وقال أبو
عمرو : تقبحون . وقال الكسائي : تعجزون . وقال أبو عبيدة : تضللون . وقيل : تخطئون
. وهذه كلها متقاربة في المعنى ، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله ،
أو لهوى غالب عليه ، أو لكذبه ، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه . وقال منذر بن
سعيد البلوطي : يقال شيج مفند أي : قد فسر
"
صفحة رقم 340 "
رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة ، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد
. وقال معناه الزمخشري قال : التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكارالعقل ، من
هرم يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي
فنفند في كبرها ، ولولا هنا حرف امتناع لوجود ، وجوابها محذوف . قال الزمخشري :
المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى . وقد يقال : تقديره لولا أن تفندوني
لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت ، لأن وجداني ريحه دال على حياته . والمخاطب بقوله :
تفندون ، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير
الذين راحوا يمتارون ، إذ كان أولاده جماعة . وقيل : المخاطب ولد ولده ومن كان
بحضرته من قرابته . والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرّشاد ، قال ابن عباس :
المعنى إنك لفي خطئك ، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين ، ولذلك يقال له : ذو
الحزنين . وقال مقاتل : الشقاء والعناء . وقال ابن جبير : الجنون ، ويعني والله
أعلم غلبة المحبة . وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي : ذهب
فيه . وقيل : الحب ، ويطلق الضلال على المحبة . وقال ابن عطية : ذلك من الجفاء
الذي لا يسوغ لهم مواجهته به ، وقد تأوله بعض الناس على ذلك ، ولهذا قال قتادة :
قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الزمخشري : لفي ذهابك عن الصواب قدماً في إفراط
محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجاءك لقاءه ، وكان عندهم أنه قد مات . روي عن ابن
عباس أنّ البشير كان يهوذا ، لأنه كان جاء بقميص الدم . وقال أبو الفضل الجوهري :
قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة ، فدعوني أذهب إليه بقميص
الفرحة فتركوه ، وقال هذا المعنى : السدي . وأن تطرد زيادتها بعد لما ، والضمير
المستكن في ألقاه عائد على البشير ، وهو الظاهر ، هو لقوله : فألقوه . وقيل : يعود
على يعقوب ، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً
يعتقد فيه البركة مسح به وجهه . وقيل : عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه . وقيل :
عبر بالكل عن البعض . وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان ، والصحيح أنها ليست من
أخواتها ، فانتصب بصيراً على الحال والمعني : أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة
البصر . ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن ، لأنّ فعيلاً
من صيغ المبالغة ، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى . وليس كذلك
لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة ، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا
المعنى . وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء ، فهو جار على قياس فعل نحو
ظرف فهو ظريف ، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً ، لأنّ فعيلاً
بمعنى ليس للمبالغة نحو : أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع . وروي أن يعقوب سأل
البشيركيف يوسف ؟ قال : ملك مصر . قال : ما أصنع بالملك ؟ قال : على أي دين تركته
؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة . وقال الحسن : لم يجد البشير عند
يعقوب شيئاً ببيته به وقال : ما خبرنا شيئاً منذ سبع ليال ، ولكن هون الله عليك
سكرات الموت . وقال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، والقوة بعد الضعف ،
والشباب بعد الهرم ، والسرور بعد الكرب . والظاهر أن قوله : إني أعلم ، محكي
بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون .
فقيل : ما لا تعلمون من حياة يوسف ، وأن الله يجمع بيننا وبينه . وقيل : من صحة
رؤيا يوسف عليه السلام ، وقيل : من بلوى الأنبياء بالحزن ، ونزول الفرج ، وقيل :
من أخبار ملك الموت إياي ، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه . وقال ابن عطية : ما لا
تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا ، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط . وقال
الزمخشري : ألم أقل لكم يعني قوله : إني لأجد ريح يوسف ، أو قوله : ولا تيأسوا من
روح الله . وقوله إني أعلم ، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى . وهو خلاف
الظاهر الذي قدمناه . ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف ،
وقررهم على قوله : ألم أقل لكم طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم ، واعترفوا
بالخطأ السابق منهم ، وسوف أستغفر لكم : عدة لهم بالاستغفار بسوف ، وهي أبلغ في
التنفيس من السين . فعن ابن
"
صفحة رقم 341 "
مسعود : أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر . وعن ابن عباس : إلى ليلة الجمعة ، وعنه
: إلى سحرها . قال السدي ، ومقاتل ، والزجاج : أخر لإجابة الدعاء ، لا ضنة عليهم
بالاستغفار . وقالت فرقة : سوف إلى قيام الليل . وقال ابن جبير وفرقة : إلى
الليالي البيض ، فإن الدعاء فيها يستجاب . وقال الشعبي : أخره حتى يسأل يوسف ، فإن
عفا عنهم استغفر لهم . وقيل : أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها . وقيل :
أراد الدوام على الاستغفار لهم . ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله
: إنه هو الغفور الرحيم .
( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ
مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن
قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ
السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ ( : في الكلام حذف تقديره : فرحل يعقوب بأهله أجمعين
، وساروا حتى تلقوا يوسف . قيل : وجهز يوسف إلى أبيه جهازاً ، ومائتي راحلة ليتجهز
إليه بمن معه ، وخرج يوسف قيل : والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر
بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذ ، فنظر إلى الخيل
والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر ؟ فقال : لا ، هذا ولدك . فلما لقيه يعقوب
عليه السلام قال : السلام عليك يا مذهب الأحزان . وقيل : إن يوسف قال له لما
التقيا : يا أبت ، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ قال :
بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك . آوي إليه أبويه أي : ضمهما
إليه وعانقهما ، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل . فقال الحسن وابن إسحاق : كانت
أمه بالحياة . وقيل : كانت ماتت من نفاس بنيامين ، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله
: ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( حكي هذا عن الحسن وابن
إسحاق أيضاً . وقيل : أبوه وخالته ، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل ، والخالة أم
. روي عن ابن عباس ، وكانت ربت يوسف ، والرابة تدعى أمّاً . وقال بعضهم : أبوه
وجدته أم أمه ، حكاه الزهراوي . وفي مصحف عبد الله آوى إليه أبويه وإخوته وظاهر
قوله : ادخلوا مصر ، إنه أمر بإنشاء دخول مصر . قال السدي : قال لهم ذلك وهم في
الطريق حين تلقاهم انتهى . فيبقى قوله : فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب له مضرب ،
أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه . وقيل : دخلوا عليه في مصر . ومعنى
ادخلوا مصر أي : تمكنوا منها واستقروا فيها . والظاهر تعلق الدخول على مشيئة الله
لما أمرهم بالمدخول ، علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة
الله ، وما لا يشاء لا يكون . قال الزمخشري : التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله
آمنين ، إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام ، ثم اعترض
بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال . ومن بدع التفاسير أن قوله : إن شاء الله
من باب التقديم والتأخير ، وأن موضعه بعد قوله : سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب
انتهى . وهذا البدع من التفسير مروي عن ابن جريج ، وهو في غاية البعد ، بل في غاية
الامتناع .
والعرش سرير الملك . ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره ، واجتمعوا إليه ،
أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير . ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر
بعد قوله : ادخلوا مصر ، فكان يكون في
"
صفحة رقم 342 "
قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل ، فحين دخلوا إليه آوى إليه
أبويه وقال : ادخلوا مصر ، ورفع أبويه . وخروا له ، والضمير في وخروا عائد على
أبويه وعلى إخوته . وقيل : الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه
لأجل هيبته ، ولم يدخل في الضمير أبواه ، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيماً لهما .
وظاهر قوله : وخروا له سجداً أنه السجود المعهود ، وأن الضمير في له عائد على يوسف
لمطابقة الرؤيا في قوله : ) إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ( الآية وكان
السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة ، وتقبيل اليد ، والقيام مما شهر
بين الناس في باب التعظيم والتوقير . وقال قتادة : كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى
الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة . وقيل : هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط .
وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض . ولفظة وخروا تأبى هذين
التفسرين . قال الحسن : الضمير في له عائد على الله أي : خروا الله سجداً شكراً
على ما أوزعهم من هذه النعمة ، وقد تأول قوله : رأيتهم لي ساجدين ، على أن معناه
رأيتهم لأجلي ساجدين . وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون : كان السجود تحية لا
عبادة . وقال أبو عبد الله الداراني : لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف ، ويبعد من
عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده ، والشيخوخة ،
والعلم ، والدين ، وكمال النبوة . وقيل : الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله
تعالى ، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول : صليت للكعبة ، وصليت إلى الكعبة ، وقال حسان
: ما كنت أعرف أن الدهر منصرف
عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكموأعرف الناس بالأشياء والسنن
وقيل : السجود هنا التواضع ، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله : )
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا
صُمّاً وَعُمْيَاناً ( أي لم يمروا عليها . وقال ثابت : هذا تأويل رؤياي من قبل أي
: سجودكم هذا تأويل ، أي : عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي
ساجدين : ومن قبل متعلق برؤياي ، والمحذوف في من قبل تقديره : من قبل هذه الكوائن
والحوادث التي جرت بعد رؤياي . ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير
الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه ، فسجود الكواكب والشمس
والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس . ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده
من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا
وعن ابن عباس : أنه لما رأى سجود أبويه وأخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه . وقال
ليعقوب : هذا تأويل رؤياي من قبل ، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم الله
عليه فقال : قد جعلها ربي حقاً أي : صادقة ، رأيت ما يقع في في المنام يقظة ، لا
باطل فيها ولا لغو . وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض . قيل :
ثمانون سنة ، وقيل : ثمانية عشر عاماً . وقيل : غير ذلك من رتب العدد . وكذا المدة
التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى
قال : ) وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( وقد يتعدى بالباء قال تعالى
: ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر : أسيء
بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه
من الجب صفحاً
"
صفحة رقم 343 "
عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسياً لما جرى منهم إذ قال : ) لاَ تَثْرَيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ( وتنبيهاً على طهارة نفسه ،
وبراءتها مما نسب إليه من المراودة . وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد
خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء
بكم من البدو من البادية . وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية
فلسطين ، كان رب إبل وغنم وبادية . وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش
يتنقلون في المياه والمناجع . قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإنّ الله لم
يبعث نبياً من أهل البادية . وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل
بقوله : وأنت التي جببت شعباً إلى بدا
إليّ وأوطاني بلاد سواهما
وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بداً القوم بدوا ، إذا
أتوا بدا كما يقال : غاروا غوراً . إذ أتوا الغور . والمعنى : وجاء بكم من مكان
بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ، وعن ابن عباس . وقابل يوسف عليه
السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه
وأخوته ، وزوال حزن أبيه . ففي الحديث : ) مَّن يُرَدُّ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا ( من
بعد أن نزغ أي أفسد ، وتقدم الكلام على نزع ، وأسند النزع إلى الشيطان لأنه
الموسوس كما قال : ) هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ( وذكر هذا القدر من أمر أخوته ، لأنّ النعمة
إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً . إن ربي لطيف ، أي : لطيف التدبير لما
يشاء من الأمور ، رفيق . ومن في قوله من الملك ، وفي من تأويل للتبعيض ، لأنه لم
يؤته إلا بعض ملك الدنيا ، ولا علمه إلا بعض التأويل . ويبعد قول من جعل من زائدة
، أو جعلها البيان الجنس ، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر . وقيل : ملك نفسه من
إنفاذ شهوته . وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ، ونيل الأماني من الملك . وقرأ عبد
الله ، وعمرو بن ذر : آتيتن ، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما ، مع
كونهما ثابتتين خطاً . وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة : قرأ رب آتيتني بغير قد ،
وانتصب فاطر على الصفة ، أو على النداء . وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين ،
وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي . وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله
عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى
الموت . وقال ابن عباس : لم يتمن الموت حي غير يوسف ، والذي يظهر أنه ليس في الآية
تمنى الموت ، وإنما عدد نعمه عليه ، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي :
توفني إذا حان أجلي على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين . وإنما تمنى الوفاة على
الإسلام لا الموت ، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء ، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق
ويعقوب . وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام ،
وله من الولد : افراثيم ، ومنشا ، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام . قال الذهبي :
وولد لافراثيم نون ، ولنون يوشع ، وهو فتى موسى عليه السلام . وولد لمنشأ موسى ،
وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام . ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر ، وكان ابن
عباس ينكر ذلك . وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران ، وتوارثت
الفراعنة ملك مصر ، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه
السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام .
2 ( ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَآ
"
صفحة رقم 344 "
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَةٍ فِى
السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُواْ
أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِىأَدْعُو إِلَى اللَّهِ
عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىإِلَيْهِمْ
مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَةِ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ
يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لاوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ
الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ ( )
) ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ إِذْ أَجْمَعُواْ
أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يَمُرُّونَ
عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ
عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (
قال ابن الأنباري : سألت قريش واليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن قصة
يوسف فنزلت مشروحة شرحاً وافياً ، وأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم ، فخالفوا
تأميله ، فعزاه الله تعالى بقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات . وقيل
: في المنافقين ، وقيل : التوبة ، وقيل : في النصارى . وقال ابن عباس : في تلبية
المشركين . وقيل : في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فجمعوا بين الإيمان
والشرك . والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته . وما كنت لديهم أي :
عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ، ولا حين ألقوه فيه ، ولا
حين التقطته السيارة ، ولا حين بيع . وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف ،
ويتشاورون فيما يفعلون به . أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم ، وفي
هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وهذا النوع من علم
البيان يسمى بالاحتجاج النظري ، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي ، وهو أن يلزم الخصم
ما هو لازم لهذا الاحتجاج ، وتقدم نظير ذلك في آل عمران ، وفي هود . وهذا تهكم
بقريش وبمن كذبه ، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ،
ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه ، ولم يكن من علم قومه ، فإذا أخبر به وقصه هذا
القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه ، وإنما هو من جهة
القرون الخالية ونحوه ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى
مُوسَى الاْمْرَ ). فقوله : وما كنت ، هنا تهكم بهم ، لأنه قد علم كل أحد أن
محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما كان معهم . وأجمعوا أمرهم أي : عزموا على
إلقاء يوسف في الجب ، وهم يمكرون جملة حالية . والمكر : أن يدبر على الإنسان
تدبيراً يضره ويؤذيه والناس ، الظاهر العموم لقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
وعن ابن عباس : أنهم أهل مكة . ولو حرصت : ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون
لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر . وجواب لو محذوف أي : ولو حرصت لم يؤمنوا ، إنما
يؤمن من يشاء الله إيمانه . والضمير في عليه عائد على دين الله أي : ما تبتغي عليه
أجراً على دين الله ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على التبليغ ، وقيل : على
الأنباء بمعنى القول . وفيه توبيخ للكفرة ، وإقامة الحجة عليهم . أو وما تسألهم
على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطي جملة الأحاديث
والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من الله للعالمين عامة ، وحث على طلب النجاة على
لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ا وقرأ بشر بن عبيد : وما نسألهم بالنون . ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون
على الآيات التي تكون سبباً للإيمان ولا تؤثر فيهم ، وأن تلك الآيات هي في العالم
العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين . قال ابن عطية وهو اسم فاعل
من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى . وهذا شيء يروي عن يونس ، وهو
قول مرجوح في النحو . والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي ، وتلاعبت
العرب به فجاءت به لغات . وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير
هم ولا ألف ولا تشديد ، وجاء كذلك عن ابن محيصن ، فهي لغة انتهى . من آية علامة
على توحيد الله وصفاته ، وصدق ما جيء به عنه . وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد : والأرض
بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبر . ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من
الآيات . وقرأ السدي : والأرض بالنصب ، وهو من باب الاشتغال أي : ويطوون الأرض
يمرون عليها على آياتها ، وما أودع فيها من الدلالات .
"
صفحة رقم 345 "
والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض ، وفي قراءة الجمهور
وهي بجر الأرض ، يعود الضمير على آية أي : يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك
الدلالات ، ومع ذلك لا يعتبرون . وقرأ عبد الله : والأرض برفع الضاد ، ومكان يمرون
يمشون ، والمراد : ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر . وهم مشركون
جملة حالية أي : إيمانهم ملتبس بالشرك . وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب ، أشركوا
بالله من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح . وقال عكرمة ،
ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت ،
وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام . وقال ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بحلقه .
وقيل : هم أهل مكة قالوا : لله ربنا لا شريك له ، والملائكة بناته ، فأشركوا ولم
يوحدوا . وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة أيضاً ذلك في تلبيتهم
يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وفي الحديث كان ( صلى
الله عليه وسلم ) ) إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك بقول له : ( قط قط ) أي
قف هنا ولا تزد إلا شريك هولك وقيل : هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة . وقال عطاء
: هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في
الدعاء . وقيل : هم المنافقون ، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر . وقيل : على بعض
اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى عبدوا الكواكب . وقيل : قريش لما غشيهم الدخان في
سني القحط قالوا : إنا مؤمنون ، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه . وقيل : جميع الخلق
مؤمنهم بالرسول وكافرهم ، فالكفار تقدم شركهم ، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي ،
وأقربهم إلى الكفر المشبهة . ولذلك قال ابن عباس : آمنوا محملاً ، وكفروا مفصلاً .
وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق ، وثالثها من يقول : نفعني فلان وضرّني فلان
.
أفأمنوا : استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد ، غاشية نقمة تغشاهم أي ، تغظيهم كقوله
: ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (
وقال الضحاك : يعني الصواعق والقوارع انتهى . وإتيان الغاشية يعني في الدنيا ،
وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة ، بغتة أي : فجأة في الزمان
من حيث لا يتوقع ، وهم لا يشعرون تأكيد لقوله بغتة . قال الكرماني : لا يشعرون
بإتيانها أي : وهم غيره مستعدين لها . قال ابن عباس : تأخذهم الصيحة على أسواقهم
ومواضعهم . وقرأ أبو حفص ، وبشر بن عبيد : أو يأتيهم الساعة .
( قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ
اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ
الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ (
: لما تقدم من قول يوسف عليه السلام : ) تَوَفَّنِى مُسْلِمًا ( وكان قوله تعالى :
) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( دالاً على أنه حارص
على إيمانهم ، مجتهد في ذلك ، داع إليه ، مثابر عليه . وذكر ) وَمَا تَسْأَلُهُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( أشار إلى فيهم من
"
صفحة رقم 346 "
ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان ، وتوحيد الله . فقال : قل يا محمد هذا الطريقة
والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها ، ثم فسر تلك السبيل فقال : أدعو إلى الله
يعني : لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم ، إنما دعاني إلى الله وحده .
قال ابن عباس : سبيلي أي دعوتي . وقال عكرمة : صلاتي ، وقال ابن زيد : سنتي ، وقال
مقاتل والجمهور : ديني .
وقرأ عبد الله : قل هذا سبيلي على التذكير . والسبيل يذكر ويؤنث ، ومفعول أدعو هو
محذوف تقديره : أدعو الناس . والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو ، وإنا توكيد للضمير
المستكن في ادعو ، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى : أدعو أنا إليها من اتبعني .
ويجوز أن يكون على بصيرة خبراً مقدماً ، وإنا مبتدأ ، ومن معطوف عليه . ويجوز أن
يكون على بصيرة حالاً من ضمير ادعو ، فيتعلق بمحذوف ، ويكون أنا فاعلاً بالجار
والمجرور النائب عن ذلك المحذوف ، ومن اتبعني معطوف على أنا . وأجاز أبو البقاء أن
يكون : ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي : داع إلى الله على بصيرة .
ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله : ) قَدْ جَاءتْكُم بَصَائِرُ مِن
رَّبّكُمْ ( وسبحان الله داخل تحت قوله قل : أي قل ، وتبرئة الله من الشركاء أي :
براءة الله من أن يكون له شريك . ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه
إلى الله ، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء ، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه
منتف عن الشرك ، وأنه ليس ممن أشرك . وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم ، ولا في
وقت من الأوقات . إلا رجالاً حصر في الرسل دعاة إلى الله ، فلا يكون ملكاً . وهذا
رد على من قال : ) لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً ( وكذلك ، قال : )
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( وقال ابن عباس : يعني رجالاً
لا نساء ، فالرسول لا يكون امرأة ، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف ؟ والنبي أعم
من الرسول ، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل ، قال الشاعر في
سجاح المتنبئة : أمست نبيتنا أنثى نطيف بها
ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم
على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت
أصداؤه ماء مزن أينما كانا
وقرأ أبو عبد الرحمن ، وطلحة ، وحفص : نوحي بالنون وكسر الحاء ، موافقاً لقوله :
وما أرسلنا . وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول . والقرى المدن . قال
ابن زيد : أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية ، فإنهم قليل نبلهم ، ولم ينشىء
الله قط منهم رسولاً . وقال الحسن : لم يبعث الله رسولاً من أهل البادية ، ولا من
النساء ، ولا من الجن . والتبدي مكروه إلا في الفتن ، ففي الحديث : ( من بدا جفا )
ثم استفهم استفهام توبخ وتفريع . والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل
من البشر ، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي : هلا يسيرون في الأرض فيعلمون
بالتواتر أخبار الرسل السابقة ، ويرون مصارع الأمم المكذبة ، فيعتبرون بذلك ؟
ولدار الآخرة خير ، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها ، واتقاء
المهلكات ، ففي هذه الإضافة تخريجان : أحدهما : أنها من إضافة الموصوف إلى صفته ،
وأصله : ولدار الآخرة . والثاني : أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه ،
وأصله : ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة . والأول : تخريج كوفي ، والثاني :
تخريج بصرى .
وقرأ الجمهور : أفلا يعقلون بالياء رعياً لقوله : أفلم يسيروا . وقرأ الحسن ،
وعلقمة ، والأعرج ، وعاصم ، وابن عامر ، ونافع : بالتاء على خطاب هذه الأمة
تحذيراً لهم مما وقع فيه أولئك ، فيصيبهم ما أصابهم . قال الكرماني : أفلا يعقلون
أنها خير . فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى .
"
صفحة رقم 347 "
والاستيئاس من النصر ، أو من إيمان قومهم قولان . وحتى غاية لما قبلها ، وليس في
اللفظ ما يكون له غاية ، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري : وما أرسلنا من قبلك
إلا رجالاً ، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر . وقال ابن عطية : ويتضمن
قوله : أفلم يسيروا إلى ما قبلهم ، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم
فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، فصاروا في حيزة من يعتبر بعاقبته ، فلهذا
المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله : حتى إذا استيأس الرسل انتهى . ولم يتحصل لنا من
كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له ، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من
قوله : أفلم يسيروا الآية . وقال أبو الفرج بن الجوزي : المعنى متعلق بالآية
الأولى فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يدعوا قومهم فكذبوهم ، وصبروا
وطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل . وقال القرطبي في تفسيره :
المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى
إذا استيأس الرسل . وقرأ أبي ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطلحة ،
والأعمش ، والكوفيون : كذبوا بتخفيف الذال ، وباقي السبعة ، والحسن وقتادة ، ومحمد
بن كعب ، وأبو رجاء ، وابن مليكة ، والأعرج ، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها . وهما
مبنيان للمفعول ، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل ، والمعنى : إن
الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون . قال ابن عطية : ويحتمل أن كون الظن على
بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال : والضمير للرسل ، والمكذبون مؤمنون أرسل
إليه أي : لما طالت المواعيد حسبت الرسل أنّ المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا
بقولهم . وعلى قراءة التخفيف ، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في
الذكر في قوله : كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولأنّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم
، وفي أنهم . وفي قد كذبوا عائد على الرسل ، والمعنى : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل
قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم ، إذ لم يؤمنوا به . ويجوز في
هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسلم إليهم أي : وظن المرسل
أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوّة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من
العذاب . وهذا مشهور قول ابن عباس ، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد . ولا يجوز
أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل ، لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن
يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله . وقال الزمخشري في هذه القراءة
: حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي : كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم
أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله : رجاء صادق ورجاء كاذب . والمعنى : أنّ مدة التكذيب
والعداوة من الكفار ، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى
استشعروا القنوط ، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير
احتساب انتهى . فجعل الضمائر كلها للرسل ، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله : قد
كذبوا ، إما أنفسهم ، وإما رجاؤهم . وفي قوله : إخراج الظن عن معنى الترجيح ، وعن
معنى اليقين إلى معنى التوهم ، حتى يجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحدة
. وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير : أن الضمير في وظنوا ، وفي قد كذبوا
، عائد على الرسل والمعنى : كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا :
والرسل بشر ، فضعفوا وساء ظنهم . وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل ،
وأعظموا أنْ يوصف الرسل بهذا .
قال الزمخشري : إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في
القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية . وأما الظن الذي هو ترجيح
أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين
هم أعرف بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح انتهى . وآخره مذهب
الاعتزال . فقال أبو علي : إن ذهب ذاهب إلى أنّ المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله
أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه ، فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى
الأنبياء ، ولا إلى صالحي عباد الله قال : وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن
الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ، لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدل
لكلماته . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : قد كذبوا بتخفيف
"
صفحة رقم 348 "
الذال مبنياً للفاعل أي : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله
من العذاب والظن على بابه . وجواب إذ جاءهم نصرنا ، والظاهر أن الضمير في جاءهم
عائد على الرسل . وقيل : عائد عليهم وعلى من آمن بهم . وقرأ عاصم ، وابن عامر :
فنجى بنون واحدة وشدّ الجيم وفتح الياء مبنياً للمفعول . وقرأ مجاهد ، والحسن ،
والجحدري ، وطلحة بن هرمز كذلك ، إلا أنهم سكنوا الياء ، وخرج على أنه مضارع أدغمت
فيه النون في الجيم ، وهذا ليس بشيء ، لأنه لا تدغم النون في الجيم . وتخريجه على
أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء ،
كقراءة من قرأ ) مَا تُطْعِمُونَ ( بسكون الياء . ورويت هذه القراءة عن الكسائي
ونافع ، وقرأهما في المشهور ، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجي . وقرأت فرقة
: كذلك إلا أنهم فتحوا الياء . قال ابن عطية : رواها هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي
غلط من هبيرة انتهى . وليست غلطاً ، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء
يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء ، كقراءة من قرأ : )
الاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ
اللَّهُ فَيَغْفِرُ ( بنصب يغفر بإضمار أنْ بعد الفاء . ولا فرق في ذلك بين أن
تكون أداة الشرط جازمة ، أو غير جازمة . وقرأ نصر بن عاصم ، والحسن ، وأبو حيوة ،
وابن السميقع ، ومجاهد ، وعيسى ، وابن محيصن : فنجى ، جعلوه فعلاً ماضياً مخفف
الجيم . وقال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلاً ماضياً على
معنى فنجى النصر . وذكر الداني أنّ المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة . وفي
التحبير أنّ الحسن قرأ فنجى بنونين ، الثانية مفتوحة ، والجيم مشددة ، والياء
ساكنة . وقرأ أبو حيوة : من يشاء بالياء أي : فنجى من يشاء الله نجاته . ومن يشا
هم المؤمنون لقوله : ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ، والبأس هنا الهلاك . وقرأ
الحسن : بأسه بضمير الغائب أي : بأس الله . وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يَفْتَرِى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء
وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( : الضمير في قصصهم عائد على الرسل ، أو
على يوسف وأبويه وأخوته ، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال .
الأول : اختاره الزمخشري قال : وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى . ولا
ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة . والذي قرأ
بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي ، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي
عمر وجمع قصة . واختار ابن عطية الثالث ، بل لم يذكره غيره . والعبرة الدلالة التي
يعبر بها عن العلم . وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وأخوته ،
فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب ، وإعلاؤه
بعد حبسه في السجن ، وتملكه مصر بعد استعباده ، واجتماعه مع والديه وأخوته على ما
أحب بعد الفرقة الطويلة . والإخبار بهذا القصص إخباراً عن الغيب ، والإعلام بالله
تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في
فكر . وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر ، ومن له لب وأجاد
النظر ، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان ، علم أنه أمر من الله تعالى ، ومن
عنده تعالى . والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي : ما كان القصص حديثاً
مختلفاً ، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ، ولا تتلمذ لأحد ،
ولا خالط العلماء ، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير
تفاوت . وقيل : يعود على القرآن أي : ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه
السلام وغيره حديثاً يختلق ، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية ، وتفصيل كل شيء
واقع ليوسف مع أبويه وأخوته إن
"
صفحة رقم 349 "
كان الضمير عائداً على قصص يوسف ، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن
عاد على القرآن . وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح ،
وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية : تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي : ولكن
هو تصديق ، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي : ولكن تصديق أي : كان هو ، أي
الحديث ذا تصديق الذي بين يديه . وينشد قول ذي الرمة : وما كان مالي من تراب ورثته
ولا دية كانت ولا كسب ماثم ولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السوارق خضرم
بالرفع في عطاء ونصبه أي : ولكن هو عطاء الله ، أو ولكن كان عطاء الله . ومثله قول
لوط بن عبيد العائي اللص :
وإني بحمد الله لا مال مسلمأخذت ولا معطي اليمين محالف ولكن عطاء الله من مال
فاجرقصى المحل معور للمقارف وهدى أي سبب هداية في الدنيا ، ورحمة أي : سبب لحصول
الرحمة في الآخرة . وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى
: ) هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( وتقدم أول الورة قوله تعالى : ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
قُرْانًا عَرَبِيّا ( وقوله تعالى : ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
( وفي آخرها : ما كان حديثاً يفتري إلى آخره ، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على
القرآن ، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم .
"
صفحة رقم 350 "
( سورة الرعد )
ثلاث وأربعون آية مكية ومدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِىأُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الاٌّ
مْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ
الَّذِى مَدَّ الاٌّ رْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ
إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِى الاٌّ رْضِ قِطَعٌ
مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ
وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ
فِى الاٍّ كُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِن تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاٌّ غْلَالُ
فِىأَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى
ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لَوْلاأُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ
قَوْمٍ هَادٍ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاٌّ
رْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ
الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ
بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا
فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ
الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِه
"
صفحة رقم 351 "
وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى
اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى
الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ
إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالاٌّ رْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ
يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى
وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ
شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاٌّ
رْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ
لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ
مَّا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ
لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( )
الرعد : ( 1 ) المر تلك آيات . . . . .
العمد : اسم جمع ، ومن أطلق عليه جمعاً فلكونه يفهم منه ما يفهم من الجمع ، وهي
الأساطين . قال الشاعر : وجيش الجن إني قد أذنت لهم
يبغون تدمر بالصفاح والعمد
والمفرد عماد وعمد ، كإهاب وأهب . وقيل : عمود وعمد كأديم وأدم ، وقضيم وقضم .
والعماد والعمود ما يعمد به يقال : عمدت الحائط أعمده عمداً إذا أدعمته ، فاعتمد الحائط
على العماد أي : امتسك بها . ويقال : فلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما
يخزيهم . ويجمع عماد على عمد بضمتين كشهاب وشهب ، وعمود على عمد أيضاً كرسول ورسل
، وزبور وزبر هذا في الكثرة ، ويجمعان في القلة على أعمدة .
الصنو : الفرع يجمعه ، وآخر أصل واحد ، وأصله المثل ومنه قيل : للعم صنو ، وجمعه
في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان ، ويضمها في لغة تميم وقيس ، كذئب
وذؤبان . ويقال : صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير ، لأنه ليس من أبنيته
.
الجديد ضد الخلق والبالي ، ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله ، وهو فعيل بمعنى
مفعول كأنه كما قطع من النسج .
المثلة : العقوبة ، ويجمع بالألف والتاء كسموة وسماوات . ولغة الحجاز مثلة بفتح
الميم وسكون الثاء ، ولغة تميم بضم الميم وسكون الثاء ، وسميت العقوبة بذلك لما
بين العقاب والمعاقب من المماثلة كقوله تعالى : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ
مّثْلُهَا ( أو لأنها من المثال بمعنى القصاص . يقال : أمثلت الرجل من صاحبه ،
وأقصصته ، أو لأنها لعظم نكالها يضرب بها المثل .
السارب اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء . قال الشاعر :
"
صفحة رقم 352 "
إني سربت وكنت غير سروب
وتقرب الأحلام غير قريب
وقال الآخر : وكل أناس قاربوا قيد فحلهم
ونحن حللنا قيده فهو سارب
أي فهو منصرف كيف شاء ، لا يدفع عن جهة ، يفتخر بعزة قومه . المحال : القوة
والإهلاك قال الأعشى : فرع نبع يهش في غصن المج
د غزير الندى شديد المحال
وقال عبد المطلب : لا يغلبن صليبهم
ومحالهم أبداً محالك
ويقال : محل الرجل بالرجل مكر به وأخذه بسعاية شديدة ، والمماحلة المكايدة
والمماكرة ومنه : تمحل لكذا أي : تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه . وقال أبو زيد :
المحال النقمة ، وقال ابن عرفة : المحال الجادل ما حل عن أمره أي جادل . وقال
القتبي : أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة ، جعل ميمه كميم مكان وأصله من الكون ،
ثم يقال : تمكنت . وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال : ولو كان مفعلاً لظهر من
الواو مثل مرود ومحول ومحور ، وإنما هو مثال كمهاد ومراس .
الكف : عضو معروف ، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك ، وفي الكثرة كفوف كصكوك ، وأصله
مصدر كف .
ظل الشيء ما يظهر من خياله في النور ، وبمثله في الضوء .
الزبد : قال أبو الحجاج الأعلم هو ما يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أموالجه .
وقال ابن عطية : هو ما يحمله السيل من غثاء ونحوه ، وما يرمي به على ضفتيه من
الحباب الملتبك . وقال ابن عيسى : الزبد وضر الغليان وخبثه . قال الشاعر : فما
الفرات إذا هب الرياح له
ترمي غواريه العبرين بالزبد الجفاء : اسم لما يجفاه السيل أي يرمي ، يقال : جفأت
القدر بزبدها ، وجف السيل بزبده ، وأجفأ وأجفل . وقال ابن الأنباري : جفاء أي
متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته ، وجفأت الرجل صرعته . ويقال : جف الوادي
إذا نشف .
( المر تِلْكَ ايَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ
وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ
الاْمْرَ يُفَصّلُ
"
صفحة رقم 353 "
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ ( سقط : بلقاء ربكم توقنون ) ( : هذه السورة مكية في قول :
الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جبير . وعن عطاء إلا قوله : ) وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ( وعن غيره إلا قوله : ) هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ
الْبَرْقَ ( إلى قوله : ) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ ( ومدنية في قوله : الكلبي ،
ومقاتل ، وابن عباس ، وقتادة ، واستثنيا آيتين قالا : نزلتا بمكة وهما ) وَلَوْ
أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله : )
وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله : )
وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية حكاه المهدوي . وقيل : السورة مدنية
حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب .
قال الزمخشري : تلك إشارة إلى آيات السورة ، والمراد بالكتاب السورة أي : تلك آيات
السورة الكاملة العجيبة في بابها . وقال ابن عطية : من قال حروف أوائل السور مثال
الحروف المعجم قال : الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم ، ويصح على هذا أنْ يكون
الكتاب يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل . والمر على هذا ابتداء
، وتلك ابتداء ثان ، وآيات خبر الثاني ، والجملة خبر الأول انتهى . ويكون الرابط
اسم الإشارة وهو تلك . وقيل : الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار
إليه بقوله : تلك من أنباء الغيب ، والذي قال : ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل
، هو قريب من قول مجاهد وقتادة ، والإشارة بتلك إلى جميع كتب الله تعالى المنزلة .
ويكون المعنى : تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل
هذا الكتاب الذي أنزلته إليك . والظاهر أن قوله : والذي مبتدأ ، والحق خبره ، ومن
ربك متعلق بانزل . وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر ، والحق مبتدأ محذوف ، أو هو
خبر بعد خبر ، أو كلاهما خبر واحد انتهى . وهو إعراب متكلف . وأجاز الحوفي أيضاً
أن يكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات ، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في
موضع خفض . وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي : هو الحق ، ويكون
والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول : جاءني الظريف
العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً . ومن ذلك قول الشاعر : إلى الملك القرم وابن الهام
وليث الكتيبة في المزدحم
وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني : إذا جعلت والذي معطوفاً على آيات .
وأكثر الناس قيل : كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى . وقيل :
المراد به اليهود والنصارى ، والأولى أنه عام . ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر
الناس ، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما
يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع . والجلالة مبتدأ ، والذي هو
الخبر بدليل قوله تعالى : ) وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ ( ويجوز أن يكون صفة .
وقوله : يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر ، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات
قاله الزمخشري . وقرأ الجمهور : عمد بفتحتين . وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب :
بضمتين ، وبغير عمد في موضع الحال أي : خالية عن عمد . والضمير في ترونها عائد على
السموات أي : تشاهدون السموات خالية عن عمد . واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها
كلاماً مستأنفاً ، واحتمل أن يكون جملة حالية أي : رفعها مرئية لكم بغير عمد . وهي
حال مقدرة ، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين . وقيل : ضمير النصب في ترونها عائد
على عمد أي : بغير عمد مرئية ، فترونها صفة للعمد . ويدل على كنه صفة لعمد قراءة
أبي : ترونه ، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد ، إذ هو اسم جمع . قال أي ابن عطية
: اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى . وهو وهم
، وصوابه : بضم الحرفين ، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع
.
"
صفحة رقم 354 "
هذا التحريج يحتمل وجهين : أحدهما أنها لها عمد ، ولا ترى تلك العمد ، وهذا ذهب
إليه مجاهد وقتادة . وقال ابن عباس : وما يدريك أنها بعمد لا ترى ؟ وحكى بعضهم أن
العمد جبل قاف المحيط بالأرض ، والسماء عليه كالقبة . والوجه الثاني : أن يكون نفي
العمد ، والمقصود نفي الرؤية عن العمد ، فلا عمد ولا رؤية أي : لا عمد لها فترى .
والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة ، ولو كان لها عمد لاحتاجت تلك العمد
إلى عمد ، ويتسلسل الأمر ، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية . ألا ترى إلى قوله
تعالى : ) وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (
ونحو هذا من الآيات . وقال أبو عبد الله الرازي : العماد ما يعتمد عليه ، وهذه
الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى ، فعمدها قدرة الله تعالى ، فلها
عماد في الحقيقة . إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها
في الحيز العالي ، وأنتم لا ترون ذلك التدبير ، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك
انتهى . وعن ابن عباس : ليست من دونها دعامة تدعمها ، ولا فوقها علاقة تمسكها .
وأبعد من ذهب إلى أنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي : رها وانظروا هل لها
من عمد ؟ وتقدم تفسير ) ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( قال ابن عطية : ثم هنا
العطف الجمل لا للترتيب ، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات . وفي الصحيح
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان
عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض ) انتهى . وسخر الشمس والقمر أي : ذللهما
لما يريد منهما . وقيل : لمنافع العباد . وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة ،
وكل مضافة في التقدير ، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي : كليهما
يجري إلى أجل مسمى . وقال ابن عطية : والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب ،
ولذلك قال : كل يجري لأجل مسمى ، أي : كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر ،
وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى . وشرح كل بقوله أي : كل ما هو في
معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى ، وتحريره
أن يقول على زعمه : إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي ، ومما هو في معناهما إلى أجل
مسمى . وقال ابن عباس : منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لا تتعداها ، قدر لكل
منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء . وقيل : الأجل
المسمى هو يوم القيامة ، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى : )
إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ ( وقال : وجمع الشمس والقمر ، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه
وإبرامه ، وعبر بالتدبير تقريباً للإفهام ، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور
وعواقبها وذلك من صفات البشر ، والأمر أمر ملكوته وربوبيته ، وهو عام في جميع
الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك . وقال
مجاهد : يدبر الأمر يقضيه وحده ، ويفصل الآيات يجعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها
من بعض . والآيات هنا دلائله وعلاماته في سمواته على وحدانيته ، أو آيات الكتب
المنزلة ، أو آيات القرآن أقوال .
وقرأ النخعي ، وأبو رزين ، وابان بن ثعلب ، عن قتادة : تدبر الأمر نفصل بالنون
فيهما ، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما ، وافق في نفصل بالنون الخفاف ،
وعبد الواحد عن أبي عمرو ، وهبيرة عن حفص . وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن
والأعمش نفصل بالنون فقط . وقال المهدوي : لم يختلف في يدبر ، أو ليس كما قال ؟ إذ
قد تقدمت قراءة ابان . ونقل الداني عن الحسن : والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين
الجملتين استفهام إخبار عن الله تعالى . وقيل : يدبر حال من الضمير في وسخر ،
ونفصل حال من الضمير في يدبر ، والخطاب في لعلكم للكفرة ، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ
هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه .
( وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن
كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ
إِنَّ ( : لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية . ومد الأرض :
بسطها طولاً وعرضاً ليمكن التصرف فيها ، والاستقرار عليها . قيل : مدها ودحاها من
مكة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا . وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها
: اذهبي
"
صفحة رقم 355 "
كذا وكذا . قال ابن عطية : وقوله مد الأرض ، يقتضي أنها بسيطة لا كرة ، وهذا هو
ظاهر الشريعة . قال أبو عبد الله الداراني : ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة ، ولا
ينافي ذلك قوله : مد الأرض ، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم . والكرة إذا كانت في غاية
الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح ، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم
الله تعالى . ألا ترى أنه قال : ) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( مع أن العالم والناس
يسيرون عليها فكذلك هنا . وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع ،
وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس ، فلا يمكن الاستدلال به على
وجود الصانع . فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين ، وكونها تقبل الزيادة
والنقص أمر جائز ممكن في نفسه ، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص
مخصص ، وتقدير مقدر ، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى . ملخصاً . وقال
أبو بكر الأصم : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه ، فالمعنى : جعل الأرض حجماً
يسيراً لا يقع البصر على منتهاه ، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه
لما كمل الانتفاع به انتهى . وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير
مسلم ، لأن المنتفع به من الأرض المعمور ، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير .
فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً ، فتحصل في
قوله : مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة ، واختصاصها بمقدار معين
وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه . والرواسي الثوابت ، ومنه قول الشاعر : به
خالدات ما يرمن وهامد
وأشعت أرسته الوليدة بالقهر
والمعنى : جبالاً رواسي ، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث ، إلا أنّ جمع
التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث . وأيضاً فقد غلب على الجبال
وصفها بالرواسي ، وصارت الصفة تعني عن الموصوف ، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط
وكاهل وكواهل . وقيل : رواسي جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، وهو وصف الجبل . كانت
الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها ، والاستدلال بوجود
الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم . قيل : من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة ،
فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ، ومن جهة ما
يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل
واحداً في الطبع ، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قاد قاهر متعالى عن
مشابهة الممكنات ، ومن جهة تولد الأنهار منها . وقيل : وذلك لأنّ الجبل جسم صلب ،
ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتب هناك ، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه
مياه كثيرة ، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، ولهذا في أكثر الأمر إذا
ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية . وكقوله : ) وَجَعَلْنَا فِيهَا
رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( ) وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ
رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً ( فقال المفسرون : الأنهار المياه
الجارية في الأرض . وقال الكرماني : مسيل الماء ، وتقدم الكلام في الأنهار في
أوائل سورة البقرة . والظاهر أنّ قوله : من كل الثمرات متعلق بجعل . ولما ذكر
الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات ، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض
الاثنين ، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك ، ثم تكثرت وتنوعت . وقيل : أراد
بالزوجين الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من
الأصناف المختلفة . وقال ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان
، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية . وقال الكرماني
: الزوج واحد ، والزوج اثنان ، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا
التثنية ، فيكون أربعاً . وخص اثنين بالذكر ، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على
ذلك لأنه الأقل ، إذ لا
"
صفحة رقم 356 "
نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى . ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى
ذلك الفراء . وقال أبو عبد الله الرازي : لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه
الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط . فلو قال : خلق زوجين ، لم يعلم
أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين
اثنين لا أقل ولا أزيد . فالشجر والزرع كبني آدم ، حصل منهم كثرة ، وابتداؤهم من
زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء . والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من
جهة ربو الجنة في الأرض ، وشق أعلاها وأسفلها ، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ،
ومن الأسفل العروق الغائصة ، وطبيعة تلك الجنة واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأفلاك
والكواكب فيها واحد . ثم يخرج من الأعلى على ما يذهب صعداً في الهواء ، ومن الأسفل
ما يغوص في الثرى ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ،
فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم . ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشباً ، وبعضها لوزاً
، وبعضها ثمراً ، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير
القادر الحكيم انتهى . وفيه تلخيص . وقيل : تم الكلام عند قوله : ومن كل الثمرات ،
فيكون معطوفاً على ما قبله من عطف المفردات ، ويتعلق بقوله : وجعل فيها رواسي .
فالمعنى : أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين ، وقيل : الزوجان الشمس والقمر
، وقيل : الليل والنهار ، يغشى الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في
الأعراف . وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك
إلا بالتفكر .
( وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا
عَلَى بَعْضٍ ( : قطع جمع قطعة وهي الجزء . ومتجاورات متلاصقة متداينة ، قريب
بعضها من بعض . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك : أرض طيبة وأرض
سبخة ، نبتت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت . وقال ابن قتيبة وقتادة : يعني القرى
المتجاورة . وقيل : متجاورة في المكان ، مختلفة في الصفة ، صلبة إلى رخوة . وسحراً
إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة ، وصالحة للزرع لا للشجر ، وعكسها مع انتظام جميعها في
الأرضية . وقيل : في الكلام حذف معطوف أي : وغير متجاورات . والمتجاورات المدن وما
كان عامراً ، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر . قال ابن عطية : والذي يظهر
من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة ، ونوع واحد . وموضع العبرة في هذا
أبين ، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض
، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين سئل عن هذه الآية فقال : ( الدقل ،
والقارس ، والحلو ، والحامض ) وقال ابن عطية : وقيد منها في هذه المثال ما جاور
وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب . وفي بعض المصاحف : قطعاً
متجاورات بالنصب على جعل . وقرأ الجمهور : وجنات بالرفع ، وقرأ الحسن : بالنصب ،
بإضمار فعل . وقيل : عطفاً على رواسي . وقال الزمخشري : بالعطف على زوجين اثنين ،
أو بالجر على كل الثمرات انتهى . والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه
التخاريج ، والفصل بينهما بجمل كثيرة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : وزرع
ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع . وقال ابن عطية : عطفاً
على أعناب ، وليست عبارة محررة أيضاً ، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله : صنوان .
وقرأ باقي السباعة : بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال : وجعل الجنة من
الأعناب من رفع الزرع ، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب ، وفي ذلك
تجوز ومنه قول الشاعر : كأن عيني في غربي مقبلة
من النواضح تسقي جنة سحقا
"
صفحة رقم 357 "
أي نخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل . ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا
من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات . وقرأ الجمهور :
صنوان بكسر الصاد فيهما ، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي : بضمها ، والحسن وقتادة
بفتحها ، وبالفتح هو اسم للجمع ، كالسعدان . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وزيد بن علي
: يسقى بالياء ، أي : يسقى ما ذكر . وباقي السبعة بالتاء ، وهي قراءة الحسن وأبي
جعفر وأهل مكة . أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم ، ولقوله : ونفضل بالنون .
وحمزة والكسائي بالياء ، وابن محيصن بالياء في تسقي ، وفي نفضل . وقرأ يحيى بن
يعمر ، وأبو حيوة ، والحلبي عن عبد الوارث : ويفضل بالياء ، وفتح الضاد بعضها
بالرفع . قال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أول من نقط
المصاحف . وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها . والأكل بضم
الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض ، وبفتحها المصدر . والظاهر من تفسير أكثر
المفسرين للصنوان أن يكون قوله : صنوان ، صفة لقوله : ونخيل . ومن فسره منهم
بالمثل جعله وصفاً لجميع ما تقدم أي : أشكال ، وغيره إشكال . قيل : ونظير هذه
الكلمة قنو وقنوان ، ولا يوجد لهما ثالث ونص على العنوان لأنها بمثال التجاور في
القطع ، فظهر فيها عرابة اختلاف الأكل . ومعنى بماء واحد : ماء مطر ، أو ماء بحر ،
أو ماء نهر ، أو ماء عين ، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض . وخص التفضيل في
الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره ، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات . ألا ترى
إلى تقاربها في الأشكال ، والألوان ، والروائح ، والمنافع ، وما يجري مرجى ذلك ؟
قيل : نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته ، وأنه المدبر للأشياء كلها ،
وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم ، ثم
يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل ، يتفرق ذلك الماء
في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ، ثم تختلف طعوم الثمار
والماء واحد ، والشجر جنس واحد . وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه ، لا يشبه
المخلوقات . قال الراجز : والأرض فيها عبرة للمعتبر
تخبر عن صنع مليك مقتدر
تسقى بماء واحد أشجارها
وبقعة واحدة قرارها
والشمس والهواء ليس يختلف
وأكلها مختلف لا يأتلف
لو أن ذا من عمل الطبائع
أو أنه صنعة غير صانع
لم يختلف وكان شيئاً واحدا
هل يشبه الأولاد إلا الوالدا
الشمس والهواء يا معاند
والماء والتراب شيء واحد
فما الذي أوجب ذا التفاضلا
إلا حكيم لم يرده باطلا
. وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة
فسطحها ، فصارت قطعاً متجاورات ، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة
وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً وكذلك الناس خلقوا من آدم . فنزلت عليهم من
السماء مذكرة ، قربت قلوب وخشعت قلوب ، وقست قلوب ولهت قلوب . وقال الحسن : ما
جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان . قال تعالى : ) وَنُنَزّلُ مِنَ
الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ( ، وهو شبيه بكلام الصوفية . إن في ذلك قال ابن
عباس : في اختلاف الألوان والروائح والطعوم ، لآيات : لحججاً ودلالات لقوم يعقلون
: يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر . ولما كان الاستدلال في
هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع ، والجنات وسقيها وتفضيلها
، جاء ختمها بقوله : لقوم يعقلون ، بخلاف الآية التي قبلها ، فإن الاستدلال بها
يحتاج إلى
"
صفحة رقم 358 "
تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون .
( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى
خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ
الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى
ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ( : ولما أقام الدلائل على عظيم
قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه ، عجب الرسول عليه
الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته ، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل .
وإن تعجب قال ابن عباس : وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من
الصادقين ، فهذا أعجب . وقيل : وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً
ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد ، فهذا أعجب . قال الزمخشري :
وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه ،
لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ، ولم يعي بخلقهن ، كانت
الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى . وليس
مدلول اللفظ ما ذكر ، لأنه جعل متعلق عجبه ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو قولهم في
إنكار البعث ، فاتحذ الجزاء والشرط ، إذ صار التقدير : وإن تعجب من قولهم في إنكار
البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث ، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب ، فليكن
من قولهم : أئذا كنا الآية . وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه : هو إنكار
البعث ، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء . ومن كان قادراً على إبرازها من العدم
الصرف كان قادراً على الإعادة ، كما قال تعالى : ) وَهُوَ الَّذِى اللَّهُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( وهو أهون عليه أي : هين عليه .
وقال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ، أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم
وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا
خلقاً جديداً . ويحتمل اللفظ منزعاً آخر : إن كنت تريد عجباً فهلم ، فإنّ من أعجب
العجب قولهم انتهى . واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً ،
هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي
الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات . وقرأ نافع
والكسائي بجعل الأول استفهاماً ، والثاني خبراً ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس
نافع . وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت ، وأما في النمل فعلى أصله إلا
أنه زاد نوناً فقرأ : ) إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ ( وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً
، والثاني استفهاماً ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نوناً
كالكسائي . وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا
الباب ، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في
الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين
وتركه . وقولهم : فعجب ، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ، لأنه لا يتمكن
المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره والله أعلم : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب .
وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ،
وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك . كما أجاز سيبويه ذلك في
كم مالك ؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه
، لمسوغ الابتداء أيضاً ، وهو كونه عاملاً فيما بعده . وقال أبو البقاء : وقيل عجب
بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى . وهذا الذي أجازه لا
يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ،
فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلاً كذبح ، وفعلاً كقبض ، وفعلة كغرفة ،
هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض
ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه . وقد نصوا
على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول . وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل
، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به . وقال الزمخشري : أئذا كنا إلى آخر قولهم
يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى . هذا إعراب متكلف ، وعدول
"
صفحة رقم 359 "
عن الظاهر . وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما
يدل عليه الجملة الثانية وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر . أولئك إشارة إلى قائل تلك
المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا
قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء . ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما
يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم .
والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في
الآخرة ، كما قال : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل . وقيل : يحتمل أن يكون مجازاً
أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال
تعالى : ) إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً ( وكما قال الشاعر :
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما
يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما
أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر . ولما كانوا متوعدين
بالعذاب إن أصروا على الكفر ، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب ، سألوا
واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا : ) فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً ( وقالوا : ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفًا ).
قال ابن عباس : السيئة العذاب ، والحسنة العافية . وقال قتادة : بالشر قبل الخير .
وقيل : بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، وهذه الأقوال متقاربة . وقد خلت من
قبلهم المثلات أي : يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في
الأمم السالفة ، وهذا يدل على سخف عقولهم ، هذ يستعجلون بالعذاب . والحالة هذه فلو
أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ، ولكنهم لا يعتبرون
فيستهزؤون . قال ابن عباس : المثلات العقوبات المستأصلات ، كمثلات قطع الأنف
والأذن ونحوهما . وقال السدي : النقمات . وقال قتادة : وقائع الله الفاضحة ، كمسخ
القردة والخنازير . وقال مجاهد : الأمثال المضروبة . وقرأ الجمهور : بفتح الميم ،
وضم التاء ، ومجاهد والأعمش بفتحهما . وقرأ عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو
بكر : بضمهما ، وابن وثاب : بضم الميم وسكون الثاء ، وابن مصرف بفتح الميم وسكون
الثاء . ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران ، وعلى ظلمهم في موضع الحال
والمعنى : أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم . باكتساب الذنوب أي : ظالمين أنفسهم .
قال ابن عباس : ليس في القرآن آية أرجى من هذه . وقال الطبري : ليغفر لهم في
الآخرة . وقال القاسم بن يحيى وقوم : ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف .
وقيل : ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر . وقيل : ليغفر لهم بسترة وإمهاله ،
فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية . قال ابن عطية : والظاهر من معنى
المغفرة هنا هو ستره في الدنيا ، وإمهاله للكفرة . ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة ،
وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى : ) وَإِنّى لَغَفَّارٌ
لّمَن تَابَ ( ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار . ثم قال : ويستعجلونك ،
فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم ، وأنه
يمهل مع ظلم الكفرة انتهى . ولشديد العقاب : تخويف وارتقاب بعد ترجية . وقال سعيد
بن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لولا
عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ، ولولا عقابه لا تكل كل أحد ) وفي حديث آخر :
( إن
"
صفحة رقم 360 "
العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في
عبادة الله عز وجل ) .
( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ ( : عن ابن عباس : لما نزلت وضع
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يده على صدره فقال : ( أنا منذر ) وأومأ بيده
إلى منكب عليّ وقال : ( أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدى من بعدي ) ، وقال القشيري :
نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليّ بن أبي طالب ، والذين كفروا مشركو
العرب ، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار ، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة
المنزلة كانشقاق القمر ، وانقياد الشجر ، وانقلاب العصا سيفاً ، ونبع الماء من بين
الأصابع ، وأمثال هذه . فاقترحوا عناداً آيات كالمذكورة في سبحان ، وفي الفرقان
كالتفجير للينبوع ، والرقي في السماء ، والملك ، والكنز ، فقال تعالى لنبيه ( صلى
الله عليه وسلم ) ) : إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة ، وناصح كغيرك من الرسل
، ليس لك الإتيان بما اقترحوا . إذ قد أتى بآيات عدد الحصا ، والآيات كلها متماثلة
في صحة الدعوى ، لا تفاوت فيها . فالاقتراح إنما هو عناد ، ولم يجر الله العادة
بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها .
وهاد : يحتمل أن يكون قد عطف على منذر ، وفصل بينهما بقوله لكل قوم ، وبه قال :
عكرمة ، وأبو الضحى . فإن أخذت : ولكل قوم هاد ، على العموم فمعناه : وداع إلى
الهدى ، كما قال : ) بعثت إلى الأسود والأحمر ( فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم
مخصوص أي : ولكل قوم قائلين هاد . وقيل : ولكل أمة سلفت هاد أي : نبي يدعوهم ،
والقصد : فليس أمرك ببدع ولا منكر ، وبه قال : مجاهد ، وابن زيد ، والزجاج قال :
نبي يدعوهم بما يعطي من الآيات ، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات . وتبعهم
الزمخشري . فقال : هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من
الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأشياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة . وقالت
فرقة : الهادي في هذه الآية هو الله تعالى ، روي أن ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ،
وابن جبير ، وهاد : على هذا مخترع للإرشاد . قال ابن عطية : وألفاظ تتعلق بهذا
المعنى ، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع . وقال الزمخشري : في
هذا القول وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات
ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر ، لا أنْ تثبت
الإيمان بالإلجاء ، والذي يثبته بالإلجاء هو الله تعالى انتهى . ودلّ كلامه على
الاعتزال . وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد ، وابن زيد ما نصه : ولقد دل
بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته ، أن أعطاء كل منذر
آيات أمر مدبر بالعلم النافذ ، مقدر بالحكمة الربانية . ولو علم في إجابتهم إلى
مقترحهم خيراً أو مصلحة لأجابهم إليه . وقال الزمخشري أيضاً في معنى أن الهادي هو
الله تعالى أي : بالإلجاء على زعمه ما نصه : وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على
أنّ من هذه القدرة قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق
يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره انتهى . وقالت فرقة : الهادي علي بن أبي طالب ،
وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدر هذه الآية ، فإنما جعل الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) ) علي بن أبي طالب مثالاً من علماء الأمّة وهداتها إلى الدين ،
فكأنه قال : أنت يا علي هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء
الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ثم كذلك علماء كل عصر ، فيكون المعنى على هذا :
إنما أنت يا محمد منذر ، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير . وقال
أبو العالية : الهادي العل . وقال علي بن عيسى : ولكل قوم سبقهم إلى الهدى إلى نبي
أولئك القوم . وقيل : هود قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير : )
وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِراطِ الْحَمِيدِ (
وقال في الشر : ) فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ( قاله أبو صالح . ووقف
ابن كثير على هاد وواق حيث واقعا ، وعلى وال هنا وباق في النخل بإثبات الياء ،
وباقي السبعة بحذفها . وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد : الوقف على
ميع الباب لابن كثير بالياء ، وهذا لا يعرفه المكيون . وفيه عن أبي يعقوب الأزرق
عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب ، بين أن يقف بالياء ، وبين أن يقف بحذفها
. والباب هو كل منقوص منون غير منصرف .
"
صفحة رقم 361 "
) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا
تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ
بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقّبَاتٌ
مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ ( : مناسبة هذه الآية لما
قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ) آية وكم آية نزلت ، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر ،
وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ،
فلا يقترحون غيرها ، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى . وقيل :
مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث
لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاط علمه ، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات
هو قادر على إعادة ما أنشأ . وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على
علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة . قال ابن
عطية : قص في هذا المثل المنبه عل قدرة الله القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك
الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله
الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان . وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر
عليها الإعادة . والله يعلم : كلام مستأنف مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي بالله جاز
أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي : هو الله تعالى ، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال :
يعلم . ويعلم هنا متعدية إلى واحد ، لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق
بالمفردات . وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ،
ويكون تغيض متعدياً . وأن تكون مصدرية ، فيكون تغيض وتزداد لا زمان . وسماع
تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب . وأن تكون استفهاماً مبتدأ ، وتحمل خبره
ويعلم متعلقه ، والجملة في موضع المفعول . وتحمل هنا من حمل البطن ، لا من الحمل
على الظهر . وفي مصحف أبي : ما تحمل كل أنثى ، وما تضع وتحمل على التفسير ، لأنها
زيادة لم تثبت في سواد المصحف .
قال ابن عباس : تغيض تنقص من الخلقة ، وتزداد تتم . وقال مجاهد : غيض الرحم أن
ينهرق دماً على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد
تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام ابن عباس
. وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع . وقال
قتادة : الغيض السقط ، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر . وقال الضحاك : غيض الرحم
أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة . وعن الضحاك أيضاً :
الغيض النقص من تسعة أشهر ، والزيادة إلى سنتين . وقيل : من عدد الأولاد ، فقد
تحمل واحداً ، وقد تحمل أكثر . وقال الجمهور : غيض الرحم الدم على الحمل . قال
الزمخشري : إن كانت ما موصولة فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو
من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال
الحاضرة المترقية . ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه ، وما تزداد أي تأخذه زائداً
تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه : ) وَازْدَادُواْ تِسْعًا ( ويقال :
زدته فزاد بنفسه وازداد . وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد ، فإنها تشتمل على
واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في
بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاماً ومخدجاً ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون
أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند
"
صفحة رقم 362 "
الشافعي ، وإلى خمس عند مالك . وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في
بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدم فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية
فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه
شيء من ذلك من أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند
الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن :
الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر .
وعنه : الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ولد التمام انتهى . وهو جمع
ما قاله المفسرون مفرقاً . وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر
به الشيء . والظاهر عموم قوله : وكل شيء عنده بمقدار ، أي : بحد لا يتجاوزه ولا
يقتصر عنه . وقال ابن عباس : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي : بقدر
الطاعة والمعصية . وقال الضحاك : من الغيض والازدياد . وقال قتادة : من الرزق
والأجل . وقيل : صحة الجنين ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله . والأحسن حمل
هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ، لأنه لا دليل عليه .
والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه
المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات . وقيل المراد بالعندية أنه
تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية .
ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وكانت أشياء جزئية من خفايا
علمه ، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم
تعلقه بما يغيب عنهم . وقيل : الغائب المعدوم ، والشاهد الموجود . وقيل : الغائب
ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر للحس . وقرأ زيد بن علي : عالم الغيب بالنصب ،
الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو
الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها . وأثبت ابن كثير وأبو عمر وفي رواية : ياء
المتعال وقفاً ووصلاً ، وهو الكثير في لسان العرب ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ،
لأنها كذلك رسمت في الخط . واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي ، وأجاز
غيره حذفها مطلقاً . ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين ، وإن تعاقب التنوين ،
فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب . ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة
على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : سواء منكم
الآية . والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من
أقواله . وسواء تقدم الكلام فيه ، وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثني
في أشهر اللغات . وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواآن . وقيل : هو على حذف أي :
سواء منكم سرّ من أسرّ القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر
، والمعطوف عليه مبتدأ . ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله : منكم ، ومن
المعطوف الخبر . وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر . وقول ابن
عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح .
وقال ابن عباس : مستخف مستتر وسارب ظاهر . وقال مجاهد : مستخف بالمعاصي . وتفسير
الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر . وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنه اقترانه
بالليل ، واقتران السارب بالنهار . وتقابل الوصفان في قوله : ومن هو مستخف ، إذ
قابل من أسر القول . وفي قوله : سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به . والمعنى والله
أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك .
وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من ، لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : من أسرّ القول
ومن جهر به ، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون . ويجوز أن
يكون : وسارب ، معطوفاً على من ، لا على مستخف ، فيصح التقسيم . كأنه قيل : سواء
شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار . ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف .
وأريد
"
صفحة رقم 363 "
بمن اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ من في
إفراد هو . والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد
يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى نصرفه في الناس . قال ابن عطية : فهذا قسم
واحد ، جعل الله نهار راحته . والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ،
سواء في اطلاع الله تعالى على الكل . ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من ،
ولا يأتي حذفها إلا في الشعر . وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف . فالذي يسر طرف
، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر
البراءة بالنهار انتهى . وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه
كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي . وقال :
وكم لظلام الليل عندي من يد
والظاهر عود الضمير في له على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ، ومن جهر ، ومن استخفى ،
ومن سرب : معقبات . وقال ابن عباس : هو عائد على من قوله : ومن هو مستخف ، وكذلك
في باقي الضمائر التي في الآية .
قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال :
والآية على هذا في الرؤساء الكافرين . واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة
وجماعة . وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر الله انتهى . وحذف لا ، لا في
الجواب قسم بعيد . قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من
الله على ظنه وزعمه . وقيل : الضمير في له عائد على الله تعالى أي : لله معقبات
ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد
وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً . وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ، وهو قول مجاهد والنخعي . وقيل : الضمير في له عائد على الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) ) وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد جرى ذكره في قوله : )
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( والمعنى : أنّ الله
تعالى جعل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) حفظة من متمردي الجن والإنس . قال أبو
زيد : الآية في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) نزلت في حفظ الله له من أربد بن
قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق . والقول
الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر . ويقول : لما
تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستوفي علم
الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضاً أن لذلك المذكور معقبات :
جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا
جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به
فيكتبونه . وقال الزمخشري : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله : )
وَجَاء الْمُعَذّرُونَ ( يعني المعتذرون . ويجوز معقبات بكسر العين ، ولم يقرأ به
انتهى . وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من
كلمة ولا من كلمتين . وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في
الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما . وأما تشبيهه بقوله : وجاء
"
صفحة رقم 364 "
المعذرون ، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون ، وقد تقدم في براءة توجيهه ، وأنه
لا يتعين ذلك فيه . وأما قوله : ويجوز معقبات بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه
على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف . وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ،
والمعقبات جمع معقبة . وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة . وقيل
: جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ،
ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري . وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر
كما ذكر ، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات
قاله : ابن عطية . وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله : جمع معقب ،
أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ،
وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من
حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في
الأخبار . وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه
الطبري ذلك برجل ورجالات من حيث المعنى ، لا من حيث صناعة النحويين ، فبين أنّ
معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع ، وأن معقبات من حيث استعمل
جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال . وقرأ عبيد بن زياد على
المنبر له المعاقب ، وهي قراءة أبي وإبراهيم . وقال الزمخشري : وقرىء له معاقيب .
قال أبو الفتح : هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف ، كمطعم ومطاعم ، ومقدم
ومقاديم ، وكان معقباً جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء
المحذوفة في ممعاقبة . وقال الزمخشري : جمع معقب أو معقبة ، والياء عوض من حذف أحد
القافين في التكسير . وقرىء له معتقبات من اعتقب . وقرأ أبي من بين يديه ، ورقيب
من خلفه . وقرأ ابن عباس : ورقباء من خلفه ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من
خلفه ، ورقيب من بين يديه . وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير ، لا أنها قرآن
لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . والظاهر أن قوله تعالى : من أمر
الله متعلق بقوله : يحفظونه . قيل : مِن للسبب كقولك : كسرته من عرى ، ويكون
معناها ومعنى الباء سواء ، كأنه قيل : يحفظونه بأمر الله وبإذنه ، فحفظهم إياه
متسبب عن أمر الله لهم بذلك . قال ابن جريج : يحفظون عليه عمله ، فحذف المضاف .
وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . وقراءة علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وزيد بن
علي ، وجعفر بن محمد : يحفظونه بأمر الله ، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا
التأويل . قال الزمخشري : يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي : من أجل أن الله
تعالى أمرهم بحفظه . وقال ابن عطية ، وقتادة : معنى من أمر الله ، بأمر الله أي :
يحفظونه بما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل انتهى . وليس بتحكم وورود من للسبب
ثابت من لسان العرب . وقيل : يحفظونه من بأس الله ونقمته كقولك : حرست زيداً من
الأسد ، ومعنى ذلك : إذا أذن الله لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب
كقوله تعالى : ) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ (
يصير معنى الكلام إلى التضمين أي : يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته .
ومن جعل المعقبات الحرس ، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه : في زعمه وتوهمه
من هلاك الله ، ويدعون قضاءه في ظنه ، وذلك لجهالته بالله تعالى ، أو يكون ذلك على
معنى التهلك به ، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف
، وفي الحقيقة هو منتصف ، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به : لا يحفظونه ،
فحذف لا . وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه ، وهي في موضع
نصب . وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر الله
يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، وابن جريج ، فيكون
من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من
أمر الله تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت
المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين
يديه . والثانية : يحفظونه أي :
"
صفحة رقم 365 "
حافظات له . والثالثة : كونها من أمر الله ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق
بقوله : يحفظونه ، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين
يديه ومن خلفه . والثانية : قوله : من أمر الله أي : كائنة من أمر الله . غاية ما
في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ،
وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة ، في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها .
وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالاً
عن المنجمين وأصحاب الطلمسات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره .
ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على
المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم خيراً وشراً ، ذكر تعالى أن ما
خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا
بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية . فكان في ذكر ذلك
تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لو بال المعصية . والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم
بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي . قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول ، لأنه صح
الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : )
وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ( الآية . وسؤالهم للرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) ) : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة )
فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ، وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب
، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير
هذا في أمثله الشريعة . فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم
منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير . وثم أيضاً مصائب يزيد الله بها أجر
المصاب ، فتلك ليست تغييراً انتهى . وفي الحديث : ( إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا
على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ) وقيل : هذا يرجع إلى قوله : )
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ( فبين تعالى أنه لا ينزل
بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي ، إلا إن علم
الله تعالى أنّ فيهم ، أو في عقبهم من يؤمن ، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب
الاستئصال . وما موصولة صلتها بقوم ، وكذا ما بأنفسهم . وفي ما إبهام لا يتغير
المراد منها : إلا بسياق الكلام ، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى ، والتقدير : لا
يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي
معصيته . والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب ، وغير ذلك من البلاء .
ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله : سوء ، وإلا فالسوء
والخير إذا أراد الله تعالى شيئاً منها فلا مرد له ، فذكر السواء مبالغة في
التخويف . وقال السدي : من وال من ملجأ . وقال الزمخشري : ممن يلي أمرهم ، ويدفع
عنهم . وقيل : من ناصر يمنع من عذابه .
( هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىء السَّحَابَ
الثّقَالَ وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى
اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ( : لما خوف تعالى العباد بقوله : ) وَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ( أتبعه بما يشتمل على أمور
دالة على قدرة الله تعالى ، وحكمته تشبه النعم من وجه ، والنقم من وجه . وتقدم
الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة . قال ابن عباس والحسن : خوفاً
من الصواعق ، وطمعاً في الغيث . وقال قتادة : خوفاً للمسافرين من أذى المطر ،
وطمعاً للمقيم في نفعه . وقريب منه ما ذكره الزجاج وهو : خوفاً للبلد الذي يخاف
ضرر المطر له ، وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به ، وذكر الماوردي : خوفاً من العقاب ،
وطمعاً في الثواب . وعن ابن عباس وغيره : أنه كنى بالبرق عن الماء ، لما كان المطر
يقاربه غالباً وذلك من باب إطلاق الشيء مجازاً على ما يقاربه غالباً . قال الحوفي
: خوفاً وطمعاً مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب ، وجوزه الزمخشري أي : خائفين
وطامعين ، قال : ومعنى الخوف والطمع ، أن وقوع الصواعق يخوف عند لمع البرق ، ويطمع
في الغيث . قال أبو الطيب
"
صفحة رقم 366 "
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
. وقيل : يخاف البرذ المطر من له منه ضرر كالمسافر ، ومن في جرينته التمر والزبيب
، ومن له بيت يكف ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر انتهى . وقوله
الأول في تفسير الخوف والطمع ، هو قول ابن عباس والحسن الذي تقدم ، وقوله : كأهل
مصر ، ليس كما ذكر ، بل ينتفعون بالمطر في كثير من أوقات نمو الزرع ، وأنه به ينمو
ويجود ، بل تمر على الزرع أوقات يتضرر وينقص نموه بامتناع المطر . وأجاز الزمخشري
أن يكونا منصوبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع ، أو على ذا خوف
وطمع . وقال أبو البقاء : خوفاً وطمعاً مفعول من أجله . وقال الزمخشري : لا يصح أن
يكون مفعولاً لهما ، لأنهما ليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف
المضاف أي : إرادة خوف وطمع ، أو على معنى إخافة وإطماعاً انتهى . وإنما لم يكونا
على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن الإرادة فعل الله ، والخوف والطمع فعل
للمخاطبين ، فلم يتحد الفاعل في الفعل في المصدر . وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط
اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعاً عليه ، بل من النحويين من لا يشترط ذلك ، وهو مذهب
ابن خروف . والسحاب اسم جنس يذكر ويؤنث ، ويفرد ويجمع ، قال : ( والنخل باسقات )
ولذلك جمع في قوله : الثقال ، ويعني بالماء ، وهو جمع ثقيلة . قال مجاهد وقتادة :
معناه تحمل الماء ، والعرب تصفها بذلك . قال قيس بن أخطم : فما روضة من رياض القطا
كأن المصابيح جودانها
بأحسن منها ولا مزنة
ولوح يكشف أوجانها
والدلوج المثقلة ، والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد . فإن كان يصح منه التسبيح فهو
إسناد حقيقي ، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي . وتنكيره في قوله : )
فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ( ينفي أن يكون علماً لملك . وقال ابن الأنباري
: الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل : قد غمني كلامك . وقال
الزمخشري : ويسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له ، أي : يضجون
بسبحان الله والحمد لله . وفي الحديث : ( سبحان من يسبح الرعد بحمده ) وعن علي : (
سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : (
اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك ) ومن بدع المتصوفة :
الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم انتهى . وقال ابن
عطية : وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب ، روى ذلك عن ابن عباس . وهذا عندي
لا يصح لأنّ هذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة . وقال أبو عبد الله الرازي :
إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية
فلكية ، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ، وكذا القول في الرياح ، وفي
سائر الآثار العلوية . وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله
تعالى ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء
، فكيف بالعاقل الإنكار ؟ انتهى . وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على
مناهج الشريعة ، وذلك لا يكون أبداً ، وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة
، فلم يجمعوا على أنّ اسم لملك . وعلى تقدير أن يكون اسماً لملك ، لا يلزم أن يكون
ذلك الملك يدبر لا للسحاب ولا غيره ، إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ) المشهود له بالعصمة ، لا من الفلاسفة الضلال . والظاهر عود
الضمير في قوله : من خيفته ، على الله تعالى كما عاد في قوله : بحمده . ومعنى
خيفته : من هيبته وإجلاله .
"
صفحة رقم 367 "
وقيل : يعود على الرعد . والملائكة أعوانه جعل الله له ذلك فهم خائفون خاضعون
طائعون له . والرعد وإن كان مندرجاً تحت لفظ الملائكة ، فهو تعميم بعد تخصيص انتهى
. وهو قول ضعيف . ومن مفعول فيصيب ، وهو من باب الإعمال ، أعمل فيه الثاني إذ يرسل
يطلب من وفيصيب يطلبه ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : ويرسل الصواعق فيصيب بها
على من يشاء ، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال
الثاني . ومفعول يشاء محذوف تقديره : من يشاء إصابته . وفي الخبر أنّ الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) ) بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال : أخبرني عن إله محمد ؟ أمن
لؤلؤ هو أم من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه . وقال مجاهد : ناظر يهودي
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه ،
فنزلت الآية فيه . وقال ابن جريج : سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن
الطفيل ، وذكر قصتهما المشهورة ، مضمونها أن عامراً توعد الرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) ) إذا لم يجبه إلى ما طلب ، وأنه وأربداً ما الفتك به ، فعصمه الله تعالى ،
وأصاب عامراً بغدّة فمات غريباً ، وأريد بصاعقة فقتلته ، ولأخيه لبيد فيه عدة مرات
. منها قوله : أخشى على أربد الحتوف ولا
أرهب نوء السماك والأسد
فجعني البريق والصواعق بالفا
رس يوم الكريهة النجد
وهذه الضلالات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة ، والتصرف التام
في العالم العلوي والسفلي ، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه ، وأن يعتقد ما هو
عليه من الصفات العلوية ، والضمير في وهم يجادلون ، عائد على الكفار المكذبين
للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، المنكرين الآيات ، يجادلون في قدرة الله على
البعث وإعادة الخلق بقولهم : ) مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ( وفي
وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد . ونسبة التوالد إليه بقولهم : الملائكة بنات
الله تعالى والمعنى : أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف ، ومع ذلك رتبوا عليها غير
مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى ، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به
الأنبياء . وقيل : وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي : فيصيب بها من يشاء في حال
جدالهم كما جرى لليهودي . وكذلك الجبار ، ولا ربد . وهو شديد المحال ، جملة حالية
من الجلالة . وقرأ الجمهور : المحال بكسر الميم . فعن ابن عباس : المحال العداوة ،
وعنه الحقد . وعن عليّ : الأخذ ، وعن مجاهد : القوة . وعن قطرب : الغضب . وعن
الحسن : الهلاك بالمحل ، وهو القحط . وقرأ الضحاك والأعرج : المحال بفتح الميم .
فعن ابن عباس : الحول . وعن عبيدة : الحيلة . يقال : المحال والمحالة وهي الحيلة ،
ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون
المعنى شديد العقاب ، ويكون مثلاً في القوة والقدرة ، كما جاء : فساعد الله أشد ،
وموساه أحدّ ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاع بما
يعجز عنه غيره . ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر ، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر
وقوامسه . والضمير في له عائد على الله تعالى ، ودعوة الحق قال ابن عباس : دعوة
الحق لا إله إلا الله ، وما كان من الشريعة في معناها . وقال علي بن أبي طالب ،
دعوة الحق التوحيد . وقال الحسن : إن الله هو الحق ، فدعاؤه دعوة الحق . وقيل :
دعوة الحق دعاؤه عند الخوف ، فإنه لا يدعي فيه إلا هو ، كما قال : ) ضَلَّ مَن
تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ( قال الماوردي : وهو أشبه بسياق الآية . وقيل : دعوة
الطلب الحق أي : مرجو
"
صفحة رقم 368 "
الإجابة ، ودعاء غير الله لا يجاب ، وقال الزمخشري : فيه وجهان . أحدهما : أن تضاف
الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قوله : ( كلمة
الحق ) للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل ،
والمعنى : أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة
له ، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته
من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه . والثاني : أن تضاف إلى الحق
الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب . وعن الحسن رحمه
الله : الحق هو الله تعالى ، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى . وهذا الوجه الثاني
الذي ذكره الزمخشري لا يظهر ، لأنّ مآله إلى تقدير : لله دعوة لله ، كما تقول :
لزيد دعوة زيد ، وهذا التركيب لا يصح . والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة
الموصوف إلى الصفة كقوله : ولدار الآخرة على أحد الوجهين ، والتقدير : لله الدعوة
الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة ، والمعنى : أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة
الحق . ولما ذكر تعالى جدال الكفار في الله تعالى ، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه
، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي : من يدعو له فدعوته هي الحق ، بخلاف أصنامهم
التي جادلوا في الله لأجلها ، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء . فقال : )
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ ). قال الزمخشري : والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون
الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي :
كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه ، يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر
ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه . وكذلك ما
يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم . وقيل :
شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما
ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً ، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى . فالضمير
في يدعون عائد على الكفار ، والعائد على الذين محذوف أي : يدعونهم . ويؤيده قراءة
من قرأ بالتاء في تدعون ، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر . وقيل : الذين أي :
الكفار الذين يدعون ، ومفعول يدعون محذوف أي : يدعون الأصنام . والعائد على الذين
الواو في يدعون ، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون
المحذوف ، وعلى القول الأول على الذين . قال ابن عباس : كالناظر إلى خياله في
الماء يريد تناوله ، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه
. وقال الضحاك : كمن بسط يديه إلى الماء ليص إليه بلا اغتراف . وقال أبو عبيدة :
أي كالقابض على الماء ليس على شيء ، قال : والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا
يدركه بالقابض على الماء ، وأنشد سيبويه : فأصبحت فيما كان بيني وبينها
من الود مثل القابض الماء في اليد
وقال آخر : وإني وإياكم وشوقاً إليكم
كقابض ماء لم تسعه أنامله
. وقيل : شبه الكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء
، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته ، فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء ، ولا
الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه ، كذلك ما يدعو الكفار من
الأوثان جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم انتهى .
"
صفحة رقم 369 "
والكاف في موضع نصب أي : مثل استجابة ، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط ، وهي
إضافة المصدر إلى المفعول . وفاعل المصدر محذوف تقديره : كإجابة الماء من يبسط
كفيه إليه ، فلما حذف أظهر في قوله : إلى الماء ، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير
إليه ، فكان يكون التركيب كفيه إليه . هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا
التشبيه ، وتبعه أبو البقاء . وقال ابن عطية : ومعنى الكلام الذي يدعونهم الكفار
إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون ، ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط كفيه
إلى الماء ويشير إليه بالإقبال ، فهو لا يبلغ فمه أبداً ، فكذلك إجابة هؤلاء
والانتفاع بهم لا يقع انتهى . وفاعل ليبلغ ضمير الماء ، وليبلغ متعلق بباسط ، وما
هو أي : وما الماء يبالغه ، أي : يبالغ الفم . ويجوز أن يكون هو ضمير الفم ،
والهاء في ببالغه للماء أي : وما الفم ببالغ الماء ، لأنّ كلاًّ منهما لا يبلغ
الآخر على هذه الحالة . وقرىء : كباسط كفيه بتنوين باسط . وما دعاء الكافرين إلا
في ضلال أي : في حيرة ، أو في اضمحلال ، لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد ، فقد ضل ذلك
الدعاء عنهم كما ضل المدعون . قال تعالى : ) أَيْنَمَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ ( قالوا ضلوا . قال الزمخشري : إلا في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن
دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم . وقال ابن عباس : أصوات
الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاؤهم .
( وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ
لانْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ
أَمْ ( : إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد ، فمن عمومها ينقاد كلهم إلى ما
أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا ، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من
الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال ، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة :
وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع ، فيكون عاماً مخصوصاً إذ يخرج منه
من لا يسجد ، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين ، وبالكره عن سجود
من ضمه السيف إلى الإسلام كما قاله قتادة : فيسجد كرهاً وإما نفاقاً ، أو يكون
الكره أول حاله ، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد . وقيل : طوعاً لا يثقل
عليه السجود ، وكرهاً يثقل عليه ، لأنّ إلزام التكاليف مشقة . وقيل : من طالت مدة
إسلامه ، فألف السجود . وكرهاً من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن
الأنباري . وقيل : هو عام على تقدير كون السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة ، وذلك
بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر ، ومدلولة أثراً . أو يكون معناه : يجب أن يسجد له
كل من في السموات والأرض ، فعبر عن الوجوب بالوقوع . والذي يظهر أنّ مساق هذه الآية
إنما هو أنّ العالم كله مقهور لله تعالى ، خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته ،
لا يكون منه إلا ما قدر تعالى . فالذين تعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر
، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود . والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها
السجود بالهيئة المخصوصة ، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد ، إذ
هي من العالم . فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى : ) أَوَ
لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ
الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ( وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما
قال بعضهم ضعيف ، وأضعف منه قول ابن الأنباري : إنه تعالى جعل للظلال عقولاً تسجد
بها وتخشع بها ، كما جعل للجبال أفهاماً حتى خاطبت وخوطبت ، لأنّ الجبل يمكن أن
يكون له عقل بشرط تقدير الحياة ، وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به ، وإنما
معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى . وقال الفراء : الظل
مصدر يعني في الأصل ، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم ، وطوله بسبب انحطاط
الشمس ، وقصره بسبب ارتفاعها ، فهو منقاد لله تعالى في طوله وقصره وميله من جانب
إلى جانب . وخص هذان الوقتان بالذكر لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما ، وتقدم
شرح الغدوّ والآصال في آخر الأعراف . روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد
لله حينئذ .
وقرأ أبو مجلز :
"
صفحة رقم 370 "
والإيصال . قال ابن جني : هو مصدر أصل أي : دخل في الأصيل كما تقول : أصبح أي دخل
في الاصباح . ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد ، كان جوابه من
السائل . فكان السبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب
منهم ، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعت المبادرة إليه ، كما قال تعالى : ) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم
مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ ( ويبعد ما قال مكي من أنهم جهلوا
الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل ، لأنه قال تعالى : ) وَلَئِن
سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( فإذا
كانوا مقرين بأنّ منشىء السموات والأرض ومخترعها هو الله ، فكيف يقال : بأنهم
جهلوا الجواب فطلبوه من السائل ؟ وقال الزمخشري : قل الله حكاية لاعتراقهم تأكيد
له عليهم ، لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا
: الله ، كقوله ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ اللَّهِ ( وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك ؟
فإذا قال : هذا قولي ، قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريراً عليه واستئنافاً منه
، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القولكيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقيناً أي : إن
كفوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرونن أن ينكروه . وقال الكرماني :
قل يا محمد للكفار من رب السموات والأرض ؟ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون
الله ، فإذا قالوها قل : الله ، أي هو كما قلتم . وقيل : فإن جابوك وإلا قل : الله
، إذ لا جواب غير هذا انتهى . وهو تلخيص القولين اللذين قالهما الزمخشري . وقال
البغوي : روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا : أجب أنت ، فأمره الله
فقال : قل الله انتهى . واستفهم بقوله : قل أفاتخذتم ؟ على سبيل التوبيخ والإنكار
، أي : بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السموات والأرض تتخذون من دونه أولياء
وتتركونه ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وإقراركم سبباً
للإشراك ، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لا نفسها نفعاً ولا
ضراً ، ومن بهذه المثابة فكيف يملك لهم نفعاً أو ضراً ؟ ثم مثل ذلك حالة الكافر
والمؤمن ، ثم حالة الكفر والإيمان ، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام للذي يبادر
المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله : قل هل يستوي الأعمى والبصير ؟
ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو : الظلمات ، وبالمؤمن وهو
النور . وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة .
وقرأ الأخوان وأبو بكر : أم هل يستوي بالياء ، والجمهور بالتاء ، أم في قوله : أم
، هل منقطعة تتقدر ببل ؟ والهمزة على المختار ، والتقدير : بل أهل تستوي ؟ وهل وإن
نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر :
أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم
وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأنّ تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى ، وهل بعد أم
المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة
فيه كقوله : ) أَم مَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ ( ويجوز أن لا يؤتى بها
بعد أم المنقطعة ، لأن أم تتضمنها ، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة لذلك .
وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها :
"
صفحة رقم 371 "
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
إثر الأحبة يوم البين مشكوم
ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم ، وتنبيهاً على توبيخهم
في جعل شركاء لله ، وتعجيباً منهم ، وإنكاراً عليهم . وتضمن هذا الاستفهام التهكم
بهم ، لأنه معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون الله أولياء ،
وجعلوهم شركاء لا تقدر على خلق ذرة ، ولا إيجاد شيء البتة ، والمعنى : أن هؤلاء
الشركاء هم خالقون شيئاً حت يستحقوا العبادة ، وجعلهم شركاء لله أي : جعلوا لله
شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله ، فتشابه ذلك عليهم ، فيعبدونهم . ومعلوم أنهم
لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة ؟ ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن
لاَّ يَخْلُقُ ( ثم أمره تعالى فقال : قل الله خالق كل شيء أي : موجد الأشياء كلها
معبوداتهم وغيرها ، وهم أيضاً مقرون بذلك ، ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( واحتمل أن يكون قوله : وهو
الواحد القهار ، داخلاً تحت الأمر بقل ، فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو
الواحد المفرد بالألوهية ، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره . واحتمل أن
يكون استئناف إخبار فيه يقال بهذين الوصفين : الوحدانية ، والقهر . فهو تعالى لا
يغالب ، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل .
( أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاء
حِلْيَةٍ أَوْ ( : قال الزمخشري : هذا مثل ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ،
كما ضرب الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، مثلاً لهما . فمثل الحق وأهله بالماء
الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ،
وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو
لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه ، وإن ذلك ماكث في الأرض باق
بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه ، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب
والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه
الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به
، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . وقال ابن عطية : صدر هذه الآية تنبيه على
قدرة الله تعالى ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً
للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به انتهى . وقيل : هذا
مثل ضربه الله تعالى للقرآن ، والقلوب ، والحق ، والباطل . فالماء مثل القرآن لما
فيه من حياة القلوب ، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب ، ومعنى بقدرها على
سعة القلوب وضيقها ، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه ، فظهرت ثمرته وأدرك
تأويله ومعناه ، ومنها دون ذلك بطبقة ، ومنها دونه بطبقات . والزبد مثل الشكوك
والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله ، ودفعهم إياه بالباطل . والماء الصافي
المنتفع به مثل الحق انتهى . وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله (
صلى الله عليه وسلم ) ) : ( مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً
وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة
أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا
تنبت كلأ فذلك مثلما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت
به ) وقال ابن عطية : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى أنزل من السماء ماء ،
يريد به الشرع
"
صفحة رقم 372 "
والدين ، فسالت أودية يريد القلوب ، أي : أخذ النبيل بحظه ، والبليد بحظه ، وهذا
قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك
به الغزالي وأهل تلك الطريق ، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير
علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب . وإن صح هذا القول عن ابن عباس ، فإنما
قصد أن قوله تعالى : ) كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ( ، معناه
: الحق الذي يتقرر في القلوب ، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى . والماء المطر .
ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة ، فتسيل بعض الأودية دون بعض .
ومعنى بقدرها أي : على قدر صغرها وكبرها ، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع
الممطور عليهم لا ضررهم . ألا ترى إلى قوله : وأما ما ينفع الناس ، فالمطر مثل
للحق ، فهو نافع خال من الضرر .
وقرأ الجمهور : بقدرها بفتح الدال . وقرأ الأشهب العقيلي ، وزيد بن علي ، وأبو
عمرو في رواية : بسكونها . وقال الحوفي : بقدرها متعلق بسالت . وقال أبو البقاء :
بقدرها صلة لا ودية ، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل ، والذي يتضمنه
الفعل من المصدر هو نكرة ، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة ، كما كان لو صرح به
نكرة ، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شراً له
أي : كان الكذب شراً له ، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر
المفهوم من فسالت . واحتمل بمعنى حمل ، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر .
ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السبيل ، ومنه الربوة . ومما توقدون عليه أي : ومن
الأشياء الت توقدون عليها وهي الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص ،
والقصدير ، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وابن
محيصن ، ومجاهد ، وطلحة ، ويحيى ، وأهل الكوفة : يوقدون بالياء على الغيبة ، أي
يوقد الناس . وقرأ باقي السبعة والحسن ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة : بالتاء على
الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار . قال أبو علي ، والحوفي : متعلق بتقدون .
وقال أبو علي : قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله : ) فَأَوْقِدْ لِى
ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ( فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه ، وليس
في النار ، لكن يصيبه لهبها . وقال مكي وغيره : في النار متعلق بمحذوف تقديره :
كائناً ، أو ثابتاً . ومنعوا تعليقه بقوله : توقدون ، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على
شيء إلا وهو في النار ، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى
انتهى . ولو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، لجاز أن يكون متعلقاً
بتوقدون ، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله : يطير بجناحيه ، وانتصب
ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه . وقال الحوفي :
هو مصدر في موضع الحال أي : مبتغين حلية ، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة
ما يوقدونعليه . والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة ، والمتاع
ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني ،
والمساحي ، وآلات الحرب ، وقطاعات الأشجار ، والسكك ، وغير ذلك . وزبد مرفوع
بالابتداء ، وخبره في قوله : ومما توقدون . ومِن الظاهر أنها للتبعيض ، لأن ذلك
الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن . وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء
الغاية أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، والمماثلة في كونهما يتولدان من
الأوساخ والأكدار ، والحق والباطل على حذف مضاف أي : مثل الحق والباطل . شبه الحق
بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها ، وشبه الباطل
بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار ، ولا بقاء له ولا قيمة . وفصل ما سبق ذكره مما
ينتفع به ومن الزبد ، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : زبداً رابياً ، وفي
قوله : زبد مثله ، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر ، وهي طريقة فصيحة يبدأ في
التقسيم بما ذكر آخراً
"
صفحة رقم 373 "
كقوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله : ) فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ
وَسَعِيدٌ ( ) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ ( وكأنه والله أعلم يبدأ
في التفصيل بما هو أهم في الذكر . وانتصب جفاء على الحال أي : مضمحلاً متلاشياً لا
منفعة فيه ولا بقاء له . والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث
المعادن ، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن ، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق
الزبدية ، فهما واحد باعتبار القدر المشترك . وقرأ رؤبة : جفالاً باللام بدل
الهمزة من قولهم : جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته . وعن أبي حاتم : لا يقرأ
بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفار بمعنى : أنه كان أعرابياً جافياً . وعن أبي
حاتم أيضاً : لا تعتبر قراءة الإعراب في القرآن . وأما ما ينفع الناس أي : من
الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي : مثل ذلك الضرب
كمثل الحق والباطل . يضرب الله الأمثال ، والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق
والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب ، وأهل الباطل من العقاب ، فقال : للذين
استجابوا لربهم الحسنى ، أي : الذين دعاهم الله على لسان رسوله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى ، وذلك هو النصر
في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله ، ودخول الجنة في الآخرة . فالحسنى مبتدأ ،
وخبره في قوله : للذين . والذين لم يستجيبوا مبتدأ ، خبره ما بعده . وغاير بين
جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام ، وعلى
رأي الزمخشري من الاختصاص أي : لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم . ولأن قراءة شيوخنا يقفون
على قوله الأمثال ، ويبتدئون للذين . وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي السني مبتدأ ،
وللذين خبره ، وفسر ابن عطية وفهم السلف . قال ابن عباس : جزاء الحسنى وهي لا إله
إلا الله . وقال مجاهد : الحياة الحسنى ما في الطيبة . وقيل : الجنة لأنها في
نهاية الحسنى . وقيل : المكافأة أضعافاً . وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال :
للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا
، وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي : هما مثلاً الفريقين . والحسنى صفة لمصدر
استجابوا أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقولهم : لو أن لهم كلام مبتدأ ، ذكر
ما أعد لغير المستجيبين انتهى . والتفسير الأول أولى ، لأنه فيه ضرب الأمثال غير
مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ، ولأنه
فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من
العقاب ، ذكر ما للمستجيبين من الثواب . ولأنّ تقديره الاستجابة الحسنى مشعر
بتقييد الاستجابة ، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقاً ، إنما مقابلها نفي
الاستجابة الحسنى ، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً . ولأنه على قوله يكون
قوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ، كلاماً مفلتاً مما قبله ، أو كالمفلت ، إذ
يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين . لو أن لهم ما في الأرض
، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت ، وأيضاً فيوهم الاشتراك في
الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم . وأيضاً فقد جاء هذا التركيب ،
وتقدم تفسير مثل قوله : لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ، وسوء
الحساب قال ابن عباس : أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم . وقال النخعي : وشهدو
وفرقران يحاسب على ذنوبه كلها ، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء . وقال
أبو الجوزاء : المناقشة . وقيل : للتوبيخ عند الحساب والتقريع ، وتقدم تفسير مثل )
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ).
( ) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء
"
صفحة رقم 374 "
َ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ
الصَّلَواةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً
وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ
سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ
يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاٌّ رْضِ أُوْلَائِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ
وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا
فِى الاٌّ خِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ
عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ
وَيَهْدِىإِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأابٍ كَذَلِكَ
أَرْسَلْنَاكَ فِىأُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ
عَلَيْهِمُ الَّذِىأَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ
هُوَ رَبِّى لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاٌّ رْضُ
أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاٌّ مْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْأسِ
الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ
يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ
قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ
لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَفَمَنْ هُوَ
قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ
سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاٌّ رْضِ أَم بِظَاهِرٍ
مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ
السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى
الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ
اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاٌّ حْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ
قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاأُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو
وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن
وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا
لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِأايَةٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
"
صفحة رقم 375 "
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وَإِن مَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاٌّ رْضَ
نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ
جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ
عُقْبَى الدَّارِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( )
الرعد : ( 19 ) أفمن يعلم أنما . . . . .
القارعة : الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي : تضربه بشدة ، كالقتل ، والأسر ،
والنهب ، وكشف الحريم . وقال الشاعر : فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
أي ضربنا بقوة . وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم .
المحو الإزالة محوت الخط أذهبت أثره ومحا المطر رسم الدار أذهبه وأزاله ويقال في
مضارعه يمحو ويمحي لأن عينه حرف حلق والإثبات ضد المحو .
( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ
صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنْفَقُواْ
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ
أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ
مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ ( : قال ابن عباس : نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل . وقيل : في عمر بن
الخطاب وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل . قرأ زيد بن علي : أو من
بالواو بدل الفاء ، إنما أنزل مبنياً للفاعل . ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر
، وذكر ما للمؤمن من الثواب ، وما للكافرين من العقاب ، ذكر استبعاد من يجعلها
سواء وأنكر ذلك فقال : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي :
ليسا مشتبهين ، لأنّ العالم بالشيء بصير به ، والجاهل به كالأعمى ، والمراد أعمى
البصيرة ولذلك قابله بالعلم . والهمزة للاستفهام المراد به : إنكار أن تقع شبهة بعدما
ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب ، بمعزل من حال
الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب ، كبعد ما بين الزبد والماء ، والخبث والإبريز . ثم
ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة ، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول . والفاء للعطف ،
وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير : فأمن يعلم ، ويبعدها أن يكون فعل
محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل ، كما قدره الزمخشري في
قوله : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( وقوله : ) أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ( وجوزوا في الذين
أنْ يكون بدلاً من أو لو ، أو صفة له ، وصفة لمن من قوله : أفمن يعلم وإنما يتذكر
اعتراض ، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله : ) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ ( ثم قال : ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ( والظاهر عموم العهد
. وقيل : هو خاص ، فقال السدي : ما عهد إليهم في القرآن . وقال قتادة : في الأول ،
وهو قوله : ) أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( وقال القفال : ما في حيلتهم
وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات . وقيل :
"
صفحة رقم 376 "
في الكتب المتقدمة والقرآن . وقيل : المأخوذ على ألسنة الرسل . وقيل : الإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي :
بما عهد الله . والظاهر أن قوله : ولا ينقضون الميثاق ، جملة توكيد به لقوله :
يوفون بعهد الله ، لأن العهد هو الميثاق ، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه .
وقال الزمخشري : وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ، وأشهدهم على
أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . ولا ينقضون الميثاق ، ولا ينقضون كل ما وثقوه
على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى ، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله
تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى . فأضاف العهد إلى المفعول ، وغاير بين
الجملتين بكونن الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى . إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين
الله وبين العباد . وقال ابن عطية : بعهد الله اسم الجنس أي : بجميع عهود الله ،
وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده . ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع
الفروض ، وتجنب جميع المعاصي . وقوله : ولا ينقضون الميثاق . أي : إذا اعتقدوا في
طاعة الله عهداً لم ينقضوه . قال قتادة : وتقدم وعيد الله إلى عبادة في نقض
الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي
أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى .
وقال ابن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه ، وذكر قصة أبي حمزة
الخراساني وقوعه في البئر ، ومرور الناس عليه ، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن
يخرجوه ، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال ، ولم ير من أخرجه ، وهتف به هاتف : كيف
رأيت ثمرة التوكل ؟ قال ابن العربي : هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام ،
فاقتدوا به . وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه ، وأن
التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال . وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا : إن
إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار . ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف
بأبي حمزة الجاهل .
وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه (
صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن : المراد به صلة الرسول ( صلى الله عليه وسلم
) ) بالإيمان به ، وقال نحوه ابن جبير . وقال قتادة : الرحم . وقيل : صلة الإيمان
بالعمل . وقيل : صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز
، ومراعاة حق الجيران ، والرفقاء ، والأصحاب ، والخدم . وقيل : نصرة المؤمنين .
وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به ، والأول محذوف تقديره : ما أمرهم الله به .
وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي : بوصله . ويخشون ربهم أي : وعيده كله .
ويخافون سوء الحساب أي : استقصاء فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا . وقيل : يخشون
ربهم يعظمونه . وقيل : في قطع الرحم . وقيل : في جميع المعاصي . وقيل : فيما أمرهم
بوصله . وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ، وميثاق
التكليف . وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي ، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله :
الذين يوفون ، والذين يصلون ، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ، لأنّ
المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط ، فكذلك فيما أشبهه
، ولذلك قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به
المضي ، وأن يراد به الاستقبال . فمن المراد به المضي في الصلاة ) الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ ( ومن المراد به الاستقبال ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن
قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ). ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي
وتينك بالمضارع ، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً ، وهذه
الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين ، وما عطف عليهما ، لأنّ حصول تلك الصلاة
إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا
بصيغة الماضي ، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم . وانتصب ابتغاء
قيل : على أنه مصدر في موضع الحال ، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي : إنّ صبرهم
هو لابتغاء وجه الله خالصاً ، لا لرجاء أن يقال : ما أصبره ، ولا مخافة أن يعاب
بالجزع ، أو تشمت به الأعداء ، كما قال :
"
صفحة رقم 377 "
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
ولأنّ الجزع لا طائل تحته ، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع . والظاهر في
معنى الوجه هنا جهة الله أي : الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها
المثوبة ، كما تقول : خرج زيد لوجه كذا . ونبه على هاتين الخصلتين : العبادة
البدنية ، والعبادة المالية ، إذ هما عمود الدين ، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر
الصلوات ، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال . ونبه على حالتي الإنفاق ، فالسر أفضل
حالات إنفاق التطوع كما جاء في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله
، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض ، لأنّ الإظهار فيها
أفضل . وقال الزمخشري : مما رزقناهم من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ، ولا
يسند إلى الله انتهى . وهذا على طريق المعتزلة .
وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة . قال ابن عباس : صبروا على أمر الله . وقال
أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم . وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب .
وقال ابن زيد : صبروا على الطاعة وعن المعصية ، ويدرؤون يدفعون . قال ابن زيد :
الشر بالخير . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفاً كقوله : ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا
، وإذا قطعوا وصلوا . وقال القتبي : إذا سفه عليهم حلموا ، وقال ابن جبير : يدفعون
المنكر بالمعروف . وقال ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا
عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب ، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه .
وقيل : يدفعون بلا إله إلا الله شركهم . وقيل : بالسلام غوائل الناس . وقيل : من
رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن . وقيل : بالصالح من العمل السيىء ، ويؤيده ما روي
في الحديث أن معاذاً قال : أوصني يا رسول الله فقال : ) إِذَا عَمِلَتْ سَيّئَةٌ
فَاعْمَلْ إِلَى ( السر بالسرّ والعلانية بالعلانية . وقيل العذاب : بالصدقة .
وقيل : إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا . وهذه الأقوال كلها على
سبيل المجاز . وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر : يجزون من ظلم أهل
الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحساناً وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال :
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم . وروي أنّ هذه الآية
نزلت في الأنصار ، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات . وعقبي الدار :
عاقبة الدنيا ، وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع
أهلها . وجنات عدن بدل من عقبى الدار ، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار
الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء
محذوف . وقرأ الجمهور : جنات ، والنخعي : جنة بالإفراد . وروي عن ابن كثير ، وأبي
عمرو : يدخلونها مبنياً للمفعول . وقرأ ابن أبي عبلة : ومن صلح بضم اللام ،
والجمهور بفتحها ، وهو أفصح . وقرأ عيسى الثقفي : وذريتهم بالتوحيد ، والجمهور
بالجمع . وقرأ ابن يعمر : فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل ، كما قال الراجز
:
نعم الساعون في اليوم الشطر
"
صفحة رقم 378 "
وقرأ ابن وثاب : فنعم بفتح النون وسكون العين ، وتخفيف فعل لغة تميميمة ، والجمهور
نعم بكسر النون وسكون العين ، وهي أكثر استعمالاً . قال مجاهد وغيره : ومن صلح أي
عمل صالحاً وآمن انتهى . وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع ، إنما
تنفع الأعمال الصالحة . وقيل : يحتمل قوله : ومن صلح أي : لذلك بقدر الله تعالى
وسابق علمه . قال ابن عباس : هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة . والظاهر أنّ
ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول . وقيل : يجوز أن يكون
مفعولاً معه أي : يدخلونها مع من صلح . ويشتمل قوله : من آبائهم ، أبوي كل واحد
والده ووالدته ، وغلب الذكور على الإناث ، فكأنه قيل : ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم
. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي : بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم
. قال أبو بكر الورّاق : هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة ، من عملها
دخلها من أي باب شاء . قال الأصم : نحو هذا قال : من كل باب باب الصلاة ، وباب
الزكاة ، وباب الصبر . ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر : أن
الملائكة طوائف منهم روحانيون ، ومنهم كروبيون ، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع
الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر
قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص ، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر
القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة ،
فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ،
ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر ، وهكذا القول في
جميع المراتب انتهى . وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب ، ولا جاءت به الأنبياء ،
فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون . قال ابن عطية : وحكى الطبري رحمه الله في
صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى .
وارتفع سلام على الابتداء ، وعليكم الخبر ، والجملة محكية بقول محذوف أي : يقولون
سلام عليكم . والظاهر أن قوله تعالى : سلام عليكم تحية الملائكة لهم ، ويكون قوله
تعالى : بما صبرتم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على
المشاق ، أو تكون الباء بمعنى بدل أي : بدل صبركم أي : بدل ما احتملتم من مشاق
الصبر ، هذه الملاذ والنعم . وقيل : سلام جمع سلامة أي : إنما سلمكم الله تعالى من
أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا . وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق بسلام أي :
يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : فنعم عقبى الدار الجنة من
جهنم ، والدار : تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة . وقالت فرقة : المعنى أن عقبوا الجنة
من جهنم . قال ابن عطية : وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو : أن كل رجل في
الجنة قد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض
عليه ويقال له : ( هذا مكان مقعدك ، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك )
انتهى . ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة ، ذكرت الملائكة أن
النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر ، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد ، ولا
بغير ذلك .
( فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى
الاْرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ( : قال مقاتل نزلت : والذين ينقضون في أهل الكتاب .
وقال ابن عباس : نزلت الله يبسط في مشركي مكة ، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما
ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور
المخزية . وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله
به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي
الجنة ، وإكرام الملائكة لهم بالسلام ، وذلك غاية
"
صفحة رقم 379 "
القرب والتأنيس . وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله . وسوء الدار أي : الدار
السوء وهي النار ، وسوء عاقبة الدار ، وتكون دار الدنيا . ولما كان كثير من
الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن
يشاء ويقدر ، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق . قد يقدر على المؤمن ليعظم
أجره ، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه . ويقدر مقابل يبسط ، وهو التضييق من
قوله : ) وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( وعليه يحمل ) فَظَنَّ أَن لَّن
نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ( وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر : ) لَئِنْ قُدِرَ اللَّهُ
عَلَىَّ ( أي لئن ضيق . وقيل : يقدر يعطي بقدر الكفاية . وقرأ زيد بن علي : ويقدر
بضم الدال ، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون ، وهو استئناف إخبار
عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم ، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل
الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به ،
واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي . ويبعد قول من ذهب إلى
أنه معطوف على صلات . والذين ينقضون أي : يفسدون في الأرض ، وفرحوا بالحياة الدنيا
. وفي الكلام تقديم وتأخير . ومتاع : معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى .
كما قال الشاعر : تمتع يا مشعث إن شيئا
سبقت به الممات هو المتاع
وقال آخر : أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
وقال آخر : تمتع من الدنيا فإنك فان
من النشوات والنسأ الحسان
قال الزمخشري : خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً
، يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك
انتهى . وهذا مني قول الحسن : أعلم الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الحياة
الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب ،
وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك . وقال ابن عباس : زاد كزاد
الرعي . وقال مجاهد : قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال .
( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ
قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( : نزلت
: ويقول الذين كفروا ، في مشركي مكة ، طلبوا مثل آيات الأنبياء . والملتمس ذلك هو
عبد الله بن أبي أمية وأصحابه ، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط
السماء عليهم كسفاً . وقولهم : سير علينا الأخشبين ، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً
كالأردن ، وأحي لنا مضينا وأسلافنا ، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات
المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها ، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي
ضرورة إيمانكم وهداكم ، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء .
وقال الزممشري : ( فإن قلت ) : كيف يطابق قولهم : لولا أنزل عليه آية من ربه ، قل
إن الله يضل من يشاء ؟ ( قلت ) : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن
الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم
يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها
وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما
أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء ، فمن كان على صفتكم
من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية ، ويهدي
"
صفحة رقم 380 "
إليه من كان على خلاف صفتكم . وقال أبو علي الجبائي : يضل من يشاء عن رحمته وثوابه
عقوبة له على كفره ، ويهدي إليه من أناب أي : إلى جنته من أناب أي : من تاب .
والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه يضل عن
الثواب بالعقاب ، لا عن الدين بالكفر ، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى . وهي على
طريقة الاعتزال .
والضمير في إليه عائد على القرآن ، أو على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي : إلى دينه وشرعه . وأناب أقبل
إلى الحق ، وحقيقته دخل في توبة الخير . والذين آمنوا : بدل من أناب . واطمئنان
القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته . وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته ، أو ذكر
دلائله على وحدانيته المزيلة لعلق الشبه . أو تطمئن بالقرآن ، لأنه أعظم المعجزات
تسكن به القلوب وتنتبه . ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيباً
في الإيمان ، والمعنى : أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة ، بل
ربما كفر بعدها ، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم . وجوزوا في الذين أن يكون
بدلاً من الذين ، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي : قلوب الذين ، وأن يكون خبر
مبتدأ محذوف أي : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده .
وطوبى : فعل من الطيب ، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر ،
واختلفوا في مدلولها : فقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة
كوسى ، وصيفة صوفى . وفعلى ليست من ألفاظ الجموع ، فلعله يعني بها اسم جمع . وقال
الجمهور : هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى ، واختلف القائلون بهذا في معناها .
فقال الضحاك : المعنى غبطة لهم . وعنه أيضاً : أصبت خيراً . وقال عكرمة : نعمى لهم
. وقال ابن عباس : فرح وقرة عين . وقال قتادة : حسنى لهم . وقال النخعي : خير لهم
، وعنه أيضاً كرامة لهم . وعن سميط بن عجلان : دوام الخير . وهذه أقوال متقاربة ،
والمعنى العيش الطيب لهم . وعن ابن عباس ، وابن جبير : طوبى اسم للجنة بالحبشية .
وقيل : بلغة الهند . وقال أبو هريرة ، وابن عباس أيضاً ، ومعتب بن سمي ، وعبيد بن
عمير ، ووهب بن منبه : هي شجرة في الجنة . وروي مرفوعاً إلى رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال . وقد سأله أعرابي : يا رسول
الله أفي الجنة فاكهة ؟ قال : ( نعم فيها شجرة تدعى طوبى ) وذكر الحديث . قال
القرطبي : الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة ، وهو صحيح على ما ذكره
السهيلي ، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي . وطوبى : مبتدأ ، وخبره لهم . فإن
كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء ، وإن كانت نكرة فمسوع
الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك ،
إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء ، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال : ابن مالك
. ويرده أنه قرىء : وحسن مآب بالنصب ، قرأه كذلك عيسى الثقفي ، وخرج ذلك ثعلب على
أنه معطوف على طوبى ، وأنها في موضع نصب ، وحسن مآب معطوف عليها . قال ثعلب :
وطوبى على هذا مصدر كما قالوا : سقيا . وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال :
بتقدير يا طوبى لهم ، ويا حسن مآب . فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة
، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال : يا أسفي على الفوت والندبة انتهى . ويعني
بقوله : معطوف على المنادى المضاف ، أنّ طوبى مضاف للضمير ، واللام مقحمة كما
أقحمت في قوله : يا بؤس للجهل ضراراً الأقوام ، وقول الآخر : يا بؤس للحرب التي ،
ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل : يا طوباهم وحسن مآب أي : ما أطيبهم وأحسن
مآبهم ، كما تقول : يا طيبها ليلة أي : ما أطيبها ليلة . وقرأ بكرة الأعرابي طيبي
بكسر الطاء ، لتسلم الياء من القلب ، وإن كان
"
صفحة رقم 381 "
وزنها فعلي ، كما كسروا في بيض لتسلم الياء ، وإن كان وزنها فعلاً كحمر . وقال
الزمخشري : أصبت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع كقولك : طيباً لك ، وطيب لك
، وسلاماً لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله : وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على
محلها ، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك . وقرىء : وحسن مآب بفتح النون ،
ورفع مآب . فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء ، وهذا جائز في فعل
إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدباً .
( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ
لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبّى لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( : قال قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل : لما رأوا كتاب الصلح يوم
الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : ما يعرف الرحمن إلا
مسيلمة ، فنزلت . وقيل : سمع أبو جهل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : يا
رحمن ، فقال : إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت . ذكر هذا علي
بن أحمد النيسابوري ، وعن ابن عباس : لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا :
وما الرحمن فنزلت . قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني : أرسلناك آرسالاً
له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى . ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك ، إلا إن
كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك . وقال الحسن : كإرسالنا الرسل أرسلناك ، فذلك إشارة
إلى إرساله الرسل . وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله : ) قُلْ إِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( كما أنفذ الله هذا
كذلك أرسلناك . وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ
الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة ، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك
إليهم بوحي ، لا بالآيات المقترحة ، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى . وقال
الحوفي : الكاف للتشبيه في موضع نصب أي : كفعلنا الهداية والإضلال ، والإشارة بذلك
إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء . وقال أبو البقاء : كذلك
التقدير الأمر كذلك . قد خلت من قبلها أمم أي : تقدمتها أمم كثيرة ، والمعنى :
أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك . ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى
على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن ، ولتتلو أي : لتقرأ
عليهم الكتاب المنزل عليك . وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ) وهم يكفرون أي : وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة
حالية أي : أرسلناك في أمة رحمة لها معنى وهم ، يكفرون بي أي : وحال هؤلاء أنهم
يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة . والظاهر أنّ الضمير في قوله : وهم ، عائد على أمة
المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى ، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي
تكفر ، والمعنى : أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر ، فهدى الله بك من أراد
هدايته . وقيل : يعود على الذين قالوا : ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن
رَّبّهِ ( وقيل : يعود على أمة وعلى أمم ، والمعنى : الإخبار بأنّ الأمم السالفة
أرسلت إليهم الرسل ، وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول
والإيمان به . قل : هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء
، عليه توكلت في نصرتي عليكم ، وجميع أموري ، وإليه مرجعي ، فيثبتني على مجاهدتكم
.
( وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ
أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ ( : قال ابن
عباس ومجاهد وغيرهما : إن الكفار قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : سير جبلي
مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضاً قطعاً غراساً ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا ،
وفلاناً وفلاناً ، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله . ولما ذكر تعالى
علة إرساله ، وهي تلاوة ما أوحاه إليه ، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً
تسير به الجبال عن مقارها ، أو تقطع به
"
صفحة رقم 382 "
الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً ، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن
لكونه غاية في التذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويف . كما قال : ) لَوْ
أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ ( الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه
، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى : ) وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ( ) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ
عَلَى النَّارِ ( وقال الشاعر : وجدك لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا
وقيل : تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى : ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ( قال الزجاج . وقال الفراء : هو متعلق
بما قبله ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن . ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما
بينهما اعتراض ، وعلى قول الفراء : يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا ، لأنّ قولهم
وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً ، وإنما هو دليل على الجواب . وقيل : معنى قطعت به
الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً . ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا
قوله : بل لله الأمر جميعاً أي : الإيمان والكفر ، إنما يخلقهما الله تعالى
ويريدهما . وأما على تقدير لكان هذا القرآن ، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر : لكان
هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف ، ثم قال
: بل لله الأمر جميعاً أي : الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء . وقال الزمخشري
: بل لله الأمر جميعاً على معنيين : أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر
على الآيات التي اقترحوها ، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة . والثاني : بل لله أن
يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء . لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار
، ويعضده قوله تعالى : أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله ، مشيئة الإلجاء
والقسر لهدى الناس جميع انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . واليأس القنوط في الشيء
، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم ، كأنه قيل : ألم يعلم الذين آمنوا . قال
القاسم بن معن هي : لغة هوازن ، وقال ابن الكلبي : هي لغة من النخع وأنشدوا على
ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي : أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني
ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم
وقال رباح بن عدي : ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وقال آخر : قثشي ش حتى اذا يئس الرماة وارسلوا
غضفا دواجن قافلا أعصامها
إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا . وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم ، وزعم
أنه لم يسمع أحد من العرب يقول : يئست بمعنى علمت انتهى . وقد حفظ ذلك غيره ، وهذا
القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم
"
صفحة رقم 383 "
نقل أنها لغة هوزان ، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع ، ومن حفظ حجة على من
لم يحفظ . وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ، لأنّ اليائس من
الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى
الترك . وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو : القنوط من الشيء ،
وتأولوا ذلك . فقال الكسائي : المعنى أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار من
قريش المعاندين لله ورسوله ؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها
وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون ، فقال الذين
آمنوا من إيمانهم . وقال الفراء : وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاً فقال
: أفلم ييأسوا ؟ علمنا بقول آبائهم ، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام : يئست منك
أن لا تفلح كأنه قال : علمته علماً قال : فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع ،
فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل . وقال أبو العباس : أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية
إلا بالمشيئة ؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون : أن لو يشاء الله متعلقاً بآمنوا أي :
أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً
، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة . وقال ابن عطية : ةّويحتمل أن يكونن اليأس في هذه
الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : ولو أن قرآناً الآية على
التأويل في المحذوف المقدر . قال في هذه : أفلم ييأس المؤمنون انتهى . وهذا قول
الفراء الذي ذكرناه ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على
أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً
انتهى . وهذا قول أبي العباس ، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه ، وهو أن الكلام
تام عند قوله : أفلم ييأس الذين آمنوا ، إذ هو تقرير أي : قد يئس المؤمنون من
إيمان هؤلاء المعاندين . وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي : وأقسموا لو شاء الله
لهدى الناس جميعاً ، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر : أما
والله أن لو كنت حرا
وما بالحر أنت ولا القمين
وقول الآخر : فاقسم أن لو التقينا وأنتم
لكان لنا يوم من الشر مظلم
وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم ، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم
بالجملة عليها ، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي : أنه
لو يشاء الله . وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين ،
وقال غيره ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة ، والجحدري ، وعلي بن الحسين ، وابنه زيد ،
وأبو زيد المزني ، وعلي بن نديمة ، وعبد الله بن يزيد : أفلم يتبين من بينت كذا
إذا عرفته . وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم ، كما تظافرت
النقول أنها لغة لبعض العرب . وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله : أفلم ييأس ،
كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري ، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة ، وهذا كقراءة : )
فَتَبَيَّنُواْ ( و ) فتثبتوا ( وكلتاهما في السبعة . وأما قول من قال : إنما كتبه
الكاتب وهو ناعس ، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد . وقال الزمخشري : وهذا ونحوه
مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف
يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام ، وكان
"
صفحة رقم 384 "
متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه ، لا يغفلون
عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها
البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية انتهى . وقال الفراء : لا يتلى إلا كما أنزل
: أفلم ييأس انتهى .
والكفار عام في جميع الكفار ، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله : الحسن
، وابن السائب ، أو هو ظاهر اللفظ . وقال ابن عطية : كفار قريش ، والعرب لا تزال
تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وغزواته . وقال مقاتل
والزمخشري : كفار مكة . قال الزمخشري : تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم
قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في
أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير
إليهم شررها ، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم ، أو القيامة
انتهى . وقال الحسن : حال الكفرة هكذا هو أبداً ، ووعد الله قيام الساعة . والظاهر
أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن . وقالت فرقة : التاء للخطاب ،
والضمير للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم
بجيشك كما حلّ بالحديبية ، وعزاه الطبري إلى : ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقاله
عكرمة . ويكون وعد الله فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك ، وقاله ابن عباس ومجاهد
. وقرأ مجاهد ، وابن جبير : أو يحل بالياء على الغيبة ، واحتمل أن يكون عائداً على
معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء ، أو تكون الهاء في قارعة
للمبالغة ، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي :
ويحل الرسول قريباً . وقرأ أيضاً من ديارهم على الجمع . وقال ابن عباس : القارعة
العذاب من السماء . وقال عكرمة : السرايا والطلائع . وفي قوله : ولقد استهزىء
الآية ، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل ،
وأنّ المستهزئين يملى لهم أي : يمهلون ثم يؤخذون . وتنبيه على أنّ حال من استهزأ
بك ، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم . وفي قوله : فكيف كان عقاب استفهام
معناه التعجب بما حل ، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من
الكفار .
( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ
شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاْرْضِ أَم
بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ
عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ( : من موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ والخبر
محذوف تقديره : كمن ييئس ، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، كما حذف من
قوله : ) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن
رَّبّهِ ( تقديره : كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة . ودل عليه قوله تعالى : وجعلوا
لله شركاء ، كما دل على القاسي ) فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ( ويحسن حذف
هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف ، وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله
تعالى : ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ( ) أَفَمَن يَعْلَمُ ( ثم قال :
) كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ). والظاهر أنّ قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء ، استئناف
إخبار عن سوء صنيعهم ، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية . نعى عليهم هذا
الفعل القبيح ، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها . ونبه
على بعض حالاتها وهو الكسب ، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر ، وما يترتب على
الكسب في الجزاء ، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها . وقال
الزمخشري : ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي :
وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ، وجعلوا له شركاء ، وهو الله
الذي يستحق العبادة وحده انتهى . وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في
قوله : وجعلوا لله أي : وجعلوا له ، وفيه حذف الخبر عن المقابل ، وأكثر ما جاء هذا
الخبر مقابلاً . وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال : الشديد صاحب العقد ، الواو
في قوله تعالى : وجعلوا واو الحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت
موجود ، والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديراً
لألوهيته وتصريحاً بها ، كما تقول : معطي الناس ومغنيهم موجود ، ويحرم مثلي انتهى
. وقال
"
صفحة رقم 385 "
ابن عطية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا
تضر ولا تنفع ؟ هذا تأويل . ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله : وجعلوا لله شركاء ،
كأنّ المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك ، هل ينتقم ويعاقب أم لا ؟
وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله : أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم ،
حكاه القرطبي عن الضحاك . والخبر أيضاً محذوف تقديره : كغيره من المخلوقين . وأبعد
أيضاً من ذهب إلى أن قوله : وجعلوا معطوفاً على استهزىء ، أي : استهزؤوا وجعلوا ،
ثم أمره تعالى أن يقول لهم : سمرهم أي : اذكروهم بأسمائهم ، والمعنى : أنهم ليسوا
ممن يذكر ويسمى ، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ ، وهذا مثل من يذكر لك أن
شخصاً يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه
ليس كما تذكر . وقريب من هذا قول من قال في قوله : قل سموهم ، إنما يقال ذلك في
الشيء السمتحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أنْ لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك
يقال له : سمه إن شئت أي : هو أخس من أن يذكر ويسمى . ولكن إن شئت أن تضع له اسماً
فافعل ، فكأنه قال : سموهم بالآلهة على جهة التهديد . والمعنى : سواء سميتموهم
بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها
. وقيل : سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة . وقيل : طالبوهم بالحجة على
أنها آلهة . وقيل : صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية ؟ وقال الزمخشري : جعلتم له
شركاء فسموهم له من هم ، وبينوهم بأسمائهم . وقيل : هذا تهديد كما تقول لمن تهدده
على شرب الخمر : سم الخمر بعد هذا . وأم في قوله : أم تنبؤونه منقطعة ، وهو
استفهام توبيخ . قال الزمخشري : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم
بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم على أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ،
والمراد نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : ) قُلْ كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن
شَىْء فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( انتهى . فجعل الفاعل في قوله : بما
لا يعلم ، عائداً على الله . والعائد على بما محذوف أي : بما لا يعلمه الله . وكنا
قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله : بما لا يعلم ، عائد على ما ، وقررنا ذلك
هناك ، وهو يتقرر هنا أيضاً . أي : أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم
البتة . وذكر نفي العلم في الأرض ، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام ، فإذا انتفى
علمها في المقر التي هي فيه ، فانتفاؤه في السموات أحرى . وقرأ الحسن : تنبؤونه من
أنبأ . وقيل : المراد تقدرون أنْ تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه ، وخص
الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة ، لأنهم ادَّعوا أنَّ لله شريكاً في
الأرض لا في غيرها . والظاهر في أم في قوله : أم ، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي :
بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير ن يكون لذلك حقيقة أي : أنكم تنطقون بتلك
الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها ، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من
أوصاف الألوهية كقوله : ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء
سَمَّيْتُمُوهَا ( وقال مجاهد : أم بظاهر من القول . وقال قتادة : بباطل من القول
، لا باطن له في الحقيقة . ومنه قول الشاعر : أعيرتنا ألبانها ولحومها
وذلك عار يابن ريطة ظاهر
أي باطل . وقيل : أم متصلة ، والتقدير : أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له
كقوله : ) ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ ( ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه
التحقير لما هم عليه : بل زين للذين كفروا مكرهم . وقال الواحدي : لما ذكر الدلائل
على فساد قولهم وقال : دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به ، لأنه زيّن لهم مكرهم .
وقرأ مجاهد : بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب . والجمهور : زين على النباء
للمفعول مكرهم بالرفع أي : كيدهم للإسلام بشركهم ، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من
مناقضة الشرع . وقرأ الكوفيون :
"
صفحة رقم 386 "
وصدّوا هنا ، وفي غافر بضم الصاد مبنياً للمفعول ، فالفعل متعد . وقرأ باقي السبعة
: بفتحها ، فاحتمل التعدّي واللزوم أي : صدوا أنفسهم أو غيرهم . وقرأ ابن وثاب :
وصدوا بكسر الصاد ، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء . وفي اللوامح الكسائي لابن
يعمر وصدوا بالكسر لغة ، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل ، فأما في المؤمن
فبالكسر لابن وثاب انتهى . وقرأ ابن أبي إسحاق : وصد بالتنوين عطفاً على مكرهم .
قال الزمخشري : ومن يضلل الله ، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي ، فما له من هاد فما
له من واحد يقدر على هدايته انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والعذاب في الدنيا
هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في
أجسامهم ، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار . وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس ، لأنه
إحراق بالنار دائماً ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً
غَيْرَهَا ( ومن واق : من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم ، ولما ذكر ما أعد للكفار
في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال :
) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا
الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ
وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( : مثل الجنة أي : صفتها التي هي في غرابة
المثل ، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه ، والخبر محذوف أي : فيما قصصنا عليكم
مثل الجنة ، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل . تقول : مثلت الشيء إذا
وصفته وقربته للفهم ، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى : ) وَلَهُ الْمَثَلُ
الاعْلَى ( أي الصفة العليا ، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال : إنما
معناه التنبيه . وقال الفراء : أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار ، ونحو هذا
موجود في كلام العرب انتهى . ولا يمكن حذف أنَّها ، وإنما فسر المعنى ولم يذكر
الإعراب . وتأول قوم على القرآن مثل مقحم ، وأنّ التقدير : الجنة التي وعد المتقون
تجري ، وإقحام الأسماء لا يجوز . وحكوا عن الفراء أنّ العرب تقحم كثيراً المثل
والمثل ، وخرج على ذلك : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ( أي : كهو شيء . فقال غيرهما
: الخبر تجري ، كما تقول : صفة زيد اسمر ، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً
عن الصفة ، وإنما يتأول تجري على إسقاط أنْ ورفع الفعل ، والتقدير : أنْ تجري خبر
ثان الأنهار . وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلاً
لما غاب عنا بما نشاهد انتهى . وقال أبو علي : لا يصح ما قال الزجاج ، لا على معنى
الصفة ، ولا على معنى الشبه ، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة ، ولأن
الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث ، والجنة جنة فلا تكون
المماثلة . وقرأ علي وابن مسعود : مثال الجنة على الجمع أي : صفاتها . وفي اللوامح
على السلمى أمثال الجنة جمع ، ومعناه : صفات الجنة . وذلك لأنها صفات مختلفة ،
فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال . والأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه : أنه لا
ينقطع أبداً ، كما قال تعالى : ) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( وقال
إبراهيم التيمي : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع . وظلها أي : دائم
البقاء والراحة ، لا تنسخه شمس ، ولا يميل لبرد كما في الدنيا . أي : تلك الجنة
عاقبة الذين اتقوا أي : اجتنبوا الشرك .
( وَالَّذِينَ اتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ
الاْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ
وَلا ( : نزلت في مؤمني أهل الكتابين ، ذكره الماوردي ، واختاره الزمخشري فقال :
من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم
ثمانون رجلاً : أربعون من نجران ، وثمانية من اليمنن ، وإثنان وثلاثون من الحبشة .
ومن الأحزاب يعني : ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) بالعداوة نحو : كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران
وأشياعهما ، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني
مما هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ، ونعت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مما حرفوه وبدلوه انتهى . وعن ابن عباس ، وابن زيد
: في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ،
"
صفحة رقم 387 "
وعن قتادة في أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مدحهم الله تعالى بأنهم
يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين . وعن مجاهد ، والحسن ، وقتادة : أن المراد بأهل
الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن ، إذ فيه تصديق كتبهم ، وثناء على
أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام . وضعف هذا
القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم ، فلا يعتد بفرحهم . وأيضاً فإنّ اليهود
والنصارى ينكرون بعضه ، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم
الكتاب . والأحزاب قال مجاهد : هم اليهود ، والنصارى ، والمجوس . وقالت فرقة : هم
أحزاب الجاهلية من العرب . وقال مقاتل : الأحزاب بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وآل
أبي طلحة . ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك ، أمر بجواب
المنكرين ، فقيل له : قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكاركم لبعض
القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده ، وأنتم تدعون وجوب العبادة ونفي الشريك
إليه ، أدعوا إلى شرعه ودينه ، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي
في الدنيا والآخرة . وقرأ أبو جليد عن نافع : ولا أشرك بالرفع على القطع أي : وأنا
لا أشرك به . وجوز أن يكون حالاً أي : أنْ أعبد الله غير مشرك به . وكذلك أي : مثل
إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك ، لأن قوله : والذين آتيناهم الكتاب ، يتضمن
إنزاله الكتاب ، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب ، كما أن الكتب السابقة بلسان
من نزلت عليه : ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيّنَ لَهُمْ ( وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم . وقال ابن
عطية : وقوله وكذلك المعنى : كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك
أنزلناه حكماً عربياً انتهى . وانتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه ،
والضمير عائد على القرآن ، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني . ولما كانت العبارة
عنه بلسان العرب نسبه إليها . ولئن اتبعت : الخطاب لغير الرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم . وقال الزمخشري : هذا من باب الإلهاب
والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه . أن لا يزال زال عند
الشبه بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من شدة
الشكيمة بمكان .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا
وَذُرّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ لِكُلّ ( : قال الكلبي : عيرت اليهود الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )
وقالوا : ما ترى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبياً كما زعم لشغله
أمر النبوة عن النساء ، فنزلت هذه الآية . قيل : وكانوا يقترحون عليه الآيات
وينكرون النسخ ، فرد الله تعالى عليهم بأنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية
، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ، ولا يأتون بما يقترح عليهم . ومن الشرائع
مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد أي :
يفرض عليهم ما يريده تعالى . وقوله : لكل أجل كتاب ، لفظ عام في الأشياء التي لها
آجال ، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته ، وذلك الأجل مكتوب
محصور . وقال الضحاك والفراء : المعنى لكل كتاب أجل ، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في
ضرورة الشعر وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا
لا يصح المعنى عليه ، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها ، لا
أجل لها . والظاهر أنّ المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام ، والإثبات عبارة
عن دوامها وتقريرها وبقائها أي : يمحو ما يشاء محوه ، ويثبت ما يشاء إثباته . وقيل
: هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، ونسب هذا إلى : عمر ، وابن مسعود ،
وأبي وائل ، والضحاك ، وابن جريج ، وكعب الأحبار ، والكلبي . وروي عن عمر ، وابن
مسعود ، وأبي وائل في دعائهم ما معناه : أنْ يتأول على أن المعنى : إنْ كنت
أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة . ومعلوم أنّ الشقاء والسعادة والرزق والخلق
والأجل لا يتغير شيء منها . وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء من أمور عباده إلا
السعادة والشقاوة والآجال ، فإنه لا محو فيها . وقال الحسن وفرقة : هي آجال بني
آدم تكتب في ليلة القدر .
"
صفحة رقم 388 "
وقيل : في ليلة نصف شعبان آجال الموتى ، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في
ديوان الأموات . وقال قيس بن عباد : في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاء ويثبت .
وقال ابن عباس : والضحاك : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم
مأمورون بكتب كل قول وفعل ، ويثبت غيره . وقيل : يمحو كفر التائبين ومعاصيهم
بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم . وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من
الأناسي ، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها . وقال الزمخشري :
يمحو الله ما يشاء ، ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت به له ما يرى المصلحة في اتباعه
، أو يتركه غير منسوخ ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى . وهو وقول : قتادة
، وابن جبير ، وابن زيد قالوا : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه
ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وقال مجاهد : يحكم الله أمر السنة في رمضان
فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة . وقال الكلبي
: يمحو من الرزق ويزيد فيه . وقال ابن جبير أيضاً : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ،
ويترك ما يشاء فلا يغفر . وقال عكرمة : يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل
الذنوب حسنات . قال تعالى : ) إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( وقيل : ينسى
الحفظة من الذنوب ولا ينسى . وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء أجله ، ويثبت من يأتي
أجله . وقال السدي : يمحو الله يعني القمر ، ويثبت يعني الشمس بيانه ) فَمَحَوْنَا
ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ( الآية .
وقال ابن عباس : إنّ لله لوحاً محفوظاً وذكر وصفه في كتاب التحبير ، ثم قال : لله
تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة ، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء . وقال
الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه ،
ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه ، بيانه قوله تعالى : ) اللَّهُ يَتَوَفَّى
الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الآية . وقال علي بن أبي طالب : يمحو الله ما يشاء من
القرون لقوله : ) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ (
ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى : ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً
ءاخَرِينَ ( فيمحو قرناً ويثبت قرناً . وقال ابن عباس : يمحو يميت الرجل على ضلالة
وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل ، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه . وقيل : يمحو الدنيا
ويثبت الآخرة . وفي الحديث عن أبي الدرداء : ( أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات
بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت
ما يشاء ) وقال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة ،
فيحتمل التبديل وإحاطته الخلق بجميع علم الله تعالى ، وما في علمه تعالى من تقدير
الأشياء لا يبدل انتهى . وقيل : غير ذلك مما يطول نقله . وقد استدلت الرافضة بقوله
: يمحو الله ما يشاء ويثبت ، على أنّ البدء جائز على الله تعالى ، وهو أنْ يعتقد
شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده ، وهذا باطل لأنّ علمه تعالى من لوازم ذاته
المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً وأما الآية فقد
احتملت تلك التأويلات المتقدمة ، فليست نصاً فيما ادعوه ، ولو كانت نصاً وجب
تأويله .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : ويثبت مخففاً من أثبت ، وباقي السبعة مثقلاً
من ثبت . وأما قوله ( أم الكتاب ) فقال ابن عباس أم الكتاب الذكره وقال ايضا وهو
كعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون . وقالت فرقة : الحلال والحرام ، وهو قول
الحسن . وقال الزمخشري : أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه
انتهى . وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب ، أمّا كقولهم : أم الرأس للدماغ ،
وأم القرى مكة . وقال ابن عطية : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور
المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى ، أو تثبت . وقال نحوه قتادة : إنّ
جواب الشرط الأول محذوف ، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد . وقال الزمخشري :
وإما نرينك ، وكيفما دات الرحال أريناك مصارعهم ، وما وعدناهم من إنزال العذاب
عليهم ، أو نتوفينك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وعلينا لا عليك
حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم انتهى .
وقال الحوفي
"
صفحة رقم 389 "
وغيره : فإنما عليك البلاغ جواب الشرط ، والذي تقدم شرطان ، لأنّ المعطوف على
الشرط شرط . فأما كونه جواباً للشرط الأول فليس بظاهر ، لأنه لا يترتب عليه ، إذ
يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ . وأما كونه
جواباً للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك ، لأنه يصير التقدير : إنّ ما نتوفينك
فإنما عليك البلاغ ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه السلام ، لأنّ
التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو : أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب
أن يكون جزاء مترتباً عليه . وذلك أن يكون التقدير والله أعلم وأنّ ما نرينك بعض
الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ، ودليل على صدقك ، إذا أخبرت بما
يحل بهم . ولم يعين زمان حلوله بهم ، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك ، واحتمل أن يقع
بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي : أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا
عتب ، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم ، فإنما عليك البلاغ
لا حلول العذاب بهم . إذ ذاك راجع إليّ ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك ، وكفرهم
بما جئت به .
( أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ
مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ
وَيَقُولُ ( : الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا ، وفي ذلك اتعاظ لمن
اتعظ ، نبهوا على أنْ ينظروا بعض الأرض من أطرافها . ونأتي يعني بالأمر والقدرة
كقوله : ) فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ ( والأرض أرض الكفار المذكورين ، ويعني
بنقصها من أطرافها للمسلمين : من جوانبها . كان المسلمون يغزون من حوالى أرض
الكفار مما يلي المدينة ، ويغلبون على جوانب أرض مكة ، والأطراف : الجوانب . وقيل
: الطرف من كل شيء خياره ، ومنه قول علي بن أبي طالب : العلوم أودية ، في أي واد
أخذت منها خسرت ، فخذوا من كل شيء طرفاً يعني : خياراً قاله ابن عطية ، والذي يظهر
أن معنى طرفاً جانباً وبعضاً ، كأنه أشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركاً في أطراف
من العلوم ، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها ، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم
واحد .
وقال ابن عباس والضحاك : نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك ، فتنقصها بما يدخل في دينك من
القبائل والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم . وهذا التفسير لا يتأتى
إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة . وقيل : الأرض اسم جنس ، والانتقاص من
الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ،
ومجاهد ، وعنهما أيضاً : الانتقاص هو بموت البشر ، وهلاك الثمرات ، ونقص البركة .
وعن ابن عباس أيضاً : موت أشرافها وكبرائها ، وذهاب الصلحاء والأخيار ، فعلى هذا
الأطراف هنا الأشراف . وقال ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم . وعن عطاء
بنن أبي رباح : ذهاب فقهائها وخيار أهلها . وعن مجاهد : موت الفقهاء والعلماء .
وقال عكرمة والشعبي : هو نقص الأنفس . وقيل : هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش ،
وهلاك أرضهم بعدهم . والمناسب من هذه الأقوال هو الأول . ولم يذكر الزمخشري إلا ما
هو قريب منه قال : نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين
من بلادهم ، فينقص دار الحرب ، ويزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات الغلبة
والنصرة . ونحوه : ) أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ (
والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ، ونتم ما
وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره ، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها
، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر . ويتجه قول من قال : النقص
بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من
الاختلافات خراباً بعد عماره ، وموتاً بعد حياة ، ذلا بعد عز ،
"
صفحة رقم 390 "
ونقصاً بعد كمال ، وهذه تغييرات مدركة بالحس . فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر
عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين .
وقرأ الضحاك : ننقصها مثقلاً ، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم ، والمعقب الذي
يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب
الحق : والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد
والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب . قال
لبيد :
طلب المعقب حقه المظلوم
والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس .
وقيل : تتعقب أحكامه أي : ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا ، والجملة من قوله : لا
معقب لحكمه في موضع الحال أي : نافذ حكمه ، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل
هذه الجملة . ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما
فعلت قريش ، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل ، مكر بابراهيم نمروذ ، وبموسى فرعون ،
وبعيسى اليهود ، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله تعالى . ومعنى مكره
تعالى عقوبته إياهم ، سماها مكراً إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة
كقوله : ) اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( ثم فسر قوله فللَّه المكر ، بقوله : يعلم
ما تكسب كل نفس ، والمعنى : يجازي كل نفس بما كسبت . ثم هدد الكافر بقوله : وسيعلم
الكافر لمن عقبى الدار ، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه ، فحينئذ يعلم لمن
هي العاقبة المحمودة .
وقرأ جناح بن حبيش : وسيعلم الكافر مبنياً للمعفول من أعلم أي : وسيخبر . وقرأ
الحرميان ، وأبو عمرو : الكافر على الإفراد والمراد به الجنس ، وباقي السبعة
الكفار جمع تكسير ، وابن مسعود : الكافرون جمع سلامة وأبي الذين كفروا ، وفسر عطاء
الكافر بالمستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون . وقال ابن عباس :
يريد بالكافر أبا جهل . وينبغي أن يحمل تفسيره عطاء على التمثيل ، لأنّ الإخبار
بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار ، ولما قال الكفار : لست مرسلاً
أي : إنما أنت مدع ما ليس لك ، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة الله تعالى بينهم ، إذ
قد أظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ، ثم أردف شهادة
الله بشهادة من عنده علم الكتاب . والكتاب هنا القرآن ، والمعنى : إنّ من عرف ما
ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك . وقيل :
الكتاب التوراة والإنجيل ، والذي عنده علم الكتاب : من أسلم من علمائهم ، لأنهم
يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم . قال قتادة ، كعبد الله بن سلام ،
وتميم الداري ، وسلمان الفارسي . وقال مجاهد : يريد عبد الله بن سلام خاصة . وهذان
القولان لا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية ، والجمهور على أنها مكية . وقال
محمد بن الحنفية ، والباقر : هو علي بن أبي طالب . وقيل : جبريل ، والكتاب اللوح
المحفوظ . وقيل : هو الله تعالى قاله : الحسن ، وابن
"
صفحة رقم 391 "
جبير والزجاج ، وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله ، والمعنى : كفى بالذي
يستحق العبادة ، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم . قال ابن
عطية : ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ، وذلك لا يجوز ، وإنما
تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى . وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف ،
لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما ، وذو وذوات
الطائيتين . وقوله : وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه ، بل له شرط
وهو أن تختلف مدلولاتها . ويعني ابن عطية : لا تقول مررت بزيد . والعالم فتعطف ،
والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة ، وكذلك الله علم . ولما شعر بهذا
الاعتراض من جعله معطوفاً على الله قدر قوله : بالذي يستحق العبادة ، حتى يكون من
عطف الصفات بعضها على بعض ، لا من عطف الصفة على الاسم . ومن في قراءة الجمهور في
موضع خفض عطفاً على لفظ الله ، أو في موضع رفع عطفاً على موضع الله ، إذ هو في
مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في موضع رفع
بالابتداء ، والخبر محذوف تقديره : أعدل وأمضى قولاً ونحو هذا مما يدل عليه لفظة
شهيداً ، ويراد بذلك الله تعالى . وقرىء : وبمن بدخول الباء على من عطفاً على
بالله . وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة
والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بن أبي إسحاق ، ومجاهد ، والحكم ، والأعمش :
ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر ، وجر ما بعده به ، وارتفاع علم بالابتداء ،
والجار والمجرو في موضع الجر . وقرأ علي أيضاً وابن السميقع ، والحسن بخلاف عنه .
ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب ، بجعل علم فعلاً مبنياً للمفعول ، والكتاب
رفع به . وقرىء ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشدداً مبنياً للمفعول ، والضمير في
عنده في هذه القراآت الثلاث عائد على الله تعالى . وقال الزمخشري في القراءة التي
وقع فيها عنده صلة برتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً ، لأنّ الظرف إذا
وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل على الفعل كقولك : مررت
بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقر في الدار أخوه انتهى .
وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم ، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا
وقعا صلتين أو حالين أو خبرين ، إما في الأصل ، وإما في الناسخ ، أو تقدمهما أداة
نفي ، أو استفهام ، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو
الأجود ، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ ، والظرف أو الجار والمجرور في مضوع رفع
خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر ، وهذا مبني على اسم
الفاعل . فكما جاز ذلك في اسم الفاعل ، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر ،
فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور . وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو :
مررت برجل حسن وجهه ، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم ، وهكذا تلقفنا
هذه المسألة عن الشيوخ . وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد
على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله في الظاهر ، وليس كذلك . وقد أعرب الحوفي عنده
علم الكتاب مبتدأ وخبراً في صلة من . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون خبراً يعني
عنده ، والمبتدأ علم الكتاب انتهى . ومن قرأ : ومن عنده ، على أنه حرف جر فالكتاب
في قراءته هو القرآن ، والمعنى : أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب ، أو
علم الكتاب على القراءتين ، أي : علمت معانيه وكونه أعظم المعجزات الباقي على مر
الأعصار ، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه
على كونه معجزاً ، وتوفيقه لإدراك ذلك .
"
صفحة رقم 392 "
( سورة إبراهيم )
2 ( ) الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ
الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَوَيْلٌ
لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ
الدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجًا أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى
مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِأايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذالِكُمْ بَلاءٌ
مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ
لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَىإِن
تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ
حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ
جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِىأَفْوَاهِهِمْ
وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ
مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىأَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ
بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا
فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ) ) 2
) الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى
لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ
عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى
الاْخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ
فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( : هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور ، وعن ابن عباس
وقتادة ، هي مكية إلا من قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ
نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ( إلى قوله ) إِلَى النَّارِ ( وارتباط أول هذه السورة بالسورة
قبلها واضح جداً ، لأنه ذكر فيها : ) وَلَوْ أَنَّ قَرْناً ( ثم ) وَكَذالِكَ
أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا ( ثم ) وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( فناسب
هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك . وأيضاً فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح )
لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( وقيل له : ) قُلْ إِنَّ اللَّهَ
يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( أنزل الر كتاب أنزلناه إليك
كأنه قيل : أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي
الضلال ، إلى النور وهو الهدى .
وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، وكتاب الخبر ، أو في موضع
رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الر ، وفي موضع نصب على تقدير : الزم أو
اقرأ الر . وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين ، وكتاب مبتدأ . وسوغ
الابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي : كتاب أي : عظيم أنزلناه إليك . وجوزوا
أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب ، وأنزلناه جملة في موضع الصفة .
وفي قوله : أنزلناه . وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك ،
وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام ، تنويه عظيم وتشريف له ( صلى الله عليه
وسلم ) ) من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى ، وبإخراجه عليه الصلاة
والسلام ، إذ هو الداعي والمنذر ، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى
. والناس عام ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم ، والظلمات والنور مستعاران للكفر
والإيمان . ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله : لتخرج قال : بإذن ربهم ، أي :
ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم ، إذ هم عبيده ، فناسب ذكر الرب هنا
تنبيهاً على منة المالك ، وكونه ناظراً في حال عبيدة ، وبإذن ظاهره التعلق بقوله :
لتخرج . وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضع الحال قال : أي مأذوناً لك .
وقال الزمخشري : بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل
الحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .
"
صفحة رقم 393 "
والظاهر أن قوله : إن صراط ، بدل من قوله إلى النور ، ولا يضر هذا الفصل بين
المبدل منه والبدل ، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج . وأجاز
الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور ، فقيل :
إلى صراط العزيز الحميد . وقرىء : ليخرج مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها ،
والناس رفع به . ولما كان قوله : إلى النور ، فيه إبهام مّا أوضحه بقوله : إلى
صراط . ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه . والثاني إخراج الناس
من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة
للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب ، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من
حيث الإخراج من الظلمات إلى النور ، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب
على العبد الحمد عليها والشكر . وتقدمت صفة العزيز ، لتقدم ما دل عليها ، وتليها
صفة الحميد لتلو ما دل عليها . وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل : مبتدأ
محذوف أي : هو الله . وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله ، وتفلته على
التقدير الأول . وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع : الله بالجر على البدل في قول
ابن عطية ، والحوفي ، وأبي البقاء . وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال : لأنه
جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة ، كما غلب
النجم على الثريا انتهى . وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير : أن يكون أصله الإله
، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة ، والتزم فيه النقل والحذف ، ومادته
إذ ذاك الهمزة واللام والهاء ، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول
الحمد . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع
وذلك قليل ، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان : أحدهما : أن تقدم الصفة وتبقيتها على
ما كانت عليه ، وفي إعراب مثل هذا وجهان : أحدهما : إعرابه نعتاً مقدماً ، والثاني
: أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً . والوجه الثاني : أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا
قدمتها انتهى . فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان
صفتين متقدمتين ، ويعرب لفظ الله موصوفاً متأخراً . ومما جاء فيه تقديم ما لو
تأخير لكان صفة ، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفاً قول الشاعر : والمؤمنم العائذات
الطير يمسحها
ركبان مكة بين الغيل والسعد
فلو جاء على الكثير لكان التركيب : والمؤمن الطير العائذات ، وارتفع ويل على
الابتداء ، وللكافرين خبره . لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج
منها ، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل . ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة
والموصوف ، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر
وما يتعلق به بالخبر . ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة . قال : فإن
قلت : ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل ؟ قلت : لأن المعنى أنهم يولون من
عذاب شديد ويضجون منه ، ويقولوزن يا ويلاه كقوله : ) دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً
( انتهى . وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد ، ويحتمل هذا العذاب أن
يكون واقعاً بهم في الدنيا ، أو واقعاً بهم في الآخرة . والاستحباب الإيثار
والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من
نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر . ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل
كاستجاب وأجاب ، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى . وجوزوا في إعراب الذين أن يكون
مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد ، وأن يكون معطوفاً على الذم ، إما خبر مبتدأ محذوف
أي هم الذين ، وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون صفة
للكافرين . ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، وهو لا يجوز
، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله : من عذاب شديد ،
"
صفحة رقم 394 "
سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل ، أم متعلقاً بفعل محذوف أي : يضجون
ويولولون من عذاب شديد . ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدار لزيد الحسنة القرشي ،
فهذا التركيب لا يجوز ، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار ،
والتركيب الفصيح أن تقول : الدار الحسنة لزيد القرشي ، أو الدار لزيد القرشي
الحسنة وقرأ الحسن : ويصدون مضارع أصد ، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدوداً
. وتقدم الكلام عل قوله تعالى : ) وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( في آل عمران ، وعلى
وصف الضلال بالبعد قوله عز وجل :
) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
( سبب نزولها أنّ قريشاً قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي ؟ فنزلت .
وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه ، أن أخرج قومك من الظلمات إلى
النور ، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . والظاهر أن قوله : وما
أرسلنا من رسول ، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام . فإن كانت الدعوة
عامة للناس كلهم ، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه ، كان من لم تكن
لغته لغة ذلك النبي موقوفاً على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها ، وأن يرجع في تفسيرها
إلى من يعلمها . وقيل : في الكلام حذف تقديره : وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان
قومه ، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك ، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم ،
ومعنى بلسان قومه : بلغة قومه .
وقرأ أبو السمال ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران الجوني : بلسن بإسكان السين ، قالوا
: هو كالريش والرياش . وقال صاحب اللوامح : واللسن خاص باللغة ، واللسان قد يقع
على العضو ، وعلى الكلام . وقال ابن عطية مثل ذلك قال : اللسان في هذه الآية يراد
به اللغة ، ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن . وقرأ أبو
رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدري : لسن بضم اللام والسين ، وهو جمع لسان كعماد وعمد
. وقرىء أيضاً بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل ، والضمير في قومه عائد على
رسول أي : قوم ذلك الرسول . وقال الضحاك : والضمير في قومه عائد على محمد ( صلى
الله عليه وسلم ) ) قال : والكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أداها كل نبي بلغة قومه
. قال الزمخشري : وليس بصحيح ، لأنّ قوله : ليبين لهم ، ضمير القوم وهم العرب ،
فيؤدي إلى أنّ الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد
انتهى . وقال الكلبي : جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية ، وأمره تعالى أن يأتي
رسول كل قوم بلغتهم . وأورد الزمخشري هنا سؤالاً وابن عطية أخرهما في كتابيهما ،
ويقول : قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن بهم القدرة على المعارضة
وإقرارهم بالعجز ، كما قامت بإذعان السحرة لموسى ، والأطباء لعيسى عليهما السلام .
وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيين لهم ، ثم ذكر أنه
تعالى يضل من يشاء إضلاله ، ويهدي من يشاء هدايته ، فليس على ذلك الرسول غير
التبليغ والتبيين ، ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو
العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الواضع الأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته . وقال
الزمخشري : والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف ، وبالهداية التوفيق واللطف ،
وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان ، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته ، الحكيم فلا
يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى . وهو على طريقة
"
صفحة رقم 395 "
الاعتزال والجمهور على تفسير قوله : بآياتنا ، إنها تسع الآيات التي أجراها الله
على يد موسى عليه السلام . وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة ، والتقدير : كما
أرسلناك يا محمد بالقرآن بلسان عربي وهو آياتنا ، كذلك أرسلنا موسى بالتوارة بلسان
قومه ، وأن أخرج يحتمل أن أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية ، ويضعف زعم من زعم
أنها زائدة . وفي قوله : قومك خصوص لرسالته إلى قومه ، بخلاف لتخرج الناس ،
والظاهر أنّ قومه هم بنو إسرائيل . وقيل : القبط . فإن كانوا القبط فالظلمات هنا
الكفر ، والنور الإيمان ، وإن كانوا بني إسرائيل وقلنا : إنهم كلهم كانوا مؤمنين ،
فالظلمات ذل العبودية ، والنور العزة بالدين وظهور أمر الله . وإن كانوا أشياعاً
متفرقين في الدين ، قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وقوم على غير شيء ، فالظلمات
الكفر والنور الإيمان . قيل : وكان موسى مبعوثاً إلى القبط وبني إسرائيل . وقيل :
إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله ، وأن لا يشرك به ، والإيمان بموسى ، وأنه نبي
من عند الله ، وإلى بني إسرائيل بالتكليف وبفروع شريعته إذ كانوا مؤمنين . ويحتمل
وذكرهم أن يكون أمراً مستأنفاً ، وأن يكون معطوفاً على أن أخرج ، فيكون في خبر وان
. وأيام الله قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : نعم الله عليهم ، ورواه أبي
مرفوعاً . ومنه قول الشاعر : وأيام لنا غرّ طوال
عصينا الملك فيها إن ندينا
وعن ابن عباس أيضاً ، ومقاتل ، وابن زيد : وقائعه ونقماته في الأمم الماضية ،
ويقال : فلان عالم بأيام العرب أي وقائعها وحروبها وملاحمها : كيوم ذي قار ، ويوم
الجار ، ويوم فضة وغيرها . وروي نحوه عن مالك قال : بلاؤه . وقال الشاعر :
وأيامنا مشهورة في عدوناا
أي وقائعنا . وعن ابن عباس أيضاً : نعماؤه وبلاؤه ، واختاره الطبري ، فنعماؤه :
بتظليله عليهم الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وفلق البحر . وبلاؤه : باستعباد
رعون لهم ، وتذبيح أبنائهم ، وإهلاك القرون قبلهم . وفي حديث أبيّ في قصة موسى
والخضر عليهما السلام بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله ، وأيام
الله بلاؤه ونعماؤه ، واختار الطبري هذا القول الآخر . ولفظة الأيام تعم المعنيين
، لأنّ التذكير يقع بالوجهين جميعاً . وفي هذه اللفظة تعظيم الكوائن المذكر بها .
وغبر عنها بالظرف الذي وقعت فيه . وكثيراً ما يقع الإسناد إلى الظرف ، وفي الحقيقة
الإسناد لغيرها كقوله : بل مكر الليل والنهار ، ومن ذلك قولهم : يوم عبوس ، ويوم
عصيب ، ويوم بسام . والحقيقة وصف ما وقع فيه من شدّة أو سرور . والإشارة بقوله :
إن يف ذلك ، إلى التذكير بأيام الله . وصبار ، شكور ، صفتا مبالغة ، وهما مشعرتان
بأنّ أيام الله المراد بهما بلاؤه ونعماؤه أي : صبار على بلائه ، شكور لنعمائه .
فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو بما أفاض عليهم من النعم ، تنبه
على ما يجب عليه من الصبر إذا أصابه بلاء ، من والشكر إذا أصابته نعماء ، وخص
الصبار والشكر لأنهما هما اللذان ينتفعان بالتذكير والتنبيه ويتعظان به . وقيل :
أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، لأنّ الصبر والشكر من سجايا أهل الإيمان .
"
صفحة رقم 396 "
) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ
أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُون ( سقط : نساءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم ، وإذ
تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم وإن كفرتم إن عذابي لشديد ، وقال موسى إن تكفروا
أنتم ومن معكم جميعا فإن الله غني حميد ) َ ( : لما تقدم أمره تعالى لموسى
بالتذكير بأيام الله ، ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون ، وفي
ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقات الله . وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب
في قوله : ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء (
وتفسير هذه الآية ، إلا أنَّ هنا : ويذبحون بالواو ، وفي البقرة بغير واو ، وفي
الأعراف ) يَقْتُلُونَ ( فحيث لم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيراً لقوله : يسومونكم
. وحيث أتى بها دلّ على المغايرة . وأنّ سوم سوء العذاب كان بالتذبيح وبغيره ،
وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح ، ولغيره من أنواع القتل .
وقرأ ابن محيصن : ويذبحون مضارع ذبح ثلاثياً ، وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلا أنه حذف
الواو . وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف : ) وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ ( واحتمل إذ أن يكون منصوباً ب ( ذكروا ) ، وأن يكون
معطوفاً على إذ أنجاكم ، لأنّ هذا الإعلام بالمزيد على الشكر من نعمه تعالى .
والظاهر أنّ متعلق الشكر هو الإنهام أي : لئن شكرتم إنعامي ، وقاله الحسن والربيع
. قال الحسن : لأزيدنكم من طاعتي . وقال الربيع : لأزيدنكم من فضلي . وقال ابن
عباس : أي لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب . وكأنه راعى ظاهر المقابلة في
قوله : ولئن كفرتم إن عذابي لشديد . وظاهر الكفر المراد به الشرك ، فلذلك فسر
الشكر بالتوحيد والطاعة وغيره . قال : ولئن كفرتم ، أي نعمتي فلم تشكروها ، رتب
العذاب الشديد على كفران نعمة الله تعالى ، ولم يبين محل الزيادة ، فاحتمل أن يكون
في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما ، وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه
إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى . وإذ ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال :
لأزيدنكم ، فنسب الزيادة إليه وقال : إنّ عذابي لشديد ، ولم يأت التركيب لأعذبنكم
، وخرج في لأزيدنكم بالمفعول ، وهنا لم يذكر ، وإن كان المعنى عليه أي : إنّ عذابي
لكم لشديد . وقرأ عبد الله : وإذ قال ربكم ، كأنه فسر قوله : تأذن ، لأنه بمعنى
أذن أي : أعلم ، وأعلم يكون بالقول . ثم نبه موسى عليه السلام قومه على أنّ الباري
تعالى ، وإن أوعد بالعذاب الشديد على الكفر ، فهو غير مفتقر إلى شكركم ، لأنه
تعالى هو الغني عن شكركم ، الحميد المستوجب الحمد على ما أسبغ من نعمه ، وإن لم
يحمده الحامدون ، فثمرة شكركم إنما هي عائدة إليكم . وأنتم خطاب لقومه وقال : ومن
في الأرض يعني : الناس كلهم ، لأنّ من كان في العالم العلوي وهم الملائكة لا
يدخلون في من في الأرض ، وجواب إنْ تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير : فإنما
ضرر كفركم لاحق بكم ، والله تعالى متصف بالغني المطلق . والحمد سواء . كفروا أم
شكروا ، وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم ، وتعظيم لله تعالى ، وكذلك في ذكر هاتين
الصفتين .
( ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءتْهُمْ
رُسُلُهُمْ ( سقط : فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا
لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ، قالت رسلهم أفي الله شك ) ( :
"
صفحة رقم 397 "
( فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن
أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين )
الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه . وقيل : ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة ، وخبر
قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه ، وتقدم في الأعراف وهود ، والهمزة في
ألم للتقرير والتوبيخ . والظاهر أنّ والذين في موضع خفض عطفاً على ما قبله ، إما
على الذين ، وإما على قوم نوح وعاد وثمود . قال الزمخشري : والجملة من قوله : لا
يعلمهم إلا الله ، اعتراض والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله
انتهى . وليست جملة اعتراض ، لأنّ جملة الاعتراض تكون بين جزءين ، يطلب أحدهما
الآخر . وقال أبو البقاء : تكون هذه الجملة حالاً من الضمير في من بعدهم ، فإن عنى
من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة ، وليس له محل إعراب
من رفع أو نصب ، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل
أمكن . وقال أبو البقاء : أيضاً ويجوز أن يكون مستأنفاً ، وكذلك جاءتهم . وأجاز
الزمخشري وتبعه أبو البقاء : أن يكون والذين مبتدأ ، وخبره لا يعلمهم إلا الله .
وقال الزمخشري : والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضاً انتهى . وليست باعتراض ،
لأنها لم تقع بين جزءين : أحدهما يطلب الآخر . والضمير في جاءتهم عائد على الذين
من قبلكم ، والجملة تفسيرية للنبأ . والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح ، وأنّ الضمير
في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم الرسل . وقال ابن مسعود ، وابن زيد
أي : جعلوا ، أي : أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل .
وقال ابن زيد : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . والعض بسبب مشهور من البشر . وقال
الشاعر : قد أفنى أنامله أزمة
وأضحى يعض على الوظيفا
وقال آخر : لو أن سلمى أبصرت تخددي
ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوّدي
عضت من الوجد بأطرا اليد
وقال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم . وقال أبو
صالح : لما قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أنا رسول الله إليكم ،
وأشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أنْ اسكت تكذيباً له ، ورداً لقوله ، واستبشاعاً لما
جاء به . وقيل : ردّوا أيديهم في أفواههم ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده
على فيه . وقيل : أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : إنا كفرنا
بما أرسلتم به أي : هذا جواب لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق . وقيل :
الضميران عائدان على الرسل قاله : مقاتل ، قال : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على
أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم . وقال الحسن وغيره : جعلوا أيدي أنفسهم في
أفواه الرسل ردًّا لقولهم ، وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل
والنيل منهم ، فعلى هذا الضمير في أيديهم عائد على الرسل . وقيل : المراد بالأيدي
هنا النعم ، جمع يد المراد بها النعمة أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم
من مواعظهم ونصائحهم ، وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء ،
لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في
"
صفحة رقم 398 "
أفواههم ، ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل . وقيل : الضمير في أفواههم
على هذا القول عائد على الكفار ، وفي بمعنى الباء أي : بأفواههم ، والمعنى :
كذبوهم بأفواههم . وفي بمعنى الباء يقال : جلست في البيت ، وبالبيت . وقال الفراء
: قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباء فتقول : أدخلك الله الجنة ، وفي الجنة
. وأنشد : وارغب فيها من لقيط ورهطه
ولكني عن شنبس لست أرغب
يريد : أرغب بها . وقال أبو عبيدة : هذا ضرب مثل أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا .
والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك : رد يده في فيه ، وقاله الأخفش أيضاً
. وقال القتبي : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به
انتهى . ومن سمع حجة على من لم يسمع هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا ذلك عن العرب ،
فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل ، كان الممسك عن الجواب الساكت
عنه وضع يده فيه . وقد رد الطبري قول أبي عبيدة وقال : إنهم قد أجابوا بالتكذيب
لأنهم قالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، ولا يرد ما قاله الطبري ، لأنه يريد أبو
عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات ، وهو
الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل . قال ابن عطية : ويحتمل أن يتجوز في لفظة
الأيدي أي : أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوا بأفواههم من التكذيب
، فكان المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي : في أقوالهم ، وغبر عن جميع
المدافعة بالأيدي ، إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى . بادروا أولاً
إلى الكفر وهو التكذيب المحض ، ثم أخبروا بأنهم في شك وهو التردد ، كأنهم نظروا
بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد ، أو هما قولان من طائفتين
: طائفة بادرت بالتكذيب والكفر ، وطائفة شكت ، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر
. وقرأ طلحة : مما تدعونا بإدغام نون الرفع في الضمير ، كما تدغم في نون الوقاية
في مثل : أتحاجوني والمعنى : مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله . ومريب صفة
توكيدية ، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن
المبتدأ ، لأنّ الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك
لظهور الأدلة وشهادتها عليه . وقدر مضاف فقيل : أفي إلاهية الله . وقيل : أفي
وحدانيته ، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أنْ لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشىء
العالم وموجده ، فقال : فاطر السموات والأرض . وفاطر صفة لله ، ولا يضر الفصل بين
الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ ، فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة ، وإن كان
أصل التركيب في الدار الحسنة زيد . وقرأ زيد بن علي : فاطر نصباً على المدح ، ولما
ذكر أنه موجد العالم ، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو
عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال : يدعوكم ليغفر لكم أي : يدعوكم إلى
الإيمان كما قال : إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة ، نحو : دعوته
لينصرني . وقال الشاعر : دعوت لما نابني مسورا
فلبى فلبى يدي مسور
"
صفحة رقم 399 "
ومن ذنوبكم ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي : ليغفر لكم ذنوبكم . وجمهور
البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب ، ولا إذا جرت المعرفة ، والتبعيض يصبح فيها
إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم .
وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أنّ الإسلام يجب ما قبله ، ويبقى ما يستأنف بعد
الإيمان من الذنوب مسكوتاً عنه ، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم ،
لا بغفران ما يستأنف . وقال الزمخشري ما معناه : إنّ الاستقراء في الكافرين أنْ
يأتي من ذنوبكم ، وفي المؤمنين ذنوبكم ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولأن لا
يسوي بين الفريقين انتهى . ويقال : ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك ، إذ
الكافر إذا آمن ، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخليت فيه مغفرة بعض
الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب . وقال أبو عبد الله
الرازي : أما قول صاحب الكساف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر ، فهو من
باب الطامات ، لأنّ هذا التبعيض إنْ حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإنْ لم
يحصل كان هذا الكلام فاسداً . وقال : إلى أجل مسمى ، إلى وقت قد بيناه ، أو بينا
مقداره إنْ آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى . وهذا بناء على
القول بالأجلين ، وهو مذهب المعتزلة . وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف
في قوله : ) وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ( وقيل هنا : ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت
فلا يعاجلكم بالعذاب ، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم
علينا ، فلم تخصون بالنبوة دوننا ؟ قال الزمخشري : ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً
لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى . وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل
الملائكة على من سواهم . وقال ابن عطية : في قولهم استبعاد بعثة البشر . وقال بعض
الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة ، أو من يقول من الفلاسفة أن
الأجناس لا يقع فيها هذا القياس . فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض
، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو
على جهة التعجيز أي : بعثتكم محال ، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي : إنكم لا تفعلون
ذلك أبداً ، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة انتهى . والذي يظهر أنّ
طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح
، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر ، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما
كانوا عليه من الضلال . ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا : تريدون
أنْ تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي : ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعاً ، وننترك
ما نشأنا عليه من دين آبائنا . وقرأ طلحة : أن تصدونا بتشديد النون ، جعل إن هي
المخففة من الثقيلة ، وقدر فصلاً بينها وبين الفعل ، وكان الأصل أنه تصدوننا ،
فأدغم نون الرفع في الضمير ، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع ،
لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها ، كما ألغاها من قرأ ) لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ ( برفع يتم حملاً على ما المصدرية أختها .
2 ( ) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ
أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ
"
صفحة رقم 400 "
أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ
عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاٌّ رْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ
مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن
وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ
يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن
وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( )
) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ
اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا ( :
إبراهيم : ( 11 ) قالت لهم رسلهم . . . . .
سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها ، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي
اختصوا بها . فلم يكونوا مثلهم ، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به
تواضعاً منهم ، ونسبة ذلك إلى الله . ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم ، ولكن
أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده . والمعنى : يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته
. ومعنى بإذن الله : بتسويغه وإرادته ، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان
بها ، ولا هي في استطاعتنا ، ولذلك كان التركيب : وما كان لنا ، وإنما ذلك أمر
متعلق بالمشيئة . فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً
أولياً وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على
معاندتكم ومعاداتكم ، وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا
نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أنْ لا نتوكل على الله وقد هدانا ، فعل
بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه
سلوكه في الدين . والأمر الأول وهو قوله : فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل ،
والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكلهم . ولنصبرن جواب قسم ، ويدل على سبق ما
يجب فيه الصبر وهو الأذى . وما مصدرية ، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي . والضمير
محذوف أي : ما آذيتموناه وكان أصله به ، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمي
قولان ؟ وقرأ الحسن : بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل ، وأو لأحد الأمرين
أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم ، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا : ليكونن أحد
هذين . وتقدير أو هنا بمعنى حتى ، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في ما
بعدها ، لأنه لا يصح تركيب حتى ، ولا تركيب إلا أن مع قوله : لتعودن بخلاف لألزمنك
، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة . أو يكون خطاباً للرسل ومن آمنوا بهم
. وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم ، فيصح إبقاء لتعودن على
المفهوم منها أولاً إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم ، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم
قط . أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم ، وكونهم إغفالاً عنهم لا
يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل .
وقرأ أبو حيوة : ليهلكن الظالمين وليسكننكم ، بياء الغيبة اعتباراً بقوله : فأوحى
إليهم ربهم ، إذ لفظه لفظ الغائب . وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفاً لهم
بالخطاب ، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله : فأوحى إليهم ربهم . ولما أقسموا بهم
على إخراج الرسل والعودة في ملتهم ، أقسم تعالى على إهلاكهم . وأي إخراج أعظم من
الإهلاك ، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً ، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم
وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل . قال ابن عطية : وخص الظالمين من
الذين كفروا ، إذ جائز أنْ يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس ، وإنما توعد
لإهلاك من خلص للظلم . وقال غيره : أراد بالظالمين المشركين ، قال تعالى : ) إِنَّ
الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم
بعد إهلاك الظالمين كقوله
"
صفحة رقم 401 "
تعالى : ) وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ). ومقام يحتمل المصدر والمكان . فقال
الفراء : مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي : قيامي عليه بالحفظ لأعماله ، ومراقبتي
إياه لقوله : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ). وقال الزجاج
: مكان وقوفه بين يدي للحساب ، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة
كقوله تعالى : ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( وعلى إقحام المقام أي
لمن خافني . والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء : أي استنصروا الله
على أعدائهم كقوله : ) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ( ويجوز أن
يكون الفتاحة وهي الحكومة ، أي : استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم . واستنصار
الرسل في القرآن كثير كقول نوح : ) فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً
وَنَجّنِى ( وقول لوط : ) رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ ( وقول شعيب
: ) رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( وقول موسى : )
رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ ( الآية . وقول ابن زيد : الضمير عائد على
الكفار أي : واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش : ) عَجّل لَّنَا قِطَّنَا (
وقول أبي جهل : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة . وكأنهم لما
قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا
على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح : ) فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( وقوم
شعيب : ) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً ( وعاد : ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (
وبعض قريش : ) فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ). وقيل : الضمير عائد على الفريقين
: الأنبياء ، ومكذبيهم ، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل .
ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن :
واستفتحوا بكسر التاء ، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي : أوحى إليهم ربهم وقال
لهم : ليهلكن ، وقال لهم : استفتحوا أي : اطلبوا النصر وسلوه من ربكم . وقال
الزمخشري : ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا ، والفتح المطر في سني
القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيّب
رجاء كل جبار عنيد ، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار .
واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى . وخاب
معطوف على محذوف تقديره : فنصروا وظفروا . وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل ،
وتقدم شرح جبار . والعنيد : المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير
عائداً على الكفار ، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا . ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن
الأنباري أي : من بعده . وقال الشاعر : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مهرب
وقال أبو عبيدة أيضاً ، وقطرب ، والطبري ، وجماعة : ومن ورائه أي ومن أمامه ، وهو
معنى قول الزمخشري : من بين يديه . وأنشد : عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراء فرج قريب
"
صفحة رقم 402 "
وهذا وصف حاله في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها ، أو
وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف . وقال الشاعر : أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
وقوم تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر : أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصا نحني عليها الأصابع
ووراء من الأضداد قاله : أبو عبيدة والأزهري . وقيل : ليس من الأضداد . وقال ثعلب
: اسم لما توارى عنك ، سواء كان أمامك أم خلفك . وقيل : بمعنى من خلفه أي : في
طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي : سوف يأتيك . ويسقى معطوف على محذوف تقديره :
يلقى فيها ويسقى ، أو معطوف على العامل في من ورائه ، وهو واقع موقع الصفة .
وارتفاع جهنم على الفاعلية ، والظاهر إرادة حقيقة الماء . وصديد قال ابن عطية : هو
نعت لماء ، كما تقول : هذا خاتم حديد وليس بماء ، لكنه لما كان بدل الماء في العرف
عندنا يعني أطلق عليه ماء . وقيل : هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول : مررت
برجل أسد التقدير : مثل صديد . فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة ،
وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه بالصديد . وقال الزمخشري : صديد عطف
بيان لماء قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاماً ، ثم بينه بقوله : صديد انتهى .
والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات ، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي ،
فأعرب ) زَيْتُونَةٍ ( عطف بيان ) لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ( فعلى رأي لبصريين لا
يجوز أن يكون قوله : صديد ، عطف بيان . وقال الحوفي : صديد نعت لماء . وقال مجاهد
، وقتادة ، والضحاك : هو ما يسيل من أجساد أهل النار . وقال محمد بن كعب والربيع :
هو غسالة أهل النار في النار . وقيل : هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني . وقيل
: صديد بمعنى مصدود عنه أي : لكراهته يصد عنه ، فيكون مأخوذاً عنه من الصد . وذكر
ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله : ) وَيُسْقَى مِن مَّاء
صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ( قال : ( يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شوي وجهه
ووقعت فروة رأسه ، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره ) يتجرعه يتكلف جرعه .
ولا يكاد يسيغه أي : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة . والظاهر هنا انتفاء
مقاربة إساغته إياه ، وإذا انتفت انتفت الإساغة ، فيكون كقوله : ) لَمْ يَكَدْ
يَرَاهَا ( أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟ والحديث : ( جاءنا ثم يشربه ) فإن
صح الحديث كان المعنى : ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه ، كما جاء )
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح . وتجرع
تفعل ، ويحتمل هنا وجوهاً أن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك : علمته فتعلم .
وأنْ يكون للتكلف نحو : تحلم ، وأن يكون لمواصلة
"
صفحة رقم 403 "
العمل في مهلة نحو : تفهم أي يأخذه شيئاً فشيئاً . وأن يكون موافقاً للمجرد أي :
تجرعه كما تقول : عدا الشيء وتعدّاه . ويتجرعه صفة لما قبله ، أو حال من ضمي ويسقى
، أو استئناف . ويأتيه الموت أي : أسبابه . والظاهر أنّ قوله : من كل مكان معناه
من الجهات الست ، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام . وقال إبراهيم التيمي : من كل
مكان من جسده ، حتى من أطراف شعره . وقيل : حتى من إبهام رجليه ، والظاهر أنّ هذا
في الآخرة . وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا ، سماها موتاً
وهذا بعيد ، لأنّ سياق الكلام بدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم . وقوله :
وما هو بميت لتطاول شدائد الموت ، وامتداد سكراته . ومن ورائه الخلاف في من ورائه
كالخلاف في من ورائه جهنم . وقال الزمخشري : ومن ورائه ومن بين يديه عذاب غليظ أي
: في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل : هو قطع
الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى . وقيل : الضمير في ورائه هو يعود على العذاب
المتقدم لا على كل جبار .
2 ( ) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ
عَلَى شَىْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا
فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا
فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ
هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا
مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الاٌّ مْرُ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ
لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى
فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ
أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ تُؤْتِىأُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاٌّ رْضِ مَا
لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ
اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ
عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُل
لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ
فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَأَنزَلَ
مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ
وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ
الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ
الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ
نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ) ) 2
إبراهيم : ( 18 ) مثل الذين كفروا . . . . .
الرماد معروف ، وقال ابن عيسى : هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ، ويجمع على رمد
في الكثرة وأرمدة في القلة ، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا : أرمداء ، ورماد رمدد إذا
صار هباء أرق ما يكون . الجزع : عدم احتمال
"
صفحة رقم 404 "
الشدة ، وهو نقيض الصبر . قال الشاعر : جزعت ولم أجزع من البين مجزعا
وعذبت قلباً بالكواعب مولعا
المصرخ : المغيث . قال الشاعر : فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
وليس لكم عني غناء ولا نصر
والصارخ المستغيث ، صرخ يصرخ صرخاً وصراخاً وصرخة . قال سلامة بن جندل : كنا إذا
ما أتانا صارخ فزع
كان الصراخ له قرع الظنابيب
واصطرخ بمعى صرخ ، وتصرخ تكلف الصراخ ، واستصرخ استغاث فقال : استصرخني فاصرخته
والصريخ مصدر كالتريخ ويوصف به المغيث والمستغيث من الأضداد . الفرع الغصن من
الشجرة . ويطلق على ما يولد من الشيء ، والفرع الشعر يقال : رجل أفرع وامرأة فرعاء
لمن كثر شعره . وقال الشاعر : وهو امرؤ القيس بن حجر :
وفرع يغشى المتن أسواد فاحم
اجتث الشيء اقتلعه ، وجث الشيء قلعه ، والجثة شخص الإنسان قاعداً وقائماً . وقال
لقيط الأياري :
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم
فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا
البوار : الهلاك . قال الشاعر :
فلم أر مثلهم أبطال حرب
غداة الحرب إذ خيف البوار
) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ
بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْء
ذالِكَ ( : ارتفاع مثل على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه . فيما على
عليكم ، أو يقص . والمثل
"
صفحة رقم 405 "
مستعار للصفة التي فيها غرابة ، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه
قيل : كيف مثلهم ؟ فقيل : أعمالهم كرماد ، كما تقول : صفة زيد عرضه مصون ، وماله
مبذول . وقال ابن عطية : ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل ، وأنّ المعنى :
الذين كفروا أعمالهم كرماد . وقال الحوفي : مثل رفع بالابتداء ، وأعمالهم بدل من
مثل بدل اشتمال . كما قال الشاعر : ما للجمال مشيها وئيدا
أجند لا يحملن أم حديدا
وكرماد الخبر . وقال الزمخشري : أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل الذين كفروا على
تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد الخبر . وقال ابن عطية : وقيل هو ابتداء ، وأعمالهم
ابتداء ثان ، وكرماد خبر للثاني ، والجملة خبر الأول . وهذا عندي أرجح الأقوال ،
وكأنك قلت : المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم
في فسادها وقت الحاجة ، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا
يبقى له أثر ، ولا يجتمع منه شيء انتهى . وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله
الحوفي ، وهو لا يجوز ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل
عارية من رابط يعود على المثل ، وليست نفس المبتدأ في المعنى ، فلا تحتاج إلى رابط
. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام ، وعتق الرقاب ، وفداء
الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجارة ، وغير ذلك . شبهها
في حبوطها وذهابها هباءاً منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به
، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف . وقرأ نافع ، وأبو جعفر : الرياح على
الجمع ، والجمهور على الأفراد . ووصف اليوم بقوم عاصف ، وإن كان من صفة الريح على
سبيل التجوز ، كما قالوا : يوم ما حل وكيل نائم . وقال الهروي : التقدير في يوم
عاصف الريح ، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر :
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف
يريد كاسف الشمس . وقيل : عاصف من صفة الريح ، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع
إعرابه كما قيل : جحر ضب خرب ، يعني : إنه خفض على الجوار . وقرأ ابن أبي إسحاق ،
وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن : في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف ، وهو على حذف
الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، تقديره : في يوم ريح عاصف . وتقدم تفسير العصوف في
يونس في قوله : ) جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ( وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته
يجوز أن تكون القراءة منه : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء ،
أي : لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء .
وقيل : لا يقدرون من ثواب ما كسبوا ، هو على حذف مضاف . وفي الصحيح عن عائشة رضي
الله عنها قالت : يا رسول الله ، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم
المسكين ، هل ذلك نافعه ؟ قال : ( لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم
الدين ) وفي الصحيح أيضاً : ( إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها
) ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال . وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه
صاحبه ، وأبعد عن طريق النجاة ، والبعيد عن الحق ، أو الثواب . وفي البقرة : )
لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ ( على شيء من التفنن في الفصاحة ، والمغايرة في
التقديم والتأخير ، والمعنى واحد .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ
"
صفحة رقم 406 "
أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْء قَالُواْ ( سقط : لو
هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبر نا ما لنا من محيص ( : قرأ السلمي
ألم تر بسكون الراء ، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف . وتوجيه آخر وهو أنْ ترى
حذفت العرب ألفها في قولهم : قام القوم ولو تر ما زيد ، كما حذفت ياء لا أبالي في
لا أبال ، فلما دخل الجازم تخيل أنّ الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا
في : لا أبالي لم أبل ، تخيلوا اللام آخر الكلمة . والرؤية هنا بمعنى العلم ، فهي
من رؤية القلب . وقرأ الإخوان : خالق اسم فاعل ، والأرض بالخفض . قرأ باقي السبعة
: خلق فعلاً ماضياً ، والأرض بالفتح . ومعنى بالحق قال الزمخشري : بالحكمة ،
والغرض الصحيح ، والأمر العظيم ، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة . وقال ابن عطية :
بالحق أي بما يحق من جهة مصالح عباده ، وإنفاذ سابق قضائه ، وليدل عليه وعلى قدرته
. وقيل : بقوله وكلامه . وقيل : بالحق حال أي محقاً ، والظاهر أن قوله : يذهبكم ،
خطاب عام للناس . وعن ابن عباس : خطاب للكفار . ويأت بخلق جديد : يحتمل أن يكون
المعنى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين ، ويحتمل من
غير جنسكم . والأول قول جمهور المفسرين ، وتقدم نحو هذين الاحتمالين للمفسرين في
قوله في النساء : ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ
بِاخَرِينَ ( وبينا في ذلك أنه لا يحتمل إلا الوجه الأول . وما ذلك أي : وما
ذهابكم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر عليه تعالى ، لأنه تعالى هو القادر
على ما يشاء . وقال الزمخشري : لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ،
فإذا خلص له الداعي إلى شيء ، وانتفى الصارف ، تكون من غير توقف كتحريك أصبعك .
وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال لقوله :
القادر ، لأنهم يثبتون القادرية وينفون القدرة ، ولتشبيه فعله تعالى بفعل العبد في
قوله : كتحريك أصبعك . وعندنا أن تحريك أصبعنا ليس إلا بقدرة الله تعالى ، وأنّ ما
نسب إلينا من القدرة ليس مؤثراً في إيجاد شيء .
وقال الزمخشري أيضاً : وهذه الآية بيان لإبعادهم في الضلال ، وعظيم خطبهم في الكفر
بالله ، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة ، وحكمته البالغة ، وأنه
هو الحقيق بأن يعبد ويخاف عقابه ، ويرجى ثوابه في دار الجزاء انتهى . وبرزوا : أي
ظهروا من قبورهم إلى جزاء الله وحسابه . وقال الزمخشري : ومعنى بروزهم الله ،
والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب
الفواحش ، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند
أنفسهم ، وعلماء أن الله لا تخفى عليه خافية . وقال ابن عطية : وبرزوا معناه صاروا
بالبراز وهي الأرض المتسعة ، فاستعير ذلك لجميع يوم القيامة . وقال أبو عبد الله
الرازي : تأويل الحكماء أنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت متجردة
بذاتها عارية عن كل ما سواها ، وذلك هو البروز لله تعالى . وهذا الرجل كثيراً ما
يورد كلام الفلاسفة وهم مباينون لأهل الشرائع في تفسير كلام الله تعالى المنزل
بلغة العرب ، والعرب لا تفهم شيئاً من مفاهيم أهل الفلسفة ، فتفسيرهم كاللغز
والإحاجي ، ويسميهم هذا الرجل حكماء ، وهم من أجهل الكفرة بالله تعالى وبأنبيائه .
والضمير في وبرزوا عائد على الخلق المحاسبين ، وعبر بلفظ الماضي لصدق المخبر به ،
فكأنه قد وقع . وقرأ زيد بن علي : وبرزوا مبنياً للمفعول ، وبتشديد الراء .
والضعفاء : الأتباع ، والعوام . وكتب بواو في المصحف قبل الهمزة على لفظ من يفخم
الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ، ومثله علموا بني إسرائيل . والذين استكبروا
: هم رؤساؤهم وقاداتهم ، استغفروا الضعفاء واستتبعوهم . واستكبروا وتكبروا ،
وأظهروا تعظيم أنفسهم . أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله . وتبعاً : يحتمل
أن يكون اسم جمع لتابع ، كخادم وخدم ، وغائب وغيب . ويحتمل أن يكون مصدراً كقوله :
عدل ورضا . وهل أنتم مغنون ؟ استفهام معناه توبيخهم إياهم وتقريعهم ، وقد علموا
أنهم لن يغنوا والمعنى :
"
صفحة رقم 407 "
إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئاً ، فلذلك
جاء جوابهم : لو هدانا الله لهديناكم ، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد
الهداية لله تعالى ، وهو كلام حق في نفسه . وقال الزمخشري : من الأولى للتبيين ،
والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله ؟
ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء ، هو بعض عذاب
الله أي : بعض بعض عذاب الله انتهى . وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في
من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله : من شيء على قوله : من عذاب الله ،
لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله : من عذاب الله . ومن التبيينية يتقدم عليها ما
تبينه ، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني ، وهو بعض شيء ، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون
بدلاً ، فيكون بدل عام من خاص ، لأنّ من شيء أعم من قوله : من عذاب الله ، وإن عنى
بشيء شيئاً من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر ، وهو بعض بعض عذاب الله . وهذا لا
يقال ، لأنّ بعضية الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض . ونص الحوفي ، وأبو البقاء :
على أنّ مِن في قوله : من شيء ، زائدة . قال الحوفي : من عذاب الله متعلق بمغنون ،
ومن في من شيء لاستغراق الجنس ، زائدة للتوكيد . وقال أبو البقاء : ومِن زائدة أي
: شيئاً كائناً من عذاب الله ، ويكون محمولاً على المعنى تقديره : هل تمنعون عنا
شيئاً ؟ ويجوز أن يكون شيء واقعاً موقع المصدر أي : غنى فيكون من عذاب الله
متعلقاً بمغنون انتهى . ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام ، فكان
الاستفهام دخل عليه وباشره ، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب : فهل تغنون .
وقال الزمخشري : أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأنّ الله لو هداهم إلى
الإيمان لهدوهم ، ولم يضلوهم إما مدركين الذنب في ضلالهم ، وإضلالهم على الله كما
حكى الله عنهم . وقالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولو شاء الله ما
عبدنا من دونه من شيء ، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا ، ويدل
عليه قوله حكاية عن المنافقين : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء
( انتهى . وحكى أبو عبد الله الرازي عن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه
، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له
كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء . قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنّ
المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفاً
لأصول مشايخه ، لا يقبل منه . وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى : لو
كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا . واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . قال أبو عبد
الله الرازي : وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأنْ قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف
، لأن ذلك قد فعله الله . وقيل : لو خلصنا الله من العذاب وهدانا إلى طريق الجنة
لهديناكم . وقال الزمخشري في بسط هذا القول : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب
لهديناكم أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة
انتهى . وقيل : ويدل على أنّ المراد بالهدى الهدى إلى طريق الجنة ، أنه هو الذي
التمسوه وطلبوه ، فوجب أن يكون المراد . وقال ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم
. والظاهر أنّ قوله : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره ، داخل تحت قول
المستكبرين ، وجاء تجمله بلا واو عطف ، كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة ، وإن
كانت مرتبطاً بعضها ببعض من جهة المعنى لأنّ سؤالهم : هل أنتم مغنون عنا ؟ إنما
كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك : سوّوا بينهم ، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في
عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا
فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر . ولما قالوا : لو هدانا الله ، أتبعوا ذلك
بالإقناط من النجاة فقالوا : ما لنا من محيص : أي منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا .
وقيل : سواء علينا من كلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير : قالوا جميعاً سواء
علينا يخبرون عن حالهم . وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أول البقرة ، والظاهر
أن هذه المحاورة بين الضعاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله .
وعن محمد بن كعب ،
"
صفحة رقم 408 "
وابن زيد : أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام
، وبعد جزعهم مثلها .
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الاْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن
سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى
وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ (
: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة ، ذكر
محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس ، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس
بالإضلال . والشيطان هنا إبليس ، وهو رأس الشياطين . وفي حديث الشفاعة من حديث
عقبة بن عامر : ( أن الكافرين يقولون : وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ،
فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون : قد وجد المؤمنون من
يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنّك أضللتنا ، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح
شمه أحد ويقول عند ذلك : إن الله قد وعدكم ) الآية وعن الحسن : يقف إبليس خطيباً
في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً فيقول : إنّ الله وعدكم وعد الحق ،
يعني : البعث ، والجنة ، والنار ، وثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، فصدقكم وعده ،
ووعدتكم أنْ لا بعث ولا جنة ولا نار ، ولا ثواب ولا عقاب ، فأخلفتكم . قضي الأمر
تعين قوم للجنة وقوم للنار ، وذلك كله في الموقف ، وعليه يدل حديث الشفاعة أو بعد
حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن ،
وهو تأويل الطبري . وقيل : قضي الأمر قطع وفرع منه ، وهو الحساب ، وتصادر الفريقين
إلى مقربهما . ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي : الوعد الحق
، وأن يكون الحق صفة الله أي : وعده ، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث
والجزاء على الأعمال أي : فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم ، وإلا
أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع ، لأنّ دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس
من جنس السلطان ، وهو الحجة البينة . قيل : ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة
والتسليط والقدرة أي : ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة ، بل عرضت عليكم شيئاً فأتى
رأيكم عليه . وقيل : هو استثناء متصل ، لأنّ القدرة على حمل الإنسان على الشيء
تارة يكون بالقهر من الحامل ، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء
الوسواس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسليط . وقيل : وظاهر هذا الكلام يدل على أنّ
الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه ، وإزالة عقله ، فلا
تلوموني . وقرىء : فلا يلوموني بالياء على الغيبة ، وهو التفات يريد في ما آتيتموه
من الضلال ، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة .
وقال الزمخشري : ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم ، وأطعتموني إذ دعوتكم ، ولم تطيعوا
ربكم إذ دعاكم ، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها
لنفسه ، وليس من الله إلا التمكين ، ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر
كما يزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم ، فإنّ الله قد قضى عليكم الكفر
وأجبركم عليه انتهى . وهو على طريق الاعتزال .
ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس : بنافعكم . وقال ابن جبير : بمنقذكم ، وقال الربيع :
بمنجيكم ، وقال مجاهد : بمغيثكم ، وكلها أقوال متقاربة . وقرأ يحيى بن وثاب ،
والأعمش ، وحمزة : بمصرخي بكسر اللياء ، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة . قال
الفراء : لعلها من وهم القراء ، فإنه قل من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنّ
الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله ، والباء للمتكلم خارجة من ذلك . وقال أبو عبيد :
نراهم غلطوا ، ظنوا أنّ الباء تكسر لما بعدها . وقال الأخفش : ما سمعت هذا من أحد
من العرب ، ولا من النحويين . وقال الزجاج : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة
مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف . وقال النحاس : صار هذا إجماعاً ، ولا يجوز أن
يحمل كتاب الله على الشذوذ . وقال الزمخشري : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول
:
"
صفحة رقم 409 "
قال لها هل لك يا تافي
قالت له ما أنت بالمرضي
وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل
التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث
قبلها ألف نحو : عصاي فما بالها ، وقبلها باء . ( فإن قلت ) : جرت الياء الأولى
مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام ، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن ، فحركت
بالكسر على الأصل . ( قلت ) : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو
بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى . أما قوله : واستشهدوا لها
ببيت مجهول ، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلى ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من
الناس إلى اليوم ، يقول القائل : ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء . وأما التقدير الذي
قال : فهو توجيه الفراء ، ذكره عنه الزجاج . وأما قوله ، في غضون كلامه حيث قبلها
ألف ، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو : قعد زيد حيث أمام عمر
وبكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع . وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد
روى سكون الياء بعد الألف . وقرأ بذلك القراء نحو : محياي ، وما ذهب إليه من ذكرنا
من النحاة لا ينبغي أن يلتت إليه . واقتفى آثارهم فيها الخلاف ، فلا يجوز أن يقال
فيها : إنها خطأ ، أو قبيحة ، أو رديئة ، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة ،
لكنه قلَّ استعمالها . ونص قطرب على أنها لغة في بني يرفوع . وقال القاسم بن معن
وهو من رؤساء النحويين الكوفيين : هي صواب ، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء
وذكر تلحين أهل النحو فقال : هي جائزة . وقال أيضاً : لا تبالي إلى أسفل حركتها ،
أو إلى فوق . وعنه أنه قال : هي بالخفض حسنة . وعنه أيضاً أنه قال : هي جائزة .
وليست عند الإعراب بذلك ، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها ،
فأبو عمرو إمام لغة ، وإمام نحو ، وإمام قراءة ، وعربي صريح ، وقد أجازها وحسنها ،
وقد رووا بيت النابغة :
( عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب
بفخض الياء من عليّ . وما في بما أشركتموني مصدرية ، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي
: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله : ) أَنَاْ
بَرَاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ( وقال
: ويوم القيامة يكفرون بشرككم . وقيل : موصولة بمعنى الذي ، والتقدير : كفرت
بالصنم الذي أشركتمونيه ، فحذف العائد . وقيل : من قبل متعلق بكفرت ، وما بمعنى
الذي أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل .
تقول : شركت زيداً ، فإذا أدخلت همزة النقل قلت : أشركت زيداً عمراً ، أي جعلته له
شريكاً . إلا أن في هذا القول إطلاق ما على الله تعالى ، وما الأصح فيها أنها لا
تطلق على آحاد من يعلم . وقال الزمخشري : ونحو ما هذه يعني في إطلاقها على الله ما
في قولهم : سبحان ما سخركن لنا انتهى . ومن منع ذلك جعل سبحان علماً على معنى
التسبيح ، كما جعل برة علماً للمبرة . وما مصدرية ظرفية ، ويكون ذلك من إبليس
إقراراً على نفسه بكفره الأقدم أي : خطيئتي قبل خطيئتكم . فلا إصراخ عندي أنّ الظالمين
لهم عذاب أليم ، الظاهر أنه من تمام كلام إبليس ، حكى الله عنه ما سيقوله في ذلك
الوقت ليكون تنبيهاً للسامعين علي النظر في عاقبتهم ، والاستعداد لما لا بد منه .
وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول ، يخافوا ،
ويعملوا ما يخلصهم منه ، وينجيهم . وقيل :
"
صفحة رقم 410 "
هو من كلام الخزنة يوم ذاك . وقيل : من كلام الله تعالى . ولأبي عبد الله الرازي
كلام هنا في الشيطان والملائكة يوقف عليه من تفسيره .
( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا
سَلَامٌ ( : لما جمع الفريقين في قوله : ) وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا ( وذكر
شيئاً من أحوال الكفار ، ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة . وقرأ
الجمهور : وأدخل ماضينا مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد : وأدخل
بهمزة المتكلم مضارع أدخل أي : وأدخل أنا . وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون
الفاعل الملائكة ، والظاهر تعلق بإذن ربهم بأدخل . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) :
فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى ، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام
غير ملئتم ؟ ( قلت ) : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي
: تحيتهم فيها سلام . بإذن ربهم يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى .
فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله : تحيتهم ، ولذلك قال : يعني أنّ الملائكة
يحيونهم بإذن ربهم ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري
والفعل عليه ، وهو غير جائز . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي الحسن :
أدخل برفع اللام على الاستقبال بإخبار الله تعالى عن نفسه ، فيصير بذلك بإذن ربهم
ألطف لهم وأحنى عليهم ، وتقدم تفسير ) تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ( في أوائل
سورة يونس .
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ
طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن
فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَةِ وَيُضِلُّ
اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء ( : تقدم الكلام في ضرب مع
المثل في أوائل البقرة ، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا ، إلا أنّ المفسرين
أبدوا هنا تقديرات ، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلاً مفعولا بضرب ، وكلمة
بدل من مثلا . وإعرابهم هذا تريع ، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد .
وقال ابن عطية : وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب ، وكلمة مفعول أول تفريعاً على
أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين ، لأنها بمعنى جعل . وعلى هذا تكون كشجرة خبر مبتدأ
محذوف أي : جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي : الكلمة كشجرة طيبة ، وعلى البدل تكون
كشجرة نعتاً للكلمة . وأجاز الزمخشري : وبدأ به أنْ تكون كلمة نصباً بمضمر أي :
جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله : ضرب الله مثلاً ، كقولك : شرف
الأمير زيداً كساه حلة ، وحمله على رس انتهى . وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه
.
وقرىء شاذاً كلمة طيبة بالرفع . قال أبو البقاء : على الابتداء ، وكشجرة خبره
انتهى . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير : هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة ،
وكشجرة نعت لكمة ، والكلمة الطيبة هي : لا له إلا الله قاله ان عباس ، أو الإيمان
قاله مجاهد وابن جريج ، أو المؤمن نففسع قاله عطية العوفي والربيع ، أو جميع
طاعاته أو القرآن قاله الأصم ، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر ، أو الثناء على الله
أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قاله ابن عباس ، أو جوزة الهند قاله
على وابن عباس ، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضاً ، أو النخلة وعليه أكثر
المتأولين وهو قول : ابن مسعود ، وابن عباس ، وأنس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ،
وابن زيد ، وجاء ذلك نصاً من حديث ابن عمر مما خرجه الدارقطني عنه قال : قرأ رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وذكر الآية فقال : ( أتدرون ما هي فوقع في نفسي
أنها النخلة ) الحديث . وقال أبو العالية : أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب
فقال أنس : كل يا أبا العالية ، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم
قال : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بصاع بسر فتلا هذه الآية . وفي
الترمذي من حديث أنس نحو هذا . وقال
"
صفحة رقم 411 "
الزمخشري : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة ، وشجرة التين ، والعنب ، والرمان ،
وغير ذلك انتهى .
وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ، فلا يبعد أن يشبه أيضاً
بشجرتها . أصلها ثابت أي : في الأرض ضارب بعروقه فيها . وقرأ نس بن مالك : كشجرة
طيبة ثابت أصلها ، أجريت الصفة على الشجرة لفظاً وإن كانت في الحقيقة للسبي .
وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السبي لفظاً ومعنى ، وفيها حسن التقسيم ، إذ
جاء أصلها ثابت وفرعها في السماء ، يريد بالفرع أعلاها ورأسها ، وإن كان المشبه به
ذا فروع ، فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس . ومعنى في السماء : جهة العلو
والصعود لا المظلة . وفي الحديث : ( خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً )
ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان
، وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى
الله تعالى : ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ ( وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها ، ووصف هذه الشجرة
بأربعة أوصاف : الأول قوله : طيبة ، أي كريمة المنبت ، والأصل في الشجرة له لذة في
المطعم . قال الشاعر : طيب الباءة سهل ولهم
سبل إن شئت في وحش وعر
أي ساحتهم سهلة طيبة . الثاني : رسوخ أصلها ، وذلك يدل على تمكنها ، وأنّ الرياح
لا تقصفها ، فهي بطيئة الفناء ، وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه . والثالث : علو
فرعها ، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها ، وعلى بعدها عن عفونات الأرض ،
وعلى صفائها من الشوائب . الرابع : ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات .
والحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر : تناذرها الراقون من سوء سمها
تطلقه حيناً وحيناً تراجع
والمعنى : تعطي جناها كل وقت وقته الله له . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ،
والحسن ، أي كل سنة ، ولذلك قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحكم ، وحماد ،
وجماعة من الفقهاء : من حلف أنْ لا يفعل شيئاً حيناً فإنه لا يفعله سنة ،
واستشهدوا بهذه الآية . وقيل : ثمانية أشهر قاله علي ومجاهد ، ستة أشهر وهي مدة
بقاء الثمر عليها .
وقال ابن المسيب : الحين شهران ، لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين . وقيل : لا تتعطل
من ثمر تحمل في كل شهر ، وهي شجرة جوز الهند . وقال ابن عباس أيضاً والشحاك ،
والربيع : كل حين أي كل غدوة وعشية ، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في
الجنة . والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهم والتصور للمعاني المدركة بالعقل ،
فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم ، وانطبق المعقول على
المحسوس ، فحصل الفهم والوصول إلى المطلوب . والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على
قول الجمهور . وقال مسروق : الكذب ، وقال : إن تجر دعوة الكفر وما يعزى إليه
الكافر . وقيل : كل كلام لا يرضاه الله تعالى . وقرأ أبي : وضرب الله مثلاً كلمة
خبيثة ، وقرىء : ومثل كلمة بنصب مثل عطفاً على كلمة طيبة . والشجرة الخبيثة شجرة
الحنظل قاله الأكثرون : ابن عباس ، ومجاهد ، وأنس بن مالك ، ورواه عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ) . وقال الزجاج وفرقة : شجرة الثوم . وقيل : شجرة الكشوت ، وهي
شجرة لا ورق لها ولا أصل قال : وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر . وقال ابن عطية : ويرد
على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر ، والله تعالى إنما مثل
بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوّز ، فقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) في الثوم والبصل ( من أكل من هذه الشجرة )
"
صفحة رقم 412 "
وقيل : الطحلبة . وقيل : الكمأة . وقيل : كل شجر لا يطيب له ثمر . وعن ابن عباس :
هي الكافر ، وعنه أيضاً : شجرة لم تخلق على الأرض . وقال ابن عطية : والظاهر عندي
أنّ التشبيه وقع بشجرة غير معينة ، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة
أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي : اقتلعت جثها بنزع الأصول وبقيت في غاية
الوهي والضعف ، فتقلبها أقل ريح . فالكافر يرى أنّ بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا
يغني عنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع ، وهي خبيثة
الجني غير نافعة انتهى . واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله : أصلها ثابت أي : لم
يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض ، وإنما هي نابتة على وجه الأرض . ما لها من قرار
أي : استقرار . يقال : أقر الشيء قراراً ثبت ثباتاً ، شبه بهذه الشجرة القول الذي
لم يعضد بحجة ، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه ، والقول الثابت هو الذي ثبت
بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، واطمأنت إليه نفسه . وتثبيتهم به في
الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا ، كما جرى لأصحاب
الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، كما ثبت جرجيس
وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول : أحد أحد . وتثبيتهم في الآخرة
كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا ، ولم يبهتوا ، ولم
تحيرهم أهوال الحشر . والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة . وقال طاووس
وقتادة وجمهور من العلماء : أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان ، وفي
الآخرة هو وقت سؤاله في قبره ، ورجح هذا القول الطبري . وقال البراء بن عازب
وجماعة : في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره ، ورواه البراء عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ) ، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض . وقيل : معنى تثبيته
في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان ، وحشره عليه . وقيل : التثبيت
في الدنيا الفتح والنصر ، وفي الآخرة الجنة والثواب . وما صح عن الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ) في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره ، وسئل وشهد
شهادة الإخلاص قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا الآية ، لا يظهر منه يعني : أن
الحياة الدنيا هي حياة الإنسان ، وأن الآخرة في القبر ، ولا أن الحياة الدنيا هي
في القبر ، وأن الآخرة هي يوم القيامة ، بل اللفظ محتمل . ومعنى يثبت : يديمهم
عليه ، ويمنعهم من الزلل . ومنه قول عبد الله بن رواحة : فثبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله : يثبت . وقيل : يتعلق بآمنوا . وسؤال
العبد في قبره معتقد أهل السنة . ويضل الله الظالمين أي : الكافرين لمقابلتهم
بالمؤمنين ، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم
وهي الحيرة التي تلحقهم ، إذ ليسوا متمسكين بحجة . وفي الآخرة هو اضطرابهم في
جوابهم . ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة ، تقدم في هذا
الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلامة الخبيثة ولما ذكر
تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد
منهما ، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى ، إنّ الله يفعل ما يشاء ، لا يسئل عما يفعل
. وقال الزمخشري : ويفعل الله ما يشاء أي : توجيه الحكمة ، لأنّ مشيئة الله تابعة
للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال
الظالمين وخذلانهم والتخلية
"
صفحة رقم 413 "
بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ
وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ( : لم ذكر حال المؤمنين وهداهم ، وحال
الكافرين وإضلالهم ، ذكر السبب في إضلالم . والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع
المشركين قاله الحسن ، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر . وقال مجاهد : هم أهل مكة ،
أنعم الله تعالى عليهم ببعثه رسولاً منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به ، وأسكنهم
حرمه ، وجعلهم قوام بيته ، فوضعوا مكان شكر هذه النعمة كفراً . وسأل ابن عباس عمر
عنهم فقال : هما الأعراب من قريش أخوالي أي : بني مخزوم ، واستؤصلوا ببدر .
وأعمامك أي : بني أمية ، ومتعوا إلى حين . وعن علي نحو من ذلك . وقال قتادة : هم
قادة المشركين يوم بدر . وعن علي : هم قريش الذين تحزبوا يوم بدر . وعلى أنهم قريش
جماعة من الصحابة والتابعين . وعن علي أيضاً : هم منافقو قريش أنعم عليهم بإظهار
علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم ، ثم عادوا إلى الكفر . وعن ابن
عباس : في جبلة بن الإيهم ، ولا يريد أنها نزلت فيه ، لأن نزول الآية قبل قصته ،
وقصته كانت في خلافة عمر ، وإنما يريد ابن عباس أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم
القيامة .
ونعمة الله على حذف مضاف أي : بدلوا شكر نعمة الله كقوله : ) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( أي شكر رزقكم ، كأنه وجب عليهم الشكر كفوضعوا
مكانه كفراً ، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب . قال الزمخشري : ووجه آخر وهو أنهم
بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة ، وهم أهل مكة أسكنهم الله
حرمة ، وجعلهم قوام بيته ، وأكرمهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكفروا نعمة
الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة والسعة لإيلافهم
الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم الله بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل
النعمة ، وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم انتهى . ونعمة الله هو المفعول الثاني ،
لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي : بنعمة الله ، وكفراً هو المفعول الأول كقوله
: ) فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( أي بسيئاتهم حسنات .
فالمنصوب هو الحاصل ، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب ، على هذا
لسان العرب ، وهو على خلاف ما يفهمه العوام ، وكثير ممن ينتمي إلى العلم . وقد
أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة : ) وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالإِيمَانِ ( وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر نعمة الله ، فهو الذي دخلت عليه
الباء ثم حذفت ، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت . وأحلوا
قومهم أي : من تابعهم على الكفر . وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول ثان
لبدلوا ، وليس بصحيح ، لأنّ بدل من أخوات اختار ، فالذي يباشره حرف الجر هو
المفعول الثاني ، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول
. وأعرب الحوفي وأبو البقاء : جهنم بدلاً من دار البوار ، والزمخشري عطف بيان ،
فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة . ودار البوار جهنم ، وقاله : ابن زيد . وقيل :
عن علي يوم بدر ، وعن عطاء بن يسار : نزلت في قتلى بدر ، فيكون دار البوار أي :
الهلاك في الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه . وعلى هذا أعرب ابن
عطية وأبو البقاء : جهنم منصوب على الاشتغال أي : يصلون جهنم يصلونها . ويؤيد هذا
التأويل قراءة ابن أبي عبلة : جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعاً على
أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهذا التأويل أولى ، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث
أنه لم يتقدم ما يرجحه ، ولا ما يكون مساوياً ، وجمهور القراء على النصب . ولم
يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي ، إذ زيد ضربته
"
صفحة رقم 414 "
أفصح من زيداً ضربته ، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن
أبي عبلة راجحاً ، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب ، وعلى
التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم ، أو حالاً من دار البوار ، أو حالاً
من قومهم ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس القرار هي أي : جهنم . وجعلوا لله
أنداداً أي زادوا إلى كفرهم نعمته أن صيروا له أنداداً وهي الأصنام التي اتخذوا
آلهة من دون الله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمر : وليضلوا هذا ، و ) لِيُضِلَّ ( في الحج ولقمان والروم
بفتح الياء ، وباقي السبعة بضمها . والظاهر أنّ اللام لام الصيرورة والمآل . لما
كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال ، جرى مجرى لام العلة في قولك :
جئتك لتكرمني ، على طريقة التشبيه . وقيل : قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام
لام العاقبة ، وأما بالضم فتحتمل العاقبة . والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد
على حد قوله : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( قال الزمخشري : تمتعوا إيذان بأنهم
لانغماسهم في التمتع بالحاضر ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، مأمورون به ،
قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ، ولا يملكوه لأنفسهم أمراً دونه ، وهو آمر
الشهوة والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإنّ مصيركم
إلى النار . ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه : ) قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ
قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى
رجع . وخبر إنّ هو قوله : إلى النار ، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل ، ولذلك تعدى
بإلى أي : فإنّ انتقالكم إلى النار ، لأنه تبقى إنّ بلا خبر ، ولا ينبغي أن يدعي
حذفه ، فيكون التقدير : فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن ، لأنّ حذف الخبر
في مثل هذا التركيب قليل ، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة ، والخبر جار
ومجرور . وقد أجاز الحوفي : أن يكون إلى النار متعلقاً بمصيركم ، فعلى هذا يكون
الخبر محذوفاً .
( قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ
بَيْعٌ فِيهِ ( : لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته ، وجعلهم له أنداداً ،
وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم ، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة
والزكاة قبل مجيء يوم القيامة . ومعمول قل ، محذوف تقديره : أقيموا الصلاة يقيموا
. ويقيموا مجزوم على جواب الأمر ، وهذا قول : الأخفش ، والمازني . ورد بأنه لا
يلزم من القول إنْ يقيموا ، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين
، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة . قال ابن عطية : ويحتمل أن
يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية
بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى . وهذا قريب مما قبله ، إلا أن في ما
قبله معمول القول : أقيموا ، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة . وذهب الكسائي
والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله : يقيموا ، وهو أمر مجزوم بلام الأمر
محذوفة على حد قول الشاعر :
محمد تفد نفسك كل نفس
"
صفحة رقم 415 "
أنشده سيبويه إلا أنه قال : إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر . وقال الزمخشري في هذا
القول : وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل ، عوض منه . ولو قيل : يقيموا
الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز انتهى . وذهب المبرد إلى أنّ التقدير :
قل لهم أقيموا يقيموا ، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل . وهو فاسد
لوجهين : أحدهما : أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل ، أو في الفاعل ، أو
فيهما . فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك : قم يقم ، والتقدير على هذا الوجه
: أن يقيموا يقيموا . والوجه الثاني : أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ
الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً . وقيل : التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا
قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية . وقال الفراء : جواب الأمر معه شرط مقدر تقول :
أطع الله يدخلك الجنة ، أي إن تطعه يدخلك الجنة . ومخالفة هذا القول للقول قبله
أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر ، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط .
وقيل : هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر ، والمعنى : أقيموا ، قاله أبو علي
فرقة . ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر ، لبقي على إعرابه بالنون
كقوله : ) هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ ( ثم قال : ) تُؤْمِنُونَ ( والمعنى :
آمنوا . واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني : على حذف النون ،
لأن المراد أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد ،
يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى ، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في
هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق ، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة
فهو أعم ، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة . قال ابن عطية : ويظهرأن المقول
هو الآية التي بعد أعني قوله : الله الذي خلق السموات والأرض انتهى . وهذا الذي
ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام ، يخالفه
ترتيب التركيب ، ويكون قوله : يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله ، أو
يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله ، ولا يترتب أن يكون جواباً ، لأن قوله :
الله الذي خلق السموات والأرض ، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد
جداً . واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي : كل صلاة فرض وتطوع ، وأن يراد بها
الخمس ، وبذلك فسرها ابن عباس . وفسر الإنفاق بزكاة الأموال . وتقدم إعراب ) سِرّا
وَعَلاَنِيَةً ( وشرحها في أواخر البقرة .
وقال أبو عبيدة : البيع هنا البذل ، والخلال المخالة ، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة
وهي المصاحبة انتهى . ويعني بالبذل مقابل شيء . وقال امرؤ القيس : صرفت الهوى عنهن
من خشية الردى
ولست بمقلي الخلال ولا قال
وقال الأخفش : الخلال جمع خلة . وتقدم الخلاف في قراءة ) لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ
خِلَالٌ ( بالفتح أو بالرفع في البقرة ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة . قال
الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا
خلال ؟ ( قلت ) : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون
بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها
وخيراً منها ، وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله : وما لا حد عنده من نعمة
"
صفحة رقم 416 "
تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه
ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة ،
ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق
لوجه الله انتهى . ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ، وكان
حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته ، والشقاوة بالجهل ، بذلك ختم وصفه بالدلائل
الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال : الله الذي خلق السموات والأرض
وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاء السموات والأرض ، ثم أعقب
بباقي الدلائل ، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة
في الدلالة ، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد ، والله مرفوع على
الابتداء ، والذي خبره . قال ابن عطية : ومن أخبر بذه الجملة وتقررت في نفسه آمن
وصلى وأنفق انتهى . يشير إلى ما تقدم من قوله : إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله
الذي خلق السموات والأرض الآية . فكأنه يقول : يقيموا الصلاة ، جواب لقوله : قل
لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض . والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم ،
ومِنْ للتبعيض . ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال ، ويكون المعنى : إن
الرزق هو بعض جنى الأشجار ، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات . ويجوز أن
تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري ، وكأنه قال : فأخرج به رزقاً لكم
هو الثمرات . وهذا ليس بجيد ، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي
تبينه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ، ورزقاً حالاً من
المفعول ، أو نصباً على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق . وقيل : من زائدة ،
وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين ، لأنّ ما قبلها واجب ، وبعدها معرفة ، ويجوز عند
الأخفش . والفلك هنا جمع فلك ، ولذلك قال : لتجري . ومعنى بأمره : راجع إلى الأمر
القائم بالذات . وقال الزمخشري : لقوله ، كن .
وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار ، وتسخير الرياح . وأما تسخير الأنهار
فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها . وانتصب دائبين على الحال والمعنى : يدأبان في
سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ، عن مقاتل بن
حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال : معناه دائبين في طاعة الله . قال ابن عطية :
وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير ، فذلك موجود في قوله
: سخر ، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد ، والله
أعلم انتهى . وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفه للمنام والمعاش . وقال
المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز ، لأنّهما عرضان ، والاعراض لا تسخر . ولما
ذكر تعالى تلك النعم العظيمة ، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال : وآتاكم من كل ما
سألتموه ، والخطاب للجنس من البشر أي : أي الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل
وينتفع به ، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس ، وإنما تفرقت هذه النعم في
البشر فيقال : بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة .
وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، والحسن ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وعمرو بن قائد
، وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع في رواية : من كل بالتنوين ، أي : من كل هذه
المخلوقات المذكورات . وما موصولة مفعول ثان أي : ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب
الانتفاع به . وقيل : ما نافية ، والمفعول الثاني هو من كل كقوله : ) وَأُوتِيَتْ
مِن كُلّ شَىْء ( أي غير سائليه . أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم
، ولم يعرض لما سألوه . والجملة المنفية في موضع نصب على الحال ، وهذا القول بدأ
به الزمخشري ، وثنى به ابن عطية وقال : إنه تفسير الضحاك . وهذا التفسير يظهر أنه
مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة ، لأنّ في تلك القراءة على ذلك
التخريج تكون ما نافية ، فيكونون لم يسألوه . وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه ،
وما بمعنى الذي . وأجيز أن تكون مصدرية ، ويكون المصدر بمعنى المفعول . ولما أحس
الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال :
ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم
ومعائشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه ، أو طلبتموه بلسان الحال . فتأول سألتموه بقوله
: ما احتجتم إليه . والضمير في سألتموه
"
صفحة رقم 417 "
إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى ، ويكون المصدر يراد به المسؤول . وإن كانت
موصولة بمعنى الذي عاد عليها ، والتقدير : من كل الذي سألتموه إياه . ولا يجوز أن
يكون عائداً على الله . والرابط للصلة بالموصول محذوف ، لأنك إن قدرته متصلاً
فيكون التقدير : ما سألتموهوه ، فلا يجوز . أو منفصلاً فيكون التقدير : ما سألتموه
إياه ، فالمنفصل لا يجوز حذف . والنعمة قال الواحدي : اسم أقيم مقام المصدر ، يقال
: أنعم إنعاماً ونعمة ، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك : أنفقت إنفاقاً ونفقة ،
ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى . والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به ،
وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع ، كأنه قيل : وإن تعدوا نعمة
الله ومعنى لا تحصوها ، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها ، هذا إذا أرادوا أن يعدوها
على الإجمال . وأما التفصيل فلا يقدر عليه ، ولا يعلمه إلا الله . وقال أبو
الدرداء : من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه ، وحضر عذابه
. والمراد بالإنسان هنا الجنس أي : توجد فيه هذه الخلال وهي : الظلم ، والكفر ،
يظلم النعمة بإغفال شكرها ، ويكفرها بجحدها . وقيل : ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع ،
كفار في النعمة يجمع ويمنع . وفي النحل : ) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ
تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( والفرق بين الختمين : أنه هنا تقدم
قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وبعده ، وجعلوا لله أنداداً ، فكان
ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك ، بجعل
الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه ، فجاء أن الإنسان لظلوم كفار . وأما في
النحل فلما ذكر عدة تفضلات ، وأطنب فيها ، وقال : ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ
يَخْلُقُ ( أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا
على شيء منه ، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه ،
وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما ، كما هو متصف بالخلق ، ففي ذلك إطماع لمن آمن به
. وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلله السابق ويرحمه ، وأيضاً
فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ، ذكر ما حصل من المنعم ،
ومن جنس المنعم عل ، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة ،
إذ لولاهما لما أنعم عليه . وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه
، وهو الظلم والكفران ، فكأنه قيل : إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور ، أو كفران
نعمة فالله رحيم ، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره . ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية
النحل لا يلتفت إليها ، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
2 ( ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا
وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّ صْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ
غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِىإِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى
وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى
السَّمَآءِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ
الصَّلواةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِى
وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ وَلاَ تَحْسَبَنَّ
اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ
"
صفحة رقم 418 "
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ
دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ
مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ
الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ
وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاٌّ
رْضُ غَيْرَ الاٌّ رْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِىَ اللَّهُ
كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ
لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ
وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } )
إبراهيم : ( 35 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
جنب مخففاً ، وأجنب رباعياً لغة نجد ، وجنب مشدداً لغة الحجاز ، والمعنى : منع ،
وأصله من الجانب . الهوى : الهبوط بسرعة ، قال الشاعر : وإذا رميت به الفجاج رأيته
تهوي مخارمها هوى الأجدل
شخص البصر أحد النظر ، ولم يستقرّ في مكانه . المهطع : المسرع في مشيه . قال
الشاعر : بمهطع سرح كأن عنانه
في رأس جذع من أراك مشذب
وقال عمران بن حطان : إذا دعانا فأهطعنا لدعوته
داع سميع فلبونا وساقونا
وقال أبو عبيدة : قد يكون الأهطاع الإسراع وإدامة النظر . المقنع : هو الرافع رأس
المقبل ببصره على ما بين يديه ، قاله ابن عرفة والقتبي . وقال الشاعر : يباكرن
العصاة بمقنعات
نواجذهن كالحدإ الوقيع
"
صفحة رقم 419 "
يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر ، ويقال : أقنع رأسه نكسه وطأطأه ، فهو
من الأضداد . قال المبرد : وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة انتهى . وقيل : منه قنع
الرجل إذا رضي ، كأنه رفع رأسه عن السؤال . وفم مقنع معطوفة أسنانه إليه داخلاً ،
ورجل مقنع بالتشديد عليه بيضة الرأس معروف ، ويجمع في القلة على أرؤس . الطرف :
العين . وقال الشاعر : وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
ويقال : طرف الرجل طبق جفنه على الآخر ، وسمي الجفن طرفاً لأنه يكون فيه ذلك .
الهواء : ما بين السماء والأرض ، وهو الخلاء الذي لم تشغله الأجرام الكثيفة ،
واستعير للجبان فقيل : قلب فلان هواء . وقال الشاعر : كأن الرجل منها فوق صعل
من الظلمات جؤجؤه هواء
المقرّن : المشدود في القرن ، وهو الحبل . الصفد : الغل ، والقيد يقال : صفده صفدا
قيده ، والاسم الصفد ، وفي التكثير صفده مشدداً . قال الشاعر :
وأبقى بالملوك مصفدينا
وأصفدته : أعطيته . وقيل : صفد وأصفد معاً في القيد والإعطاء . قال الشاعر :
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
أي : بالعطاء . وسمي العطاء صفداً لأنه يقيده ويعبد . السربال : القميص ، يقال :
سربلته فتسربل . القطران : ما يحلب من شجر الابهل فيطبخ ، وتهنأ به الإبل الجربى ،
فيحرق الجرب بحره وحدته ، وهو أقبل الأشياء اشتعالاً ، ويقال فيه قطران بوزن سكران
، وقطران بوزن سرحان .
( وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَبَنِىَّ أَن
نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن
تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( : مناسبة
هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفراً
، وجعلوا لله أنداداً وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله
، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه ، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم ، وأنه
صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة ، ودعا بأنْ يجنب بنيه عبادة
الأصنام ، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة
وهي الصلاة ، لينظروا في دين أبيهم ، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام ،
فيزدجروا ويرجعوا عنها . وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفاً ، وفي البقرة
منكراً .
وقال الزمخشري : هنا سأل في الأول أن
"
صفحة رقم 420 "
يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرج من صفة كان
عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمناً انتهى
. ودعا إبراهيم أولاً بما هو على طاعة الله تعالى ، وهو كون محل العابد أمناً لا
يخاف فيه ، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى ، ثم دعا ثانياً بأن يجنب هو وبنوه من
عبادة الأصنام . ومعنى واجنبني وبني : أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام .
وأراد بقوله : وبنى أولاده ، من صلبه الأقرباء . وأجابه الله تعالى فجعل الحرم
آمناً ، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنماً . قال سفيان بن عيينة : وقد
سئل ، كيف عبدت العرب الأصنام ؟ قال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً وكانوا
ثمانية ، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون : حجر ، فحيث ما نصبوا حجراً فهو
بمعنى البيت ، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى .
قال ابن عطية : وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ،
ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنماً ؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في
الخوف وطلب الخاتمة . وكرر النداء استعطافاً لربه تعالى ، وذكر سبب طلبه : أن يجنب
هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله : إنهن أضللن كثيراً من الناس ، إذ قد شاهد أباه
وقومه يعبدون الأصنام . ومعنى أضللنا : كنا سبباً لإضلال كثير من الناس ، والمعنى
: أنهم ضلوا بعبادتها ، كما تقول : فتنتهم الدنيا أي : افتتنوا بها ، واغتروا
بسببها . وقرأ الجحدري ، وعيسى الثقفي : وأجنبني من أجنب ، وأنث الأصنام لأنه جمع
ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول : الأجذاع انكسرت . والأخبار عنه أخبار
جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله : فقد ضلوا كثيراً . فمن تبعني أي : على
ديني وما أنا عليه ، فإنه مني . جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله : ( من غشنا
فليس منا ) أي ليس بعض المؤمنين تنبيهاً على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش
الإيمان ، والمعنى : أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان . ومن عصاني ، هذا فيه طباق
معنوي ، لأن التبعية طاعة فقوله : فإنك غفور رحيم . قال مقاتل : ومن عصاني فيحادون
الشرك . وقال الزمخشري : تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة
. قال ابن عطية : ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله : فمن تبعني فإنه مني ،
وإذا كان كذلك فقوله : فإنك غفور رحيم معناه حين يؤمنوا ، لأنه أراد أن الله يغفر لكل
كافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق
الحسن وجميل الأدب ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وكذلك قال نبي الله عيسى عليه
السلام : ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
) رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ ( : كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهاراً للتذلل ، والالتجاء إلى الله
تعالى . وأتى بضمير جماعة المتكلمين ، لأنه تقدم ذكره . وذكر بنيه في قوله :
واجنبني وبنى ، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه . وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل
غارت منها سارة ، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل ، فجاء في يوم واحد من الشام
إلى مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفاً من يومه ذلك ، وكان هذا كله
بوحي من الله تعالى ، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية . وأما كيفية بقاء هاجر
وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره . ومِن للتبعيض ، لأنّ
إسحاق كان في الشام ، والوادي ما بين الجبلين ، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء ،
وإنما قال : غير ذي زرع ، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي
، وأنه يرزقها الماء ، وإنما نظر النظر البعيد فقال : غير ذي زرع ، ولو لم يعلم
ذلك من الله تعالى لقال : غير ذي ماء ، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك . قال
ابن عطية : وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن
يوجد زرع إلا حيث وجد الماء ، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو
الماء . وقال الزمخشري : بواد هو وادي مكة ، غير ذي ذرع : لا يكون فيه شيء من زرع
قط كقوله : ) قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ( بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج
، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى . واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي
معمولاً لقوله : لا يكون ، وليس هو ماضياً ، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي
من المستقبلات . والظاهر أن قوله : عند بيتك
"
صفحة رقم 421 "
المحرم ، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء ، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى
وضع في البقرة ، وفي آل عمران . ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي : منع منه
، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لكونه لم يزل عزيزاً ممنعاً من
الجبابرة ، أو لكونه محترماً لا يحل انتهاكه . وليقيموا متعلق بأسكنت . وربنا دعاء
معترض ، والمعنى : إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة . وقيل : هي لام الأمر
، دعا لهم بإقامة الصلاة . وقال أبو الفرج بن الجوزي : اللام متعلقة بقوله :
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى . وهذا بعيد جداً . وخصّ
الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها ، أو لأنها سبب لكل خير . وقوله : ليقيموا
بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك ، ويكون له نسل .
وأفئدة : جمع فؤاد وهي القلوب ، سمي القلب فؤاد لإتفاده مأخوذ من فأد ، ومنه
المفتأد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم . وقال مؤرج الافئدة : القطع من الناس
بلغة قريش ، وإليه ذهب ابن بحر . قال مجاهد : لو قال إبراهيم عليه السلام : أفئدة
الناس ، لازدحمت على البيت فارس والروم . وقال ابن جبير : لحجته اليهود والنصارى .
والظاهر أنّ من للتبعيض ، إذ التقدير : أفئدة من الناس . قال الزمخشري : ويجوز أن
تكون مِن للابتداء كقولك : القلب مني سقيم يريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ،
وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة لتتناول
بعض الأفئدة انتهى . ولا يظهر كونها لابتداء الغاية ، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه
لغاية ينتهي إليها ، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس ، وإنما الظاهر في من
التبعيض . وقرأ هشام : أفئدة بياء بعد الهمزة ، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على
الإشباع ، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه
القراءة على أنّ هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء ، فعبر الراوي عنها بالياء ، فظن
من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة ، والمراد بياء عوضاً من الهمزة ، قال : فيكون هذا
التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو : بارئكم ويأمركم ، ونحوه
بإسكان حركة لإعراب ، وإنما كان ذلك اختلاساً . قال أبو عمرو والداني الحافظ : ما
ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه ، لأنّ النقلة عن هشام وأبي عمر وكانوا من أعلم
الناس بالقراءة ووجوهها ، وليس يفضي بم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرىء
آفدة : على وزن فاعلة ، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي
: جماعة آفدة ، أو جماعات آفدة ، وأن يكون جمع ذلك فؤاد ، ويكون من باب القلب ،
وصار بالقلب أأفدة ، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفاً كما قالوا . في ارآم أأرام ،
فوزنه أعفلة . وقرىء أفدة على وزن فعله ، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف
الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء ، وإن كان تسهيلها بين بين هو
الوجه ، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول : فرح فهو فرح . وقرأت أم الهيثم :
أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة . قال صاحب اللوامح : وهو جمع وفد ، والقراءة
حسنة : لكني لا أعرف هذه المرأة ، بل ذكرها أبو حاتم انتهى . أبدل الهمزة في فؤاد
بعد الضمة كما أبدلت في جون ، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد . وهو جمع
وفد كما قال صاحب اللوامح ، وقلب إذ الأصل أوفده . وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو :
نجد وأنجدة ، ووهى وأوهية . وأم الهيثم امرأة نثل عنها شيء من لغات العرب . وقرأ
زيد بن علي : إفادة على وزن إشارة . ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما
قالوا : اشاح في وشاح ، فالوزن فعالة أي : فاجعل ذوي وفادة . ويجوز أن يكون مصدر
أفاد إفادة ، أو ذوي إفادة ، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم . وقرأ الجمهور :
تهوي إليهم أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً ، ولما ضمن تهوي معنى تميل
عداه بإلى ، وأصله أن يتعدى باللام . قال الشاعر : حتى إذا ما هوت كف الوليد بها
طارت وفي كفه من ريشها بتك
"
صفحة رقم 422 "
ومثال ما في الآية قول الشاعر : تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمن الجن ككفارها
. وقرأ مسلمة بن عبد الله : تهوى بضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة
التعدية من هوى اللازمة ، كأنه قيل : يسرع بها إليهم . وقرأ علي بن أبي طالب ،
وزيد بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومجاهد : تهوى مضارع هوى بمعنى أحب
، ولما ضمن معنى النزوع والميل عدى بإلى . وارزقهم من الثمرات مع سكانهم وادياً ما
فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله : ) يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ
شَىْء ( وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة
الثمرات ، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين . وقيل : من
الأردن فجاء بها ، وطاف بها حول البيت سبعاً ، ووضعها قريب مكة فهي الطائف . وبهذه
القصة سميت وهي موضع ثقيف ، وبها أشجار وثمرات . وروى نحو منه عن ابن عباس . لعلهم
يشكرون . قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس
فيه نجم ولا شجر ولا ماء ، لا جرم أنّ الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرماً
آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه
على كل ريف ، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب
ترى الأعجوبة التي يريكها الله . بواد غير ذي زرع وهي : اجتماع البواكير والفواكه
المختلفة الأزمان من الربيعية والسيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته
بعجيب .
( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى
اللَّهِ مِن شَىْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء الْحَمْدُ ( : كرر النداء
للتضرع والالتجاء ، ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم ، وبين إضافته
إلى جمع المتكلم ، وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه وما يعلنونه . وقيل : ما
نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة ، وما نعلن من البكاء والدعاء . وقيل : ما
نخفي من كآبة الافتراق ، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع
: إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله أكلكم . قالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .
قالت : لا نخشى تركتنا إلى كاف . والظاهر أنّ قوله : وما يخفى على الله من شيء في
الأرض ولا في السماء ، من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده بكلام إبراهيم .
لما ذكر أنه تعالى عمم ما يخفى هو ومن كنى عنه ، تمم جميع الأشياء ، وأنها غير
خافية عنه تعالى . وقيل : وما يخفى الآية من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم
عليه السلام كقوله تعالى : ) وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( والظاهر أنْ هذه الجمل التي
تكلم بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تقع منه في زمان واحد ، وإنما حكى الله
عنه ما وقع في أزمان مختلفة ، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجوداً حالة دعائه ،
إذ ترك هاجر والطفيل بمكة . فالظاهر أنّ حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد
وجود إسحاق ، وعلى الكبر يدل على مطلق الكبر ، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب له
فيها ولداه . وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو
ابن مائة وثنتي عشرة سنة . وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحاق لتسعين . وعن ابن
جبير : لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة . وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة فيها
بهبة الولد أعظم من حيث أنّ الكبر مظنة اليأس من الولد ، فإنّ مجيء الشيء بعد
الإياس أحلى في النفس وأبهج لها . وعلى الكبر في موضع الحال لأنه قال : وأنا كبير
، وعلى علي بابها من الاستعلاء لكنه مجاز ، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون ، وكأنه
لما أسنّ وكبر صار مستعلياً على الكبر . وقال الزمخشري : على في قوله على الكبر
بمعنى مع ، كقوله :
"
صفحة رقم 423 "
إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل ، وكان قد دعا الله أن يهبه ولداً بقوله : )
رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من
إجابة دعائه . والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن
فعيل إلى المفعول ، فيكون إضافة من نصب ، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي
للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه ، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين ،
وخالف الكوفيون فيه . وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول ، وفعال ، ومفعال ، وفعل
، وهذا مذكور في علم النحو . ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم
جواز إعماله ، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو : هذا ضارب زيد أمس . وقال
الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعاً على
الإسناد المجازي ، والمراد : سماع الله انتهى . وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب
السفة المشبهة ، والصفة متعدية ، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا
يكون لبس . وأما هنا فاللبس حاصل ، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول ، لا من
إضافته إلى الفاعل . وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل : زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ
له عبيداً ظالمين . ودعاؤه بأنْ يجعله مقيم الصلاة وهو مقيمها ، إنما يريد بذلك
الديمومة . ومن ذريتي ، من للتبعيض ، لأنه أعلم أنّ من ذريته من يكون كافراً ، أو
من يهمل إقامتها وإن كان مؤمناً . وقرأ طلحة ، والأعمش : دعاء ربنا بغير ياء .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بياء ساكنة في الوصل ، وأثبتها بعضهم في الوقف . وروي
ورش عن نافع : إثباتها في الوصل . والظاهر أنّ إبراهيم سأل المغفرة لأبويه
القريبين ، وكانت أمه مؤمنة ، وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة
الله ، وهذا يتمشى إذا قلنا : إن هذه الأدعية كانت في أوقات مختلفة ، فجمع هنا
أشياء مما كان دعا بها . وقيل : أراد أمه ، ونوحاً عليه السلام . وقيل : آدم وحواء
. والأظهر القول الأول . وقد جاء نصاً دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله : ) وَاغْفِرْ
لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز
له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين ؟ ( قلت ) : هو من تجويزات العقل ، لا يعلم
امتناع جوازه إلا بالتوقيف انتهى . وهو في ذلك موافق لأهل السنة ، مخالف لمذهب
الاعتزال . وقرأ الحسين بن علي ، ومحمد ، وزيد : ربنا على الخبر . وابن يعمر
والزهري والنخعي : ولولديّ بغير ألف وبفتح اللام يعني : إسماعيل وإسحاق ، وأنكر
عاصم الجحدري هذه القراءة ، وقال : إنّ في مصحف أبيَّ بن كعب : ولأبوي ، وعن يحيى
بن يعمر : ولولدي بضم الواو وسكون اللام ، فاحتمل أنْ يكون جمع ولد كأسد في أسد ،
ويكون قد دعا لذريته ، وأن يكون لغة في الولد . وقال الشاعر : فليت زياداً كان في
بطن أمه
وليت زياداً كان ولد حمار
كما قالوا : العدم والعدم . وقرأ ابن جبير : ولوالدي بإسكان الياء على الإفراد
كقوله : واغفر لأبي ، وقيام الحساب مجاز . عن وقوعه وثبوته كما يقال : قامت الحرب
على ساق ، أو على حذف مضاف أي : أهل الحساب كما قال : ) يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ
الْعَالَمِينَ ).
) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا
يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى
رُؤُوسَهُمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ( :
الخطاب بقوله : ولا
"
صفحة رقم 424 "
تحسين ، للسامع الذي يمكن منه حسبان مثل هذا لجهله بصفات الله ، لا للرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) ) ، فإنه مستحيل ذلك في حقه . وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين
، وتسلية للمظلومين . وقرأ طلحة : ولا تحسب بغير نون التوكيد ، وكذا فلا تحسب الله
مخلف وعده . والمراد بالنهي عن حسبانه غافلاً الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون
، لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد
كقوله : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( يريد الوعيد . ويجوز أن يراد :
ولا تحسبنه ، يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم
المحاسب على النقير والقطمير . وقرأ السلمي والحسن ، والأعرج ، والمفضل ، عن عاصم
وعباس بن الفضل ، وهارون العتكي ، ويونس بن حبيب ، عن أبي عمر : ونؤخرهم بنون
العظمة ، والجمهور بالياء أي : يؤخرهم الله . مهطعين مسرعين ، قاله : ابن جبير
وقتادة . وذلك بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف . وقال ابن عباس ، وأبو الضحى
: شديدي النظر من غير أنْ يطرقوا . وقال ابن زيد : غير رافعي رؤوسهم . وقال مجاهد
: مد يمين النظر . وقال الأخفش : مقبلين للإصغاء ، وأنشد :
بدجاة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع . وقال الحسن : مقنعي رؤوسهم وجوه الناس يومئذ إلى السماء
، لا ينظر أحد إلى أحد انتهى . وقال ابن جريج : هواء صفر من الخير خاوية منه .
وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : خربة
خاوية ليس فيها خير ولا عقل . وقال سفيان : خالية إلا من فزع ذلك اليوم كقوله :
وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً ، أي : إلا من هم موسى . وهواء تشبيه محض ، لأنها ليست
بهواء حقيقة ، ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة ، فهي
منحرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه ، وأن يكون في اضطراب أفئدتهم
وجيشانها في الصدور ، وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي حناجرهم ، فهي في ذلك
كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب . وحصول هذه الصفات الخمس للظالمين قبل المحاسبة
بدليل ذكرها عقيب قوله : يوم يقوم الحساب . وقيل : عند إجابة الداعي ، والقيام من
القبور . وقيل : عند ذهاب السعداء إلى الجنة ، والأشقياء إلى النار .
( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ
ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ ( : هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) ) . ويوم منصوب على أنه مفعول ثان لا نذر ، ولا يصح أن يكون ظرفاً ، لأنّ
ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار ، وهذا اليوم هو يوم القيامة والمعنى : وأنذر الناس
الظالمين ، ويبين ذلك قوله : فيقول الذين ظلموا ، لأن المؤمنين يبشرون ولا ينذرون
. وقيل : اليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ،
ولقاء الملائكة بلا بشرى كقوله : ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ ( ومعنى التأخر إلى أجل قريب الرد إلى الدنيا قاله الضحاك ، إذ
الإمهال إلى أمد وحد من الزمان قريب قاله السدي ، أي : لتدارك ما فرطوا من إجابة
الدعوة ، واتباع الرسل . أو لم تكونوا هو على إضمار القول والظاهر أنّ التقدير
فيقال لهم ، والقائل الملائكة ، أو القائل الله تعالى . يوبخون بذلك ، ويذكرون
مقالتهم في إنكار البعث ، وإقسامهم على ذلك كما قال تعالى :
"
صفحة رقم 425 "
) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ
( ومعنى ما لكم من زوال ، من الأرض بعد الموت أي : لا نبعث من القبور . وقال محمد
بن كعب : إنّ هذا القول يكون منهم وهم في النار ، ويرد عليهم : أو لم تكونوا ،
ومعناه التوبيخ والتقريع . وقال الزمخشري أو لم تكونوا أقسمتم على إرادة القول ،
وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً ، ولما استولى عليهم من عادة الجهل
والسفه . وأن يقولوا بلسان الحال حيث بنوا شديداً ، وأملوا بعيداً . وما لكم جواب
القسم ، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله : أقسمتم ، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما
لنا من زوال ، والمعنى : أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزولون بالموت والفناء ،
وقيل : لا تنتقلون إلى دار أخرى انتهى . فجعل الزمخشري أو لم تكونوا محكياً بقولهم
، وهو مخالف لما قد بيناه من أنه يقال لهم ذلك ، وقوله : لا يزولون بالموت والفناء
ليس بجيد ، لأنهم مقرون بالموت والفناء . وقوله هو قول مجاهد . وسكنتم إن كان من
السكون ، فالمعنى : أنهم قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين بسيرة من قبلهم في
الظلم والفساد ، لا يحدثونها بما لقي الظالمون قبلهم . وإن كان من السكنى ، فإنّ
السكنى من السكون الذي هو اللبث ، والأصل تعديته بفي كما يقال : أقام في الدار وقر
فيها ، ولكنه لما أطلق على سكون خاص تصرف فيه ، فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوأها
، وتبين لكم بالخبر وبالمشاهدة ما فعلنا بهم من الهلاك والانتقام . وقرأ الجمهور :
وتبين فعلاً ماضياً ، وفاعله مضمر يدل عليه الكلام أي : وتبين لكم هو أي حالهم ،
ولا يجوز أن يكون الفاعل كيف ، لأنّ كيف إنما تأتي اسم استفهام أو شرط ، وكلاهما
لا يعمل فيه ما قبله ، إلا ما روي شاذاً من دخول على علي كيف في قولهم : على كيف
تبيع الأحمرين ، وإلى في قولهم : أنظر إلى كيف تصنع ، وإنما كيف هنا سؤال عن حال
في موضع نصب بفعلنا . وقرأ السلمي فيما حكى عنه أبو عمرو الداني : ونبين بضم النون
، ورفع النون الأخيرة مضارع بين ، وحكاها صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه ، وذلك على إضمار ونحن نبين ، والجملة حالية . وقال المهدوي عن السلمي : إنه
قرأ كذلك ، إلا أنه جزم النون عطفاً على أو لم تكونوا أي : ولم نبين فهو مشارك في
التقرير . وضربنا لكم الأمثال أي : صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة
كالأمثال المضروبة لكل ظالم .
( وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ
الاْرْضِ وَالسَّمَاواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مّن
قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا
كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ
وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُوْلُواْ الالْبَابِ ( : الظاهر أنّ الضمير في مكروا عائد على المخاطبين في قوله
: ) أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ ( أي مكروا بالشرك بالله ،
وتكذيب الرسل . وقيل : الضمير عائد على قوم الرسول كقوله : ) وَأَنذِرِ النَّاسَ (
أي : وقد مكر قومك يا محمد ، وهو الذي في قوله : ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ ( الآية ومعنى مكرهم أي : المكر العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ،
والظاهر أنّ هذا إخبار من الله لنبيه بما صدر منهم في الدنيا ، وليس مقولاً في
الآخرة . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة للظلمة الذين سكن
في منازلهم . وعند الله مكرهم أي : علم مكرهم فهو مطلع عليه ، فلا ينفذ لهم فيه
قصداً ، ولا يبلغهم فيه أملاً أو جزاء مكرهم ، وهو عذابه لهم . والظاهر إضافة مكر
وهو المصدر إلى الفاعل ، كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل : وعند الله ما مكروا
أي مكرهم . وقال الزمخشري : أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى : وعند الله
مكرهم الذي يمكرهم به ، وهو عذابهم الذي يستحقونه ، يأتيهم به من حيث لا يشعرون
ولا يحتسبون انتهى . وهذا لا يصح إلا إن كان مكر يتعدى بنفسه كما قال هو ، إذ قدر
يمكرهم به ، والمحفوظ أنّ مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه . قال تعالى : ) وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وتقول : زيد ممكور به ، ولا يحفظ زيد ممكور
بسبب كذا .
وقرأ الجمهور : وإن كان بالنون . وقرأ عمرو ، وعلي ، وعبد الله ، وأبي ، وأبو سلمة
بن عبد الرحمن ، وأبو إسحاق السبيعي ، وزيد بن علي : وإن كاد بدال مكان النون
"
صفحة رقم 426 "
لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، وروي كذلك عن ابن عباس . وقرأ ابن عباس ،
ومجاهد ، وابن وثاب ، والكسائي كذلك ، إلا أنهم قرؤوا وإن كان بالنون ، فعلى هاتين
القراءتين تكون إنْ هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة ، وذلك على مذهب
البصريين . وأما على مذهب الكوفيين فإن نافية ، واللام بمعنى إلا . فمن قرأ كاد
بالدال فالمعنى : أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم ، ولا يقع الزوال . وعلى قراءة كان
بالنون ، يكون زوال الجبال قد وقع ، ويكون في ذلك تعظيم مكرهم وشدته ، وهو بحيث
يزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها . ويحتمل أن يكون معنى لتزول ليقرب زوالها ،
فيصير المعنى كمعنى قراءة كاد . ويؤيد هذا التأويل ما ذكره أبو حاتم من أنّ في
قراءة أبيّ : ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال ، وينبغي أن تحمل هذه القراءة
على التفسير لمخالفتها لسواد المصحف المجمع عليه . وقرأ الجمهور وباقي السبعة :
وإن كان بالنون مكرهم لتزول بكسر اللام ، ونصب الأخيرة . ورويت هذه القراءة عن علي
، واختلف في تخريجها . فعن الحسن وجماعة أنّ إنْ نافية ، وكان تامة ، والمعنى :
وتحقير مكرهم ، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله التي هي
كالجبال في ثبوتها وقوتها ، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ : وما
كان بما النافية : لكنّ هذا التأويل ، وما روي عن ابن مسعود من قراءة وما بالنفي ،
يعارض ما تقدم من القراءات ، لأنّ فيها تعظيم مكرهم ، وفي هذا تحقيره . ويحتمل على
تقدير أنها نافية أن تكون كان ناقصة ، واللام لام الجحود ، وخبر كان على الخلاف
الذي بين البصريين والكوفيين : أهو محذوف ؟ أو هو الفعل الذي دخلت عليه اللام ؟
وعلى أنّ إنْ نافية وكان ناقصة ، واللام في لتزول متعلقة بفعل في موضع خبر كان ،
خرجه الحوفي .
وقال الزمخشري : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وإن عظم مكرهم وتتابع في الشدة
بضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته أي : وإن كان مكرهم مستوٍ لإزالة الجبال
معداً لذلك . وقال ابن عطية : ويحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم
أي : وإن كان شديداً بما يفعل ليذهب به عظام الأمور انتهى . وعلى تخريج هذين تكون
إن هي المخففة من الثقيلة ، وكان هي الناقصة . وعلى هذا التخريج تتفق معاني
القراءات أو تتقارب ، وعلى تخريج النفي تتعارض كما ذكرنا . وقرىء لتزول بفتح اللام
الأولى ونصب الثانية ، وذلك على لغة من فتح لام كي . والذي يظهر أنّ زوال الجبال
مجاز ضرب مثلاً لمكر قري 5 ، وعظمه والجبال لا تزول ، وهذا من باب الغلو والإيغال
والمبالغة في ذم مكرهم . وأما ما روي أن جبلاً زال يحلف امرأة اتهمها زوجها وكان
ذلك الجبل من حلف عليه كاذباً مات ، فحملها للحلف ، فمكرت بأن رمت نفسها عن الدابة
وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه عن الدابة ، فأركبها
زوجها وذلك الرجل ، وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما ، فنزلت سالمة ، وأصبح
الجبل قد اندك ، وكانت المرأة من عدنان . وما روي من قصة النمرود أو بخت نصّر ،
واتخاذ الأنسر وصعودهما عليها إلى قرب السماء في قصة طويلة . وما تأول بعضهم أنه
عبر بالجبال عن الإسلام ، والقرآن لثبوته ورسوخه ، وعبر بمكرهم عن اختلافهم فيه من
قولهم : هذا سحر هذا شعر هذا إفك ، فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ ، وبعيد جداً قصة
الأنسر . والنهي عن الحسبان كهو في قوله : ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً (
وأطلق الحسبان على الأمر المتحقق هنا كما قال الشاعر : فلا تحسبن أني أضل منيتي
فكل امرىء كأس الحِمام يذوق
وهذا الوعد كقوله تعالى : ) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( ) كَتَبَ اللَّهُ
لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده ، ونصب رسله .
واختلف في إعرابه فقال الجمهور . الفراء ، وقطرب ، والحوفي ، والزمخشري ، وابن
عطية ، وأبو البقاء : إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم :
هذا معطي درهم زيداً ، لما
"
صفحة رقم 427 "
كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما ، فينتصب ما تأخر . وأنشد
بعضهم نظيراً له قول الشاعر : ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
وسائره باد إلى الشمس أجمع . وقال أبو البقاء : هو قريب من قولهم : يا سارق الليلة
أهل الدار . وقال الفراء وقطرب : لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم
والتأخير . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل مخلف رسله وعده ، ولم قدم
المفعول الثاني على الأول ؟ ( قلت ) : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً
لقوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( ثم قال : رسله ، ليؤذن أنه
إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلفه رسله الذين هم
خيرته وصفوته ؟ انتهى . وهو جواب على طريقة الاعتزال في أنّ وعد الله واقع لا
محالة ، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلاً . ومذهب أهل السنة
أنّ كل ما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة . وقيل : مخلف
هنا متعد إلى واحد كقوله : ) لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( فأضيف إليه ، وانتصب رسله
بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال : مخلف ما وعد رسله ، وما
مصدرية ، لا بمعنى الذي . وقرأت فرقة : مخلف وعده رسله بنصب وعده ، وإضافة مخلف
إلى رسله ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهو كقراءة . قتل أولادهم
شركائهم ، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام . وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور
في القراءة الأولى ، وأنه مما تعدى فيه مخلف إلى مفعولين . إنّ الله عزيز لا يمتنع
عليه شيء ولا يغالب ذو انتقام من الكفرة لا يعفو عنهم . والتبديل يكون في الذات أي
: تزول ذات وتجيء أخرى . ومنه : ) بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( )
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ( ويكون في الصفات كقولك : بدلت
الحلقة خاتماً ، فالذات لم تفقد لكنها انتقلت من شكل إلى شكل . واختلفوا في
التبديل هنا ، أهو في الذات ، أو في الصفات ، فقال ابن عباس : تمد كما يمد الأديم
، وتزال عنها جبالها وآكامها وشجرها ، وجميع ما فيها حتى تصير مستوية لا ترى فيها
عوجاً ولا أمتاً ، وتبدل السموات بتكوير شمسها ، وانتثار كواكبها ، وانشقاقها ،
وخسوف قمرها . وقال ابن مسعود : تبدل الأرض بأرض كالفضة نقية لم يسفك فيها دم ،
ولم يعمل فيها خطيئة . وقال على تلك الأرض من فضة والجنة من ذهب . وقال محمد بن
كعب وابن جبير : هي أرض من خبز يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم ، وجاء هذا
مرفوعاً . وقيل : تصير ناراً والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها . وقال أبي :
تصير السموات حقاباً . وقيل : تبديلها طيها . وقيل : مرة كالمهل ، ومرة وردة
كالدهان ، قاله ابن الأنباري . وقيل : بانشقاقها فلا تظل . وفي الحديث : ) إِنَّ
اللَّهَ يُبَدَّلُ هَاذِهِ الاْرْضِ ( وفي كتاب الزمخشري وعن علي : تبدل أرضاً من
فضة ، وسموات من ذهب . وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وعن ابن عباس :
هي تلك الأرض وإنما تغير ، وأنشد :
وما الناس بالناس الذين عهدتهمولا الدار بالدار التي كنت تعلم .
"
صفحة رقم 428 "
قال ابن عطية : وسمعت من أبي رضي الله عنه روى أن التبديل يقع في الأرض ، ولكنْ
تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله ، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه ،
وفريق يكونون على فضة إن صح السند بها ، وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو هذا ،
وكله واقع تحت قدرة الله تعالى . وفي الحديث : ( المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش
، وفيه أنهم ذلك الوقت على الصراط ) وقال أبو عبد الله الرازي : المراد من تبديل
الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة ، والدليل
عليه قوله تعالى : ) عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ
إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ ( وقوله : ) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ
الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( انتهى . وكلامه هذا يدل على أنّ الجنة والنار غير
مخلوقتين ، وظاهر القرآن والحديث أنهما قد خلقتا ، وصح في الحديث أنّ رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) اطلع عليهما ، ولا يمكن أن يطلع عليهما حقيقة إلا بعد
خلقهما .
وبرزوا : أي ظهر . وألا يواريهم بناء ولا حصن ، وانتصاب يوم على أنه بدل من يوم
يأتيهم قاله الزمخشري ، أو معمولا لمخلف وعده . وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي
. وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون ظرفاً فالمخلف ولا لوعده ، لأنّ ما قبل أنْ
لا يعمل فيما بعدها ، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلام ما يعمل في الظرف أي : لا
يخلف وعده يوم تبدل انتهى . وإذا كان إن وما بعدها اعتراضاً ، لم يبال أنه فصلاً
بين العامل والمعمول ، أو معمولاً لانتقام قاله : الزمخشري ، والحوفي ، وأبو
البقاء ، أولاً ذكر قاله أبو البقاء . وقرىء : نبدل بالنون الأرض بالنصب ،
والسموات معطوف على الأرض ، وثم محذوف أي : غير السموات ، حذف لدلالة ما قبله عليه
. والظاهر استئناف . وبرزوا . وقال أبو البقاء يجوز أن يكون حالاً من الأرض ، وقد
معه مزادة . ومعنى لله : لحكم الله ، أو لموعوده من الجنة والنار . وقرأ زيد بن
علي : وبرزوا بضم الباء وكسر الراء مشددة جعله مبنياً للمفعول على سبيل التكثير
بالنسبة إلى العالم وكثرتهم ، لا بالنسبة إلى تكرير الفعل . وجيء بهذين الوصفين
وهما : الواحد وهو الواحد الذي لا يشركه أحد في ألوهيته ، ونبه به على أنّ آلهتهم
في ذلك اليوم لا تنفع . والقهار وهو الغالب لكل شيء ، وهذا نظير قوله تعالى : )
لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ). وترى المجرمين يومئذ
يوم إذ تبدل ، وبرزوا مقرنين مشدودين في القرن أي : مقرون بعضهم مع بعض في القيود
والأغلال ، أو مع شياطينهم ، كل كافر مع شيطانه في غل أو تقرن أيديهم إلى أرجلهم
مغللين . والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله : مقرنين أي : يقرنون في الأصفاد . ويجوز
أن يكون في موضع الصفة لمقرنين ، وفي موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف كأنه قيل :
مستقرين في الأصفاد . وقال الحسن : ما في جهنم واد ، ولا مفازة ، ولا قيد ، ولا
سلسلة ، إلا اسم صاحبه مكتوب عليه .
وقرأ علي ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وابن جبير ، وابن سيرين ، والحسن ،
بخلاف عنه . وسنان بن سلمة بن المحنق ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو صالح ،
والكلبي ، وعيسى الهمداني ، وعمرو بن فائد ، وعمرو بن عبيد من قطر بفتح القاف وكسر
الطاء وتنوين الراء ، أنّ اسم فاعل من أني صفة لقطر . قيل : وهو القصدير ، وقيل :
النحاس . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس بالقطران ، ولكنه النحاس يصير بلونه
. والآتي الذائب الحار الذي قد تناهى حره . قال الحسن : قد سعرت عليه جهنم منذ
خلقت ، فتناهى حره . وقال اب